المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثامن 368 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٧

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌باب الأضاحي

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌كتاب الأشربة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب اللباس

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الجهاد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌كتاب العتق

- ‌ باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب بيع المدبّر

- ‌الحديث الثالث

الفصل: ‌ ‌الحديث الثامن 368 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

‌الحديث الثامن

368 -

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله إني كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلةً. وفي روايةٍ: يوماً في المسجد الحرام، قال: فأوف بنذرك. (1)

تقدّم شرحه مستوفى في الاعتكاف برقم (214).

‌الحديث التاسع

369 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنه نهى عن النذر، وقال: إنّه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يستخرج به من البخيل. (2)

قوله: (نهى عن النذر) في لفظ لمسلمٍ من هذا الوجه عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النّذر.

وجاء بصيغة النّهي الصّريحة في رواية العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: لا تنذروا.

وللبخاري من طريق فليح بن سليمان حدّثنا سعيد بن الحارث ، أنّه سمع ابن عمر رضي الله عنه يقول: أَوَلم يُنهوا عن النّذر؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ، ولا يُؤخِّر. الحديث.

(1) تقدَّم تخريجه رقم (214).

(2)

أخرجه البخاري (6234 ، 6315) ومسلم (1639) من طرق عن منصور عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر رضي الله عنه.

وللبخاري (6314) من طريق سعيد بن الحارث ، ومسلم (1639) من طريق عبد الله بن دينار كلاهما عن ابن عمر نحوه.

ص: 98

كذا فيه، وكأنّه اختصر السّؤال ، فاقتصر على الجواب.

وقد بيّنه الحاكم في " المستدرك " من طريق المعافى بن سليمان، والإسماعيليّ من طريق أبي عامر العقديّ ومن طريق أبي داود. واللفظ له. قالا: حدّثنا فليح عن سعيد بن الحارث ، قال: كنت عند ابن عمر فأتاه مسعود بن عمرو - أحد بني عمرو بن كعب - فقال: يا أبا عبد الرّحمن ، إنّ ابني كان مع عمر بن عبيد الله بن معمر بأرض فارس ، فوقع فيها وباءٌ وطاعونٌ شديدٌ ، فجعلتُ على نفسي. لئن سلَّم الله ابني ليمشين إلى بيت الله تعالى، فقدم علينا وهو مريض ، ثمّ مات. فما تقول؟ فقال ابن عمر: أَوَلَم تُنهوا عن النّذر؟ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث المرفوع. وزاد: أوف بنذرك.

وقال أبو عامر: فقلت: يا أبا عبد الرّحمن. إنّما نذرتُ أن يمشي ابني. فقال: أوف بنذرك ، قال سعيد بن الحارث فقلت له: أتعرف سعيد بن المسيّب؟ قال: نعم. قلت له: اذهب إليه ثمّ أخبرني ما قال لك، قال: فأخبرني أنّه قال له: امش عن ابنك ، قلت: يا أبا محمّد ، وترى ذلك مقبولاً؟ قال: نعم، أرأيت لو كان على ابنك دين لا قضاء له فقضيته. أكان ذلك مقبولاً؟ قال: نعم. قال: فهذا مثل هذا. انتهى.

وأبو عبد الرّحمن كنية عبد الله بن عمر ، وأبو محمّد كنية سعيد بن المسيّب، وأخرجه ابن حبّان في " النّوع السّادس والسّتّين من القسم الثّالث " من طريق زيد بن أبي أنيسة متابعاً لفليح بن سليمان عن سعيد

ص: 99

بن الحارث. فذكر نحوه بتمامه ، ولكن لَم يُسمّ الرّجل.

وهذا الفرع غريبٌ ، وهو أن ينذر عن غيره فيلزم الغير الوفاء بذلك ، ثمّ إذا تعذّر لزم النّاذر.

وقد كنت أستشكل ذلك، ثمّ ظهر لي أنّ الابنَ أقرّ بذلك والتزم به، ثمّ لَمَّا مات أمره ابن عمر وسعيد أن يفعل ذلك عن ابنه كما يفعل سائر القرب عنه كالصّوم والحجّ والصّدقة.

ويحتمل: أن يكون مختصّاً عندهما بما يقع من الوالد في حقّ ولده. فيعقد لوجوب برّ الوالدين على الولد بخلاف الأجنبيّ.

قوله: (إنه لا يأتي بخيرٍ) وللبخاري من رواية سعيد بن الحارث " لا يقدّم شيئاً ولا يؤخّر " ، ولهما من رواية عبد الله بن مرة عن ابن عمر " لا يردّ شيئاً " وهي أعمّ، ونحوها في حديث أبي هريرة في الصحيحين " لا يأتي ابنَ آدم النّذرُ بشيءٍ لَم يكن قدّر له ".

وفي رواية العلاء المشار إليها " فإنّ النّذر لا يغني من القدر شيئاً " ، وفي لفظ عنه " لا يردّ القدر " ، وفي حديث أبي هريرة عنده " لا يقرّب من ابن آدم شيئاً لَم يكن الله قدّره له ".

ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة، وفيها إشارة إلى تعليل النّهي عن النّذر.

وقد اختلف العلماء في هذا النّهي:

فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوّله.

قال ابن الأثير في النّهاية: تكرّر النّهي عن النّذر في الحديث، وهو

ص: 100

تأكيد لأمره وتحذير عن التّهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزّجر عنه حتّى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنّهي يصير معصيةً فلا يلزم، وإنّما وجه الحديث أنّه قد أعلمهم أنّ ذلك أمر لا يجرّ لهم في العاجل نفعاً ولا يصرف عنهم ضرّاً ولا يغيّر قضاء ، فقال: لا تنذروا على أنّكم تدركون بالنّذر شيئاً لَم يقدّره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدّره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإنّ الذي نذرتموه لازمٌ لكم. انتهى كلامه.

ونسَبَه بعض شرّاح المصابيح للخطّابيّ ، وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير ، فقال: كان أبو عبيد يقول: وجه النّهي عن النّذر والتّشديد فيه ليس هو أن يكون مأثماً، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفّى به ولا حَمِد فاعله، ولكنّ وجهه عندي تعظيم شأن النّذر وتغليظ أمره ، لئلا يتهاون به فيفرّط في الوفاء به ويترك القيام به.

ثمّ استدل بما ورد من الحثّ على الوفاء به في الكتاب والسّنّة.

وإلى ذلك أشار المازريّ بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أنّ الغرض بهذا الحديث التّحفّظ في النّذر والحضّ على الوفاء به.

قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي: أن يكون وجه الحديث أنّ النّاذر يأتي بالقربة مستثقلاً لها لَمَّا صارت عليه ضربة لازبٍ، وكلّ ملزوم فإنّه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار.

ويحتمل: أن يكون سببه أنّ النّاذر لَمَّا لَم ينذر القربة إلَّا بشرط أن

ص: 101

يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نيّة المتقرّب.

قال: ويشير إلى هذا التّأويل قوله " إنّه لا يأتي بخيرٍ " وقوله " إنّه لا يقرّب من ابن آدم شيئاً لَم يكن الله قدّره له " وهذا كالنّصّ على هذا التّعليل. انتهى.

والاحتمال الأوّل: يعمّ أنواع النّذر. والثّاني يخصّ نوع المجازات.

وزاد القاضي عياض: ويقال: إنّ الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنّه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه، والنّهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظنّ بعض الجهلة.

قال: ومحصّل مذهب مالكٍ أنّه مباح. إلَّا إذا كان مؤبّداً لتكرّره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتّكلّف من غير طيب نفس وغير خالص النّيّة فحينئذٍ يكره.

قال: وهذا أحد محتملات قوله " لا يأتي بخيرٍ " أي: إنّ عقباه لا تحمد ، وقد يتعذّر الوفاء به، وقد يكون معناه لا يكون سبباً لخيرٍ لَم يقدّر كما في الحديث.

وبهذا الاحتمال الأخير صدّر ابن دقيق العيد كلامه. فقال: يحتمل أن تكون الباء للسّببيّة كأنّه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس النّاذر وطبعه في طلب القربة والطّاعة من غير عوضٍ يحصل له، وإن كان يترتّب عليه خيرٌ، وهو فعل الطّاعة التي نذرها، لكنّ سبب ذلك الخير حصول غرضه.

وقال النّوويّ: معنى قوله " لا يأتي بخيرٍ " أنّه لا يردّ شيئاً من

ص: 102

القدر كما بيّنته الرّوايات الأخرى.

تنبيهٌ: قوله " لا يأتي " كذا للأكثر، ووقع في بعض النّسخ " لا يأت " بغير ياء وليس بلحنٍ؛ لأنّه قد سمع نظيره من كلام العرب.

وقال الخطّابيّ في الأعلام: هذا باب من العلم غريبٌ، وهو أن ينهى عن فعل شيء حتّى إذا فعل كان واجباً، وقد ذكر أكثر الشّافعيّة - ونقله أبو عليّ السّنجيّ عن نصّ الشّافعيّ - أنّ النّذر مكروه لثبوت النّهي عنه ، وكذا نقل عن المالكيّة ، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد.

وأشار ابن العربيّ إلى الخلاف عنهم. والجزم عن الشّافعيّة بالكراهة.

قال: واحتجّوا بأنّه ليس طاعة محضة ، لأنّه لَم يقصد به خالص القربة وإنّما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضرراً بما التزمه.

وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنّها كراهة تحريمٍ ، وتوقّف بعضهم في صحّتها.

وقال التّرمذيّ بعد أن ترجم كراهة النّذر، وأورد حديث أبي هريرة. ثمّ قال: وفي الباب عن ابن عمر. العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النّذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النّذر في الطّاعة وفي المعصية، فإن نذر الرّجل في الطّاعة فوفّى به فله فيه أجرٌ، ويكره له النّذر.

قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكال على القواعد فإنّها تقتضي أنّ الوسيلة إلى الطّاعة طاعةٌ كما أنّ الوسيلة إلى المعصية معصيةٌ، والنّذر

ص: 103

وسيلة إلى التزام القربة فيلزم أن يكون قربة إلَّا أنّ الحديث دلَّ على الكراهة. ثمّ أشار إلى التّفرقة بين نذر المجازاة فحمل النّهي عليه ، وبين نذر الابتداء فهو قربة محضةٌ.

وقال ابن أبي الدّم في شرح الوسيط: القياس استحبابه، والمختار أنّه خلاف الأولى وليس بمكروهٍ.

كذا قال، ونوزع بأنّ خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهيٍ ، والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النّهي عن النّذر بخصوصه فيكون مكروهاً.

وإنّي لأتعجّب ممّن انطلق لسانه بأنّه ليس بمكروهٍ مع ثبوت النهي الصّريح عنه ، فأقلّ درجاته أن يكون مكروهاً كراهة تنزيه.

وممّن بنى على استحبابه النّوويّ في شرح المهذّب فقال: إنّ الأصحّ أنّ التّلفّظ بالنّذر في الصّلاة لا يبطلها ، لأنّها مناجاة لله فأشبه الدّعاء. انتهى.

وإذا ثبت النّهي عن الشّيء مطلقاً فترك فعله داخل الصّلاة أولى فكيف يكون مستحبّاً؟ وأحسن ما يُحمل عليه كلام هؤلاء نذر التّبرّر المحض بأن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا أو لأفعلنه على المجازاة.

وقد حمل بعضهم النّهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه. حكاه شيخنا في شرح التّرمذيّ.

ولَمَّا نقل ابن الرّفعة عن أكثر الشّافعيّة كراهة النّذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزاليّ أنّه مستحبّ؛ لأنّ الله أثنى على من وفّى به

ص: 104

، ولأنّه وسيلة إلى القربة فيكون قربة.

قال: يمكن أن يتوسّط فيقال: الذي دلَّ الخبر على كراهته نذر المجازاة، وأمّا نذر التّبرّر فهو قربة محضة؛ لأنّ للنّاذر فيه غرضاً صحيحاً، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التّطوّع. انتهى.

وجزم القرطبيّ في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث من النّهي على نذر المجازاة. فقال: هذا النّهي محلّه أن يقول مثلاً: إن شفى الله مريضي فعليّ صدقة كذا، ووجه الكراهة أنّه لَمَّا وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنّه لَم يتمحّض له نيّة التّقرّب إلى الله تعالى لِما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعارضة، ويوضّحه أنّه لو لَم يشف مريضه لَم يتصدّق بما علَّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنّه لا يخرج من ماله شيئاً إلَّا بعوضٍ عاجلٍ يزيد على ما أخرج غالباً. وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله " إنّما يستخرج به من البخيل ما لَم يكن البخيل يخرجه ". (1)

قال: وقد ينضمّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أنّ النّذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أنّ الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النّذر، وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضاً " فإنّ النّذر لا يردّ من

(1) أخرجه البخاري (6316) ومسلم (1641) من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه: إن النذر لا يقرِّب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له، ولكنَّ النذر يوافقُ القدرَ، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أنْ يخرج. واللفظ لمسلم. وقد ذكر في الشرح بعض ألفاظه. وسيأتي أيضاً.

ص: 105

قدر الله شيئاً " والحالة الأولى تقارب الكفر والثّانية خطأ صريح. انتهى

قلت: بل تقرب من الكفر أيضاً.

ثمّ نقل القرطبيّ عن العلماء حمل النّهي الوارد في الخبر على الكراهة ، وقال: الذي يظهر لي أنّه على التّحريم في حقّ من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرّماً، والكراهة في حقّ من لَم يعتقد ذلك. انتهى.

وهو تفصيلٌ حسنٌ.

ويؤيّده قصّة ابن عمر راوي الحديث في النّهي عن النّذر فإنّها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطّبريّ بسندٍ صحيحٍ عن قتادة في قوله تعالى {يوفون بالنّذر} قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والعمرة وما افترض عليهم. فسمّاهم الله أبراراً.

وهذا صريح في أنّ الثّناء وقع في غير نذر المجازاة.

وكأنّ البخاريّ رمز في التّرجمة (1) إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك ، وقد يشعر التّعبير بالبخيل أنّ المنهيّ عنه من النّذر ما فيه مال فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطّاعة. كما في الحديث المشهور: البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ. أخرجه النّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان، أشار إلى ذلك شيخنا في

(1) حيث قال (باب الوفاء بالنذر ، وقول الله " يوفون بالنذر ")

ص: 106

شرح التّرمذيّ.

ثمّ نقل القرطبيّ الاتّفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة. لقوله صلى الله عليه وسلم: من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه. ولَم يفرّق بين المُعلّق وغيره. انتهى

والاتّفاق الذي ذكره مُسلَّم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنّذر المعلق نظرٌ.

قوله: (وإنّما يستخرج به من البخيل) وللبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فيستخرج الله به من البخيل فيؤتيني عليه ما لَم يكن يؤتيني عليه من قبل. كذا للأكثر. أي: يعطيني.

ووقع في رواية الكشميهنيّ (1)" يؤتني " بالجزم. ووجّهت بأنّها بدلٌ من قوله " يكن " فجزمت بلم، ووقع في رواية مالك " يؤتي " في الموضعين، وفي رواية ابن ماجه " فييسّر عليه ما لَم يكن ييسّر عليه من قبل ذلك ".

وفي رواية مسلم " فيخرج بذلك من البخيل ما لَم يكن البخيل يريد أن يخرج ". وهذه أوضح الرّوايات.

قال البيضاويّ: عادة النّاس تعليق النّذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرّةٍ، فنهي عنه لأنّه فعل البخلاء؛ إذ السّخيّ إذا أراد أن يتقرّب بادر إليه ، والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلَّا في مقابلة عوض يستوفيه أوّلاً فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني

(1) هو أبو الهيثم محمد بن مكي ، سبق ترجمته (1/ 32)

ص: 107

من القدر شيئاً فلا يسوق إليه خيراً، لَم يقدّر له ولا يردّ عنه شرّاً قضي عليه، لكنّ النّذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لَم يكن ليخرجه.

قال ابن العربيّ: فيه حجّة على وجوب الوفاء بما التزمه النّاذر، لأنّ الحديث نصَّ على ذلك بقوله " يستخرج به " فإنّه لو لَم يلزمه إخراجه لَما تمّ المراد من وصفه بالبخل من صدور النّذر عنه؛ إذ لو كان مخيّراً في الوفاء لاستمرّ لبخله على عدم الإخراج.

وفي الحديث الرّدّ على القدريّة.

وأمّا ما أخرجه التّرمذيّ من حديث أنس: إنّ الصّدقة تدفع ميتة السّوء. فظاهره يعارض قوله " إنّ النّذر لا يردّ القدر ".

ويُجمع بينهما: بأنّ الصّدقة تكون سبباً لدفع ميتة السّوء، والأسباب مقدّرة كالمسبّبات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرّقى. هل تردّ من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله. أخرجه أبو داود والحاكم. ونحوه قول عمر: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. ومثل ذلك مشروعيّة الطّبّ والتّداوي.

وقال ابن العربيّ: النّذر شبيه بالدّعاء فإنّه لا يردّ القدر ، ولكنّه من القدر أيضاً، ومع ذلك فقد نهي عن النّذر وندب إلى الدّعاء، والسّبب فيه أنّ الدّعاء عبادةٌ عاجلةٌ، ويظهر به التّوجّه إلى الله والتّضرّع له والخضوع، وهذا بخلاف النّذر فإنّ فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضّرورة. والله أعلم.

ص: 108

وفي الحديث أنّ كلّ شيء يبتدئه المُكلّف من وجوه البرّ أفضل ممّا يلتزمه بالنّذر. قاله الماورديّ.

وفيه الحثّ على الإخلاص في عمل الخير وذمّ البخل، وأنّ من اتّبع المأمورات واجتنب المنهيّات لا يعدّ بخيلاً.

تنْبيهٌ: قال ابن المنير: مناسبة أحاديث الباب لترجمة الوفاء بالنّذر. قوله " يستخرج به من البخيل ". وإنّما يخرج البخيل ما تعيّن عليه إذ لو أخرج ما يتبرّع به لكان جواداً.

وقال الكرمانيّ: يؤخذ معنى التّرجمة من لفظ " يستخرج ".

قلت: ويحتمل أن يكون البخاريّ أشار إلى تخصيص النّذر المنهيّ عنه بنذر المعاوضة واللجاج بدليل الآية، فإنّ الثّناء الذي تضمّنته محمول على نذر القربة، فيُجمع بين الآية والحديث بتخصيص كلٍّ منهما بصورةٍ من صور النّذر. والله أعلم.

قوله: (من البخيل) كذا في أكثر الرّوايات، ووقع في رواية مسلم في حديث ابن عمر " من الشّحيح ". وكذا للنّسائيّ. وفي رواية ابن ماجه " من اللئيم ".

ومدار الجميع على منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرّة. فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرّواة عن منصور، والمعاني متقاربة؛ لأنّ الشّحّ أخصّ واللّؤمَ أعمّ.

قال الرّاغب: البخل إمساك ما يقتضى عمّن يستحقّ، والشّحّ بخلٌ مع حرصٍ، واللّؤم فعل ما يلام عليه.

ص: 109