الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
408 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مكلومٍ يُكْلَم في سبيل الله، إلَّا جاء يوم القيامة، وكَلْمه يَدْمى: اللون لون الدّم، والريح ريح المسك. (1)
قوله: (ما من مكلومٍ) أي: مجروح ، ولهما من رواية الأعرج عن أبي هريرة " والذي نفسي بيده لا يُكلم أحدٌ في سبيل الله.
ولهما من رواية همام عن أبي هريرة " كل كَلْم يُكلمه المسلم في سبيل الله، ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت، تفجر دماً. وقوله: " أحدٌ " قيّده في هذه الرواية بالمُسلم.
قوله: (يُكْلَم) بضمّ أوّله وسكون الكاف وفتح اللام ، أي: يجرح.
قوله: (في سبيل الله) زاد البخاري " والله أعلم بمن يكلم في سبيله " وهي جملة معترضة قصد بها التّنبيه على شرطيّة الإخلاص في نيل هذا الثّواب.
قال النّوويّ: ظاهر قوله " في سبيل الله " اختصاصه بمن وقع له
(1) أخرجه البخاري (5213) ومسلم (1876) من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو ضمن الحديث الماضي (406) ساقه مسلم جميعاً ، وفرّقه البخاري.
وأخرجه البخاري (235 ، 2649) ومسلم (1876) من طريقين آخرين عن همّام بن مُنبّه والأعرج كلاهما عن أبي هريرة نحوه.
ذلك في قتال الكفّار، لكن يلتحق به من قتل في حرب البغاة وقطّاع الطّريق وإقامة المعروف لاشتراك الجميع في كونهم شهداء.
وقال ابن عبد البرّ: أصل الحديث في الكفّار. ويلتحق هؤلاء بهم بالمعنى، لقوله صلى الله عليه وسلم " من قتل دون ماله فهو شهيد " ، وتوقّف بعض المتأخّرين في دخول من قاتل دون ماله لأنّه يقصد صون ماله بداعية الطّبع، وقد أشار في الحديث إلى اختصاص ذلك بالمخلص. حيث قال " والله أعلم بمن يكلم في سبيله ".
والجواب: أنّه يمكن فيه الإخلاص مع إرادة صون المال، كأن يقصد بقتال من أراد أخذه منه صون الذي يقاتله عن ارتكاب المعصية وامتثال أمر الشّارع بالدّفع، ولا يمحّض القصد لصون المال، فهو كمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا مع تشوّفه إلى الغنيمة.
قوله: (إلَّا جاء يوم القيامة) الحكمة في كون الدّم يأتي يوم القيامة على هيئته أنّه يشهد لصاحبه بفضله وعلى ظالمه بفعله.
وفائدة رائحته الطّيّبة أن تنتشر في أهل الموقف إظهاراً لفضيلته أيضاً ، ومن ثَمّ لَم يشرع غسل الشّهيد في المعركة.
قوله: (وكَلْمه) بفتح الكاف وسكون اللام.
قوله: (يَدْمى) بفتح أوله وثالثه.
قوله: (اللون لون الدم) في رواية همّام " تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجّر دماً ".
قوله: (والريح ريح المسك) في رواية همّام " والعَرْف " بفتح
المهملة وسكون الرّاء بعدها فاء وهو الرّائحة.
ولأصحاب السّنن وصحَّحه التّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من حديث معاذ بن جبل: من جُرح جرحاً في سبيل الله ، أو نُكِبَ نكبةً فإنّها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزّعفران وريحها المسك.
وعرف بهذه الزّيادة. أنّ الصّفة المذكورة لا تختصّ بالشّهيد ، بل هي حاصلة لكل من جرح.
ويحتمل: أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدّنيا. فإنّ أثر الجراحة وسيلان الدّم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضل في الجملة، لكنّ الظّاهر أنّ الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً من فارق الدّنيا وجرحه كذلك.
ويؤيّده ما وقع عند ابن حبّان في حديث معاذ المذكور " عليه طابع الشّهداء " وقوله " كأغزر ما كانت " لا ينافي قوله " كهيئتها " لأنّ المراد لا ينقص شيئاً بطول العهد.
قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى.
واستدل بهذا الحديث على أنّ الشّهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدّم بغسلٍ ولا غيره، ليجيء يوم القيامة كما وصف النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفيه نظرٌ ، لأنّه لا يلزم من غسل الدّم في الدّنيا أن لا يبعث كذلك
، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشّهيد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في شُهداء أُحدٍ: زمّلوهم بدمائهم. (1)
قوله: (الْمِسك) بكسر الميم الطّيب المعروف.
قال الجاحظ: هو من دويبة تكون في الصّين تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت شدّت بعصائب وهي مدلية يجتمع فيها دمها، فإذا ذبحت قوّرت السّرّة التي عصبت ، ودفنت في الشّعر حتّى يستحيل ذلك الدّم المختنق الجامد مسكاً ذكيّاً بعد أن كان لا يرام من النّتن.
ومن ثَمّ قال القفّال: إنّها تندبغ بما فيها من المسك فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أنّ غزال المسك كالظّبي ، لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكّه الأسفل، وأنّ المسك دم يجتمع في سرّته في وقت معلوم من السّنة ، فإذا اجتمع ورِمَ الموضعُ فمرض الغزال إلى أن يسقط منه.
ويقال: إنّ أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتاداً في البرّيّة تحتكّ بها ليسقط.
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند "(5/ 431) والنسائي (1/ 282) وغيرهما من طريق الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على قتلى أحدٍ، فقال: إني أشهد على هؤلاء، زمّلوهم بكلومهم ودمائهم.
وللبخاري في " صحيحه "(1343) وفي مواضع أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أُحدٍ في ثوب واحد، ثم يقول: أيُّهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولَم يغسّلوا، ولَم يصلِّ عليهم.
ونقل ابن الصّلاح في " مشكل الوسيط ": أنّ النّافجة في جوف الظّبية كالإنفحة في جوف الجدي، وعن عليّ بن مهديّ الطّبريّ الشّافعيّ أنّها تلقيها من جوفها كما تلقي الدّجاجة البيضة.
ويمكن الجمع بأنّها تلقيها من سرّتها فتتعلق بها إلى أن تحتكّ.
قال النّوويّ: أجمعوا على أنّ المسك طاهر يجوز استعماله في البدن والثّوب، ويجوز بيعه. ونقل أصحابنا عن الشّيعة فيه مذهباً باطلاً وهو مستثنىً من القاعدة: ما أبين من حيّ فهو ميّت. انتهى.
وحكى ابن التّين عن ابن شعبان من المالكيّة: أنّ فأرة المسك إنّما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصحّ ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها لأنّها تستحيل عن كونها دماً حتّى تصير مسكاً. كما يستحيل الدّم إلى اللحم فيطهر ويحلّ أكله، وليست بحيوانٍ حتّى يقال نجست بالموت، وإنّما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض.
وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك إلَّا ما حكي عن عمر من كراهته، وكذا حكى ابن المنذر عن جماعة ، ثمّ قال: ولا يصحّ المنع فيه إلَّا عن عطاء. بناء على أنّه جزء منفصل.
وقد أخرج مسلم في أثناء حديث عن أبي سعيد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: المسك أطيب الطّيب. وأخرجه أبو داود مقتصراً منه على هذا القدر.
قال ابن المنيّر: استدل البخاريّ بهذا الحديث على طهارة المسك لوقوع تشبيه دم الشّهيد به، لأنّه في سياق التّكريم والتّعظيم، فلو كان نجساً لكان من الخبائث. ولَم يحسن التّمثيل به في هذا المقام.
تكميل: قد استُشكِل إيراد البخاري لهذا الحديث في (باب ما يقع من النّجاسات في السّمن والماء)
فقال الإسماعيليّ: هذا الحديث لا يدخل في طهارة الدّم ولا نجاسته ، وإنّما ورد في فضل المطعون في سبيل الله.
وأجيب: بأنّ مقصود البخاري بإيراده تأكيد مذهبه في أنّ الماء لا يتنجّس بمجرّد الملاقاة ما لَم يتغيّر ، فاستدل بهذا الحديث على أنّ تبدّل الصّفة يؤثّر في الموصوف ، فكما أنّ تغيّر صفة الدّم بالرّائحة الطّيّبة أخرجه من الذّمّ إلى المدح ، فكذلك تغيّر صفة الماء إذا تغيّر بالنّجاسة يخرجه عن صفة الطّهارة إلى النّجاسة.
وتعقّب: بأنّ الغرض إثبات انحصار التّنجيس بالتّغيّر ، وما ذكر يدلّ على أنّ التّنجيس يحصل بالتّغيّر وهو وفاق. لا أنّه لا يحصل إلَّا به وهو موضع النّزاع.
وقال بعضهم: مقصود البخاريّ أنَّ يبيّن طهارة المسك ردّاً على من يقول بنجاسته؛ لكونه دماً انعقد فلمّا تغيّر عن الحالة المكروهة من الدّم - وهي الزّهم وقبح الرّائحة - إلى الحالة الممدوحة - وهي طيب رائحة المسك - دخلَ عليه الحلُّ ، وانتقل من حالة النّجاسة إلى حالة الطّهارة كالخمرة إذا تخلّلت.
وقال ابن رشيد: مراده أنّ انتقال الدّم إلى الرّائحة الطّيّبة هو الذي نقله من حالة الذّمّ إلى حالة المدح فحصل من هذا تغليب وصف واحد. وهو الرّائحة على وصفين وهما الطّعم واللون ، فيستنبط منه
أنّه متى تغيّر أحد الأوصاف الثّلاثة بصلاحٍ أو فسادٍ تبعه الوصفان الباقيان ، وكأنّه أشار بذلك إلى ردّ ما نقل عن ربيعة وغيره: أنّ تغيّر الوصف الواحد لا يؤثّر حتّى يجتمع وصفان.
قال: ويمكن أن يستدل به على أنّ الماء إذا تغيّر ريحه بشيءٍ طيّبٍ لا يسلبه اسم الماء كما أنّ الدّم لَم ينتقل عن اسم الدّم مع تغيّر رائحته إلى رائحة المسك؛ لأنّه قد سمّاه دماً مع تغيّر الرّيح فما دام الاسم واقعاً على المسمّى فالحكم تابع له. انتهى كلامه.
ويَرِد على الأوّل: أنّه يلزم منه أنّ الماء إذا كانت أوصافه الثّلاثة فاسدة ، ثمّ تغيّرت صفةٌ واحدةٌ منها إلى صلاحٍ أنّه يحكم بصلاحه كلّه. وهو ظاهر الفساد.
وعلى الثّاني: أنّه لا يلزم من كونه لَم يسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفاً بصفةٍ تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه. والله أعلم.
وقال ابن دقيق العيد لَمَّا نقل قول مَن قال. إنّ الدّم لَمَّا انتقل بطيب رائحته من حكم النّجاسة إلى الطّهارة ، ومن حُكْمِ القذارة إلى الطّيب لتغيّر رائحته حتّى حُكم له بحكم المسك وبالطّيب للشّهيد: فكذلك الماء ينتقل بتغيّر رائحته من الطّهارة إلى النّجاسة.
قال: هذا ضعيف مع تكلّفه.