الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
402 -
عن ابن عمر رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اصْطَنع خاتماً من ذهبٍ، فكان يجعل فصّه في باطن كفّه إذا لبسه، فصنع النّاس كذلك، ثمّ إنّه جلس على المنبر فنزعه فقال: إنّي كنت أَلبس هذا الخاتم ، وأجعل فصّه من داخلٍ ، فرمى به ، ثمّ قال: والله لا ألبسه أبداً فنبذ النّاس خواتيمهم. (1)
وفي لفظٍ: جعله في يده اليمنى. (2)
قوله: (اصطنع خاتماً من ذهبٍ) في رواية لهما " اتّخذ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهبٍ "، ومعنى اتّخذه: أمر بصياغته فصيغ فلبسه، أو وجده مصوغاً فاتّخذه.
قال الخطّابيّ: لَم يكن لباس الخاتم من عادة العرب، فلمّا أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الملوك اتّخذ الخاتم واتّخذه من ذهب، ثمّ رجع عنه لِما فيه من الزّينة ولِما يخشى من الفتنة، وجعل فصّه ممّا يلي باطن كفّه
(1) أخرجه البخاري (5527 ، 5528 ، 5535 ، 5538 ، 6275) ومسلم (2091) من طرق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.
وللبخاري (5529 ، 6868) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحوه. مختصراً.
(2)
أخرجه مسلم (2091) من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (5538) من طريق جويرية عن نافع. إلَّا أنه لم يجزم به كما سيأتي في الشرح إن شاء الله.
ليكون أبعد من التّزيّن.
قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": دعواه أنّ العرب لا تعرف الخاتم عجيبة فإنّه عربيّ ، وكانت العرب تستعمله. انتهى.
ويحتاج إلى ثبوت لبسه عن العرب ، وإلَاّ فكونه عربيّاً واستعمالهم له في ختم الكتب لا يردّ على عبارة الخطّابيّ.
وقد قال الطّحاويّ بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنّسائيّ عن أبي ريحانة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الخاتم إلَّا لذي سلطان.
: ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلَّا لذي سلطان.
وخالفهم آخرون فأباحوه، ومن حجّتهم حديث أنس في الصحيحين ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ألقى خاتمه ألقى النّاس خواتيمهم.
فإنّه يدلّ على أنّه كان يلبس الخاتم في العهد النّبويّ من ليس ذا سلطان، فإن قيل: هو منسوخ ، قلنا: الذي نسخ منه لبس خاتم الذّهب.
قلت: أو لُبس خاتم المنقوش عليه نقش خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم (1).
ثمّ أورد عن جماعة من الصّحابة والتّابعين أنّهم كانوا يلبسون الخواتم ممّن ليس له سلطان. انتهى.
(1) لِما أخرجه البخاري (5877) ومسلم (5599) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه محمد رسول الله. وقال: إني اتخذت خاتماً من ورق، ونقشتُ فيه محمد رسول الله. فلا ينقشنَّ أحدٌ على نقشه.
ولَم يُجب عن حديث أبي ريحانة. والذي يظهر أنّ لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى، لأنّه ضربٌ من التّزيّن، واللائق بالرّجال خلافه، وتكون الأدلة الدّالة على الجواز هي الصّارفة للنّهي عن التّحريم.
ويؤيّده: أنّ في بعض طرقه " نهى عن الزّينة والخاتم .. الحديث "، ويمكن أن يكون المراد بالسّلطان من له سلطان على شيء ما يحتاج إلى الختم عليه لا السّلطان الأكبر خاصّة ، والمراد بالخاتم ما يختم به فيكون لبسه عبثاً.
وأمّا من لبس الخاتم الذي لا يختم به ، وكان من الفضّة للزّينة فلا يدخل في النّهي، وعلى ذلك يحمل حال من لبسه.
ويؤيّده ما ورد من صفة نقش خواتم بعض من كان يلبس الخواتم ممّا يدلّ على أنّها لَم تكن بصفة ما يختم به.
وقد سئل مالك عن حديث أبي ريحانة فضعّفه ، وقال: سأل صدقةُ بن يسار سعيدَ بنَ المسيّب فقال: البَسِ الخاتم، وأخبر النّاس أنّي قد أفتيتك. والله أعلم.
تكملة: جزم أبو الفتح اليعمريّ ، أنّ اتّخاذ الخاتم كان في السّنة السّابعة، وجزم غيره بأنّه كان في السّادسة.
ويُجمع بأنّه كان في أواخر السّادسة وأوائل السّابعة ، لأنّه إنّما اتّخذه عند إرادته مكاتبة الملوك (1)، وكان إرساله إلى الملوك في مدّة الهدنة،
(1) أخرج البخاري (65) ومسلم (2092) عن أنس بن مالك، قال: لَمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، قال: قالوا: إنهم لا يقرءون كتاباً إلَّا مختوماً، قال: فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. نقشه محمد رسول الله.
وكان في ذي القعدة سنة ستّ، ورجع إلى المدينة في ذي الحجّة، ووجّه الرّسل في المحرم من السّابعة. وكان اتّخاذه الخاتم قبل إرساله الرّسل إلى الملوك. والله أعلم
قوله: (فكان يجعل فصّه) قال الجوهريّ: الفصّ بفتح الفاء والعامّة تكسرها وأثبتها غيره لغة ، وزاد بعضهم الضّمّ. وعليه جرى ابن مالك في المثلث.
وللبخاري من طريق معتمر، قال: سمعت حميداً يحدّث عن أنسٍ رضي الله عنه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضّةٍ ، وكان فصّه منه.
وفي رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميدٍ " من فضّة كلّه " فهذا نصٌّ في أنّه كلّه من فضّة.
وأمّا ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جدّه قال: كان خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديد ملويّاً عليه فضّة، فربّما كان في يدي، قال: وكان معيقيب على خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم. يعني كان أميناً عليه.
فيُحمل على التّعدّد.
وقد أخرج له ابن سعد شاهداً مرسلاً عن مكحول ، أنّ خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملويّاً عليه فضّة، غير أنّ فصّه بادٍ.
وآخر مرسلاً عن إبراهيم النّخعيّ مثله دون ما في آخره.
وثالثاً من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ، أنّ خالد بن سعيد - يعني ابن العاص - أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ اطرحه، فطرحه فإذا خاتم من حديد ملويّ عليه فضّة. قال: فما نقشه؟ قال: محمّد رسول الله، قال: فأخذه فلبسه.
وقوله " وكان فصّه منه ". لا يعارضه ما أخرجه مسلم عن أنس: كان خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ورق ، وكان فصّه حبشيّاً.
لأنّه إمّا أن يُحمل على التّعدّد ، وحينئذٍ فمعنى قوله " حبشيّ ". أي: كان حجراً من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعاً أو عقيقاً ، لأنّ ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة.
ويحتمل: أن يكون هو الذي فصّه منه ، ونسب إلى الحبشة لصفةٍ فيه. إمّا الصّياغة وإمّا النّقش
قوله: (في باطن كفّه إذا لبسه) قال ابن بطّال: قيل لمالك يجعل الفصّ في باطن الكفّ؟ قال: لا.
قال ابن بطّال: ليس في كون فصّ الخاتم في بطن الكفّ ولا ظهرها أمر ولا نهي.
وقال غيره: السّرّ في ذلك أنّ جعله في بطن الكفّ أبعد من أن يظنّ أنّه فعله للتّزيّن به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عبّاس جعله في ظاهر الكفّ. كما سأذكره قريباً.
قوله: (فصنع النّاس كذلك) وللبخاري " فاتّخذ النّاس مثله ".
يحتمل: أن يكون المراد بالمثليّة كونه من فضّة (1) وكونه على صورة النّقش المذكورة.
ويحتمل: أن يكون لمطلق الاتّخاذ.
وقوله: (فرمى به ، ثم قال: والله لا ألبسه أبداً) وقع عند البخاري في رواية جويريّة عن نافع " فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، فقال: إنّي كنت اصطنعته، وإنّي لا ألبسه " ، وفي رواية المغيرة بن زياد عن نافع عند النسائي " فرمى به، فلا ندري ما فعل ".
وهذا يحتمل: أن يكون كرهه من أجل المشاركة، أو لَمَّا رأى زهوهم بلبسه.
ويحتمل: أن يكون لكونه من ذهب وصادف وقت تحريم لبس الذّهب على الرّجال.
ويؤيّد هذا رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر المختصرة في البخاري بلفظ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتماً من ذهب، فنبذه فقال: لا ألبسه أبداً. وفي رواية لهما " ثمّ ألقاه، ثمّ اتّخذ خاتماً من ورقٍ. ونقش فيه محمّدٌ رسول الله .. "
قوله: (والله لا ألبسه أبداً) ولهما من رواية بشير بن نهيكٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنّه نهى عن خاتم الذّهب.
قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث
(1) كذا فيه! ولعله سهو من الحافظ رحمه الله فالصواب " ذهب " أمّا الفضة فسيأتي قريباً.
مراتب:
الأولى: أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا.
الثانية: قوله (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا) وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمراً ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمراً، إلَّا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة.
المرتبة الثالثة: أُمرنا ونُهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختصٌ بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء.
قلت: وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة ، أنّ النّجاشيَّ أهدى للنّبيّ صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذه وإنّه لمعرض عنه، ثمّ دعا أُمامة بنت ابنته ، فقال: تحلّي به.
قال ابن دقيق العيد: وظاهر النّهي التّحريم، وهو قول الأئمّة واستقرّ الأمر عليه.
وقال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم من تختّمه بالذّهب فشذوذ، والأشبه أنّه لَم تبلغه السّنّة فيه. فالنّاس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خبّاب ، وقد قال له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يُلقى؟ فقال: إنّك لن تراه عليَّ بعد اليوم. فكأنّه ما كان بلغه النّهي فلمّا بلغه رجع.
قال: وقد ذهب بعضهم: إلى أنّ لبسه للرّجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير.
قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التّحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التّحريم، ولا بدّ من اعتبار وصف كونه خاتماً.
قلت: التّوفيق بين الكلامين ممكن. بأن يكون القائل بكراهة التّنزيه انقرض ، واستقرّ الإجماع بعده على التّحريم.
وقد جاء عن جماعة من الصّحابة لبس خاتم الذّهب.
من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن أبي إسماعيل ، أنّه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاصّ وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستّة أو سبعة.
وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن حذيفة ، وعن جابر بن سمرة ، وعن عبيد الله بن يزيد الخطميّ نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد: نزعنا من يَدَيْ أسيد خاتماً من ذهب.
وأغرب ما ورد من ذلك. ما جاء عن البراء الذي روى النّهي. فأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن أبي السّفر قال: رأيت على البراء خاتماً من ذهب. وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه. أخرجه البغويّ في " الجعديّات ".
وأخرج أحمد من طريق محمّد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتماً من ذهب ، فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فألبسنيه ، فقال: البس ما
كساك الله ورسوله.
قال الحازميّ: إسناده ليس بذاك، ولو صحّ فهو منسوخ.
قلت: لو ثبت النّسخ عند البراء ما لبسه بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النّهي المتّفق على صحّته عنه (1).
فالجمع بين روايته وفعله.
إمّا بأن يكون حَمَله على التّنزيه.
أو فهِم الخصوصيّة له من قوله: البس ما كساك الله ورسوله. وهذا أولى من قول الحازميّ: لعل البراء لَم يبلغه النّهي.
ويؤيّد الاحتمال الثّاني. أنّه وقع في رواية أحمد " كان النّاس يقولون للبراء لِمَ تتختّم بالذّهب. وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيذكر لهم الحديث. ثمّ يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البس ما كساك الله ورسوله؟.
ومن أدلة النّهي أيضاً. ما رواه يونس عن الزّهريّ عن أبي إدريس عن رجلٍ له صحبة قال: جلس رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي يده خاتم من ذهب ، فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بقضيبٍ فقال: ألق هذا.
وعموم الأحاديث حيث قال في الذّهب والحرير: هذان حرامان على رجال أمّتي حلّ لإناثها. أخرجه أحمد وأصحاب السّنن. وصحَّحه ابن حبّان والحاكم من حديث عليّ رضي الله عنه.
وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: من مات من أمّتي وهو يلبس
(1) أي: حديثه الماضي قبل هذا.
الذّهب حرّم الله عليه ذهب الجنّة. الحديث. أخرجه أحمد والطّبرانيّ.
وفي حديث ابن عمر حديث الباب ما يستدلّ به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب.
واستدل به على تحريم الذّهب على الرّجال قليله وكثيره للنّهي عن التّختّم وهو قليل.
وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ التّحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدّملج والمعضد وغيرهما، فأمّا ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النّهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذّهب لمن فاجأه الحرب لأنّه لا تعلّق له بالحرب، بخلاف ما تقدّم في الحرير من الرّخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السّيف أو التّرس أو المنطقة من حلية الذّهب فإنّه لو فجأه الحرب جاز له الضّرب بذلك السّيف ، فإذا انقضت الحرب فليُنتقض ، لأنّه كلّه من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم.
تكميل: أطلق بعض الشّافعيّة: أنّ اليمين بغير استحلافٍ تكره فيما لَم يكن طاعة، والأولى أن يعبّر بما فيه مصلحة.
قال ابن المنير: مقصود التّرجمة (1) أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم} يعني على أحد التّأويلات فيها ، لئلا يتخيّل أنّ الحالف قبل أن يستحلف يرتكب النّهي، فأشار إلى أنّ
(1) أي: ترجمة البخاري على هذا الحديث في كتاب الأيمان والنذور بقوله " من حلف على الشيء وإن لَم يحلف "
النّهي يختصّ بما ليس فيه قصد صحيح كتأكيد الحكم، كالذي ورد في حديث الباب من منع لبس خاتم الذّهب.
قوله: (فنبذ النّاسُ خواتيمَهم) فيه الاقتداء بأفعال النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والأصل فيه قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ} .
وقد ذهب جمع إلى وجوبه لدخوله في عموم الأمر بقوله تعالى {وما آتاكم الرّسول فخذوه} وبقوله {فاتّبعوني يحببكم الله} وبقوله تعالى {فاتّبعوه} ، فيجب اتّباعه في فعله كما يجب في قوله ، حتّى يقوم دليل على النّدب أو الخصوصيّة.
وقال آخرون: يحتمل الوجوب والنّدب والإباحة فيحتاج إلى القرينة.
والجمهور: للنّدب إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لَم يظهر.
ومنهم من فصّل بين التّكرار وعدمه.
وقال آخرون: ما يفعله صلى الله عليه وسلم إن كان بياناً لمجملٍ فحكمه حكم ذلك المجمل وجوباً أو ندباً أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللنّدب وما لَم يظهر فيه وجه التّقرّب فللإباحة، وأمّا تقريره على ما يفعل بحضرته فيدلّ على الجواز.
والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرّع من ذلك حكم الخصائص. وقد أفردت بالتّصنيف.
قال ابن بطّال بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله صلى الله عليه وسلم محتجّاً لِمَن قال بالوجوب بحديث الباب: لأنّه خلع خاتمه فخلعوا خواتمهم، ونزع
نعله في الصّلاة فنزعوا (1)، ولمَّا أمرهم عام الحديبية بالتّحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أمّ سلمة: اخرج إليهم واحلق واذبح (2) ، ففعل فتابعوه مسرعين، فدلَّ ذلك على أنّ الفعل أبلغ من القول، ولمَّا نهاهم عن الوصال. قالوا: إنّك تواصل، فقال: إنّي أطعم وأسقى (3)، فلولا أنّ لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنّه عدل عن ذلك ، وبيّن لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. انتهى.
وليس في جميع ما ذكره ما يدلّ على المدّعى من الوجوب، بل على مطلق التّأسّي به. والعلم عند الله تعالى.
قوله: (جعله في يده اليمنى) وللبخاري عن موسى بن إسماعيل حدّثنا جويرية عن نافعٍ ، وفيه قال جويرية: ولا أحسبه إلَّا قال: في يده اليمنى.
قال أبو ذرّ في روايته: لَم يقع في البخاريّ موضع الخاتم من أيّ اليدين إلَّا في هذا.
وقال الدّاوديّ: لَم يجزم به جويريّة، وتواطؤ الرّوايات على خلافه يدلّ على أنّه لَم يحفظه، وعمل النّاس على لبس الخاتم في اليسار يدلّ
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 20) وأبو داود (650) وأبو يعلى (1194) والحاكم في " المستدرك "(1/ 260) وغيرهم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وصحَّحه ابن خزيمة (1017) وابن حبان (2185).
(2)
أخرجه البخاري في " صحيحه "(2731) في قصة الحديبية الطويل.
(3)
متفق عليه. وقد تقدَّم في كتاب الصوم. رقم (199).
على أنّه المحفوظ.
قلت: وكلامه متعقّب ، فإنّ الظّنّ فيه من موسى شيخ البخاريّ، وقد أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيليّ عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن محمّد بن أسماء كلاهما عن جويريّة. وجزما بأنّه لبسه في يده اليمنى.
وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. في قصّة اتّخاذ الخاتم من ذهب. وفيه: وجعله في يده اليمنى.
وأخرجه التّرمذيّ وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ " صنع النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فتختّم به في يمينه، ثمّ جلس على المنبر ، فقال: إنّي كنت اتّخذت هذا الخاتم في يميني. ثمّ نبذه .. الحديث " وهذا صريحٌ من لفظه صلى الله عليه وسلم رافع لِلَّبس. وموسى بن عقبة أحد الثّقات الأثبات.
وأمّا ما أخرجه ابن عديّ من طريق محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى ، وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي روّادٍ كلاهما عن نافع عن ابن عمر: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتختّم في يساره. فقد قال أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع " في يمينه " انتهى.
ورواية ابن إسحاق. قد أخرجها أبو الشّيخ في " كتاب أخلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم " من طريقه، وكذا رواية أسامة. وأخرجها محمّد بن سعد أيضاً.
فظهر أنّ رواية اليسار في حديث نافع شاذّة، ومن رواها أيضاً أقلّ عدداً وألين ممّن روى اليمين.
وقد أخرج الطّبرانيّ في " الأوسط " بسندٍ حسن عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه.
وأخرج أبو الشّيخ في كتاب " أخلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم " من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه، فرجَحَتْ رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضاً.
وقد ورد التّختّم في اليمين أيضاً في أحاديث أخرى:
منها: عند مسلم من حديث أنس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً من فضّة في يمينه فصّه حبشيّ.
وأخرج أبو داود أيضاً من طريق ابن إسحاق قال: رأيتُ على الصّلت بن عبد الله خاتماً في خنصره اليمين، فسألته؟ فقال: رأيت ابن عبّاس يلبس خاتمه هكذا. وجعل فصّه على ظهرها، ولا إخال ابن عبّاس إلَّا ذكره عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأورده التّرمذيّ من هذا الوجه مختصراً: رأيت ابن عبّاس يتختّم في يمينه. ولا إخاله إلَّا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه.
وللطّبرانيّ من وجه آخر عن ابن عبّاس: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه. وفي سنده لين.
وأخرج التّرمذيّ أيضاً من طريق حمّاد بن سلمة: رأيت ابن أبي رافعٍ يتختّم في يمينه، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت عبد الله بن
جعفرٍ (1) يتختّم في يمينه، وقال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه.
ثمّ نقل عن البخاريّ: أنّه أصحّ شيء روي في هذا الباب.
وأخرج أبو داود والنّسائيّ والتّرمذيّ في " الشّمائل " وصحَّحه ابن حبّان من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنينٍ عن أبيه عن عليّ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه.
وفي الباب عن جابر في " الشّمائل " بسندٍ ليّن، وعائشة عند البزّار بسندٍ ليّن، وعند أبي الشّيخ بسندٍ حسن، وعن أبي أُمامة عند الطّبرانيّ بسندٍ ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " بسندٍ ساقط.
وورد التّختّم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدّم.
ومن حديث أنس أيضاً. أخرجه مسلم من طريق حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر اليسرى. وأخرجه أبو الشّيخ والبيهقيّ في " الشّعب " من طريق قتادة عن أنس.
ولأبي الشّيخ من حديث أبي سعيد بلفظ " كان يلبس خاتمه في يساره " وفي سنده لين، وأخرجه ابن سعد أيضاً.
وأخرج البيهقيّ في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعليّ والحسن والحسين يتختّمون في
(1) سقط ذِكْر عبد الله بن جعفر رضي الله عنه من بعض النسخ المطبوعة ، واستدركته من سنن الترمذي رحمه الله.
اليسار. وأخرجه التّرمذيّ موقوفاً على الحسن والحسين فحسب.
وأمّا دعوى الدّاوديّ: أنّ العمل على التّختّم في اليسار ، فكأنّه توهّمه من استحباب مالك للتّختّم ، وهو يرجّح عمل أهل المدينة ، فظنّ أنّه عمل أهل المدينة.
وفيه نظرٌ، فإنّه جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جمّ من الصّحابة والتّابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التّختّم في اليمنى.
وقال البيهقيّ في الأدب: يُجمع بين هذه الأحاديث بأنّ الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذّهب كما صرّح به في حديث ابن عمر. والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضّة، وأمّا رواية الزّهريّ عن أنس (1) التي فيها التّصريح بأنّه كان فضّةً ولبسه في يمينه فكأنّها خطأ، فالزّهريّ وقع له وهْمٌ في الخاتم الذي طرحه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّه وقع في روايته أنّه الذي كان من فضّة، وأنّ الذي في رواية غيره أنّه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذّهب. انتهى ملخّصاً
(1) أخرجه البخاري (5868) ومسلم (5604) من طريق الزهري عن أنس رضي الله عنه ، أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرَح الناس خواتيمهم.
قال الحافظ في " الفتح "(11/ 393): هكذا روى الحديث الزهري عن أنس، واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه. ونُسب فيه إلى الغلط، لأنَّ المعروف أنَّ الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بسبب اتخاذ الناس مثله إنما هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر.
قال النووي تبعا لعياض: قال جميع أهل الحديث: هذا وهم من ابن شهاب ، لأنَّ المطروح ما كان إلَّا خاتم الذهب، ومنهم من تأوله
…
" ثم ذكر أجوبةً عنه.
وجمع غيره: بأنّه لبس الخاتم أوّلاً في يمينه ، ثمّ حوّله إلى يساره.
واستدل له بما أخرجه أبو الشّيخ وابن عديّ من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تختّم في يمينه، ثمّ أنّه حوّله في يساره.
فلو صحّ هذا لكان قاطعاً للنّزاع، ولكن سنده ضعيف.
وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمّد عن أبيه قال: طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذّهب ، ثمّ تختّم خاتماً من ورق فجعله في يساره. وهذا مرسلٌ أو معضلٌ.
وقد جمع البغويّ في " شرح السّنّة " بذلك ، وأنّه تختّم أوّلاً في يمينه ثمّ تختّم في يساره ، وكان ذلك آخر الأمرين.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك؟ فقال: لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر.
وقد تقدّم قول البخاريّ ، أنّ حديث عبد الله بن جعفر أصحّ شيء ورد فيه. وصرّح فيه بالتّختّم في اليمين.
وفي المسألة عند الشّافعيّة اختلاف. والأصحّ. اليمين.
قلت. ويظهر لي أنّ ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللّبس للتّزيّن به فاليمين أفضل، وإن كان للتّختّم به فاليسار أولى لأنّه كالمودع فيها، ويحصل تناوله منها باليمين وكذا وضعه فيها.
ويترجّح التّختّم في اليمين مطلقاً ، لأنّ اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النّجاسة.
ويترجّح التّختّم في اليسار بما أشرت إليه من التّناول.
وجنحت طائفة: إلى استواء الأمرين ، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم " باب التّختّم في اليمين واليسار " ثمّ أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح.
ونقل النّوويّ وغيره الإجماع على الجواز ثمّ قال: ولا كراهة فيه - يعني عند الشّافعيّة - وإنّما الاختلاف في الأفضل.
وقال البغويّ: كان آخر الأمرين التّختّم في اليسار.
وتعقّبه الطّبريّ: بأنّ ظاهره النّسخ، وليس ذلك مراده بل الإخبار بالواقع اتّفاقاً.
والذي يظهر أنّ الحكمة فيه ما تقدّم، والله أعلم.