المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثالث 363 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٧

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌باب الأضاحي

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌كتاب الأشربة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب اللباس

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الجهاد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌كتاب العتق

- ‌ باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب بيع المدبّر

- ‌الحديث الثالث

الفصل: ‌ ‌الحديث الثالث 363 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

‌الحديث الثالث

363 -

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. (1)

ولمسلمٍ: فمن كان حالفاً، فليحلف بالله، أو ليصمت. (2)

(1) أخرجه البخاري (6271) ومسلم (1646) من طريق يونس وغيره عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه به.

(2)

هذه الرواية عند مسلم (1646) كما قال.

وأخرجها البخاري أيضاً (2533 ، 5757 ، 6270) - لكن من حديث ابن عمر ، - وليس من حديث أبيه - من طرق عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ألا إن الله ينهاكم أنْ تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت.

قال الشارح رحمه الله (11/ 647): قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير) هذا السياق يقتضي أنَّ الخبر من مسند ابن عمر، وكذا وقع في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ولم أر عن نافع في ذلك اختلافاً إلَّا ما حكى يعقوب بن شيبة ، أن عبد الله بن عمر العمري - الضعيف المُكَّبر - رواه عن نافع فقال " عن ابن عمر عن عمر " قال: ورواه عبيد الله بن عمر العمري المصغَّر الثقة عن نافع فلم يقل فيه " عن عمر " وهكذا رواه الثقات عن نافع، لكن وقع في رواية أيوب عن نافع ، أن عمر لم يقل فيه عن ابن عمر.

قلت (ابن حجر): قد أخرجه مسلم من طريق أيوب فذكره، وأخرجه أيضاً عن جماعة من أصحاب نافع بموافقة مالك، ووقع للمزي في " الأطراف " أنه وقع في رواية عبد الكريم " عن نافع عن ابن عمر " في مسند عمر، وهو مُعتَرض فإنَّ مسلماً ساق أسانيده فيه إلى سبعة أنفس من أصحاب نافع منهم عبد الكريم ، ثم قال سبعتهم " عن نافع عن ابن عمر " بمثل هذه القصة، وقد أورد المزي طرق الستة الآخرين في مسند ابن عمر على الصواب ، ووقع الاختلاف في رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. انتهى

قلت: ورواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر. أخرجها البخاري (3624 ، 6272 ، 6966) ومسلم (1646). نحوه.

ص: 27

وفي رواية: قال عمر: فوالله ما حلفت بها، منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عنها، ذاكراً ولا آثراً. (1)

قال المصنِّف: يعني: حاكياً عن غيري. أنه حلف بها.

قوله: (إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وللبخاري من طريق يونس عن ابن شهاب: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية معمر عن ابن شهاب بهذا السّند. عن عمر سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحلف بأبي فقال: إنّ الله. فذكر الحديث. أخرجه أحمد عنه هكذا.

وفي رواية سفيان بن عيينة عن ابن شهاب " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر - وهو يحلف بأبيه - وهو يقول: وأَبي وأَبي ". (2)

وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عند مسلم من الزّيادة " وكانت قريشٌ تحلف بآبائها ".

وللشيخين من رواية الليث عن نافعٍ عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركبٍ، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إنّ .. "

ووقع في " مصنّف ابن أبي شيبة " من طريق عكرمة قال: قال عمر

(1) هذه الرواية ضمن حديث سالم عن أبيه الذي تقدّم تخريجه. كان الأولى بالشارح ذِكرها معه.

(2)

رواية سفيان. أخرجها مسلم في " صحيحه "(1646) ، لكن لم يسق لفظها ، وإنما أحالها على رواية يونس ومعمر ، وهي رواية الباب ، وقد أخرجها الترمذي في " الجامع "(1533) والنسائي في " الكبرى "(4689) من طريق سفيان. فذكرها.

ص: 28

: حدّثت قوماً حديثاً ، فقلت: لا وأبي، فقال رجلٌ من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم، فالتفتّ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أنّ أحدكم حلف بالمسيح هلك ، والمسيح خير من آبائكم.

وهذا مرسلٌ يتقوّى بشواهده.

وقد أخرج التّرمذيّ من وجه آخر عن ابن عمر ، أنّه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك.

قال التّرمذيّ: حسنٌ. وصحَّحه الحاكم.

والتّعبير بقوله " فقد كفر أو أشرك " للمبالغة في الزّجر والتّغليظ في ذلك.

وقد تمسّك به مَن قال بتحريم ذلك ، لكن لَمَّا كان حلف عمر بذلك قبل أن يقتضي النّهي كان معذوراً فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولَم يؤاخذه بذلك ، لأنّه تأوّل أنّ حقّ أبيه عليه يقتضي أنّه يستحقّ أن يحلف به، فبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الله لا يحبّ لعبده أن يحلف بغيره.

وقد أخرج النّسائيّ وأبو داود في " رواية ابن داسة " عنه من حديث أبي هريرة بزيادة. ولفظه " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمّهاتكم ولا بالأنداد ، ولا تحلفوا إلَّا بالله " الحديث.

قوله: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) قال العلماء: السّرّ في النّهي عن الحلف بغير الله أنّ الحلف بالشّيء يقتضي تعظيمه ، والعظمة في الحقيقة إنّما هي لله وحده.

ص: 29

وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصّة، لكن قد اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العليّة. واختلفوا في انعقادها ببعض الصّفات (1).

وكأنّ المراد بقوله " بالله " الذّات لا خصوص لفظ الله، وأمّا اليمين بغير ذلك فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتّحريم؟.

قولان عند المالكيّة، كذا قال ابن دقيق العيد.

والمشهور عندهم الكراهة، والخلاف أيضاً عند الحنابلة ، لكن المشهور عندهم التّحريم، وبه جزم الظّاهريّة.

وقال ابن عبد البرّ: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع.

ومراده بنفي الجواز الكراهة أعمّ من التّحريم والتّنزيه.

فإنّه قال في موضعٍ آخر: أجمع العلماء على أنّ اليمين بغير الله مكروهةٌ منهيٌّ عنها لا يجوز لأحدٍ الحلف بها، والخلاف موجود عند

(1) قال الشارح رحمه الله في " الفتح "(9/ 642) في شرح حديث ابن عمر في البخاري: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ، لا ومقلب القلوب ": وفي هذا الحديث حجة لمن أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك، وإنما الخلاف في أي صفة تنعقد بها اليمين؟، والتحقيق أنها مختصَّة بالتي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وصف بها، ولَم يذكر اسمه، قال: وفرَّق الحنفية بين القدرة والعلم ، فقالوا: إنْ حَلَفَ بقدرة الله انعقدت يمينه ، وإن حلف بعلم الله لَم تنعقد؛ لأنَّ العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}. والجواب: أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم، والكلام إنما هو في الحقيقة .. الخ " انتهى.

وسيأتي إن شاء الله. مزيد بسط في آخر شرح الحديث

ص: 30

الشّافعيّة من أجل قول الشّافعيّ: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعر بالتّردّد، وجمهور أصحابه على أنّه للتّنزيه.

وقال إمام الحرمين (1): المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتّفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التّعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به ، وكان بذلك الاعتقاد كافراً، وعليه يتنزّل الحديث المذكور، وأمّا إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التّعظيم فلا يكفر بذلك ، ولا تنعقد يمينه.

قال الماورديّ: لا يجوز لأحدٍ أن يحلف أحداً بغير الله ، لا بطلاقٍ ولا عتاقٍ ولا نذرٍ ، وإذا حلَّف الحاكمُ أحداً بشيءٍ من ذلك وجب عزله لجهله

قوله: (ذاكراً) أي: عامداً.

قوله: (ولا آثراً) بالمدّ وكسر المثلثة ، أي: حاكياً عن الغير، أي: ما حلفت بها ، ولا حكيت ذلك عن غيري.

ويدلّ عليه ما وقع في رواية عقيل عن ابن شهاب عند مسلم: ما حلفت بها منذ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها.

وقد استشكل هذا التّفسير لتصدير الكلام بحلفت ، والحاكي عن غيره لا يسمّى حالفاً.

وأجيب: باحتمال أن يكون العامل فيه محذوفاً. أي: ولا ذكرتها آثراً عن غيري. أو يكون ضمّن حلفت معنى تكلمت ، ويقوّيه رواية

(1) هو عبدالملك الجويني ، سبق ترجمته (1/ 283)

ص: 31

عقيل.

وجوّز شيخنا في شرح التّرمذيّ: لقوله " آثراً " معنىً آخر. أي: مختاراً، يقال آثر الشّيء إذا اختاره، فكأنّه قال: ولا حلفت بها مؤثراً لها على غيرها.

قال شيخنا: ويحتمل أن يرجع قوله " آثراً " إلى معنى التّفاخر بالآباء في الإكرام لهم، ومنه قولهم: مأثرة ومآثر وهو ما يروى من المفاخر. فكأنّه قال: ما حلفت بآبائي ذاكراً لمآثرهم.

وجوّز في قوله " ذاكراً " أن يكون من الذُّكر - بضمّ المعجمة - كأنّه احترز عن أن يكون ينطق بها ناسياً، وهو يناسب تفسير آثراً بالاختيار ، كأنّه قال: لا عامداً ولا مختاراً.

وجزم ابن التّين في شرحه ، بأنّه من الذّكر - بالكسر لا بالضّمّ - قال: وإنّما هو لَم أقله من قِبَل نفسي ، ولا حدّثت به عن غيري أنّه حلف به.

قال: وقال الدّاوديّ (1): يريد ما حلفت بها ، ولا ذكرت حلف غيري بها كقوله: إنّ فلاناً قال: وحقّ أبي مثلاً.

واستُشكل أيضاً أنّ كلام عمر المذكور ، يقتضي أنّه تورّع عن النّطق بذلك مطلقاً ، فكيف نطق به في هذه القصّة؟.

وأجيب: بأنّه اغتفر ذلك لضرورة التّبليغ.

وفي هذا الحديث من الفوائد.

(1) هو أحمد بن نصر ، سبق ترجمته (1/ 312)

ص: 32

الزّجر عن الحلف بغير الله، وإنّما خصّ في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خصّ لكونه كان غالباً عليه لقوله في الرّواية الأخرى " وكانت قريشٌ تحلف بآبائها ". ويدلّ على التّعميم قوله " من كان حالفاً فلا يحلف إلَّا بالله ".

وأمّا ما ورد في القرآن من القسم بغير الله. ففيه جوابان:

أحدهما: أنّ فيه حذفاً ، والتّقدير. وربّ الشّمس ونحوه.

الثّاني: أنّ ذلك يختصّ بالله ، فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به ، وليس لغيره ذلك.

وأمّا ما وقع ممّا يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ: أفلح وأبيه إن صدق. ففيهم من طعن في صحّة هذه اللفظة.

قال ابن عبد البرّ: هذه اللفظة غير محفوظة ، وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ " أفلح والله إن صدق "

قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ " أفلح وأبيه " لأنّها لفظةٌ منكرةٌ تردّها الآثار الصّحاح. ولَم تقع في رواية مالك أصلاً (1).

(1) رواية مالك. أخرجها البخاري في " الصحيح "(46) ومسلم (11) عنه عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله، يقول: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلَّا أنْ تَطَّوّع ، والصوم والزكاة ، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إنْ صدق. وأخرجه مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل به. وفيه " أفلح وأبيه إن صدق "

ص: 33

وزعم بعضهم: أنّ بعض الرّواة عنه صحّف قوله " وأبيه " من قوله " والله ".

وهو محتمل ، ولكنّ مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصّدّيق - في قصّة السّارق الذي سرق حليّ ابنته - ، فقال في حقّه: وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ. أخرجه في الموطّأ وغيره.

قال السّهيليّ: وقد ورد نحوه في حديث آخر مرفوع ، قال للذي سأل: أيّ الصّدقة أفضل؟ فقال: وأبيك لتنبّأنّ. أخرجه مسلم.

فإذا ثبت ذلك فيجاب بأجوبةٍ:

الجواب الأوّل: أنّ هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنّهي إنّما ورد في حقّ من قصد حقيقة الحلف.

وإلى هذا جنح البيهقيّ، وقال النّوويّ: إنّه الجواب المرضيّ.

الجواب الثّاني: أنّه كان يقع في كلامهم على وجهين:

الأول: للتّعظيم

الثاني: للتّأكيد، والنّهي إنّما وقع عن الأوّل ، فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتّأكيد لا للتّعظيم.

قول الشّاعر: لعمر أبي الواشين إنّي أحبّها

وقول الآخر:

فإن تك ليلى استودعتني أمانةً

فلا وأبي أعدائها لا أذيعها.

فلا يظنّ أنّ قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها ، كما لَم يقصد

ص: 34

الآخر تعظيم والد من وشى به، فدلَّ على أنّ القصد بذلك تأكيد الكلام لا التّعظيم.

وقال البيضاويّ (1): هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرّد التّقرير والتّأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النّداء لمجرّد الاختصاص دون القصد إلى النّداء.

وقد تعقّب الجواب: بأنّ ظاهر سياق حديث عمر يدلّ على أنّه كان يحلفه ، لأنّ في بعض طرقه ، أنّه كان يقول " لا وأبي ، لا وأبي (2) ، فقيل له: لا تحلفوا ". فلولا أنّه أتى بصيغة الحلف ما صادف النّهي محلاًّ.

ومن ثَمّ قال بعضهم - وهو الجواب الثّالث -: إنّ هذا كان جائزاً ثمّ نسخ ، قاله الماورديّ ، وحكاه البيهقيّ.

وقال السّبكيّ: أكثر الشّرّاح عليه، حتّى قال ابن العربيّ: وروي أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتّى نهي عن ذلك.

قال: وترجمة أبي داود تدلّ على ذلك، يعني قوله (باب الحلف بالآباء) ثمّ أورد الحديث المرفوع الذي فيه " أفلح وأبيه إن صدق ".

قال السّهيليّ: ولا يصحّ ، لأنّه لا يظنّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يحلف

(1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي ، سبق ترجمته (1/ 191)

(2)

لم أر هذه اللفظة مكرَّرة ، وقد جاءت هذه اللفظة دون تكرار. عند مالك في " موطأ محمد بن الحسن "(754) عن نافع عن ابن عمر به. وأيضاً عند ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة كما ذكره الشارح قبلاً ، ولها طرق أخرى.

أمَّا رواية " وأبي وأبي " دون زيادة " لا " فهي عند مسلم كما تقدّم.

ص: 35

بغير الله ولا يقسم بكافرٍ، تالله إنّ ذلك لبعيدٌ من شيمته.

وقال المنذريّ: دعوى النّسخ ضعيفة لإمكان الجمع ، ولعدم تحقّق التّاريخ.

الجواب الرّابع: أنّ في الجواب حذفاً تقديره ، أفلح وربّ أبيه. قاله البيهقيّ.

الجواب الخامس: أنّه للتّعجّب. قاله السّهيليّ.

قال: ويدلّ عليه أنّه لَم يرد بلفظ " أبي " وإنّما ورد بلفظ " وأبيه " أو " وأبيك " بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضراً أو غائباً.

الجواب السّادس: أنّ ذلك خاصّ بالشّارع دون غيره من أمّته.

وتعقّب: بأنّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال.

وفي الحديث أنّ من حلف بغير الله مطلقاً لَم تنعقد يمينه. سواء كان المحلوف به يستحقّ التّعظيم لمعنىً غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصّلحاء والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحقّ التّعظيم كالآحاد، أو يستحقّ التّحقير والإذلال كالشّياطين والأصنام وسائر من عبد من دون الله.

واستثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، فقال: تنعقد به اليمين وتجب الكفّارة بالحنث، فاعتلَّ بكونه أحد ركني الشّهادة التي لا تتمّ إلَّا به.

ص: 36

وأطلق ابن العربيّ نسبته لمذهب أحمد (1)، وتعقّبه: بأنّ الأيمان عند أحمد لا تتمّ إلَّا بفعل الصّلاة ، فيلزمه أنّ من حلف بالصّلاة أن تنعقد يمينه ، ويلزمه الكفّارة إذا حنث.

ويمكن الجواب عن إيراده ، والانفصال عمّا ألزمهم به.

وفيه الرّدّ على مَن قال: إن فعلت كذا فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أو كافرٌ أنّه ينعقد يميناً ، ومتى فعل تجب عليه الكفّارة، وقد نقل ذلك عن الحنفيّة والحنابلة.

ووجه الدّلالة من الخبر: أنّه لَم يحلف بالله ، ولا بما يقوم مقام ذلك.

وسيأتي مزيد لذلك بعد (2).

وفيه أنّ مَن قال: أقسمت لأفعلن كذا لا يكون يميناً؛ وعند الحنفيّة يكون يميناً، وكذا قال مالك وأحمد ، لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف بالله وهو متّجهٌ، وقد قال بعض الشّافعيّة: إن قال عليّ أمانة الله لأفعلن كذا ، وأراد اليمين أنّه يمين وإلا فلا.

وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النّهي عن الحلف بغير

(1) قال ابن تيمية في الفتاوى: وإنما نعرف النزاع فى الحلف بالأنبياء. فعن أحمد فى الحلف بالنبى صلى الله عليه وسلم روايتان.

إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور مالك وأبى حنيفة والشافعى

والثانية: ينعقد اليمين به. واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضى وأتباعه - وابن المنذر وافق هؤلاء - وقصر أكثر هؤلاء النزاع فى ذلك على النبىِّ خاصة. وعدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء ، وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق - وان كان نبياً - قول ضعيف فى الغاية مخالف للأصول والنصوص. انتهى

(2)

انظر حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه الآتي برقم (367).

ص: 37

الله.

فقالت طائفة: هو خاصّ بالأيمان التي كان أهل الجاهليّة يحلفون به تعظيماً لغير الله تعالى كاللات والعزّى والآباء ، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفّارة فيها.

وأمّا ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله: وحقّ النّبيّ والإسلام والحجّ والعمرة والهدي والصّدقة والعتق ونحوها ممّا يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلاً في النّهي. وممَن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممّن لقيناه.

واحتجّوا بما جاء عن الصّحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصّدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النّهي المذكور، فدلَّ على أنّ ذلك عندهم ليس على عمومه؛ إذ لو كان عامّاً لنهوا عن ذلك ، ولَم يوجبوا فيه شيئاً. انتهى.

وتعقّبه ابن عبد البرّ: بأنّ ذكر هذه الأشياء، وإن كانت بصورة الحلف فليست يميناً في الحقيقة وإنّما خرج عن الاتّساع، ولا يمين في الحقيقة إلَّا بالله.

وقال المُهلَّب: كانت العرب تحلف بأبائها وآلهتها فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم لينسيهم ذكر كلّ شيء سواه ويبقى ذكره؛ لأنّه الحقّ المعبود فلا يكون اليمين إلَّا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء.

وقال الطّبريّ: في حديث عمر - يعني حديث الباب - أنّ اليمين

ص: 38

لا تنعقد إلَّا بالله وأنّ من حلف بالكعبة أو آدم أو جبريل ونحو ذلك لَم تنعقد يمينه ، ولزمه الاستغفار لإقدامه على ما نهي عنه ، ولا كفّارة في ذلك.

وأمّا ما وقع في القرآن من القسم بشيءٍ من المخلوقات ، فقال الشّعبيّ: فالخالق يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا يقسم إلَّا بالخالق، قال: ولأن أقسم بالله فأحنث أحبّ إليّ من أن أقسم بغيره فأبرّ.

وجاء مثله عن ابن عبّاس وابن مسعود وابن عمر. ثمّ أسند عن مطرّف عن عبد الله ، أنّه قال: إنّما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ، ولدلالتها على خالقها.

وقد أجمع العلماء على من وجبت له يمين على آخر في حقٍّ عليه أنّه لا يحلف له إلَّا بالله، فلو حلف له بغيره ، وقال: نويت ربّ المحلوف به لَم يكن ذلك يميناً.

وقال ابن هبيرة في كتاب " الإجماع ": أجمعوا على أنّ اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته كعزّته وجلاله وعلمه وقوّته وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم الله فلم يره يميناً، وكذا حقّ الله.

واتّفقوا على أنّه لا يحلف بمعظّمٍ غير الله كالنّبيّ، وانفرد أحمد في رواية ، فقال: تنعقد.

ص: 39

وقال عياض: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أنّ الحلف بأسماء الله وصفاته لازم إلَّا ما جاء عن الشّافعيّ من اشتراط نيّة اليمين في الحلف بالصّفات، وإلا فلا كفّارة.

وتُعقّب إطلاقه ذلك عن الشّافعيّ، وإنّما يحتاج إلى النّيّة عنده ما يصحّ إطلاقه عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره.

وأمّا ما لا يطلق في معرض التّعظيم شرعاً إلَّا عليه تنعقد اليمين به ، وتجب الكفّارة إذا حنث كمقلب القلوب وخالق الخلق ورازق كلِّ حيّ، وربّ العالمين وفالق الحبّ وبارئ النّسمة، وهذا في حكم الصّريح كقوله: والله، وفي وجه لبعض الشّافعيّة ، أنّ الصّريح الله فقط.

ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال: قصدت غير الله. هل ينفعه في عدم الحنث؟

والمشهور عن المالكيّة التّعميم، وعن أشهب: التّفصيل في مثل ، وعزّة الله. إن أراد التي جعلها بين عبادة فليست بيمينٍ، وقياسه أن يطّرد في كلّ ما يصحّ إطلاقه عليه وعلى غيره، وقال به ابن سحنونٍ منهم في عزّة الله.

وفي العتبيّة: أنّ من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم ، ثمّ أوّلها على أنّ المراد. إذا أراد جسم المصحف، والتّعميم عند الحنابلة حتّى لو أراد بالعلم والقدرة المعلوم والمقدور انعقدت.

والرّاجح: أنّ صفات الذّات منها يلتحق بالصّريح فلا تنفع معها

ص: 40

التّورية إذا تعلق به حقّ آدميٍّ، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزّة الله من صفات الذّات وكذا جلاله وعظمته.

قال الشّافعيّ فيما أخرجه البيهقيّ في المعرفة: مَن قال وحقّ الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده. فهي يمين. انتهى.

وقال غيره: والقدرة. تحتمل: صفة الذّات فتكون اليمين صريحة.

وتحتمل: إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجّب من الشّيء: انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله: اللهمّ اغفر لنا علمك فينا ، أي: معلومك.

تنْبيهٌ: وقع في رواية محمّد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر في آخر هذا الحديث زيادةٌ. أخرجها ابن ماجه من طريقه بلفظ. سمع النّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ، ومن حُلف له بالله فليرض ، ومن لَم يرض بالله فليس من الله. وسنده حسنٌ.

ص: 41