الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
366 -
عن الأشعث بن قيسٍ رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه، قلت: إذاً يحلف، ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينٍ صبرٍ يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ، هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان. (1)
قوله: (عن الأشعث بن قيس) بن معديكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الكندي. (2)
(1) هذ الحديث هو نفسه حديث ابن مسعود الماضي. وتقدّم تخريجه فانظره
(2)
يكنى أبا محمد ، قال ابن سعد: وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر في سبعين راكباً من كندة ، وكان من ملوك كندة ، وهو صاحب مرباع حضر موت. قاله ابن الكلبي.
وكان اسمه معد يكرب ، وإنما لُقِّب بالأشعث قال محمد بن يزيد: عن رجاله كان اسمه معد يكرب. وكان أبدا أشعث الرأس فسُمي الأشعث.
وقال إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم: شهدت جنازةً فيها الأشعث وجرير فقدَّم الأشعث جريراً ، وقال: إنه لم يرتدّ ، وقد كنتُ ارتددتُ. ورواه ابن السكن وغيره.
وكان الأشعث قد ارتدَّ فيمن ارتدَّ من الكنديين ، وأُسر فأُحضر إلى أبي بكر فأسلم فاطلقه ، وزوجه أخته أم فروة. في قصة طويلة.
ثم شهد الأشعث اليرموك بالشام والقادسية وغيرها بالعراق ، وسكن الكوفة ، وشهد مع علي صفين. وله معه أخبار ، قال خليفة وأبو نعيم وغير واحد: مات بعد قتل عليٍّ بأربعين ليلة ، وصلَّى عليه الحسن بن علي ، وقيل مات سنة 42.
وفي الطبراني من طريق أبي إسرائيل الملائي عن أبي إسحاق. ما يدلُّ على أنه تأخر عن ذلك ، فإن أبا إسحاق كان صغيراً على عهد عليٍّ ، وقد ذكر في هذه القصة ، أنه كان له على رجلٍ من كندة دين ، وأنه دخل مسجدهم فصلَّى الفجر فوضع بين يديه كيس وحلَّة ونعل فسأل عن ذلك فقالوا: قدم الأشعث الليلة من مكة. وفيه أيضاً من وجه آخر استأذن الأشعث على معاوية بالكوفة وعنده الحسن بن علي وابن عباس فذكر قصته ، لكن هذا لا يدفع ما تقدم.
وقال أبو حسان الزيادي: مات وله 63 سنة. من الإصابة بتجوز.
قوله: (كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ) في رواية أبي عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود عند البخاري " كان لي بئر في أرض ابن عمٍّ لي " ، وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند البخاري " أرضٌ ".
وزعم الإسماعيليّ ، أنّ أبا حمزة (1) تفرّد بذكر البئر عن الأعمش ، قال: ولا أعلم فيمن رواه عن الأعمش إلَّا قال: " في أرض ".
قال: والأكثرون أولى بالحفظ من أبي حمزة. انتهى.
وليس كما قال. فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا للبخاري من رواية الثّوريّ عن الأعمش ومنصور جميعاً، ومثله في رواية شعبة ، لكن بيّن أنّ ذلك في حديث الأعمش وحده.
ووقع في رواية جرير عن منصور " في شيء " ولبعضهم " في بئر ". ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضاً " في بئر ".
والأكثر. أنّ الخصومة كانت في بئر يدّعيها الأشعث في أرض لخصمه، وفي رواية أبي معاوية " كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرض فجحدني ".
(1) أبو حمزة هو محمد بن ميمون السكري. وروايته هذه أخرجها البخاري (2229) عن الأعمش ، وفيها زيادات سيشير إليها الشارح رحمه الله.
ويُجمع: بأنّ المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر، والبئر من جملتها.
ولا منافاة بين قوله: ابن عمّ لي ، وبين قوله: من اليهود؛ لأنّ جماعة من اليمن كانوا تهوّدوا لمَّا غلب يوسف ذو نواسٍ على اليمن. فطردَ عنها الحبشةَ ، فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل " السّيرة النّبويّة " مبسوطاً.
واسم ابن عمّه المذكور معدان بن معد يكرب الكندي، ولقبه الجفشيش بوزن فعليلٍ مفتوح الأوّل.
واختلف في ضبط هذا الأوّل على ثلاثة أقوالٍ:
أشهرها: بالجيم والشّين معجمةً في الموضعين. وقيل: اسمه جرير.
وقيل: معدّان. حكاه ابن طاهر، والمعروف أنّه اسم. وكنيته أبو الخير.
وأخرج الطّبرانيّ من طريق الشّعبيّ عن الأشعث قال: خاصم رجلٌ من الحضرميّين رجلاً منّا يقال له الجفشيش إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أرضٍ له، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للحضرميّ: جئ بشهودك على حقّك ، وإلَاّ حلف لك. الحديث.
قلت: وهذا يخالف السّياق الذي في الصّحيح، فإن كان ثابتاً حُمل على تعدّد القصّة، وقد أخرج أحمد والنّسائيّ من حديث عديّ بن عميرة الكنديّ ، قال: خاصم رجلٌ من كندة - يقال له امرؤ القيس بن عابس الكنديّ - رجلاً من حضرموت في أرض. فذكر نحو قصّة
الأشعث. وفيه: إن مكّنته من اليمين ذهبت أرضي، وقال: من حلف. فذكر الحديث. وتلا الآية.
ومعد يكرب جدّ الجفشيش. وهو جدّ الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمّه حقيقة.
ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث ، أنّ رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن. فذكر قصّةً تشبه قصّة الباب إلَّا أنّ بينهما اختلافاً في السّياق.
وأظنّها قصّة أخرى ، فإنّ مسلماً أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: جاء رجلٌ من حضرموت ورجلٌ من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الحضرميّ: إنّ هذا غلبني على أرض كانت لأبي.
وإنّما جوّزتُ التّعدّد؛ لأنّ الحضرميّ يغاير الكنديّ؛ لأنّ المدّعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكنديّ جزماً ، والمُدّعي في حديث وائل هو الحضرميّ فافترقا.
ويجوز أن يكون الحضرميّ: نسب إلى البلد لا إلى القبيلة ، فإنّ أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثمّ اشتهرت النّسبة إلى القبيلة، فلعل الكنديّ في هذه القصّة كان يسكن حضرموت فنسب إليها ، والكنديّ لَم يسكنها فاستمرّ على نسبته.
وقد ذكروا الجفشيش في الصّحابة، واستشكله بعض مشايخنا
لقوله في الطّريق المذكورة قريباً " إنّه يهوديّ " ثمّ قال: يحتمل أنّه أسلم.
قلت: وتمامه أن يقال: إنّما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أوّلاً.
ويؤيّد إسلامه أنّه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصّة ، أنّه لَمّا سمع الوعيد المذكور قال: هي أرضه، فترك اليمين تورّعاً، ففيه إشعار بإسلامه.
ويؤيّده أنّه لو كان يهوديّاً ما بالَى بذلك ، لأنّهم يستحلّون أموال المسلمين، وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم {ليس علينا في الأمّيّين سبيلٌ} أي: حرجٌ.
ويؤيّد كونه مسلماً أيضاً رواية الشّعبيّ الآتية قريباً.
قوله: (فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية أبي عوانة " فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية الثّوريّ " خاصمته " ، وفي رواية أبي معاوية " فجحدني ، فقدّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "
قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه) في رواية أبي عوانة " فقال: بيّنتك أو يمينه "، وفي رواية أبي معاوية " فقال: ألك بيّنةٌ؟ فقلت: لا. فقال لليهوديّ: احلف " ، وفي رواية أبي حمزة " فقال لي: شهودك. قلت: ما لي شهود. قال: فيمينه " ، وفي رواية وكيع عند مسلم " ألك عليه بيّنةٌ ".
وارتفع " شاهداك " على أنّه خبر مبتدأ محذوف. تقديره المثبت لك
أو الحجّة أو ما يثبت لك، والمعنى ما يثبت لك شهادة شاهديك أو لك إقامة شاهديك. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه فارتفع، وحذف الخبر للعلم به.
والأصل في هذا التّقدير قول سيبويه: المثبت لك ما تدّعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك .. إلخ.
وفي رواية أبي حمزة بلفظ " شهودك أو يمينه " بالنّصب فيهما. أي: أحضر شهودك أو اطلب يمينه.
وفيه أنّه أطلق اليمين في جانب المدّعى عليه. ولَم يقيّده بشيءٍ دون شيء.
وأشار البخاري (1) إلى الرّدّ على الكوفيّين في تخصيصهم اليمين على المدّعى عليه في الأموال دون الحدود.
وذهب الشّافعيّ والجمهور إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنّكاح ونحوه.
واستثنى مالك النّكاح والطّلاق والعتاق والفدية ، فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتّى يقيم المدّعي البيّنة ولو شاهداً واحداً.
وقوله " شاهداك أو يمينه " روى نحو هذه القصّة وائل بن حجرٍ. وزاد فيها " ليس لك إلَّا ذلك " أخرجه مسلم وأصحاب السّنن.
واستدل بهذا الحصر على ردّ القضاء باليمين والشّاهد.
(1) لقوله في صحيحه: (باب اليمين على المدعى عليه فى الأموال والحدود ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه.)
وأجيب: بأنّ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم " شاهداك " أي: بيّنتك. سواء كانت رجلين ، أو رجلاً وامرأتين ، أو رجلاً ويمين الطّالب، وإنّما خصّ الشّاهدين بالذّكر لأنّه الأكثر الأغلب، فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما.
ولو لزم من ذلك ردّ الشّاهد واليمين - لكونه لَم يُذكر - للزم ردّ الشّاهد والمرأتين لكونه لَم يذكر فوضح التّأويل المذكور، والملجئ إليه ثبوت الخبر باعتبار الشّاهد واليمين، فدلَّ على أنّ ظاهر لفظ الشّاهدين غير مراد ، بل المراد هو أو ما يقوم مقامه.
وقيل: لا يُقضى باليمين مع الشّاهد الواحد إلَّا عند فقد الشّاهدين أو ما قام مقامهما من الشّاهد والمرأتين، وهو وجه للشّافعيّة، وصحَّحه الحنابلة.
ويؤيّده ما رواه الدّارقطنيّ من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعاً: قضى الله ورسوله في الحقّ بشاهدين. فإن جاء بشاهدين أخذ حقّه. وإن جاء بشاهدٍ واحد حلف مع شاهده.
وأجاب بعض الحنفيّة: بأنّ الزّيادة على القرآن نسخ، وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر، ولا تقبل الزّيادة من الأحاديث إلَّا إذا كان الخبر بها مشهوراً.
وأجيب: بأنّ النّسخ رفع الحكم ولا رفع هنا.
وأيضاً. فالنّاسخ والمنسوخ لا بدّ أن يتواردا على محلّ واحد ، وهذا غير متحقّق في الزّيادة على النّصّ، وغاية ما فيه أنّ تسمية الزّيادة
كالتّخصيص نسخاً اصطلاح فلا يلزم منه نسخ الكتاب بالسّنّة، لكن تخصيص الكتاب بالسّنّة جائز ، وكذلك الزّيادة عليه كما في قوله تعالى:{وأحل لكم ما وراء ذلكم} .
وأجمعوا على تحريم نكاح العمّة مع بنت أخيها.
وسند الإجماع في ذلك السّنّة الثّابتة (1). وكذلك قطع رجل السّارق في المرّة الثّانية، وأمثلة ذلك كثيرة.
وقد أخذَ مَن ردّ الحكم بالشّاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة ، كلّها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنّبيذ والوضوء من القهقهة ومن القيء والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء ، واستبراء المسبيّة ، وترك قطع من سرق ما يُسرع إليه الفساد ، وشهادة المرأة الواحدة في الولادة ، ولا قود إلَّا بالسّيف ، ولا جمعة إلَّا في مصر جامع ، ولا تقطع الأيدي في الغزو ، ولا يرث الكافر المسلم ، ولا يؤكل الطّافي من السّمك ، ويحرم كلّ ذي نابٍ من السّباع ومخلب من الطّير ، ولا يقتل الوالد بالولد ، ولا يرث القاتل من القتيل. وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمّن الزّيادة على عموم الكتاب.
وأجابوا: بأنّها أحاديث شهيرة موجب العمل بها لشهرتها.
فيقال لهم: وحديث القضاء بالشّاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة، بل ثبت من طرق صحيحة متعدّدة.
(1) تقدم في النكاح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم (309)
فمنها: ما أخرجه مسلم من حديث ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمينٍ وشاهد.
وقال في اليمين: إنّه حديثٌ صحيحٌ لا يرتاب في صحّته.
وقال ابن عبد البرّ: لا مطعن لأحدٍ في صحّته ولا إسناده.
وأمّا قول الطّحاويّ: إنّ قيس بن سعد لا تعرف له رواية عن عمرو بن دينار. لا يقدح في صحّة الحديث ، لأنّهما تابعيّان ثقتان مكّيّان ، وقد سمع قيس من أقدم من عمرو، وبمثل هذا لا تردّ الأخبار الصّحيحة.
ومنها: حديث أبي هريرة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشّاهد. وهو عند أصحاب السّنن ورجاله مدنيّون ثقات، ولا يضرّه أنّ سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدّث به ربيعة ، لأنّه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه عن أبيه، وقصّته بذلك مشهورة في سنن أبي داود وغيرها.
ومنها: حديث جابر مثل حديث أبي هريرة. أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه ، وصحَّحه ابن خزيمة وأبو عوانة.
وفي الباب عن نحو من عشرين من الصّحابة فيها الحسان والضّعاف، وبدون ذلك تثبت الشّهرة، ودعوى نسخه مردودة ، لأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال.
وأمّا احتجاج مالك في " الموطّأ ". بأنّ اليمين تتوجّه على المدّعي عند النّكول ، وردّ اليمين بغير حلف فإذا حلف ثبت الحقّ بغير
خلاف فيكون حلف المدّعي ومعه شاهد آخر أولى، فهو متعقّبٌ. ولا يردّ على الحنفيّة ، لأنّهم لا يقولون بردّ اليمين.
وقال الشّافعيّ: القضاء بشاهدٍ ويمين لا يخالف ظاهر القرآن ، لأنّه لَم يمنع أن يجوز أقلّ ممّا نصّ عليه، يعني: والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم فضلاً عن مفهوم العدد. والله أعلم.
وقال ابن العربيّ: أظرف ما وجدت لهم في ردّ الحكم بالشّاهد واليمين أمران:
أحدهما: أنّ المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطّالب، والمراد أنّ الشّاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحقّ فيجب اليمين على المدّعى عليه، فهذا المراد بقوله: قضى بالشّاهد واليمين.
وتعقّبه ابن العربيّ: بأنّه جهل باللّغة، لأنّ المعيّة تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادّين.
ثانيهما: حمله على صورة مخصوصة ، وهي أنّ رجلاً اشترى من آخر عبداً مثلاً فادّعى المشتري أنّ به عيباً ، وأقام شاهداً واحداً ، فقال البائع: بعته بالبراءة ، فيحلف المشتري أنّه ما اشترى بالبراءة ويردّ العبد.
وتعقّبه: بنحو ما تقدّم، ولأنّها صورة نادرة ولا يحمل الخبر عليها.
قلت: وفي كثير من الأحاديث الواردة في ذلك ما يبطل هذا التّأويل. والله أعلم
قوله: (قلت: إذاً يحلف، ولا يبالي) في رواية أبي عوانة " قلت:
إذاً يحلف عليها يا رسولَ الله " ، لَم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله " يحلف " بلفظ " أذن يحلف " بالنّصب لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره.
وحكى ابن خروف جواز الرّفع في مثل هذا.
وزاد في رواية أبي معاوية " إذاً يحلف ويذهب بمالي " ، ووقع في حديث وائل من الزّيادة بعد قوله ألك بيّنةٌ ، قال: لا ، قال: فلك يمينه، قال: إنّه فاجرٌ ليس يبالي ما حلف عليه ، وليس يتورّع من شيءٍ، قال: ليس لك منه إلَّا ذلك.
ووقع في رواية الشّعبيّ عن الأشعث قال: أرضي أعظم شأناً أن يحلف عليها، فقال: إنّ يمين المسلم يدرأ بها أعظم من ذلك.
قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف) فذكر مثل حديث ابن مسعودٍ سواء. وزاد " وهو فيها فاجرٌ ". وهذه الزّيادة وقعت في حديث ابن مسعودٍ عند أبي حمزة وغيره.
وزاد أبو حمزة " فأنزل الله ذلك تصديقاً له " أي: لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولَم يقع في رواية منصور حديث " من حلف " من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله " فأنزل الله " وساق الآية.
ووقع في رواية كردوس عن الأشعث " فتهيّأ الكنديّ لليمين " وفي حديث وائلٍ: فانطلق ليحلف، فلمّا أدبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث.
ووقع في رواية الشّعبيّ عن الأشعث ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنْ هو
حلف كاذباً أدخله الله النّار. فذهب الأشعث فأخبره القصّة ، فقال: أصلِح بيني وبينه، قال: فأصلح بينهما.
وفي حديث عديّ بن عميرة ، فقال له أمرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسولَ الله؟ قال: الجنّة. قال: أشهد أنّي قد تركتها له كلها.
وهذا يؤيّد ما أشرت إليه من تعدّد القصّة.
وفي الحديث سماع الحاكم الدّعوى فيما لَم يره إذا وُصف وحدّد وعرفه المتداعيان، لكن لَم يقع في الحديث تصريحٌ بوصفٍ ولا تحديدٍ.
فاستدلَّ به القرطبيّ على أنّ الوصف والتّحديد ليس بلازمٍ لذاته ، بل يكفي في صحّة الدّعوى تمييز المدّعى به تمييزاً ينضبط به.
قلت: ولا يلزم من ترك ذكر التّحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدلّ بسكوت الرّاوي عنه بأنّه لَم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطاً بدليله. فإذا ثبت حمل على أنّه ذكر في الحديث، ولَم ينقله الرّاوي.
وفيه أنّ الحاكم يسأل المدّعي هل له بيّنة؟ وقد ترجم بذلك البخاري في الشّهادات " وأنّ البيّنة على المدّعي في الأموال كلّها ".
واستدل به لمالكٍ في قوله: إنّ من رضي بيمين غريمه ، ثمّ أراد إقامة البيّنة بعد حلفه أنّها لا تسمع ، إلَّا إن أتى بعذرٍ يتوجّه له في ترك إقامتها قبل استحلافه.
قال ابن دقيق العيد: ووجهه أنّ " أو " تقتضي أحد الشّيئين. فلو جاز إقامة البيّنة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معاً ، والحديث
يقتضي أنّه ليس له إلَّا أحدهما.
قال: وقد يجاب بأنّ المقصود من هذا الكلام نفي طريقٍ أخرى لإثبات الحقّ فيعود المعنى إلى حصر الحجّة في البيّنة واليمين.
ثمّ أشار إلى أنّ النّظر إلى اعتبار مقاصد الكلام ، وفهمه يضعف هذا الجواب.
قال: وقد يستدلّ الحنفيّة به في ترك العمل بالشّاهد واليمين في الأموال.
قلت: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشّاهد واليمين أنّها زيادة صحيحةٌ يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق، وإنّما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم.
واستدل به على توجيه اليمين في الدّعاوي كلّها على من ليست له بيّنةٌ.
وفيه بناء الأحكام على الظّاهر ، وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلاً.
وفيه دليلٌ للجمهور ، أنّ حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لَم يكن حلالاً له خلافاً لأبي حنيفة. كذا أطلقه النّوويّ.
وتعقّب: بأنّ ابن عبد البرّ نقل الإجماع على أنّ الحكم لا يحلّ حراماً في الباطن في الأموال.
قال: واختلفوا في حل عصمة نكاحٍ من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه. فقال الجمهور: الفروج كالأموال، وقال
أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكيّة: إنّ ذلك إنّما هو في الأموال دون الفروج، وحجّتهم في ذلك اللعان. انتهى.
وقد طرد ذلك بعض الحنفيّة في بعض المسائل في الأموال، والله أعلم.
قال ابن بطّال: هذا الحديث حجّة في أنّ حكم الحاكم في الظّاهر لا يحلّ الحرام ولا يبيح المحظور، لأنّه صلى الله عليه وسلم حذّر أمّته عقوبة من اقتطع من حقّ أخيه شيئاً بيمينٍ فاجرة، والآية المذكورة من أشدّ وعيد جاء في القرآن، فيؤخذ من ذلك أنّ من تحيّل على أخيه وتوصّل إلى شيء من حقّه بالباطل فإنّه لا يحلّ له لشدّة الإثم فيه.
وفيه التّشديد على من حلف باطلاً ليأخذ حقّ مسلمٍ، وهو عند الجميع محمولٌ على من مات على غير توبةٍ صحيحةٍ.
وعند أهل السّنّة محمولٌ على من شاء الله أن يعذّبه كما قرّرناه مراراً. وآخرها في الكلام على حديث أبي ذرٍّ (1).
(1) أخرجه البخاري (1180) ومواضع أخرى ، ومسلم (94) عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني آت من ربي، فأخبرني ، أو قال: بشرني ، أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق.
قال ابن حجر في " الفتح ": وقال النووي بعد أن ذكر المتون في ذلك والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أنَّ أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقناً بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان ديّناً أو سليماً من المعاصي دخل الجنة برحمة الله وحرم على النار، وإنْ كان من المُخلّطين بتضييع الأوامر ، أو بعضها وارتكاب النواهي أو بعضها ، ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أنْ يشاء الله أنْ يعفو عنه، فإنْ شاء أنْ يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، انتهى.
وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول. تقديره. وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مصراً على المعصية في مشيئة الله.
وتقدير الثاني في حديث أبي هريرة عند مسلم: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله إلَّا حرَّمه الله على النار. إلا أن يشاء الله أو حرَّمه على نار الخلود. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.
وقوْله {ولا ينْظر الله إليْه} قال في الكشّاف: هو كنايةٌ عن عدم الإحسان إليه عند من يجوّز عليه النّظر مجازٌ عند من لا يجوّزه ، والمراد بترك التّزكية ترك الثّناء عليه وبالغضب إيصال الشّرّ إليه.
وقال المازريّ: ذكر بعض أصحابنا: أنّ فيه دلالة على أنّ صاحب اليد أولى بالمدّعى فيه. وفيه التّنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء؛ لأنّه بدأ بالطّالب فقال: ليس لك إلَّا يمين الآخر، ولَم يحكم بها للمدّعى عليه إذا حلف ، بل إنّما جعل اليمين تصرف دعوى المدّعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدّعى عليه أن لا يحكم له بملك المدّعى فيه ، ولا بحيازته بل يقرّه على حكم يمينه.
واستدل به على أنّه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممّن يتّهم بذلك ويليق به ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر المدّعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدّعوى، ولَم يسأل عن حالهما.
وتعقّب: بأنّه ليس فيه التّصريح بخلاف ما ذهب إليه مَن قال به من المالكيّة لاحتمال أن يكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم علم من حاله ما أغناه عن السّؤال فيه، وقد قال خصمه عنه: إنّه فاجرٌ لا يبالي ولا يتورّع عن شيء " ولَم ينكر عليه ذلك ، ولو كان بريئاً ممّا قال لبادر للإنكار عليه.
بل في بعض طرق الحديث ما يدلّ على أنّ الغصب المدّعى به وقع في الجاهليّة ، ومثل ذلك تسمع الدّعوى بيمينه فيه عندهم.
وفي الحديث أيضاً ، أنّ يمين الفاجر تسقط عنه الدّعوى، وأنّ فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه، ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لَم يكن لليمين معنى، وأنّ المدّعى عليه إن أقرّ أنّ أصل المدّعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لَم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال.
قال: وفيه أنّ من جاء بالبيّنة قضي له بحقّه من غير يمينٍ ، لأنّه محالٌ أن يسأله عن البيّنة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بيّنتك ويمينك على صدقها.
وتعقّب: بأنّه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بيّنته على صدقها فيما شهدت أنّ الحكم له لا يتوقّف بعد البيّنة على حلفه بأنّه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلاً وأنّه يستحقّ قبضه، فهذا - وإن كان لَم يذكر في الحديث - فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك؛ لأنّ في بعض طرقه أنّ الخصم اعترف وسلَّم المدّعى به للمدّعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أنّ المدّعي ذكر أنّه لا بيّنة له فلم تكن اليمين إلَّا في جانب المدّعى عليه فقط.
وقال القاضي عياض: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً البداءة بالسّماع من الطّالب ثمّ من المطلوب. هل يقرّ أو ينكر؟ ثمّ طلب البيّنة من الطّالب إن أنكر المطلوب، ثمّ توجيه اليمين على المطلوب
إذا لَم يجد الطّالب البيّنة، وأنّ الطّالب إذا ادّعى أنّ المدّعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البيّنة بأنّ يد المطلوب عليه.
قال: وذهب بعض العلماء إلى أنّ كلّ ما يجري بين المتداعيين من تسابٍّ بخيانةٍ وفجورٍ هدرٌ لهذا الحديث.
وفيه نظرٌ؛ لأنّه إنّما نسبه إلى الغصب في الجاهليّة وإلى الفجور وعدم التّوقّي في الأيمان في حال اليهوديّة فلا يطّرد ذلك في حقّ كلّ أحد.
وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفاً من أن يحلف باطلاً فيرجع إلى الحقّ بالموعظة.
واستدل به القاضي أبو بكر بن الطّيّب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له: ألك دليلٌ على ذلك؟ فإن قال نعم. سأله عنه ، ولا يقول له ابتداءً: ما دليلك على ذلك؟. ووجه الدّلالة أنّه صلى الله عليه وسلم قال للطّالب: ألك بيّنةٌ؟ ولَم يقل له قرّب بيّنتك.
وفيه إشارةٌ إلى أنّ لليمين مكاناً يختصّ به لقوله في بعض طرقه " فانطلق ليحلف " وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره.
وبذلك احتجّ الخطّابيّ (1) فقال: كانت المحاكمة والنّبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلَّا إلى المنبر؛ لأنّه كان في المسجد فلا بدّ أن يكون انطلاقه إلى موضعٍ أخصّ منه.
وفيه أنّ الحالف يحلف قائماً لقوله " فلمّا قام ليحلف ". وفيه نظرٌ؛
(1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).
لأنّ المراد بقوله قام ما تقدّم من قوله: " انطلق ليحلف ".
واستدل به الشّافعيّ أنّ من أسلم وبيده مالٌ لغيره أنّه يرجع إلى مالكه إذا أثبته.
وعن المالكيّة. اختصاصه بما إذا كان المال لكافرٍ، وأمّا إذا كان لمسلمٍ وأسلم عليه الذي هو بيده فإنّه يقرّ بيده.
والحديث حجّة عليهم.
وقال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه أنّ الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأنّ اليمين الغموس لا كفّارة فيها؛ لأنّ نقض العهد لا كفّارة فيه.
كذا قال، وغايته أنّها دلالة اقترانٍ.
وقال النّوويّ: يدخل في قوله " من اقتطع حقّ امرئٍ مسلمٍ " من حلف على غير مال كجلد الميتة والسّرجين وغيرهما ممّا ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزّوجة بالقسم، وأمّا التّقييد بالمسلم فلا يدلّ على عدم تحريم حقّ الذّمّيّ بل هو حرام أيضاً، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة. انتهى
وهو تأويلٌ حسنٌ ، لكن ليس في الحديث المذكور دلالةٌ على تحريم حقّ الذّمّيّ بل ثبت بدليلٍ آخر. والحاصل أنّ المسلم والذّمّيّ لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقّهما باطلاً، وإنّما يفترق قدر العقوبة بالنّسبة إليهما.
قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنّه لا فرق بين قليل
الحقّ وكثيره في ذلك.
وكأنّ مراده عدم الفرق في غلظ التّحريم لا في مراتب الغلظ.
وقد صرّح ابن عبد السّلام في " القواعد " بالفرق بين القليل والكثير ، وكذا بين ما يترتّب عليه كثير المفسدة وحقيرها.
وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حقّ الغير مطلقاً في حديث أبي ذرٍّ " ثلاثةٌ لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم. الحديث، وفيه. والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " أخرجه مسلم.
وله شاهدٌ عند أحمد وأبي داود والتّرمذيّ من حديث أبي هريرة بلفظ " ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذباً ".