الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
385 -
عن ابن عباسٍ رضي الله عنه ، قال: دخلتُ أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأُتي بضبٍّ محنوذٍ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضبٌ يا رسولَ الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده.
فقلت: أحرامٌ هو يا رسولَ الله؟، قال: لا، ولكنه لَم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، قال خالدٌ: فاجتررته فأكلته، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ينظر. (1)
قال المصنِّف: المحنوذ: المشوي بالرضف. وهي الحجارة المُحماة.
قوله: (عن ابن عبّاس رضي الله عنه)(2) وللشيخين من طريق يونس عن ابن شهابٍ عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيفٍ الأنصاريّ، أنّ عبد الله بن عبّاسٍ أخبره، أنّ خالد بن الوليد، الذي يقال له: سيف الله، أخبره.
وهذا الحديث ممّا اختلف فيه على الزّهريّ ، هل هو من مسند ابن
(1) أخرجه البخاري (5076 ، 5085، 5217) ومسلم (1945 ، 1946) من طرق عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن ابن عباس رضي الله عنه. واللفظ لمسلم من طريق مالك. ومنهم من قال: عن ابن عباس عن خالد. فجعله من مسند خالد بن الوليد كما سيُذكر في الشرح.
(2)
تقدّمت ترجمته في حديث رقم (18).
عبّاس أو من مسند خالد؟ ، وكذا اختلف فيه على مالك.
فقال الأكثر: عن ابن عبّاس عن خالد.
وقال يحيى بن بكير في " الموطّأ " وطائفة عن مالك بسنده: عن ابن عبّاس وخالد ، أنّهما دخلا.
وقال يحيى بن يحيى التّميميّ عن مالك بلفظ: عن ابن عبّاس قال: دخلت أنا وخالد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم عنه ، وكذا أخرجه من طريق عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهريّ بلفظ عن ابن عبّاس قال: أُتِي النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ونحن في بيت ميمونة بضبّين مشويّين.
وقال هشام بن يوسف عن معمر عند البخاري: كالجمهور.
والجمع بين هذه الرّوايات. أنّ ابن عبّاس كان حاضراً للقصّة في بيت خالته ميمونة كما صرّح به في إحدى الرّوايات، وكأنّه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه لكونه الذي كان باشر السّؤال عن حكم الضّبّ ، وباشر أكله أيضاً، فكان ابن عبّاس ربّما رواه عنه.
ويؤيّد ذلك ، أنّ محمّد بن المنكدر حدّث به عن أبي أُمامة بن سهل عن ابن عبّاس قال: أُتِي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيت ميمونة ، وعنده خالد بن الوليد بلحمِ ضبٍّ. الحديث. أخرجه مسلم، وكذا رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، فلم يذكر فيه خالداً. كما في الصحيحين.
قوله: (دخلت أنا وخالد بن الوليد) أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة - بفتح التحتانية والقاف والمشالة - ابن مرة
بن كعب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر جميعاً في مرة بن كعب.
يكنى أبا سليمان، وكان من فرسان الصحابة، أسلم بين الحديبية والفتح، ويقال: قبل غزوة مؤتة بشهرين، وكانت في جمادى سنة ثمان، ومن ثم جزم مُغلْطاي بأنها كانت في صفر ، وكان الفتح بعد ذلك في رمضان.
وحكى ابن أبي خيثمة ، أنه أسلم سنة خمس، وهو غلط. فإنه كان بالحديبية طليعة للمشركين. وهي في ذي القعدة سنة ست.
وقال الحاكم: أسلم سنة سبع، زاد غيره. وقيل: عمرة القضاء، والراجح الأول وما وافقه.
وقد أخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ، أنَّ خالد بن الوليد فقَدَ قلنسوة فقال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلَّا رزقت النصر.
وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عدة مشاهد ظهرتْ فيها نَجابته، ثم كان قتل أهل الردة على يديه ثم فتوح البلاد الكبار، ومات على فراشه سنة إحدى وعشرين. وبذلك جزم ابن نمير، وذلك في خلافة عمر بحمص.
وقد أخرج ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبَّه الله على الكفار.
قوله: (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة) زاد يونس في روايته " وهي خالته وخالة ابن عبّاس ".
قلت: واسم أمّ خالد لُبابة الصّغرى، واسم أمّ ابن عبّاس لُبابة الكبرى ، وكانت تكنّى أمّ الفضل بابنها الفضل بن عبّاس، وهما أختا ميمونة. والثّلاث بنات الحارث بن حزن - بفتح المهملة وسكون الزّاي - الهلاليّ.
قوله: (فأُتِي بضبٍّ) هو دويبة تشبه الجرذون، لكنّه أكبر من الجرذون، ويكنّى أبا حسل - بمهملتين مكسورة ثمّ ساكنة - ويقال للأنثى ضبّة، وبه سُمِّيت القبيلة.
وبالْخَيف من منىً جبل يقال له ضبّ. والضّبّ داء في خفّ البعير. ويقال: إنّ لأصل ذَكَر الضّبّ فرعين، ولهذا يقال: له ذكران.
وذكر ابن خالويه: أنّ الضّبّ يعيش سبعمائة سنة، وأنّه لا يشرب الماء، ويبول في كلّ أربعين يوماً قطرة، ولا يسقط له سنّ، ويقال: بل أسنانه قطعة واحدة.
وحكى غيره: أنّ أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال " لا أفعل كذا حتّى يرِدَ (1) الضّبّ " يقوله من أراد أن لا يفعل الشّيء ، لأنّ الضّبّ لا يرِدُ ، بل يكتفي بالنّسيم وبرْد الهواء، ولا يخرج من جحره
(1) بفتح الياء وكسر الراء.
قال في " النهاية ": يقال: وَرَدْتُ الماءَ أرِدُهُ وُرُوداً إذا حَضَرْتَه لِتَشْرَب. والوِرْدُ: الماء الذي تَرِدُ عليه. انتهى
في الشّتاء.
قوله: (محنوذ) زاد يونس في روايته " قدِمت به أختها حُفيدة " وهي بمهملةٍ وفاء مصغّر.
وللشيخين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنّ أمّ حفيدة بنت الحارث بن حزن خالة ابن عبّاس ، أهدت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم سمناً وأقطاً وأضبّاً.
وفي رواية عوف عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن الطّحاويّ " جاءت أمّ حفيدة بضبٍّ وقُنفذ ". وذِكْر القنفذ فيه غريبٌ.
وقد قيل: في اسمها: هزيلة بالتّصغير ، وهي رواية الموطّأ من مرسل عطاء بن يسار.
فإن كان محفوظاً فلعل لها اسمين ، أو اسم ولقب.
وحكى بعض شرّاح العمدة في اسمها: حُميدة بميمٍ ، وفي كنيتها: أمّ حميدٍ بميمٍ بغير هاء، وفي رواية بهاءٍ وبفاءٍ ، ولكن براءٍ بدل الدّال وبعينٍ مهملة بدل الحاء بغير هاء، وكلّها تصحيفات.
وقوله " محنوذ " بمهملةٍ ساكنة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة. أي: مشويّ بالحجارة المحماة ، ووقع في رواية معمر " بضبٍّ مشويّ ".
قال أبو عبيدة في قوله تعالى {فما لبث أن جاء بعجلٍ حنيذ} : أي: محنوذ ، وهو المشويّ. مثل قتيل في مقتول.
وروى الطّبريّ عن وهب بن منبّه عن سفيان الثّوريّ مثله، وعن
ابن عبّاس أخصّ منه قال: حنيذ. أي: نضيج ، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: الحنيذ المشويّ النّضيج. ومن طرق عن قتادة والضّحاك وابن إسحاق مثله.
ومن طريق السّدّيّ قال: الحنيذ المشويّ في الرّضف. أي: الحجارة المحماة، وعن مجاهد والضّحاك نحوه. وهذا أخصّ من جهة أخرى ، وبه جزم الخليل صاحب اللّغة.
ومن طريق شمر بن عطيّة قال: الحنيذ الذي يقطر ماؤه بعد أن يشوى، وهذا أخصّ من جهة أخرى. والله أعلم
قوله: (فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده) زاد يونس " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّ ما يُقدِّم يده لطعامٍ حتّى يُسمّى له ".
وأخرج إسحاق بن راهويه والبيهقيّ في الشّعب من طريق يزيد بن الحوتكيّة عن عمر رضي الله عنه ، أنّ أعرابيّاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنبٍ يهديها إليه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأكل من الهديّة حتّى يأمر صاحبها فيأكل منها ، من أجل الشّاة التي أهديت إليه بخيبر. الحديث. وسنده حسن.
قوله: (فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضبٌ يا رسولَ الله) في رواية يونس " فقدّمت الضّبّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قلَّما يُقدَّم إليه طعامٌ حتّى يحدّث به ، ويُسمَّى له، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضّبّ، فقالت امرأة من النّسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدّمتنّ له، هو الضّبّ يا رسولَ الله.
وكأنّ المرأة أرادت أنّ غيرها يخبره، فلمّا لَم يخبروا بادرت هي فأخبرت.
وللبخاري من طريق الشّعبيّ عن ابن عمر قال: كان ناسٌ من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم سعد يعني. ابن أبي وقّاص ، فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولمسلمٍ من طريق يزيد بن الأصمّ عن ابن عبّاس ، أنّه بينما هو عند ميمونة وعندها الفضل بن عبّاس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرّب إليهم خوان عليه لحم، فلمّا أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأكل ، قالت له ميمونة: إنّه لحم ضبّ، فكفّ يده.
وعُرف بهذه الرّواية اسم التي أُبهمت في الرّواية الأخرى.
وعند الطّبرانيّ في " الأوسط " من وجه آخر صحيح. فقالت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو.
قال ابن التّين: إنّما كان يسأل ، لأنّ العرب كانت لا تعاف شيئاً من المآكل لقلتها عندهم، وكان هو صلى الله عليه وسلم قد يعاف بعض الشّيء فلذلك كان يسأل.
قلت: ويحتمل أن يكون سبب السّؤال أنّه صلى الله عليه وسلم ما كان يكثر الكون في البادية فلم يكن له خبرة بكثير من الحيوانات.
أو لأنّ الشّرع ورد بتحريم بعض الحيوانات وإباحة بعضها ، وكانوا لا يحرّمون منها شيئاً، وربّما أتوا به مشويّاً أو مطبوخاً فلا يتميّز عن غيره إلَّا بالسّؤال عنه.
قوله: (فرفع يده) زاد يونس " عن الضّبّ ".
ويؤخذ منه أنّه أكل من غير الضّبّ ممّا كان قدّم له من غير الضّبّ، كما تقدّم أنّه كان فيه غير الضّبّ، وقد جاء صريحاً في رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس كما في البخاري، قال: فأكل الأقط وشرب اللبن.
قوله: (لَم يكن بأرض قومي) في رواية يزيد بن الأصمّ " هذا لحم لَم آكله قطّ ".
قال ابن العربيّ: اعترض بعض النّاس على هذه اللفظة " لَم يكن بأرض قومي " بأنّ الضّباب كثيرة بأرض الحجاز.
قال ابن العربيّ: فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنّه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذكرت له بغير اسمها أو حدَثَتْ بعد ذلك.
وكذا أنكر ابن عبد البرّ ومن تبعه. أن يكون ببلاد الحجاز شيء من الضّباب.
قلت: ولا يحتاج إلى شيء من هذا ، بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم " بأرض قومي " قريش فقط فيختصّ النّفي بمكّة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز.
وقد وقع في رواية يزيد بن الأصمّ عند مسلم " دعانا عروس بالمدينة فقرّب إلينا ثلاثة عشر ضبّاً، فآكلٌ وتاركٌ " الحديث، فبهذا يدلّ على كثرة وجدانها بتلك الدّيار.
قوله: (فأجدني أعافه) بعينٍ مهملة وفاء خفيفة. أي: أتكرّه أكله، يقال عفت الشّيء أعافه.
ووقع في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس عند البخاري " فتركهنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كالمتقذّر لهنّ، ولو كنّ حراماً لَما أُكلن على مائدة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولَما أمر بأكلهنّ.
كذا أطلق الأمر ، وكأنّه تلقّاه من الإذن المستفاد من التّقرير، فإنّه لَم يقع في شيء من طرق حديث ابن عبّاس بصيغة الأمر إلَّا في رواية يزيد بن الأصمّ عند مسلم ، فإنّ فيها " فقال لهم: كُلوا، فأكَلَ الفضلُ وخالد والمرأة ".
وكذا في رواية الشّعبيّ عن ابن عمر ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: كلوا. وأطعموا فإنّه حلال ، أو قال: لا بأس به ، ولكنّه ليس طعامي.
وفي هذا كلّه بيان سبب ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّه بسبب أنّه ما اعتاده.
وقد ورد لذلك سبب آخر.
أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار. فذكر معنى حديث ابن عبّاس ، وفي آخره. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: كُلا - يعني لخالدٍ وابن عبّاس - فإنّني يحضرني من الله حاضرة.
قال المازريّ: يعني الملائكة، وكأنّ للحم الضّبّ ريحاً فترك أكله لأجل ريحه، كما ترك أكل الثّوم مع كونه حلالاً.
قلت: وهذا - إنْ صحّ - يمكن ضمّه إلى الأوّل ، ويكون لتركه الأكل من الضّبّ سببان.
قوله: (قال خالد: فاجْتَرَرْتُه) بجيمٍ ورائين، هذا هو المعروف في كتب الحديث.
وضبطه بعض شرّاح " المهذّب " بزايٍ قبل الرّاء ، وقد غلَّطه النّوويّ.
قوله: (ينظر) زاد يونس في روايته " إِلَيَّ ".
وفي هذا الحديث من الفوائد.
جواز أكل الضّبّ، وحكى عياض: عن قوم تحريمه. وعن الحنفيّة. كراهته.
وأنكر ذلك النّوويّ ، وقال: لا أظنّه يصحُّ عن أحدٍ، فإن صحّ. فهو محجوج بالنّصوص وبإجماع مَن قبله.
قلت: قد نقله ابن المنذر عن عليّ، فأيّ إجماع يكون مع مخالفته؟.
ونقل التّرمذيّ كراهته عن بعض أهل العلم.
وقال الطّحاويّ في " معاني الآثار ": كره قوم أكل الضّبّ، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن.
قال: واحتجّ محمّد بحديث عائشة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أُهدي له ضبّ فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعطينه ما لا تأكلين؟.
قال الطّحاويّ: ما في هذا دليل على الكراهة لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرّب به إلى الله إلَّا من خير الطّعام، كما نهى أن يتصدّق بالتّمر الرّديء. انتهى.
وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنّه نهى عن الضّبّ. أخرجه أبو داود بسندٍ حسن، فإنّه من رواية إسماعيل بن عيّاش عن ضمضم بن زرعة عن شُرْيح بن عتبة عن أبي راشد الحبرانيّ عن عبد الرّحمن بن شبل.
وحديث ابن عيّاش عن الشّاميّين قويّ، وهؤلاء شاميّون ثقات.
ولا يغترّ بقول الخطّابيّ: ليس إسناده بذاك، وقول ابن حزم: فيه ضعفاء ومجهولون، وقول البيهقيّ: تفرّد به إسماعيل بن عيّاش وليس بحجّةٍ، وقول ابن الجوزيّ: لا يصحّ.
ففي كلّ ذلك تساهل لا يخفى، فإنّ رواية إسماعيل عن الشّاميّين قويّة عند البخاريّ ، وقد صحّح التّرمذيّ بعضها.
وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرّحمن بن حسنة: نزلنا أرضاً كثيرة الضّباب. الحديث، وفيه أنّهم طبخوا منها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أمّة من بني إسرائيل مُسخت دوابّ في الأرض ، فأخشى أن تكون هذه فأكفئوها. أخرجه أحمد وصحَّحه ابن حبّان والطّحاويّ.
وسنده على شرط الشّيخين إلَّا الضّحّاك فلم يخرّجا له.
وللطّحاويّ من وجه آخر عن زيد بن وهب ، ووافقه الحارث بن مالك ويزيد بن أبي زياد ووكيع في آخره. فقيل له: إنّ النّاس قد اشتووها أكلوها، فلم يأكل ، ولَم ينه عنه.
والأحاديث الماضية. وإنْ دلَّت على الحلّ تصريحاً وتلويحاً نصّا وتقريراً، فالجمع بينها وبين هذا ، حمل النّهي فيه على أوّل الحال عند تجويز أن يكون ممّا مسخ وحينئذٍ أمر بإكفاء القدور، ثمّ توقّف فلم
يأمر به ، ولَم ينه عنه.
وحمل الأذن فيه على ثاني الحال لَمَّا علم أنّ الممسوخ لا نسل له، ثمّ بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرّمه، وأُكِل على مائدته فدلَّ على الإباحة.
وتكون الكراهة للتّنزيه في حقّ من يتقذّره، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذّره، ولا يلزم من ذلك أنّه يُكره مطلقاً.
وقد أفهم كلام ابن العربيّ ، أنّه لا يحلّ في حقّ من يتقذّره لِمَا يتوقّع في أكله من الضّرر وهذا لا يختصّ بهذا، ووقع في حديث يزيد بن الأصمّ. أخبرت ابن عبّاس بقصّة الضّبّ، فأكثر القوم حوله حتّى قال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آكله ، ولا أنهى عنه ، ولا أحرّمه، فقال ابن عبّاس: بئس ما قلتم، ما بعث نبيّ الله إلَّا محرّماً ، أو محللاً. أخرجه مسلم.
قال ابن العربيّ: ظنّ ابن عبّاس أنّ الذي أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم: لا آكله ، أراد لا أحلّه. فأنكر عليه ، لأنّ خروجه من قسم الحلال والحرام محال.
وتعقّبه شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": بأنّ الشّيء إذا لَم يتّضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشّبهات فيكون من حكم الشّيء قبل ورود الشّرع، والأصحّ كما قال النّوويّ ، أنّه لا يحكم عليها بحلٍّ ولا حرمة.
قلت: وفي كون مسألة الكتاب من هذا النّوع نظرٌ، لأنّ هذا إنّما هو
إذا تعارض الحكم على المجتهد، أمّا الشّارع إذا سئل عن واقعة فلا بدّ أن يذكر فيها الحكم الشّرعيّ. وهذا هو الذي أراده ابن العربيّ ، وجعل محطّ كلام ابن عبّاس عليه.
ثمّ وجدت في الحديث زيادةَ لفظةٍ سقطتْ من رواية مسلم ، وبها يتّجه إنكار ابن عبّاس ويستغنى عن تأويل ابن العربيّ " لا آكله " بلا أحلّه ، وذلك أنّ أبا بكر بن أبي شيبة - وهو شيخ مسلم فيه - أخرجه في " مسنده " بالسّند الذي ساقه به عند مسلم ، فقال في روايته " لا آكله ، ولا أنهى عنه ، ولا أحلّه ، ولا أحرّمه ".
ولعل مسلماً حذفها عمداً لشذوذها، لأنّ ذلك لَم يقع في شيء من الطّرق لا في حديث ابن عبّاس ولا غيره.
وأشهر مَن روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم " لا آكله ، ولا أحرّمه " ابن عمر كما في الصحيحين، وليس في حديثه " لا أحلّه " ، بل جاء التّصريح عنه بأنّه حلال.
فلم تثبت هذه اللفظة. وهي قوله " لا أحلّه " ، لأنّها - وإن كانت من رواية يزيد بن الأصمّ - وهو ثقة - لكنّه أخبر بها عن قوم كانوا عند ابن عبّاس. فكانت رواية عن مجهول، ولَم يقل يزيد بن الأصمّ إنّهم صحابة حتّى يغتفر عدم تسميتهم.
واستدل بعض من منع أكله: بحديث أبي سعيد عند مسلم والنّسائيّ من حديث أبي سعيد: قال رجلٌ: يا رسولَ الله. إنّا بأرضٍ مضبّة، فما تأمرنا؟ قال: ذُكر لي أنّ أمة من بني إسرائيل مُسخت،
فلم يأمر ولَم ينه.
وقوله " مضبّة " - بضمّ أوّله وكسر المعجمة - أي: كثيرة الضّباب.
وهذا يمكن أن يفسّر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود والنّسائيّ من حديثه قال: أصبت ضباباً فشويت منها ضبّاً، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عُوداً فعدّ به أصابعه ، ثمّ قال: إنّ أمّة من بني إسرائيل مسخت دوابّ في الأرض، وإنّي لا أدري أيّ الدّوابّ هي، فلم يأكل ولَم ينه. وسنده صحيح.
وقال الطّبريّ: ليس في الحديث الجزم بأنّ الضّبّ ممّا مسخ، وإنّما خشي أن يكون منهم فتوقّف عنه، وإنّما قال ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيّه أنّ الممسوخ لا ينسلّ.
وبهذا أجاب الطّحاويّ ، ثمّ أخرج من طريق المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود ، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير. أهي ممّا مسخ؟ قال: إنّ الله لَم يهلك قوماً أو يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة.
وأصل هذا الحديث في مسلم.
ثمّ قال الطّحاويّ بعد أن أخرجه من طرق ثمّ أخرج حديث ابن عمر: فثبت بهذه الآثار ، أنّه لا بأس بأكل الضّبّ، وبه أقول.
قال: وقد احتجّ محمّد بن الحسن لأصحابه بحديث عائشة، فساقه الطّحاويّ من طريق حمّاد بن سلمة عن
حمّاد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: أُهدي للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها: أتعطيه ما لا تأكلين؟.
قال محمّد: دلَّ ذلك على كراهته لنفسه ولغيره.
وتعقّبه الطّحاويّ: باحتمال أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى {ولستم بآخذيه إلَّا أن تُغمضوا فيه} ثمّ ساق الأحاديث الدّالة على كراهة التّصدّق بحشف التّمر (1)، وبحديث البراء: كانوا يحبّون الصّدقة بأرداء تمرهم، فنزلت {أنفقوا من طيّبات ما كسبتم} الآية.
قال: فلهذا المعنى كره لعائشة الصّدقة بالضّبّ لا لكونه حراماً. انتهى
وهذا يدلّ على أنّه فهم عن محمّد أنّ الكراهة فيه للتّحريم، والمعروف عن أكثر الحنفيّة فيه كراهة التّنزية. وجنح بعضهم إلى التّحريم
وقال: اختلفت الأحاديث وتعذّرت معرفة المتقدّم فرجّحنا جانب التّحريم تقليلاً للنّسخ. انتهى.
ودعواه التّعذّر ممنوعة لِما تقدّم. والله أعلم.
ويتعجّب من ابن العربيّ حيث قال: قولهم إنّ الممسوخ لا ينسل
(1) قال الحافظ في " الفتح "(1/ 516) روى النسائي من حديث عوف بن مالك الأشجعي ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عصاً ، وقد علَّق رجلٌ قنا حشَفٍ ، فجعل يطعن في ذلك القنو ، ويقول: لو شاء ربُّ هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا. وإسناده قوي. انتهى
دعوى، فإنّه أمر لا يُعرف بالعقل وإنّما طريقه النّقل، وليس فيه أمر يعوّل عليه.
كذا قال ، وكأنّه لَم يستحضره من صحيح مسلم.
ثمّ قال: وعلى تقدير ثبوت كون الضّبّ ممسوخاً فذلك لا يقتضي تحريم أكله ، لأنّ كونه آدميّاً قد زال حكمه ، ولَم يبق له أثر أصلاً، وإنّما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه لِمَا وقع عليه من سخط الله كما كره الشّرب من مياه ثمود. انتهى.
ومسألة جواز أكل الآدميّ إذا مسخ حيواناً مأكولاً لَم أرها في كتب فقهائنا.
وفي الحديث أيضاً الإعلام بما شكّ فيه لإيضاح حكمه، وأنّ مطلق النّفرة وعدم الاستطابة لا يستلزم التّحريم، وأنّ المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان لا يعيب الطّعام إنّما هو فيما صنعه الآدميّ لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التّقصير فيه؛ وأمّا الذي خلق كذلك فليس نفور الطّبع منه ممتنعاً.
وفيه أنّ وقوع مثل ذلك ليس بمعيبٍ ممّن يقع منه خلافاً لبعض المُتنطّعة.
وفيه أنّ الطّباع تختلف في النّفور عن بعض المأكولات، وقد يستنبط منه أنّ اللحم إذا أنتن لَم يحرم لأنّ بعض الطّباع لا تعافه.
وفيه دخول أقارب الزّوجة بيتها إذا كان بإذن الزّوج أو رضاه.
وذهل ابن عبد البرّ هنا ذهولاً فاحشاً ، فقال: كان دخول خالد بن
الوليد بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة قبل نزول الحجاب.
وغفل عمّا ذكره هو أنّ إسلام خالد كان بين عمرة القضيّة والفتح، وكان الحجاب قبل ذلك اتّفاقاً، وقد وقع في حديث الباب " قال خالد: أحرام هو يا رسولَ الله "؟ فلو كانت القصّة قبل الحجاب لكانت قبل إسلام خالد، ولو كانت قبل إسلامه لَم يسأل عن حلال ولا حرام، ولا خاطب بقوله يا رسولَ الله.
وفيه جواز الأكل من بيت القريب والصّهر والصّديق، وكأنّ خالداً ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب الذي أهدته، أو لتحقّق حكم الحلّ، أو لامتثال قوله صلى الله عليه وسلم: كلوا ، وفهم من لَم يأكل أنّ الأمر فيه للإباحة.
وفيه أنّه صلى الله عليه وسلم كان يُؤاكل أصحابه ويأكل اللحم حيث تيسّر؛ وأنّه كان لا يعلم من المغيّبات إلَّا ما علمه الله تعالى.
وفيه وفور عقل ميمومة أمّ المؤمنين وعظيم نصيحتها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنّها فهمت مظنّة نفوره عن أكله بما استقرّت منه، فخشيت أن يكون ذلك كذلك فيتأذّى بأكله لاستقذاره له فصدقت فراستها.
ويؤخذ منه أنّ من خشي أن يتقذّر شيئاً لا ينبغي أن يدلس له لئلا يتضرّر به، وقد شوهد ذلك من بعض النّاس.