الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
401 -
عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه ، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ: أمرنا بعيادة المريض ، واتّباع الجنازة ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم أو المقسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الدّاعي ، وإفشاء السّلام. ونهانا عن خواتيم أو عن تختّمٍ بالذّهب ، وعن الشّرب بالفضّة، وعن المياثر، وعن القسّيّ ، وعن لبس الحرير ، والإستبرق ، والدّيباج. (1)
قوله: (أمرنا بعيادة المريض) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة " حقّ المسلم على المسلم خمس " ، فذكر منها عيادة المريض.
ووقع في رواية مسلم " خمس تجب للمسلم على المسلم " فذكرها منها.
وجزم البخاري بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة. (2)
قال ابن بطّال: يحتمل: أن يكون الأمر على الوجوب ، بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفكّ الأسير، ويحتمل: أن يكون للنّدب للحثّ على التّواصل والألفة.
وجزم الدّاوديّ بالأوّل فقال: هي فرض يحمله بعض النّاس عن
(1) أخرجه البخاري (1182 ، 2313، 4880، 5312، 5326، 5500، 5511، 5525، 5868، 5881، 6278) ومسلم (2066) من طرق عن أشعث بن سليم عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء رضي الله عنه.
(2)
بوَّب على الحديث بقوله (باب وجوب عيادة المريض)
بعض، وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض دون بعض. وعن الطّبريّ: تتأكّد في حقّ من ترجى بركته، وتسنّ فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك.
ونقل النّوويّ الإجماع على عدم الوجوب، يعني على الأعيان.
وفي البخاري من حديث أبي موسى مرفوعاً: فكوا العاني، يعني: الأسير، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض.
واستدل بعموم قوله " عودوا المريض " على مشروعيّة العيادة في كلّ مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد. لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجيّ قد يأتي مثله في بقيّة الأمراض كالمغمى عليه.
وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعينيّ. أخرجه أبو داود وصحَّحه الحاكم ، وهو عند البخاريّ في " الأدب المفرد " وسياقه أتمّ.
وأمّا ما أخرجه البيهقيّ والطّبرانيّ مرفوعاً: ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدّمّل والضّرس. فصحّح البيهقيُّ أنّه موقوف على يحيى بن أبي كثير.
ويؤخذ من إطلاقه أيضاً عدم التّقييد بزمانٍ يمضي من ابتداء مرضه. وهو قول الجمهور.
وجزم الغزاليّ في " الإحياء " بأنّه لا يُعاد إلَّا بعد ثلاث.
واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا
يعود مريضاً إلَّا بعد ثلاث. وهذا حديث ضعيف جدّاً. تفرّد به مسلمة بن عليّ وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم ، فقال: هو حديث باطل. ووجدت له شاهداً من حديث أبي هريرة عند الطّبرانيّ في " الأوسط " وفيه راوٍ متروك أيضاً.
ويلتحق بعيادة المريض تعهّده وتفقّد أحواله والتّلطّف به، وربّما كان ذلك في العادة سبباً لوجود نشاطه وانتعاش قوّته.
وفي إطلاق الحديث. أنّ العيادة لا تتقيّد بوقتٍ دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النّهار، وترجمة البخاريّ في الأدب المفرد " العيادة في الليل "، وساق عن خالد بن الرّبيع ، قال: لمَّا ثقل حذيفة أتوه في جوف الليل ، أو عند الصّبح ، فقال: أيّ ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النّار الحديث.
ونقل الأثرم عن أحمد ، أنّه قيل له بعد ارتفاع النّهار في الصّيف: تعود فلاناً؟ قال: ليس هذا وقت عيادة.
ونقل ابن الصّلاح عن الفراويّ: أنّ العيادة تستحبّ في الشّتاء ليلاً وفي الصّيف نهاراً، وهو غريب.
ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتّى يضجر المريض أو يشقّ على أهله. فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده (1).
(1) أخرجه البخاري " باب عيادة المُغمى عليه "(5651) وفي مواضع أخرى ، ومسلم (4231) عن جابر قال: مرضت مرضاً، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صبَّ وضوءه عليَّ، فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث.
وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرةٌ جياد.
منها عند مسلم والتّرمذيّ من حديث ثوبان: إنّ المسلم إذا عاد أخاه المسلم لَم يزل في خرفة الجنّة.
وخرفة: بضمّ المعجمة وسكون الرّاء بعدها فاء ثمّ هاء ، هي الثّمرة إذا نضجت، شبّه ما يحوزه عائد المريض من الثّواب بما يحوزه الذي يجتني الثّمر.
وقيل: المراد بها هنا الطّريق، والمعنى: أنّ العائد يمشي في طريق تؤدّيه إلى الجنّة.
والتّفسير الأوّل أولى، فقد أخرجه البخاريّ في " الأدب المفرد " من هذا الوجه. وفيه " قلت لأبي قلابة: ما خرفة الجنّة؟ قال: جناها " ، وهو عند مسلم من جملة المرفوع.
وأخرج البخاريّ أيضاً من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه: من عاد مريضاً خاض في الرّحمة حتّى إذا قعد استقرّ فيها. وأخرجه أحمد والبزّار وصحَّحه ابن حبّان والحاكم من هذا الوجه. وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسندٍ حسن.
تكميل: في الكافر خلاف ، قال ابن بطّال: إنّما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدّخول في الإسلام، فأمّا إذا لَم يطمع في ذلك فلا.
انتهى.
والذي يظهر: أنّ ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى.
قال الماورديّ: عيادة الذمّيِّ جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة.
قوله: (واتّباع الجنائز)(1) الجنائز بفتح الجيم لا غير ، جمع جنازة بالفتح والكسر لغتان.
قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح، وقيل: بالكسر للنّعش وبالفتح للميّت، وقالوا: لا يقال نعش إلَّا إذا كان عليه الميّت.
وفي الصحيحين " حقّ المسلم على المسلم خمس .. واتباع الجنائز " ، وفي رواية لمسلم " خمس تجب للمسلم على المسلم "(2).
وقد تبيّن أنّ معنى " الحقّ " هنا الوجوب. خلافاً لقول ابن بطّال: المراد حقّ الحرمة والصّحبة، والظّاهر أنّ المراد به هنا وجوب الكفاية.
قوله: (وتشميت) بالمعجمة وللسّرخسيّ بالمهملة، قال الخليل وأبو عبيد وغيرهما: يقال بالمعجمة وبالمهملة.
وقال ابن الأنباريّ: كلّ داعٍ بالخير مشمّت بالمعجمة وبالمهملة،
(1) تقدّم الحديث عن فضل اتباع الجنازة في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (173).
(2)
لعلَّ الشارح نقله بالمعنى ، وإلا فلفظه في صحيح مسلم (2162)" خمس تجب للمسلم على أخيه .... الحديث "
والعرب تجعل الشّين والسّين في اللفظ الواحد بمعنىً. انتهى.
وهذا ليس مطّرداً ، بل هو في مواضع معدودة ، وقد جمعها شيخنا شمس الدّين الشّيرازيّ صاحب القاموس في جزء لطيف.
قال أبو عبيد: التّشميت بالمعجمة أعلى وأكثر.
وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربيّة وفي الرّواية.
وقال ثعلب: الاختيار بالمهملة ، لأنّه مأخوذ من السّمت وهو القصد والطّريق القويم. وأشار ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام " إلى ترجيحه.
وقال القزّاز: التّشميت التّبريك ، والعرب تقول: شمّته إذا دعا له بالبركة، وشمّت عليه إذا برّك عليه. وفي الحديث في قصّة تزويج عليّ بفاطمة " شمّت عليهما " إذا دعا لهما بالبركة.
ونقل ابن التّين عن أبي عبد الملك ، قال: التّسميت بالمهملة أفصح ، وهو من سمت الإبل في المرعى إذا جمعت، فمعناه على هذا جمع الله شملك.
وتعقّبه: بأنّ سمت الإبل إنّما هو بالمعجمة ، وكذا نقله غير واحد أنّه بالمعجمة ، فيكون معنى سمّته دعا له بأن يجمع شمله.
وقيل: هو بالمعجمة من الشّماتة ، وهو فرح الشّخص بما يسوء عدوّه ، فكأنّه دعا له أن يكون في حال من يشمت به، أو أنّه إذا حمد الله أدخل على الشّيطان ما يسوءه فشمت هو بالشّيطان.
وقيل: هو من الشّوامت جمع شامتة وهي القائمة، يقال: لا ترك
الله له شامتة. أي: قائمة.
وقال ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ ": تكلم أهل اللّغة على اشتقاق اللفظين. ولَم يبيّنوا المعنى فيه وهو بديع، وذلك أنّ العاطس ينحلّ كلّ عضو في رأسه وما يتّصل به من العنق ونحوه، فكأنّه إذا قيل رحمك الله كان معناه. أعطاه الله رحمة يرجع بها بذلك إلى حاله قبل العطاس ويقيم على حاله من غير تغيير.
فإن كان التّسميت بالمهملة. فمعناه رجع كلّ عضو إلى سمته الذي كان عليه.
وإن كان بالمعجمة. فمعناه صان الله شوامته. أي: قوائمه التي بها قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال.
قال: وشوامت كلّ شيء قوامه؛ فقوام الدّابّة بسلامة قوائمها التي ينتفع بها إذا سلمت، وقوام الآدميّ بسلامة قوائمه التي بها قوامه وهي رأسه وما يتّصل به من عنق وصدر. انتهى ملخّصاً.
قوله: (العاطس) قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيّده قوله في حديث أبي هريرة في البخاري مرفوعاً " إنّ الله يحبّ العطاس، ويكره التّثاؤب، فإذا عطس فحمد الله، فحقٌّ على كل مسلمٍ سمعه أن يشمّته ".
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم " حقّ المسلم على المسلم ستّ. فذكر فيها. وإذا عطس فحمد الله فشمّته ".
وللبخاريّ (1) من وجه آخر عن أبي هريرة " خمس تجب للمسلم على المسلم .. فذكر منها التّشميت " وهو عند مسلم أيضاً.
وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد الله، وليقل من عنده: يرحمك الله " ، ونحوه عند الطّبرانيّ من حديث أبي مالك.
القول الأول: قد أخذ بظاهرها ابن مزينٍ من المالكيّة، وقال به جمهور أهل الظّاهر.
وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنّه فرض عين.
وقوّاه ابن القيّم في حواشي السّنن ، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصّريح، وبلفظ " الحقّ " الدّالّ عليه، وبلفظ " على " الظّاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصّحابيّ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ولا ريب أنّ الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء.
القول الثاني: ذهب آخرون: إلى أنّه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجّحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربيّ ، وقال به الحنفيّة وجمهور الحنابلة.
القول الثالث: ذهب عبد الوهّاب وجماعة من المالكيّة إلى أنّه
(1) لَم يروه البخاري بهذا اللفظ ، وإنما رواه بلفظ " حق المسلم على المسلم خمس. فذكرها .. "
مستحبّ، ويجزئ الواحد عن الجماعة. وهو قول الشّافعيّة.
والرّاجح من حيث الدّليل القول الثّاني، والأحاديث الصّحيحة الدّالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإنّ الأمر بتشميت العاطس - وإن ورد في عموم المكلفين - ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصحّ ويسقط بفعل البعض، وأمّا مَن قال إنّه فرض على مبهم ، فإنّه ينافي كونه فرض عين.
وقد خُصّ من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعة:
الأوّل: من لَم يحمد. فأخرج الشيخان عن أنس قال: عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان، فشمت أحدهما ولَم يشمت الآخر، فقال الذي لَم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست أنا فلم تشمتني، قال: إنَّ هذا حمد الله، وإنك لَم تحمد الله.
ولمسلم من حديث أبي موسى بلفظ: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه ، وإن لَم يحمد الله فلا تشمتوه.
قال النووي: مقتضى هذا الحديث. أنَّ من لَم يحمد الله لَم يشمت.
قلت: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟. الجمهور على الثاني.
قال: وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يشمت.
وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال: عطس رجلٌ فقال: السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
عليك وعلى أمك، وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله.
واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لَم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولَم يسمع الحمد ، بل سمع من شمت ذلك العاطس ، فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد.
وقال النووي: المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره. وحكى ابن العربي اختلافا فيه ، ورجح أنه يشمته.
قلت: وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أنَّ الذين عند العاطس جَهَلَة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لَم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد ، فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده ، لأنه لا يعلم هل حمد أو لا؟ فإن عطس وحمد ولَم يشمته أحدٌ فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه.
وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن ، أنه كان في سفينة فسمع عاطساً على الشط حَمِد ، فاكترى قارباً بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ، ثم رجع، فسئل عن ذلك؟ فقال: لعلَّه يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول: يا أهل السفينة إنَّ أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم.
الثّاني: الكافر. فقد أخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم ".
قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول مَن قال من أهل اللّغة: إنّ التّشميت الدّعاء بالخير. دخل الكفّار في عموم الأمر بالتّشميت، وإذا نظرنا إلى من خصّ التّشميت بالرّحمة لَم يدخلوا.
قال: ولعلَّ من خصّ التّشميت بالدّعاء بالرّحمة بناه على الغالب ، لأنّه تقييد لوضع اللفظ في اللّغة.
قلت: وهذا البحث أنشأه من حيث اللّغة، وأمّا من حيث الشّرع. فحديث أبي موسى دالٌّ على أنّهم يدخلون في مطلق الأمر بالتّشميت، لكن لهم تشميت مخصوص وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلاح البال وهو الشّأن. ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين ، فإنّهم أهل الدّعاء بالرّحمة بخلاف الكفّار.
الثّالث: المزكوم إذا تكرّر منه العطاس فزاد على الثّلاث. فإنّ ظاهر الأمر بالتّشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر.
لكن أخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " من طريق محمّد بن عجلان عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: يشمّته واحدة وثنتين وثلاثاً، وما كان بعد ذلك فهو زكام ". هكذا أخرجه موقوفاً من رواية سفيان بن عيينة عنه.
وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطّان عن ابن عجلان كذلك ولفظه " شمّت أخاك " ، وأخرجه من رواية الليث عن ابن عجلان ، وقال فيه: لا أعلمه إلَّا رفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضاً.
وفي " الموطّأ " عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رفعه: إن عطس فشمّته، ثمّ إن عطس فشمّته، ثمّ إن عطس فقل: إنّك مضنوك.
قال ابن أبي بكر: لا أدري بعد الثّالثة أو الرّابعة.
وهذا مرسل جيّد، وأخرجه عبد الرّزّاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: فشمّته ثلاثاً، فما كان بعد ذلك فهو زكام.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن العاص: شمّتوه ثلاثاً، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه. موقوف أيضاً، ومن طريق عبد الله بن الزّبير: أنّ رجلاً عطس عنده فشمّته ، ثمّ عطس ، فقال له في الرّابعة: أنت مضنوك. موقوف أيضاً. ومن طريق عبد الله بن عمر مثله ، لكن قال " في الثّالثة ".
ومن طريق عليّ بن أبي طالب: شمّته ما بينك وبينه ثلاث، فإن زاد فهو ريح " ، وأخرج عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة: يشمّت العاطس إذا تتابع عليه العطاس ثلاثاً.
قال النّوويّ في " الأذكار ": إذا تكرّر العطاس متتابعاً فالسّنّة أن يشمّته لكل مرّة إلى أن يبلغ ثلاث مرّات، رويناه في صحيح مسلم وأبي داود والتّرمذيّ عن سلمة بن الأكوع ، أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعطس عنده رجل فقال له: يرحمك الله، ثمّ عطس أخرى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرّجل مزكوم. هذا لفظ رواية مسلم، وأمّا أبو داود والتّرمذيّ فقالا: قال سلمة: عطس رجلٌ عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وأنا شاهد
، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثمّ عطس الثّانية أو الثّالثة ، فقال رسول الله: يرحمك الله، هذا رجلٌ مزكومٌ ". انتهى كلامه ، ونقلت من نسخة عليها خطّه بالسّماع عليه.
والذي نسبه إلى أبي داود والتّرمذيّ من إعادة قوله صلى الله عليه وسلم للعاطس يرحمك الله ، ليس في شيء من نسخها كما سأبيّنه، فقد أخرجه أيضاً أبو عوانة وأبو نعيم في " مستخرجيهما " والنّسائيّ وابن ماجه والدّارميّ وأحمد وابن أبي شيبة وابن السّنّيّ وأبو نعيم أيضاً في " عمل اليوم والليلة " وابن حبّان في " صحيحه " والبيهقيّ في " الشّعب " كلّهم من رواية عكرمة بن عمّار عن إياس بن سلمة عن أبيه ، وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم.
وألفاظهم متفاوتة، وليس عند أحدٍ منهم إعادة يرحمك الله في الحديث.
وكذلك ما نسبه إلى أبي داود والتّرمذيّ ، أنّ عندهما " ثمّ عطس الثّانية أو الثّالثة " فيه نظرٌ، فإنّ لفظ أبي داود " أنّ رجلاً عطس " ، والباقي مثل سياق مسلم سواء إلَّا أنّه لَم يقل أخرى.
ولفظ التّرمذيّ مثل ما ذكره النّوويّ إلى قوله " ثمّ عطس " ، فإنّه ذكره بعده مثل أبي داود سواء، وهذه رواية ابن المبارك عنده ، وأخرجه من رواية يحيى القطّان ، فأحال به على رواية ابن المبارك ، فقال: نحوه إلَّا أنّه قال له في الثّانية. أنت مزكوم. وفي رواية شعبة: قال يحيى القطّان. وفي رواية عبد الرّحمن بن مهديّ " قال له في الثّالثة
: أنت مزكوم ".
وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمّار. وأكثر الرّوايات المذكورة ليس فيها تعرّض للثّالثة.
ورجّح التّرمذيّ مَن قال " في الثّالثة " على رواية مَن قال " في الثّانية ".
وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطّان. يوافق ما ذكره النّوويّ. وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في " مصنّفه " وابن عبد البرّ من طريقه قال: حدّثنا محمّد بن عبد السّلام حدّثنا محمّد بن بشّار حدّثنا يحيى القطّان حدّثنا عكرمة فذكره بلفظ " عطس رجلٌ عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّته، ثمّ عطس فشمّته، ثمّ عطس فقال له في الثّالثة: أنت مزكوم. هكذا رأيت فيه. ثمّ عطس فشمّته. وقد أخرجه الإمام أحمد عن يحيى القطّان. ولفظه " ثمّ عطس الثّانية والثّالثة ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: الرّجل مزكوم.
وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث ، لكن الأكثر على ترك ذكر التّشميت بعد الأولى.
وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن عكرمة بلفظٍ آخر قال: يشمّت العاطس ثلاثاً؛ فما زاد فهو مزكوم. وجعل الحديث كلّه من لفظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وأفاد تكرير التّشميت.
وهي رواية شاذّة لمخالفة جميع أصحاب عكرمة في سياقه، ولعلَّ ذلك من عكرمة المذكور لمَّا حدّث به وكيعاً. فإنّ في حفظه مقالاً، فإن
كانت محفوظة فهو شاهد قويّ لحديث أبو هريرة.
ويستفاد منه مشروعيّة تشميت العاطس ما لَم يزد على ثلاث إذا حمد الله. سواء تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولَم يحمد لغلبة العطاس عليه ، ثمّ كرّر الحمد بعدد العطاس. فهل يشمّت بعدد الحمد؟.
فيه نظرٌ. وظاهر الخبر نعم.
وقد أخرج أبو يعلى وابن السّنّيّ من وجه آخر عن أبي هريرة النّهي عن التّشميت بعد ثلاث، ولفظه: إذا عطس أحدكم فليشمّته جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم، ولا يشمّته بعد ثلاث.
قال النّوويّ: فيه رجل لَم أتحقّق حاله، وباقي إسناده صحيح.
قلت: الرّجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحرّانيّ، والحديث عندهما من رواية محمّد بن سليمان عن أبيه، ومحمّد موثّق. وأبوه يقال له الحرّانيّ ضعيف، قال فيه النّسائيّ: ليس بثقةٍ ولا مأمون.
قال النّوويّ: وأمّا الذي رويناه في سنن أبي داود والتّرمذيّ عن عبيد بن رفاعة الصّحابيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشمّت العاطس ثلاثاً فإن زاد فإن شئت فشمّته ، وإن شئت فلا. فهو حديث ضعيف.
قال فيه التّرمذيّ: هذا الحديث غريب، وإسناده مجهول.
قلت: إطلاقه عليه الضّعف ليس بجيّدٍ، إذا لا يلزم من الغرابة الضّعف، وأمّا وصف التّرمذيّ إسناده بكونه مجهولاً فلم يرد جميع رجال الإسناد فإنّ معظمهم موثّقون، وإنّما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم.
وذلك أنّ أبا داود والتّرمذيّ أخرجاه معاً من طريق عبد السّلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرّحمن، ثمّ اختلفا:
فأمّا رواية أبي داود. ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمّه حميدة أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل كما سأبيّن ، وعبد السّلام بن حرب من رجال الصّحيح. ويزيد هو أبو خالد الدّالانيّ ، وهو صدوق في حفظه شيء، ويحيى بن إسحاق وثّقه يحيى بن معين.
وأمّه حميدة روى عنها أيضاً زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبّان في ثقات التّابعين.
وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصّحابة لكونه ولد في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وله رؤية، قاله ابن السّكن، قال: ولَم يصحّ سماعه.
وقال البغويّ: روايته مرسلة ، وحديثه عن أبيه عند التّرمذيّ والنّسائيّ وغيرهما.
وأمّا رواية التّرمذيّ. ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمّه عن أبيها. كذا سمّاه عمر. ولَم يسمّ أمّه ولا أباها، وكأنّه لَم يمعن النّظر فيه.
ثمّ قال: إنّه إسناد مجهول. وقد تبيّن أنّه ليس بمجهولٍ، وأنّ الصّواب يحيى بن إسحاق لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان وابن السّنّيّ وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السّلام بن حرب ، فقالوا: يحيى بن إسحاق، وقالوا: حميدة بغير شكٍّ. وهو المعتمد.
وقال ابن العربيّ: هذا الحديث - وإن كان فيه مجهول - لكن يستحبّ العمل به ، لأنّه دعاء بخيرٍ وصلة وتودّد للجليس، فالأولى العمل به. والله أعلم.
وقال ابن عبد البرّ: دلَّ حديث عبيد بن رفاعة على أنّه يشمّت ثلاثاً ، ويقال أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها. فالعمل بها أولى.
ثمّ حكى النّوويّ عن ابن العربيّ: أنّ العلماء اختلفوا. هل يقول لمن تتابع عطاسه أنت مزكوم في الثّانية أو الثّالثة أو الرّابعة؟ على أقوال. والصّحيح في الثّالثة.
قال: ومعناه إنّك لست ممّن يشمّت بعدها ، لأنّ الذي بك مرض ، وليس من العطاس المحمود النّاشئ عن خفّة البدن.
قال: فإن قيل: فإذا كان مرضاً فينبغي أن يشمّت بطريق الأولى ، لأنّه أحوج إلى الدّعاء من غيره، قلنا: نعم. لكن يدعى له بدعاءٍ يلائمه لا بالدّعاء المشروع للعاطس ، بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية.
وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة ، أنّه قال: يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس إلَّا أن يعرف أنّه مزكوم فيدعو له بالشّفاء.
قال: وتقريره أنّ العموم يقتضي التّكرار إلَّا في موضع العلة وهو الزّكام.
قال: وعند هذا يسقط الأمر بالتّشميت عند العلم بالزّكام ، لأنّ
التّعليل به يقتضي أن لا يشمّت من علم أنّ به زكاماً أصلاً.
وتعقّبه: بأنّ المذكور هو العلة دون التّعليل ، وليس المعلل هو مطلق التّرك ليعمّ الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو التّرك بعد التّكرير، فكأنّه قيل: لا يلزم تكرّر التّشميت لأنّه مزكوم.
قال: ويتأيّد بمناسبة المشقّة النّاشئة عن التّكرار.
الرّابع: ممّن يخصّ من عموم العاطسين من يكره التّشميت.
قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ من عرف من حاله أنّه يكره التّشميت أنّه لا يشمّت إجلالاً للتّشميت أن يؤهّل له من يكرهه ، فإن قيل: كيف يترك السّنّة لذلك؟ قلنا: هي سنّة لمن أحبّها، فأمّا من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويطّرد ذلك في السّلام والعيادة.
قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنّه لا يمتنع من ذلك إلَّا من خاف منه ضرراً، فأمّا غيره فيشمّت امتثالاً للأمر ومناقضة للمتكبّر في مراده وكسراً لسورته في ذلك، وهو أولى من إجلال التّشميت.
قلت: ويؤيّده أنّ لفظ التّشميت دعاء بالرّحمة. فهو يناسب المسلم كائناً من كان. والله أعلم.
الخامس: قال ابن دقيق العيد: يستثنى أيضاً من عطس والإمام يخطب، فإنّه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والرّاجح الإنصات لإمكان تدارك التّشميت بعد فراغ الخطيب ، ولا سيّما إن قيل بتحريم الكلام والإمام
يخطب، وعلى هذا. فهل يتعيّن تأخير التّشميت حتّى يفرغ الخطيب ، أو يشرع له التّشميت بالإشارة.؟.
فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمرّ في خطبته فالحكم كذلك ، وإن حمد فوقف قليلاً ليشمّت فلا يمتنع أن يشرع تشميته.
السّادس: ممّن يمكن أن يستثنى ، مَن كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة. فيؤخّر ثمّ يحمد الله فيشمّت. فلو خالف فحمد في تلك الحالة ، هل يستحقّ التّشميت.؟ فيه نظرٌ.
قوله: (وإبرار القسم أو المُقسِم) أي: بفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارّاً. واختلف في ضبط السّين.
فالمشهور: أنّها بالكسر وضمّ أوّله على أنّه اسم فاعل.
وقيل: بفتحها. أي: الإقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلاً بمعنى الإدخال. وكذا أخرجته.
قال الرّاغب وغيره: القسم بفتحتين الحلف، وأصله من القسامة ، وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثمّ استعمل في كلّ حلف.
قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة. (1)
(1) قال البخاري في صحيحه في كتاب الأيمان والنذور: باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} وقال ابن عباس: قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله، لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، قال: لا تقسم. ثم أورد أحديثَ منها حديثُ الباب.
قال ابن حجر في " الفتح "(11/ 542): والغرض منه هنا قوله " لا تقسم " موضع قوله " لا تحلف " فأشار البخاري إلى الردِّ على من قال: إن من قال: أقسمت. انعقدت يميناً ، ولأنه لو قال بدل أقسمت حلفتُ لم تنعقد اتفاقاً إلَّا إن نوى اليمين ، أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضاً فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، فلو كان أقسمت يميناً لأبرَّ أبا بكر حين قالها، ومن ثم أورد حديث البراء عقبه، ولهذا أورد حديث حارثة آخر الباب " لو أقسم على الله لأبره " إشارة إلى أنها لو كانت يميناً لكان أبو بكر أحقَّ بأن يبرَّ قسمه ، لأنه رأس أهل الجنة من هذه الأُمّة، وأما حديث أسامة في قصة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها أقسمت حقيقة، فقد تقدم في الجنائز بلفظ " تُقسم عليه ليأتينها ". والله أعلم. انتهى
فقال قوم: هي يمين وإن لم يقصد، وممن روي ذلك عنه ابن عمر وابن عباس، وبه قال النخعي والثوري والكوفيون.
وقال الأكثرون: لا تكون يميناً إلا أن ينوي.
وقال مالك: أقسمت بالله يميناً وأقسمت مجردة لا تكون يميناً إلَّا إن نوى.
وقال الإمام الشافعي: المجردة لا تكون يميناً أصلاً ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا.
وقال إسحاق: لا تكون يمينا أصلا.
وعن أحمد: كالأول ، وعنه: كالثاني.
وعنه: إن قال قسماً بالله فيمين جزماً لأنَّ التقدير أقسمت بالله قسماً، وكذا لو قال ألية بالله
قوله: (ونصر المظلوم) هو فرض كفاية، وهو عامٌّ في المظلومين وكذلك في الناصرين بناء على أنَّ فرض الكفاية مخاطب به الجميع.
وهو الراجح.
ويتعين أحياناً على من له القدرة عليه وحده إذا لَم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علِم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير.
وشرْطُ الناصرِ أن يكون عالماً بكون الفعل ظلما. ويقع النصْر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنقذ إنسانا من يد إنسان طالبه بمال ظلما وهدده إن لَم يبذله ، وقد يقع بعد وهو كثير.
تكميل: أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه، من الظلم. فإنَّ ذلك نصره ".
ولمسلم في حديث جابر نحو الحديث. وفيه " إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصرة ".
قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يئول إليه، وهو من وجيز البلاغة.
قال البيهقي: معناه أنَّ الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسا ومعنى، فلو رأى إنساناً يريد أن يجب نفسه لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثلاً منعه من ذلك ، وكان ذلك
نصراً له، واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم.
قوله: (وإجابة الدّاعي) نقل ابن عبد البرّ ثمّ عياض ثمّ النّوويّ الاتّفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس ، وفيه نظرٌ.
نعم المشهور من أقوال العلماء.
القول الأول: الوجوب، وصرّح جمهور الشّافعيّة والحنابلة بأنّها فرض عين. ونصّ عليه مالك.
القول الثاني: عن بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّها مستحبّة، وذكر اللخميّ من المالكيّة أنّه المذهب، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنّها سنّة، فكأنّه أراد أنّها وجبت بالسّنّة ، وليست فرضاً كما عرف من قاعدتهم.
القول الثالث: عن بعض الشّافعيّة والحنابلة. هي فرض كفاية.
وحكى ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام ": أنّ محلّ ذلك إذا عمّت الدّعوة. أمّا لو خصّ كلّ واحد بالدّعوة فإنّ الإجابة تتعيّن.
وشرط وجوبها أن يكون الدّاعي مكلفاً حرّاً رشيداً، وأن لا يخصّ الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التّودّد لشخصٍ بعينه لرغبةٍ فيه أو رهبة منه، وأن يكون الدّاعي مسلماً على الأصحّ. وأن يختصّ باليوم الأوّل على المشهور، وأن لا يسبق فمن سبق تعيّنت الإجابة له دون الثّاني، وإن جاءا معاً قدّم الأقرب رحماً على الأقرب جواراً على الأصحّ، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذّى بحضوره من منكر وغيره ، وأن لا يكون له عذر.
وضبطه الماورديّ بما يرخّص به في ترك الجماعة، هذا كلّه في وليمة العرس.
وقال الكرمانيّ: قوله " الدّاعي " عامّ، وقد قال الجمهور: تجب في وليمة النّكاح وتستحبّ في غيرها ، فيلزم استعمال اللفظ في الإيجاب والنّدب وهو ممتنع.
قال: والجواب: أنّ الشّافعيّ أجازه، وحمله غيره على عموم المجاز. انتهى.
ويحتمل: أن يكون هذا اللفظ - وإن كان عامّاً - فالمراد به خاصّ، وأمّا استحباب إجابة طعام غير العرس فمن دليل آخر. فأخرج الشيخان من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: أجيبوا الدعوة إذا دعيتم. قال: كان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم.
واللام في قوله " الدعوة ".
يحتمل: أن تكون للعهد، والمراد وليمة العرس.
ويؤيّده رواية ابن عمر الأخرى في الصحيحين " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها " ، وقد تقرّر أنّ الحديث الواحد إذا تعدّدت ألفاظه ، وأمكن حمل بعضها على بعض تعيّن ذلك.
ويحتمل: أن تكون اللام للعموم ، وهو الذي فهمه راوي الحديث ، فكان يأتي الدّعوة للعرس ولغيره.
وأخرجه مسلم وأبو داود من طريق أيّوب عن نافع بلفظ " إذا دعا
أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه ".
ولمسلمٍ من طريق الزّبيديّ عن نافع بلفظ " من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب " ، وهذا يؤيّد ما فهمه ابن عمر ، وأنّ الأمر بالإجابة لا يختصّ بطعام العرس.
وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشّافعيّة ، فقال بوجوب الإجابة إلى الدّعوة مطلقاً عرساً كان أو غيره بشرطه؛ ونقله ابن عبد البرّ عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ قاضي البصرة.
وزعم ابن حزم: أنّه قول جمهور الصّحابة والتّابعين.
ويعكّر عليه ما أخرجه أحمد في " مسنده " عن عثمان بن أبي العاص - وهو من مشاهير الصّحابة - أنّه قال في وليمة الختان: لَم يكن يُدعى لها.
لكن يمكن الانفصال عنه بأنّ ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دُعوا.
وعند عبد الرّزّاق بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر ، أنّه دعا بالطّعام ، فقال رجلٌ من القوم: أعفني، فقال ابن عمر: إنّه لا عافية لك من هذا، فقم.
وأخرج الشّافعيّ وعبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس ، أنّ ابن صفوان دعاه فقال: إنّي مشغول، وإن لَم تعفني جئته.
وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النّكاح. المالكيّة والحنفيّة والحنابلة وجمهور الشّافعيّة؛ وبالغ السّرخسيّ منهم فنقل فيه الإجماع.
ولفظ الشّافعيّ: إتيان دعوة الوليمة حقّ، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكلّ دعوة دعي إليها رجلٌ وليمةٌ. فلا أرخّص لأحدٍ في تركها، ولو تركها لَم يتبيّن أنّه عاصٍ في تركها كما تبيّن لي في وليمة العرس.
قوله: (وإفشاء السّلام) الإفشاء الإظهار، والمراد نشر السّلام بين النّاس ليحيوا سنّته. وفي رواية لهما " وردّ السلام " بدل إفشاء السلام. ولا مغايرة في المعنى ، لأنّ ابتداء السّلام وردّه متلازمان، وإفشاء السّلام ابتداء يستلزم إفشاءه جواباً.
وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " بسندٍ صحيح عن ابن عمر: إذا سلّمت فأسمِع ، فإنّها تحيّة من عند الله.
قال النّوويّ: أقلّه أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه، فإن لَم يسمعه لَم يكن آتياً بالسّنّة. ويستحبّ أن يرفع صوته بقدر ما يتحقّق أنّه سمعه، فإن شكّ استظهر. ويستثنى من رفع الصّوت بالسّلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام ، فالسّنّة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد ، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان.
ونقل النّوويّ عن المتولي أنّه قال: يُكره إذا لقي جماعة أن يخصّ بعضهم بالسّلام؛ لأنّ القصد بمشروعيّة السّلام تحصيل الألفة، وفي التّخصيص إيحاش لغير من خصّ بالسّلام.
وقد جاء إفشاء السّلام من حديث البراء بلفظٍ آخر. وهو عند
البخاري في " الأدب المفرد " وصحَّحه ابن حبّان من طريق عبد الرّحمن بن عوسجة عنه رفعه: أفشوا السّلام تسلموا. وله شاهد من حديث أبي الدّرداء مثله عند الطّبرانيّ.
ولمسلمٍ من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ألا أدلّكم على ما تحابّون به؟ أفشوا السّلام بينكم.
قال ابن العربيّ: فيه أنّ من فوائد إفشاء السّلام حصول المحبّة بين المتسالمين، وكان ذلك لِما فيه من ائتلاف الكلمة لتعمّ المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدّين وإخزاء الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النّفور إلى الإقبال على قائلها.
وعن عبد الله بن سلامٍ رفعه: أطعموا الطّعام وأفشوا السّلام. الحديث. وفيه: تدخلوا الجنّة بسلامٍ. أخرجه البخاريّ في " الأدب المفرد " وصحَّحه التّرمذيّ والحاكم، وللأوّلين وصحَّحه ابن حبّان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: اعبدوا الرّحمن، وأفشوا السّلام. الحديث. وفيه: تدخلوا الجنان.
ومن الأحاديث في إفشاء السّلام. ما أخرجه النّسائيّ عن أبي هريرة رفعه: إذا قعد أحدكم فليسلم ، وإذا قام فليسلم ، فليست الأولى أحقّ من الآخرة.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر. قال: إن كنتُ لأخرج إلى السّوق ، وما لي حاجة إلَّا أن أسلِّم ويُسلّم عليّ.
وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " من طريق الطّفيل بن أبيّ بن كعب عن ابن عمر نحوه ، لكن ليس فيها شيء على شرط البخاريّ.
واستدل بالأمر بإفشاء السّلام. على أنّه لا يكفي السّلام سرّاً بل يشترط الجهر ، وأقلّه أن يسمع في الابتداء وفي الجواب.
ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه. وقد أخرج النّسائيّ بسندٍ جيّد عن جابر رفعه: لا تسلِّموا تسليم اليهود ، فإنّ تسليمهم بالرّءوس والأكفّ.
ويُستثنى من ذلك حالة الصّلاة ، فقد وردت أحاديث جيّدة ، أنّه صلى الله عليه وسلم ردّ السّلام وهو يُصلِّي إشارة، منها حديث أبي سعيد ، أنّ رجلاً سلَّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي. فردّ عليه إشارة. (1) ومن حديث ابن مسعود نحوه. (2)
وكذا من كان بعيداً بحيث لا يسمع التّسليم ، يجوز السّلام عليه إشارة ويتلفّظ مع ذلك بالسّلام ، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال:
(1) أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار "(1/ 454) والطبراني في " الأوسط "(8631) من طرق عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به. وزاد ، قال: فلمَّا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنَّا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك.
قال الهيثمي في " المجمع "(2/ 98): رواه البزار. وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. وثَّقه عبد الملك بن شعيب بن الليث فقال: ثقة مأمون، وضعَّفه الأئمة أحمد وغيره.
(2)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(9783) وفي " الأوسط "(5918) عنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلَّمت عليه فأشار إليَّ.
قال الهيثمي في " المجمع "(2/ 98): رجاله رجال الصحيح.
وفي الباب عن صهيب وابن عمر وغيرهم أخرجها أبو داود في السنن.
يكره السّلام باليد ، ولا يكره بالرّأس.
وقال ابن دقيق العيد: استدل بالأمر بإفشاء السّلام مَن قال بوجوب الابتداء بالسّلام، وفيه نظرٌ. إذ لا سبيل إلى القول بأنّه فرض عين على التّعميم من الجانبين ، وهو أن يجب على كلّ أحد أن يسلم على كلّ من لقيه لِما في ذلك من الحرج والمشقّة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السّلام على واحد دون الباقين.
قال: وإذا سقط على هذه الصّورة لَم يسقط الاستحباب ، لأنّ العموم بالنّسبة إلى كلا الفريقين ممكن. انتهى.
وهذا البحث ظاهر في حقّ مَن قال: إنّ ابتداء السّلام فرض عين، وأمّا مَن قال: فرض كفاية فلا يرد عليه ، إذا قلنا إنّ فرض الكفاية ليس واجباً على واحد بعينه.
قال: ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسّلام كالكافر.
قلت: ويدلّ عليه قوله في الحديث المذكور قبل " إذا فعلتموه تحاببتم " والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبّته ومواددته.
وقد اختلف أيضاً في مشروعيّة السّلام على الفاسق وعلى الصّبيّ، وفي سلام الرّجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافراً ومسلماً هل يشرع السّلام مراعاة لحقّ المسلمين؟ أو يسقط من أجل الكافر؟.
وقد ترجم البخاري لذلك كلّه.
وقال النّوويّ: يستثنى من العموم بابتداء السّلام ، من كان مشتغلاً بأكلٍ أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمّام ، أو نائماً أو ناعساً ، أو مصلياً أو مؤذّناً ما دام متلبّساً بشيءٍ ممّا ذكر، فلو لَم تكن اللّقمة في فم الآكل مثلاً شرع السّلام عليه، ويشرع في حقّ المتبايعين وسائر المعاملات.
واحتجّ له ابن دقيق العيد: بأنّ النّاس غالباً يكونون في أشغالهم ، فلو روعي ذلك لَم يحصل امتثال الإفشاء.
وقال ابن دقيق العيد: احتجّ من منع السّلام على من في الحمّام: بأنّه بيت الشّيطان وليس موضع التّحيّة لاشتغال من فيه بالتّنظيف.
قال: وليس هذا المعنى بالقويّ في الكراهة، بل يدلّ على عدم الاستحباب.
قلت: وقد أخرج الثوري في " جامعه " عن حمّاد عن إبراهيم قال: إن كان عليهم إزار فيسلم وإلَّا فلا. والنّهي عن السّلام عليهم ، إمّا إهانةٌ لهم لكونهم على بدعةٍ ، وإمّا لكونه يستدعي منهم الرّدّ ، والتّلفّظ بالسّلام فيه ذكر الله ، لأنّ السّلام من أسمائه ، وأنّ لفظ سلامٌ عليكم من القرآن ، والمتعرّي عن الإزار مشابهٌ لمن هو في الخلاء. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أمّ هانئ: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره. فسلمت عليه. الحديث.
قال النّوويّ: وأمّا السّلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر
بالإنصات، فلو سلَّم لَم يجب الرّدّ عند مَن قال الإنصات واجب، ويجب عند مَن قال إنّه سنّة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يردّ أكثر من واحد.
وأمّا المشتغل بقراءة القرآن. فقال الواحديّ: الأولى ترك السّلام عليه ، فإن سلَّم عليه كفاه الرّدّ بالإشارة، وإن ردّ لفظاً استأنف الاستعاذة وقرأ.
قال النّوويّ: وفيه نظرٌ، والظّاهر أنّه يشرع السّلام عليه ، ويجب عليه الرّدّ.
ثمّ قال: وأمّا من كان مشتغلاً بالدّعاء مستغرقاً فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنّه يكره السّلام عليه ، لأنّه يتنكّد به ويشقّ عليه أكثر من مشقّة الأكل. وأمّا الملبّي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه ، لأنّ قطعه التّلبية مكروه، ويجب عليه الرّدّ مع ذلك لفظاً أن لو سلم عليه.
قال: ولو تبرّع واحدٌ من هؤلاء بردّ السّلام إن كان مشتغلاً بالبول ونحوه فيكره ، وإن كان آكلاً ونحوه فيستحبّ في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصلياً لَم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السّلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التّحريم لا إن جهل في الأصحّ، فلو أتى بضمير الغيبة لَم تبطل، ويستحبّ أن يردّ بالإشارة، وإن ردّ بعد فراغ الصّلاة لفظاً فهو أحبّ، وإن كان مؤذّناً أو ملبّياً لَم يكره له الرّدّ لفظاً لأنّه قدر يسير لا يبطل الموالاة.
وقد تعقَّب والدي (1) رحمه الله في نكته على الأذكار. ما قاله الشّيخ في القارئ: لكونه يأتي في حقّه نظير ما أبداه هو في الدّاعي؛ لأنّ القارئ قد يستغرق فكره في تدبّر معاني ما يقرؤه.
ثمّ اعتذر عنه: بأنّ الدّاعي يكون مهتمّاً بطلب حاجته فيغلب عليه التّوجّه طبعاً، والقارئ إنّما يطلب منه التّوجّه شرعاً ، فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنّه يوفّق للحاجة العليّة فهو على ندور. انتهى.
ولا يخفى أنّ التّعليل الذي ذكره الشّيخ من تنكّد الدّاعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشّيخ في بطلان الصّلاة إذا ردّ السّلام بالخطاب ليس متّفقاً عليه، فعن الشّافعيّ نصٌّ في أنّه لا تبطل ، لأنّه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدّعاء، وإذا عذرنا الدّاعي والقارئ بعدم الرّدّ فردّ بعد الفراغ كان مستحبّاً.
وذكر بعض الحنفيّة: أنّ من جلس في المسجد للقراءة أو التّسبيح أو لانتظاره الصّلاة لا يشرع السّلام عليهم، وإن سلم عليهم لَم يجب
(1) أي: والد الشارح رحمهما الله. ترجم له ابنه في " انباء الغمر بأبناء العمر " فقال:
علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر العسقلاني ثم المصري الكناني ولد في حدود العشرين وسبعمائة. اشتغل بالفقه والعربية ومهر في الآداب ، وقال الشعر فأجاد ، وله عدة دواوين ، وكان موصوفاً بالعقل والديانة والأمانة ومكارم الأخلاق ، ومن محفوظاته الحاوي الصغير ، وله استدراك على الأذكار للنووي فيه مباحث حسنة.
قرأت بخط ابن القطان وأجازنيه: مات يوم الأربعاء ثالث عشرين شهر رجب
قلت: وتركني لم أكمل أربع سنين وأنا الآن أعقله كالذي يتخيل الشيء ولا يتحققه وأحفظ منه أنه قال: كنية ولدي أحمد أبو الفضل رحمة الله تعالى. انتهى بتجوز.
الجواب.
قال: وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرّدّ. وكذلك الأستاذ إذا سلَّم عليه تلميذه لا يجب الرّدّ عليه.
كذا قال ، وهذا الأخير لا يوافق عليه.
ويدخل في عموم إفشاء السّلام، السّلام على النّفس لمن دخل مكاناً ليس فيه أحد، لقوله تعالى {فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم} الآية.
وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " وابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن ابن عمر: يستحبّ إذا لَم يكن أحدٌ في البيت أن يقول: السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين. وأخرج الطّبريّ عن ابن عبّاس ، ومن طريق كلٍّ من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه.
ويدخل فيه من مرّ على من ظنّ أنّه إذا سلَّم عليه لا يردّ عليه ، فإنّه يشرع له السّلام ، ولا يتركه لهذا الظّنّ ، لأنّه قد يخطئ.
قال النّوويّ: وأمّا قول من لا تحقيق عنده أنّ ذلك يكون سبباً لتأثيم الآخر فهو غباوة؛ لأنّ المأمورات الشّرعيّة لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات.
قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارةٍ لطيفة ردّ السّلام واجبٌ، فينبغي أن تردّ ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على التّرك أن يحلله من ذلك لأنّه حقّ آدميّ.
ورجّح ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام " المقالة التي زيّفها النّوويّ
بأنّ مفسدة توريط المسلم في المعصية أشدّ من ترك مصلحة السّلام عليه، ولا سيّما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره.
قوله: (ونهانا عن خواتيم ، أو عن تختّمٍ بالذّهب)(1) جمع خاتم، ويجمع أيضاً على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياءٍ بدل الواو، وبلا ياء أيضاً.
وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التّاء وكسرها وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء ختام، وبفتحها وسكون التّحتانيّة وضمّ المثنّاة بعدها واو خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثنّاة ختم، وبألفٍ بعد الخاء وأخرى بعد التّاء خاتام، وبزيادة تحتانيّة بعد المثنّاة المكسورة خاتيام، وبحذف الأولى وتقديم التّحتانيّة خيتام، وقد جمعتها في بيت وهو:
خاتام خاتم ختم خاتم وختا
…
م خاتيام وخيتوم وخيتام
وقبله:
خذ نظم عدّ لغات الخاتم انتظمت
…
ثمانياً ما حواها قبل نظام
ثمّ زدت ثالثاً:
وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا
…
ساغ القياس أتمّ العشر خاتام
أمّا الأوّل: فذكر أبو البقاء في إعراب الشّواذّ في الكلام على من قرأ
(1) سيأتي إن شاء الله حكم لبس خاتم الذهب مستوفى في شرح حديث ابن عمر الذي بعده. وقد أورد البخاريُّ حديث الباب وحديث ابن عمر الآتي في باب خواتيم الذهب.
العالمين بالهمز ، قال: ومثله الخأتم بالهمز.
وأمّا الثّاني: فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النّوويّ على أربعة.
والحقّ أنّ الختم والختام مختصّ بما يختم به فتكمل الثّمان فيه، وأمّا ما يتزيّن به فليس فيه إلَّا ستّة، وأنشدوا في الخاتيام. وهو أغربها:
أخذت من سعداك خاتياماً
…
لموعدٍ تكتسب الآثاما
قوله: (وعن شرب بالفضّة) زاد مسلم من طريق أخرى عن البراء " فإنّه من شرب فيها في الدّنيا لَم يشرب فيها في الآخرة "، ومثله في حديث أبي هريرة رفعه: من شرب في آنية الفضّة والذّهب في الدّنيا لَم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنّة الذّهب والفضّة. أخرجه النّسائيّ بسندٍ قويّ. (1)
قوله: (وعن المياثر) جمع ميثرة. وهي بكسر الميم وسكون التّحتانيّة وفتح المثلثة بعدها راء ثمّ هاء ولا همز فيها، وأصلها من الوثارة أو الوثرة بكسر الواو وسكون المثلثة، والوثير هو الفراش الوطيء ، وامرأة وثيرة كثيرة اللحم.
وقد أخرج أحمد والنّسائيّ وأصله عند أبي داود بسندٍ صحيح عن عليّ ، قال: نُهي عن المياثر الأرجوان. هكذا عندهم بلفظ " نُهي " على البناء للمجهول، وهو محمول على الرّفع.
وقد أخرج أحمد وأصحاب السّنن وصحَّحه ابن حبّان من طريق
(1) وقد تقدّم الكلام عليه مستوفي في حديث حذيفة رضي الله عنه رقم (399).
هبيرة بن يريم - بتحتانيّةٍ أوّله وزن عظيم - عن عليّ ، قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذّهب، وعن لبس القسّيّ، والميثرة الحمراء.
ولمسلم عن أبي بُرْدة، عن عليٍّ، قال: نَهاني النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن لبس القسّيّ، وعن جلوسٍ على المياثر، قال: والمياثر: شيءٌ كانت تجعله النّساء لبعولتهنّ على الرّحل كالقطائف الأرجوان.
قال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النّهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير.
وقال الطّبريّ: هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير من الأرجوان.
وحكى في " المشارق " قولاً أنّها سروج من ديباج، وقولاً أنّها أغشية للسّروج من حرير، وقولاً أنّها تشبه المخدّة تحشى بقطنٍ ، أو ريش يجعلها الرّاكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطّبريّ.
والأقوال الثّلاثة.
يحتمل: أن لا تكون متخالفة بل الميثرة تطلق على كلّ منها، وتفسير أبي عبيد.
يحتمل: الثّاني والثّالث.
وقيل: المياثر جلود السباع.
قال النّوويّ: هو تفسير باطل مخالف لِمَا أطبق عليه أهل الحديث.
قلت: وليس هو بباطلٍ، بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت
الميثرة وطاء صنعت من جلد ثمّ حشيت، والنّهي حينئذٍ عنها. إمّا لأنّها من زيّ الكفّار، وإمّا لأنّها لا تعمل فيها الذّكاة، أو لأنّها لا تذكّى غالباً فيكون فيه حجّة لمن منع لبس ذلك ولو دبغ، لكن الجمهور على خلافه، وأنّ الجلد يطهر بالدّباغ.
وقد اختلف أيضاً في الشّعر. هل يطهر بالدّباغ؟. لكن الغالب على المياثر أن لا يكون فيها شعر.
وقد ثبت النّهي عن الرّكوب على جلود النّمور. أخرجه النّسائيّ من حديث المقدام بن معد يكرب، وهو ممّا يؤيّد التّفسير المذكور. ولأبي داود: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر.
وعلى كلّ تقدير فالميثرة ، وإن كانت من حرير فالنّهي فيها كالنّهي عن الجلوس على الحرير، وقد تقدّم القول فيه (1).
ولكن تقييدها بالأحمر أخصّ من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريراً، ويتأكّد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير فالنّهي فيها للزّجر عن التّشبّه بالأعاجم.
قال ابن بطّال: كلام الطّبريّ يقتضي التّسوية في المنع من الرّكوب عليه. سواء كانت من حرير أم من غيره، فكان النّهي عنها إذا لَم يكن من حرير للتّشبّه أو للسّرف أو التّزيّن، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التّحريم والتّنزيه، وأمّا تقييدها بالحمرة. فمن يحمل المطلق على المقيّد وهم الأكثر ، يخصّ المنع بما كان أحمر.
(1) في شرح حديث حذيفة رضي الله عنه الماضي فبل حديث.
والأرجوان المذكور في الرّواية التي أشرت إليها ، بضمّ الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثمّ واو خفيفة.
وحكى عياض ثمّ القرطبيّ: فتح الهمزة ، وأنكره النّوويّ ، وصوّب أنّ الضّمّ هو المعروف في كتب الحديث واللّغة والغريب.
واختلفوا في المراد به.
فقيل: هو صبغ أحمر شديد الحمرة. وهو نور شجر من أحسن الألوان.
وقيل: الصّوف الأحمر.
وقيل: كلّ شيء أحمر فهو أرجوان.
ويقال: ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان.
وحكى السّيرافيّ: أحمر أرجوان ، فكأنّه وصف للمبالغة في الحمرة كما يقال: أبيض يقق ، وأصفر فاقع.
واختلفوا. هل الكلمة عربيّة أو معرّبة؟.
فإن قلنا: باختصاص النّهي بالأحمر من المياثر ، فالمعنى في النّهي عنها ما في غيرها كما تقدّم في حديث البراء قبله.
وإن قلنا: لا يختصّ بالأحمر فالمعنيّ بالنّهي عنها ما فيه من التّرفّه، وقد يعتادها الشّخص فتعوزه فيشقّ عليه تركها ، فيكون النّهي نهي إرشاد لمصلحةٍ دنيويّة.
وإن قلنا: النّهي عنها من أجل التّشبّه بالأعاجم فهو لمصلحةٍ دينيّة، لكن كان ذلك شعارهم حينئذٍ وهم كفّار ، ثمّ لمَّا لَم يصر الآن يختص
بشعارهم زال ذلك المعنى ، فتزول الكراهة، والله أعلم.
قوله: (وعن القسّيّ) بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة.
وذكر أبو عبيد في " غريب الحديث ": أنّ أهل الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال: لها القسّ. رأيتها ، ولَم يعرفها الأصمعيّ.
وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقسّ بمصر. منهم الطّبريّ وابن سيده.
وقال الحازميّ: هي من بلاد السّاحل.
وقال المُهلَّب: هي على ساحل مصر ، وهي حصن بالقرب من الفرما من جهة الشّام، وكذا وقع في حديث ابن وهب: أنّها تلي الفرما. والفرما بالفاء وراء مفتوحة.
وقال النّوويّ: هي بقرب تنيس وهو متقارب، وحكى أبو عبيد الهرويّ عن شمر اللّغويّ: أنّها بالزّاي لا بالسّين نسبة إلى القزّ وهو الحرير ، فأبدلت الزّاي سيناً.
وحكى ابن الأثير في " النّهاية ": أنّ القسّ الذي نسب إليه ، هو الصّقيع ، سُمِّي بذلك لبياضه، وهو والذي قبله كلام من لَم يعرف القسّ القرية.
وذكر البخاري معلَّقا. ووقع لنا موصولاً في " أمالي المحامليّ "، قال عاصمٌ: عن أبي بُرْدة، قال: قلت: لعليٍّ: ما القسّيّة؟ قال: ثيابٌ أتتنا من الشّأم، أو من مصر، مضلعةٌ فيها حريرٌ ، وفيها أمثال
الأترنج.
ولمسلم من طريق عبد الله بن إدريس سمعت عاصم بن كليب عن أبي بُرْدة - وهو ابن أبي موسى الأشعريّ - عن عليّ قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسّيّ. وعن المياثر، قال: فأمّا القسّيّ فثياب مضلعة يُؤتى بها من مصر والشّام فيها شبه كذا. الحديث.
وأخرج مسلم من وجهين آخرين. عن عليّ النّهي عن لباس القسّيّ ، لكن ليس فيه تفسيره.
وقوله " مضلعة فيها حرير ".أي: فيها خطوط عريضة كالأضلاع، وحكى المنذريّ: أنّ المراد بالمضلع ما نسج بعضه وترك بعضه.
وقوله: " فيها حرير " يشعر بأنّها ليست حريراً صرفاً.
وحكى النّوويّ عن العلماء: أنّها ثياب مخلوطة بالحرير.
وقيل: من الخزّ وهو رديء الحرير.
وقوله " وفيها أمثال الأترنج ". أي: أنّ الأضلاع التي فيها غليظة معوجّة
واستدل بالنّهي عن لبس القسّيّ على منع لبس ما خالطه الحرير من الثّياب لتفسير القسّيّ. بأنّه ما خالط غير الحرير فيه الحرير.
ويؤيّده عطف الحرير على القسّيّ في حديث الباب.
ووقع كذلك في حديث عليّ عند أبي داود والنّسائيّ وأحمد بسندٍ صحيح على شرط الشّيخين من طريق عبيدة بن عمرو عن عليّ قال: نهاني النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن القسّيّ والحرير.
ويحتمل: أن تكون المغايرة باعتبار النّوع ، فيكون الكلّ من الحرير كما وقع عطف الدّيباج على الحرير في حديث حذيفة الماضي قريباً. ولكنّ الذي يظهر من سياق طرق الحديث في تفسير القسّيّ ، أنّه الذي يخالط الحرير لا أنّه الحرير الصِّرف. فعلى هذا.
القول الأول. يحرم لبس الثّوب الذي خالطه الحرير. وهو قول بعض الصّحابة كابن عمر والتّابعين كابن سيرين.
القول الثاني: ذهب الجمهور: إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب.
وعمدتهم في ذلك تفسير الحلة السّيراء (1) وما انضاف إلى ذلك من
(1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (886) ومواضع أخرى ، ومسلم (5522) عن ابن عمر أنَّ عمر بن الخطاب، رأى حلةً سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله. لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة .... " الحديث
قال الشارح في الفتح: والسيراء - بكسر المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد - ، قال مالك: هو الوشي من الحرير. كذا قال ، والوشي بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها تحتانية.
وقال الأصمعي: ثياب فيها خطوط من حرير أو قز ، وإنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مضلع بالحرير ، وقيل: مختلف الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور.
ووقع عند أبي داود في حديث أنس ، أنه رأى على أم كلثوم حلة سيراء. والسيراء المضلع بالقز. وقد جزم ابن بطال ، أنه من تفسير الزهري.
وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود ، وقيل: ثوب مسير فيه خطوط يعمل من القز ، وقيل: ثياب من اليمن.
وقال الجوهري: بُرد فيه خطوط صفر. ونقل عياض عن سيبويه قال: لَم يأت فعلاء صفة ، لكن اسماً: وهو الحرير الصافي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ثم قال الحافظ: الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صِرْف، قال ابن عبد البر: هذا قول أهل العلم، وأما أهل اللغة فيقولون: هي التي يخالطها الحرير، قال: والأول هو المعتمد. ثم ساق من طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب. وفيه " حلةٌ من حرير ".
وقال ابن بطال: دلَّت طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض، ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر ، أن عمر قال: يا رسول الله، إني مررتُ بعطارد يعرض حلة حرير للبيع " الحديث. أخرجه أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ.
قلت: وللبخاري في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " حلة حرير أو سيراء "، وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم " حلة من إستبرق " ، وقد فسر الإستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج، أخرجه البخاري في " الأدب " من طريق يحيى بن إسحاق قال: سألني سالم عن الإستبرق؟ فقلت: ما غلظ من الديباج، فقال: سمعت عبد الله بن عمر " فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة " حلة من سندس ".
قال النووي: هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريراً محضاً.
قلت: الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريراً صرفاً ، وقد تكون غير محض، فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض ، ولهذا وقع في حديثه " إنما يلبس هذه من لا خلاق له " والتي في قصة علي لَم تكن حريراً صرفاً. لِما روى ابن أبي شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن عليٍّ قال: أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيَّرة بحرير. إما سُداها أو لحمتها. فأرسل بها إليَّ فقلت: ما أصنع بها، ألبسها؟ قال: لا أرضى لك إلَّا ما أرضى لنفسي، ولكن اجعلها خمراً بين الفواطم.
وقد أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق ابن إسحاق عن هبيرة ، فقال فيه: حلة من حرير " وهو محمول على رواية أبي فاختة - وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة - اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف، ثقة.
ولَم يقع في قصة عليٍّ رضي الله عنه وعيد على لبسها كما وقع في قصة عمر رضي الله عنه، بل فيه " لا أرضى لك إلَّا ما أرضى لنفسي " ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير أولى من لبسه عند من يقول بجوازه. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر
قلت: وحديث علي رضي الله عنه الذي أشار إليه ابن حجر ، أصله في صحيح البخاري (2614) ومسلم (5544) من طريق زيد بن وهب عن عليٍّ رضي الله عنه قال: أهدى إليَّ النبى صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فلبستها، فرأيت الغضب فى وجهه، فشققتها بين نسائى.
ولمسلم (5543) من طريق أبى صالح الحنفي عن علي ، أن أُكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه علياً .. الحديث "
الرّخصة في العلم في الثّوب إذا كان من حرير. كما سيأتي تقريره في حديث عمر (1).
قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل، لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كلّ مختلط، وإنّما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنّسبة لجميع الثّوب ، فيكون المنع من لبس الحرير شاملاً للخالص والمختلط، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة، ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة.
قال: وقد توسّع الشّافعيّة في ذلك، ولهم طريقان:
أحدهما: وهو الرّاجح اعتبار الوزن، فإن كان الحرير أقلّ وزناً لَم يحرم أو أكثر حرم، وإن استويا فوجهان. اختلف التّرجيح فيهما عندهم.
والطّريق الثّاني: الاعتبار بالقلة والكثرة بالظّهور، وهذا اختيار القفّال ومن تبعه.
وعند المالكيّة في المختلط أقوال ثالثها الكراهة، ومنهم من فرّق بين الخزّ وبين المختلط بقطنٍ ونحوه. فأجاز الخزّ ومنع الآخر.
وهذا مبنيّ على تفسير الخزّ، وقد تقدّم في بعض تفاسير القسّيّ أنّه
(1) سيأتي إن شاء الله في العمدة بعد حديث.
الخزّ.
فمَن قال: إنّه رديء الحرير فهو الذي يتنزّل عليه القول المذكور.
ومَن قال: إنّه ما كان من وبر فخلط بحريرٍ لَم يتّجه التّفصيل المذكور.
واحتجّ أيضاً من أجاز لبس المختلط: بحديث ابن عبّاس: إنّما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثّوب المصمت من الحرير ، فأمّا العلم من الحرير وسدى الثّوب فلا بأس به. أخرجه الطّبرانيّ بسندٍ حسن هكذا، وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسندٍ صحيح بلفظ " إنّما نهى عن المصمت إذا كان حريراً ".
وللطّبرانيّ من طريق ثالث: نهى عن مُصمت الحرير ، فأمّا ما كان سداه من قطن أو كتّان فلا بأس به.
واستدل ابن العربيّ للجواز أيضاً: بأنّ النّهي عن الحرير حقيقة في الخالص، والإذن في القطن ونحوه صريح، فإذا خُلطا بحيث لا يسمّى حريراً بحيث لا يتناوله الاسم ولا تشمله عِلَّة التّحريم خرج عن الممنوع فجاز.
وقد ثبت لبس الخزّ عن جماعة من الصّحابة وغيرهم.
قال أبو داود: لَبِسَه عشرون نفساً من الصّحابة وأكثر.
وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التّابعين بأسانيد جياد.
وأعلى ما ورد في ذلك. ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق
عبد الله بن سعد الدّشتكيّ عن أبيه قال: رأيت رجلاً على بغلة وعليه عمامة خزّ سوداء. وهو يقول: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمّار بن أبي عمّار قال: أتت مروانَ بنَ الحكم مطارف خزّ، فكساها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأصحّ في تفسير الخزّ أنّه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره.
وقيل: تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه.
وقيل: أصله اسم دابّة يقال لها الخرّ ، سُمِّي الثّوب المتّخذ من وبره خزّاً لنعومته ، ثمّ أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير.
وعلى هذا فلا يصحّ الاستدلال بلبسه على جواز لبس ما يخالطه الحرير ما لَم يتحقّق أنّ الخزّ الذي لِبَسَه السّلف كان من المخلوط بالحرير. والله أعلم.
وأجاز الحنفيّة والحنابلة: لبس الخزّ ما لَم يكن فيه شهرة، وعن مالك الكراهة، وهذا كلّه في الخزّ.
وأمّا القزّ بالقاف بدل الخاء المعجمة.
فقال الرّافعيّ: عدّ الأئمّة القزّ من الحرير وحرّموه على الرّجال ولو كان كمد اللون، ونقل الإمام الاتّفاق عليه ، لكن حكى المتولي في " التّتمّة " وجهاً أنّه لا يحرم ، لأنّه ليس من ثياب الزّينة.
قال ابن دقيق العيد: إن كان مراده بالقزّ ما نطلقه نحن الآن عليه فليس يخرج عن اسم الحرير فيحرم، ولا اعتبار بكمودة اللون ، ولا
بكونه ليس من ثياب الزّينة ، فإنّ كلاً منهما تعليل ضعيف لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه. انتهى كلامه.
ولَم يتعرّض لمقابل التّقسيم؛ وهو وإن كان المراد به شيئاً آخر فيتّجه كلامه، والذي يظهر أنّ مراده به رديء الحرير، وهو نحو ما تقدّم في الخزّ، ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون. والله أعلم.
قوله: (وعن لبس الحرير ، والإستبرق ، والدّيباج) الحرير قد سبق القول فيه ، والدّيباج والإستبرق: صنفان نفيسان منه.
والإستبرق: ما غلظ من الدّيباج ، وهو معرّب.
والدّيباج هو بكسر المهملة. وحكي فتحها.
وقال أبو عبيدة: الفتح مولدٌ. أي: ليس بعربيٍّ.