الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
390 -
عن همام بن الحارث، عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسولَ الله، إني أُرسل الكلاب المُعلَّمة فيمسكن عليّ، وأذكر اسم الله عليه، فقال: إذا أرسلتَ كلبكَ المُعلَّم، وذكرتَ اسمَ الله عليه، فكُلْ ما أمسك عليك، قلت: وإنْ قتلْنَ، قال: وإنْ قتلْنَ، ما لَم يشركْها كلبٌ ليس منها، قلت له: فإني أرمي بالْمِعراض الصيد، فأصيب، فقال: إذا رميتَ بالْمعراض فخزَقَ فكُلْه، وإن أصابه بعرْضه، فلا تأكله. (1)
الحديث الثالث عشر
391 -
وحديث الشّعبيّ عن عديٍّ نحوه، وفيه: إلَّا أن يأكل الكلب، فإنْ أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإنْ خالطها كلابٌ من غيرها فلا تأكل، فإنما سَمَّيتَ على كلبك، ولَم تسمّ على غيره.
وفيه: إذا أرسلت كلبك المُعلَّم فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركتَه حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولَم يأكل منه فكُلْه، فإنّ أَخْذَ الكلب ذكاتُه.
وفيه أيضاً: إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه.
(1) أخرجه البخاري (5160 ، 6962) ومسلم (1929) من طريق منصور عن إبراهيم النخعي عن همَّام بن الحارث به. والسياق لمسلم.
وفيه: فإن غاب عنك يوماً أو يومين.
وفي روايةٍ: اليومين والثلاثة (1) فلم تجد فيه إلَّا أثر سهمك فكل إنْ شئتَ، فإن وجدته غريقاً في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك. (2)
قوله: (عن همام بن الحارث) من كبار التابعين.
قوله: (عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه) أي ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج - بمهملة ثم معجمة ثم راء ثم جيم بوزن جعفر - بن امرئ القيس بن عدي الطائي. منسوبٌ إلى طيء - بفتح المهملة وتشديد التحتانية المكسورة بعدها همزة - بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ.
(1) رواية (اليومين والثلاثة) ذكرها البخاري معلّقة عقِب رواية عاصم عن الشعبي برقم (5484) فقال: وقال عبد الأعلى: عن داود عن عامر عن عدي، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يرمي الصيد فيقتفر أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتاً وفيه سهمه؟، قال: يأكل إن شاء.
قال الحافظ في " الفتح "(9/ 757): هذا التعليق ، وصله أبو داود عن الحسين بن معاذ عن عبد الأعلى به. قوله (فيفتقر) بفاء ثم مثناة ثم قاف. أي: يتبع فقاره حتى يتمكن منه ، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن بطال ، وفي رواية الكشميهني " فيقتفي " أي: يتبع ، وكذا لمسلم والأصيلي ، وفي رواية " فيقفو " وهي أوجه. انتهى.
قلت: كذا عزا هذه الرواية لمسلم ، ولَم يروه أصلاً من هذا الوجه. ولعله سبق لسان. وهي عند أبي داود في " السنن "(2853) كما عزا الشارح هذا الحديث له.
(2)
أخرجه البخاري (173 ، 1949 ، 5158 ، 5159 ، 5160 ، 5166 ، 5167 ، 5168 ، 5169) ومسلم (1929) من طرق عن الشعبي عن عدي رضي الله عنه.
يقال: كان اسمه جلهمة فسمي طيئاً ، لأنه أول من طوى بئراً.
ويقال: أول من طوى المناهل.
وأخرج مسلم: عن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر فقال: إنَّ أول صدقة بيَّضتْ وجهَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ووجوهَ أصحابِه صدقة طيء جئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضاً جواداً، وكان إسلامه سنة الفتح، وثبت هو وقومه على الإسلام، وشهد الفتوح بالعراق، ثمّ كان مع عليٍّ وعاش إلى سنة ثمان وستّين.
قوله: (إذا أرسلتَ كلبَك المعلَّم، وذكرتَ اسمَ الله عليه فكُلْ ما أمسك عليك) في رواية زكرياء عن الشعبي في البحاري " وسألته عن صيد الكلب؟ فقال: ما أمسك عليك فكُلْ، فإنّ أخذ الكلب ذكاةٌ ".
وفي رواية بيان بن عمرو عن الشّعبيّ. في الصحيحين " قلت: إنّا نتصيّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابك المعلمة ".
والمراد بالمعلَّمة: التي إذا أغراها صاحبها على الصّيد طلبتْه، وإذا زجرها انزجرت ، وإذا أخذت الصّيد حبسته على صاحبها.
وهذا الثّالث مختلف في اشتراطه.
واختلف متى يعلم ذلك منها؟.
فقال البغويّ في " التّهذيب ": أقلّه ثلاث مرّات.
وعن أبي حنيفة وأحمد. يكفي مرّتين.
وقال الرّافعيّ: لَم يقدّره المُعظم لاضطراب العرف واختلاف طباع
الجوارح ، فصار المرجع إلى العرف.
ووقع في رواية مجالد عن الشّعبيّ عن عديّ في هذا الحديث عند أبي داود والتّرمذيّ ، أمّا التّرمذيّ فلفظه " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل " ، وأمّا أبو داود فلفظه " ما علَّمت من كلبٍ أو بازٍ ، ثمّ أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. قلت: وإنْ قتل؟ قال: إذا قتل ولَم يأكل منه. (1)
قال التّرمذيّ: والعمل على هذا عند أهل العلم. لا يرون بصيد الباز والصّقور بأساً. (2)
وفي معنى الباز. الصّقر والعقاب والباشق والشّاهين.
(1) وأخرجه البيهقي في " الكبرى "(9/ 398)(باب البزاة المعلّة إذا أكلت).
ثم قال البيهقي: فجمع بينهما في المنع إلَّا أنَّ ذِكر البازي في هذه الرواية لم يأتِ به الْحُفاظ الذين قدَّمنا ذكرهم عن الشعبي ، وإنما أتى به مجالد. والله أعلم.
ويُذكر عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: إذا أرسلتَ كلبك أو بازك أو صقرك على الصيد فأكل منه فكل ، وإن أكل نصفَه. فهذا جمع بينهما في الإباحة.
ويُذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل ، وإذا أكل الصقر فكل؛ لأنَّ الكلبَ تستطيع أن تضربه ، والصقر لا تستطيع. فهذا فرق بينهما. والله أعلم.
وفي حديث الثوري عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. وهذا بخلاف الأول. وروي عن الربيع بن صبيح في البازي أو الصقر إذا أكل قال: كرِهَه عطاء ، وعن عكرمة قال: إذا أكل الباز والصقر فلا تأكل. انتهى كلام البيهقي.
(2)
وتمام كلامه: وقد رخَّص بعض أهل العلم في صيد البازي، وإنْ أكل منه، وقالوا: إنما تعليمه إجابته، وكرهه بعضهم، والفقهاء أكثرهم قالوا: نأكل وإن أكل منه. انتهى
وقد فسّر مجاهد الجوارح في الآية بالكلاب والطّيور، وهو قول الجمهور. إلَّا ما روي عن ابن عمر وابن عبّاس من التّفرقة بين صيد الكلب والطّير.
قوله: (قلت: وإنْ قتلن؟، قال: وإنْ قتلن، ما لَم يشركها كلب ليس منها) في رواية زكريا " وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلباً غيره، فخشيت أن يكون أخذه معه، وقد قتله فلا تأكل، فإنّما ذكرت اسم الله على كلبك ولَم تذكره على غيره ".
وفي رواية بيان " وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل " وزاد في روايته بعد قوله ممّا أمسكن عليك " وإن قتلن، إلَّا أن يأكل الكلب ، فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه "
وفيه إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، واستثنى أحمد وإسحاق الكلب الأسود ، وقالا: لا يحلّ الصّيد به ، لأنّه شيطان. ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك.
وفيه جواز أكْل ما أمسكه الكلب بالشّروط المتقدّمة ، ولو لَم يذبح. لقوله " إنّ أخذَ الكلب ذكاةٌ ".
فلو قتل الصّيدَ بظفره أو نابه حلَّ، وكذا بثقله على أحد القولين للشّافعيّ وهو الرّاجح عندهم، وكذا لو لَم يقتله الكلب ، لكن تركه وبه رمق ، ولَم يبق زمن يمكن صاحبه فيه لحاقه وذبحه فمات حلَّ، لعموم قوله " فإنّ أخذ الكلب ذكاة " وهذا في المُعلَّم.
فلو وجده حيّاً حياة مستقرّة ، وأدرك ذكاته لَم يحلّ إلَّا بالتّذكية، فلو
لَم يذبحه مع الإمكان حرم، سواء كان عدم الذّبح اختياراً أو إضراراً كعدم حضور آلة الذّبح، فإن كان الكلب غير مُعلَّم اشترط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميّتاً لَم يحلّ.
وفيه أنّه لا يحلّ أكل ما شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحلّه ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذّكاة، فإنْ تحقّق أنّه أرسله من هو من أهل الذّكاة حلَّ.
ثمّ يُنظر. فإنْ أرسلاهما معاً فهو لهما وإلَاّ فللأوّل، ويؤخذ ذلك من التّعليل في قوله " فإنّما سُمِّيت على كلبك ولَم تسمّ على غيره " ، فإنّه يفهم منه أنّ المرسِل لو سمّى على الكلب لحل.
ووقع في رواية بيان عن الشّعبيّ " وإن خالطها كلابٌ من غيرها فلا تأكل " ، فيؤخذ منه أنّه لو وجده حيّاً وفيه حياة مستقرّة فذكّاه حلَّ، لأنّ الاعتماد في الإباحة على التّذكية لا على إمساك الكلب.
قوله: (وحديث الشّعبيّ) عامر بن شراحيل. الفقيه المشهور.
قوله: (عن عديٍّ) في رواية سعيد بن مسروق حدثني الشعبي سمعت عدي بن حاتم ، وكان لنا جاراً ودخيلاً وربيطاً بالنهرين. أخرجه مسلم
قوله: (إلَّا أن يأكل الكلب، فإنْ أكَلَ فلا تأكُل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) في رواية ابن أبي السّفر عن الشعبي عند البخاري " قلت: فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنّه لَم يمسك عليك ،
إنّما أمسك على نفسه ".
وفي الحديث.
وهو القول الأول: تحريم أكل الصّيد الذي أكل الكلب منه. ولو كان الكلب مُعلَّماً. وقد علَّل في الحديث بالخوف من أنّه " إنّما أمسك على نفسه ". وهذا قول الجمهور، وهو الرّاجح من قولي الشّافعيّ.
القول الثاني: قال الشافعي في القديم ، وهو قول مالك ، ونقل عن بعض الصّحابة: يحلّ.
واحتجّوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، أنّ أعرابيّاً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسولَ الله، إنّ لي كلاباً مكلبة، فأفتني في صيدها. قال: كل ممّا أمسكن عليك. قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه. أخرجه أبو داود. ولا بأس بسنده.
وسلك النّاس في الجمع بين الحديثين طُرقاً:
منها: للقائلين بالتّحريم حمل حديث أبي ثعلبة: على ما إذا قتله وخلَاّه ، ثمّ عاد فأكل منه.
ومنها: التّرجيح ، فرواية عديٍّ في الصّحيحين متّفق على صحّتها، ورواية أبي ثعلبة المذكورة في غير الصّحيحين مختلف في تضعيفها.
وأيضاً فرواية عديٍّ صريحة مقرونة بالتّعليل المناسب للتّحريم ، وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأنّ الأصل في الميتة التّحريم، فإذا شككنا في السّبب المبيح رجعنا إلى الأصل.
وظاهر القرآن أيضاً ، وهو قوله تعالى {فكلوا ممّا أمسكن عليكم}
، فإنّ مقتضاها أنّ الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح.
ويتقوّى أيضاً بالشّاهد من حديث ابن عبّاس عند أحمد " إذا أرسلت الكلب فأكل الصّيد فلا تأكل، فإنّما أمسك على نفسه. وإذا أرسلته فقتل ولَم يأكل فكل، فإنّما أمسك على صاحبه " ، وأخرجه البزّار من وجه آخر عن ابن عبّاس ، وابن أبي شيبة من حديث أبي رافعٍ بمعناه.
ولو كان مجرّد الإمساك كافياً لَمَا احتيج إلى زيادة {عليكم} .
ومنها: للقائلين بالإباحة حمل حديث عديٍّ على كراهة التّنزيه، وحديث أبي ثعلبة على بيان الجواز.
قال بعضهم: ومناسبة ذلك أنّ عديّاً كان موسراً فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة فإنّه كان بعكسه.
ولا يخفى ضعف هذا التّمسّك مع التّصريح بالتّعليل في الحديث بخوف الإمساك على نفسه.
وقال ابن التّين: قال بعض أصحابنا: هو عامّ فيحمل على الذي أدركه ميّتاً من شدّة العدو ، أو من الصّدمة فأكل منه، لأنّه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال ولا الإمساك على صاحبه.
قال: ويحتمل أن يكون معنى قوله " فإن أكل فلا تأكل "، أي: لا يوجد منه غير مجرّد الأكل دون إرسال الصّائد له، وتكون هذه الجملة مقطوعة عمّا قبلها.
ولا يخفى تعسّف هذا وبُعدُه.
وقال ابن القصّار: مجرّد إرسالنا الكلب إمساكٌ علينا، لأنّ الكلب لا نيّة له ، ولا يصحّ منه ميزها، وإنّما يتصيّد بالتّعليم؛ فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميّز ذلك بنيّة من له نيّة. وهو مرسِلُه، فإذا أرسله فقد أمسك عليه ، وإذا لَم يرسله لَم يمسك عليه.
كذا قال: ولا يخفى بعدُه أيضاً ، ومصادمته لسياق الحديث.
وقد قال الجمهور: إنّ معنى قوله {أمسكن عليكم} صِدْن لكم، وقد جعل الشّارع أكله منه علامة على أنّه أمسك لنفسه لا لصاحبه فلا يعدل عن ذلك.
وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة " إن شرب من دمه فلا تأكل ، فإنّه لَم يعلم ما علمته " ، وفي هذا إشارة إلى أنّه إذا شرع في أكله دلَّ على أنّه ليس بمعلمٍ التّعليم المشترط.
ومنها: سلك بعض المالكيّة التّرجيح ، فقال: هذه اللفظة ذكرها الشّعبيّ. ولَم يذكرها همّام، وعارضها حديث أبي ثعلبة.
وهذا ترجيحٌ مردودٌ لِما تقدّم.
وتمسّك بعضهم بالإجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهمّ بأكله فأدرك قبل أن يأكل.
قال: فلو كان أكله منه دالاً على أنّه أمسك على نفسه لكان تناوله بفيه وشروعه في أكله كذلك، ولكن يشترط أن يقف الصّائد حتّى ينظر هل يأكل أو لا؟. والله أعلم.
قوله: (فإني أرمي بالمعراض) بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة. قال الخليل وتبعه جماعة: سهم لا ريش له ولا نصل.
وقال ابن دريدٍ وتبعه ابن سيده: سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمى به اعترض.
وقال الخطّابيّ: المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة.
وقيل: عود رقيق الطّرفين غليظ الوسط وهو المسمّى بالحذافة.
وقيل: خشبة ثقيلة آخرها عصا محدّد رأسها وقد لا يحدّد.
وقوّى هذا الأخيرَ النّوويُّ تبعاً لعياضٍ، وقال القرطبيّ: إنّه المشهور.
وقال ابن التّين: المعراض عصاً في طرفها حديدة يرمي الصّائد بها الصّيد، فما أصاب بحدّه فهو ذكيّ فيؤكل، وما أصاب بغير حدّه فهو وقيذ.
قوله: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكله) وهو بفتح المعجمة والزّاي بعدها قاف. أي: نفذ، يقال: سهم خازق. أي: نافذ.
ويقال: بالسّين المهملة بدل الزّاي، وقيل: الخزق – بالزّاي.
وقيل: تبدل سيناً - الخدش ، ولا يثبت فيه، فإن قيل بالرّاء فهو أن يثقبه.
قوله: (وإن أصابه بعرْضِه، فلا تأكله) في رواية زكرياء عن الشعبي " وما أصاب بعرضه فهو وقيذ " ، وفي رواية ابن أبي السّفر عن الشّعبيّ " بعرضه فقتل فإنّه وقيذ فلا تأكل ".
وقيذ: بالقاف وآخره ذال معجمة وزن عظيم، فعيل بمعنى مفعول، وهو ما قتل بعصاً أو حجر أو ما لا حدّ له، والموقوذة: التي تضرب بالخشبة حتّى تموت.
وحاصله أنّ السّهم وما في معناه إذا أصاب الصّيد بحدّه حلَّ وكانت تلك ذكاته، وإذا أصابه بعرضه لَم يحلّ ، لأنّه في معنى الخشبة الثّقيلة والحجر ونحو ذلك من المثقّل.
وقوله " بعرضه " بفتح العين. أي: بغير طرفه المحدّد، وهو حجّة للجمهور في التّفصيل المذكور.
وعن الأوزاعيّ وغيره من فقهاء الشّام حِلُّ ذلك.
وأخرج البيهقيّ من طريق أبي عامر العقديّ عن زهير - هو ابن محمّد - عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، أنّه كان يقول: المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر ، أنّه كان لا يأكل ما أصابت البندقة.
ولمالكٍ في " الموطّأ " عن نافع: رميت طائرين بحجر فأصبتهما، فأمّا أحدهما فمات ، فطرحه ابن عمر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبيد الله بن عمر عن سالم والقاسم ، أنّهما كانا يكرهان البندقة، إلَّا ما أدركت ذكاته. ولابن أبي شيبة عن مجاهد وإبراهيم نحوه. وعن عطاء عند عبد الرّزّاق نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: إذا رمى الرّجل الصّيد
بالجُلَّاهِقة فلا تأكل، إلَّا أن تدرك ذكاته ".
والجلاهقة - بضمّ الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء بعدها قاف - هي البندقة بالفارسيّة ، والجمع جلاهق.
قوله: (فإن غاب عنك يوماً أو يومين ، وفي روايةٍ: اليومين والثلاثة ، فلم تجد فيه إلَّا أثر سهمك فكل إن شئت) مفهومه أنّه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يأكل.
وهو نظير ما تقدّم في الكلب من التّفصيل فيما إذا خالط الكلب الذي أرسله الصّائد كلب آخر.
لكن التّفصيل في مسألة الكلب فيما إذا شارك الكلبَ في قتله كلبٌ آخر، وهنا الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرّامي أعمّ من أن يكون أثر سهم رامٍ آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة ، فلا يحلّ أكله مع التّردّد.
وقد جاءت فيه زيادة من رواية سعيد بن جبير عن عديّ بن حاتم عند التّرمذيّ والنّسائيّ والطّحاويّ بلفظ " قلت: يا رسولَ الله، إنّا أهل الصّيد ، وإنّ أحدنا يرمي الصّيد فيغيب عنه الليلة والليلتين فيبتغي الأثر فيجده ميّتاً وسهمه فيه؟، قال: إذا وجدتَ سهمك فيه. ولَم تجد به أثر سبع ، وعلمت أنّ سهمك قتله ، فكل منه "
قال الرّافعيّ: يؤخذ منه أنّه لو جرحه ثمّ غاب ثمّ جاء فوجده ميّتاً أنّه لا يحلّ، وهو ظاهر نصّ الشّافعيّ في " المختصر ".
وقال النّوويّ: الحلّ أصحّ دليلاً.
وحكى البيهقيّ في " المعرفة " عن الشّافعيّ ، أنّه قال في قول ابن عبّاس: كل ما أصميت ودع ما أنميت. (1): معنى " ما أصميت ": ما قتله الكلب وأنت تراه، وما " أنميت ": وما غاب عنك مقتله.
قال: وهذا لا يجوز عندي غيره ، إلَّا أن يكون جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيء ، فيسقط كلّ شيء خالف أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا يقوم معه رأي ، ولا قياس.
قال البيهقيّ: وقد ثبت الخبر يعني حديث الباب ، فينبغي أن يكون هو قول الشّافعيّ. انتهى.
ووقع عند مسلم في حديث أبي ثعلبة بسندٍ فيه معاوية بن صالح " إذا رميت سهمك فغاب عنك ، فأدركته فكل ما لَم ينتن " ، وفي لفظ في الذي يدرك الصّيد بعد ثلاث " كُلْه ما لَم ينتن ".
ونحوه عند أبي داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه كما تقدّم التّنبيه عليه قريباً.
فجعل الغاية أن ينتن الصّيد ، فلو وجده مثلاً بعد ثلاث. ولَم ينتن حلَّ، وإن وجده بلونها. وقد أنتن فلا، هذا ظاهر الحديث.
(1) أخرجه عبد الرزاق (4/ 460) وابن أبي شيبة في " المصنف "(4/ 242) والبيهقي في " الكبرى "(9/ 404) من طرق عن ابن عباس به. موقوفاً.
وأخرجه الطبراني في " المعجم الكبير "(12/ 27) عن ابن عبَّاس مرفوعاً. وسنده ضعيف
قال البيهقي: وقد روي هذا من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً. وهو ضعيف.
قال في خلافياته: فيه عثمان الوقاصي وهو ضعيف الحديث لا يُحتجُّ بروايته. قال: والمشهور وقفه على ابن عباس. انتهى من البدر المنير (9/ 261)
وأجاب النّوويّ: بأنّ النّهي عن أكله إذا أنتن للتّنزيه.
واستدل به على أنّ الرّامي لو أخّر الصّيد عقب الرّمي إلى أن يجده أن يحلّ بالشّروط المتقدّمة ، ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غيبته عنه. أكان مع الطّلب أو عدمه.
لكن يستدلّ للطّلب بما وقع في الرّواية الأخيرة حيث قال " فيقتفي أثره "(1) فدلَّ على أنّ الجواب خرج على حسب السّؤال، فاختصر بعض الرّواة السّؤال، فلا يتمسّك فيه بترك الاستفصال.
واختلف في صفة الطّلب:
فعن أبي حنيفة: إن أخّر ساعة فلم يطلب لَم يحلّ، وإن اتّبعه عقب الرّمي فوجده ميّتاً حل.
وعن الشّافعيّة: لا بدّ أن يتبعه.
وفي اشتراط العَدْو وجهان.
أظهرهما: يكفي المشي على عادته حتّى لو أسرع وجده حيّاً حل.
الثاني: قال إمام الحرمين: لا بدّ من الإسراع قليلاً ليتحقّق صورة الطّلب، وعند الحنفيّة: نحو هذا الاختلاف.
قوله: (فإن وجدته غريقاً في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك) يؤخذ سبب منع أكله من الذي قبله، لأنّه حينئذٍ يقع التّردّد هل قتله السّهم أو الغرق في الماء؟.
فلو تحقّق أنّ السّهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلَّا بعد أن قتله
(1) تقدَّم ضمن تخريج حديث الباب.
السّهم فهذا يحلّ أكله.
قال النّوويّ في " شرح مسلم ": إذا وجد الصّيد في الماء غريقاً حرم بالاتّفاق.
وقد صرّح الرّافعيّ: بأنّ محلّه ما لَم ينته الصّيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلاً فقد تمّت زكاته.
ويؤيّده قوله في رواية مسلم " فإنّك لا تدري الماء قتله أو سهمك " فدلَّ على أنّه إذا علم أنّ سهمه هو الذي قتله أنّه يحلّ.
وفي الحديث إباحة الاصطياد للانتفاع بالصّيد للأكل والبيع ، وكذا اللهو، بشرط قصد التّذكية والانتفاع، وكرهه مالك، وخالفه الجمهور.
قال الليث: لا أعلم حقّاً أشبه بباطلٍ منه، فلو لَم يقصد الانتفاع به حرم ، لأنّه من الفساد في الأرض بإتلاف نفسٍ عبثاً.
وينقدح أن يقال: يباح، فإنْ لازمَه وأكثر منه كُره، لأنّه قد يشغله عن بعض الواجبات وكثير من المندوبات.
وأخرج التّرمذيّ من حديث ابن عبّاس رفعه: من سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصّيد غفل.
وله شاهد عن أبي هريرة عند التّرمذيّ أيضاً ، وآخر عند الدّارقطنيّ في " الأفراد " من حديث البراء بن عازب ، وقال: تفرّد به شريك. (1)
(1) ظاهر كلام الشارح رحمه الله. أنَّ حديث البراء غيرُ حديث أبي هريرة ، وليس كذلك. فإنَّ مخرج الحديث متّحد ، اختُلف فيه على الحسن بن الحكم النخعي كما بيَّن هذا الدارقطني في " العلل " رقم (1548) فانظره.
وفيه جواز اقتناء الكلب المُعلَّم للصّيد.
وسيأتي البحث فيه في حديث " من اقتنى كلباً "(1).
واستدل به على جواز بيع كلب الصّيد للإضافة في قوله " كلبك ".
وأجاب من منع: بأنّها إضافة اختصاص.
واستدل به على طهارة سؤر كلب الصّيد دون غيره من الكلاب للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولَم يذكر الغسل ، ولو كان واجباً لبيّنه ، لأنّه وقت الحاجة إلى البيان.
ومن ثَمّ قال مالك: كيف يؤكل صيده. ويكون لعابه نجساً؟!
وأجاب الإسماعيليّ: بأنّ الحديث سيق لتعريف أنّ قتله ذكاته، وليس فيه إثبات نجاسة ولا نفيها.
ويدلّ لذلك: أنّه لَم يقل له اغسل الدّم إذا خرج من جرح نابه؛ لكنّه وكَلَه إلى ما تقرّر عنده من وجوب غسل الدّم، فلعله وكَلَه أيضاً إلى ما تقرّر عنده من غسل ما يماسّه فمه.
وقال ابن المنير: عند الشّافعيّة أنّ السّكّين إذا سُقيتْ بماءٍ نجس وذُبح بها نجّست الذّبيحة، وناب الكلب عندهم نجس العين، وقد وافقونا على أنّ ذكاته شرعيّة لا تنجّس المذكّى.
وتعقّب: بأنّه لا يلزم من الاتّفاق على أنّ الذّبيحة لا تصير نجسة
(1) سيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنه بعد هذا الحديث
بعضّ الكلب ثبوت الإجماع على أنّها لا تصير متنجّسة، فما ألزمهم به من التّناقض ليس بلازمٍ، على أنّ في المسألة عندهم خلافاً، والمشهور وجوب غسل المعضّ.
وقد يتقوّى القول بالعفو ، لأنّه بشدّة الجري يجفّ ريقه فيؤمن معه ما يخشى من إصابة لعابه موضع العضّ.
واستدل بقوله " كل ما أمسك عليك " ، بأنّه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حلَّ. للعموم الذي في قوله " ما أمسك " ، وهذا قول الجمهور.
وقال مالك: لا يحلّ، وهو رواية البويطيّ عن الشّافعيّ.