الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العاشر
388 -
عن ابن عباسٍ رضي الله عنه ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسحْ يدَه حتى يلعقَها، أو يُلعقَها. (1)
قوله: (إذا أكل أحدكم طعاماً) في رواية ابن جريجٍ سمعت عطاء عند مسلم " إذا أكل أحدكم من الطّعام ".
قوله: (فلا يمسح يده) زاد مسلمٌ من طريق سفيان الثّوريّ عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ " فلا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعق أصابعه ".
لكن في صحيح البخاري عن سعيد بن الحارث عن جابر رضي الله عنه ، أنّه سأله عن الوضوء ممّا مسّت النّار؟. فقال: لا. قد كنّا زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك من الطّعام إلَّا قليلاً ، فإذا نحن وجدناه لَم يكن لنا مناديل إلَّا أكفّنا وسواعدنا وأقدامنا ، ثمّ نُصلّي ولا نتوضّأ ".
وهو صريح في أنّهم لَم يكن لهم مناديل، ومفهومه يدلّ على أنّهم لو كانت لهم مناديل لَمسحوا بها.
فيحمل حديث النّهي على من وجد ، ولا مفهوم له ، بل الحكم كذلك لو مسح بغير المنديل.
وأخرج ابن أبي شيبة من رواية أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه بلفظ " إذا
(1) أخرجه البخاري (5140) ومسلم (2031) من طريق عمرو بن دينار ، ومسلم (2031) من طريق ابن جريج كلاهما عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه.
طعم أحدكم فلا يمسح يده حتّى يمصّها ".
وذكر القفّال في " محاسن الشّريعة ": أنّ المراد بالمنديل هنا المنديل المعدّ لإزالة الزّهومة، لا المنديل المعدّ للمسح بعد الغسل.
وفي حديث كعب بن مالك عند مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها.
فيحتمل: أن يكون أطلق على الأصابع اليد.
ويحتمل: وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكفّ كلّها ، فيشمل الحكم من أكل بكفّه كلّها أو بأصابعه فقط أو ببعضها.
وقال ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ ": يدلّ على الأكل بالكفّ كلّها أنّه صلى الله عليه وسلم كان يتعرّق العظم وينهش اللحم، ولا يمكن ذلك عادة إلَّا بالكفّ كلّها.
وقال شيخنا: فيه نظرٌ ، لأنّه يمكن بالثّلاث، سلّمنا ، لكن هو ممسك بكفّه كلّها لا آكل بها، سلّمنا ، لكن محلّ الضّرورة لا يدلّ على عموم الأحوال.
ويؤخذ من حديث كعب بن مالك ، أنّ السّنّة الأكل بثلاث أصابع ، وإن كان الأكل بأكثر منها جائزاً، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد ، أنّه رأى ابن عبّاس إذا أكل لعق أصابعه الثّلاث.
قال عياض: والأكل بأكثر منها من الشّره وسوء الأدب وتكبير اللّقمة، ولأنّه غير مضطرٍّ إلى ذلك لجمعه اللّقمة وإمساكها من
جهاتها الثّلاث، فإن اضطرّ إلى ذلك لخفّة الطّعام وعدم تلفيفه بالثّلاث فيدعمه بالرّابعة أو الخامسة.
وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل ، أكل بخمسٍ.
فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال.
قوله: (حتّى يَلعقها) بفتح أوّله من الثّلاثيّ. أي: يلعقها هو
قوله: (أو يُلعقها) بضمّ أوّله من الرّباعيّ. أي: يلعقها غيره.
قال النّوويّ: المراد إِلْعاق غيره ممّن لا يتقذّر ذلك من زوجة وجارية وخادم وولد، وكذا من كان في معناهم كتلميذٍ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها.
وقال البيهقيّ: إنّ قوله " أو " شكّ من الرّاوي، ثمّ قال: فإن كانا جميعاً محفوظين ، فإنّما أراد أن يلعقها صغيراً ، أو من يعلم أنّه لا يتقدّر بها.
ويحتمل: أن يكون أراد أن يلعق إصبعه فمه ، فيكون بمعنى يلعقها، يعني فتكون " أو " للشّكّ.
قال ابن دقيق العيد: جاءت عِلَّة هذا مبيّنة في بعض الرّوايات فإنّه " لا يدري في أيّ طعامه البركة " وقد يعلّل بأنّ مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لِما يمسح به مع الاستغناء عنه بالرّيق، لكن إذا صحّ الحديث بالتّعليل لَم يُعدل عنه.
قلت: الحديث صحيح أخرجه مسلم في آخر حديث جابر ، ولفظه
من حديث جابر: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما أصابها من أذىً وليأكلها، ولا يمسح يده حتّى يلعقها أو يلعقها، فإنّه لا يدري في أيّ طعامه البركة. زاد فيه النّسائيّ من هذا الوجه " ولا يرفع الصّحفة حتّى يلعقها أو يلعقها ".
ولأحمد من حديث ابن عمر نحوه بسندٍ صحيح، وللطّبرانيّ من حديث أبي سعيد نحوه بلفظ " فإنّه لا يدري في أيّ طعامه يبارك له " ، ولمسلمٍ نحوه من حديث أنس ، ومن حديث أبي هريرة أيضاً.
والعلَّة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشّيخ، فقد يكون للحكم علتان فأكثر، والتّنصيص على واحدة لا ينفي غيرها.
وقد أبدى عياض عِلَّة أخرى فقال: إنّما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطّعام.
قال النّوويّ: معنى قوله " في أيّ طعامه البركة ": أنّ الطّعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أنّ تلك البركة فيما أكل ، أو فيما بقي على أصابعه ، أو فيما بقي في أسفل القصعة ، أو في اللّقمة السّاقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كلّه لتحصيل البركة. انتهى.
وقد وقع لمسلم في رواية أبي سفيان عن جابر أوّل الحديث " إنّ الشّيطان يحضر أحدكم عند كلّ شيء من شأنه، حتّى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللّقمة فليمط ما كان بها من أذىً ، ثمّ ليأكلها ولا يدعها للشّيطان " ، وله نحوه في حديث أنس ، وزاد " وأمر بأن تُسلت القصعة ".
قال الخطّابيّ: السَّلت تتبُّع ما بقي فيها من الطّعام.
قال النّوويّ: والمراد بالبركة ما تحصل به التّغذية ، وتسلم عاقبته من الأذى ، ويقوّي على الطّاعة ، والعلم عند الله.
وفي الحديث ردّ على من كره لعق الأصابع استقذاراً.
نعم. يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل ، لأنّه يعيد أصابعه في الطّعام ، وعليها أثر ريقه.
قال الخطّابيّ: عاب قوم أفسد عقلهم التّرفّه ، فزعموا أنّ لعق الأصابع مستقبح، كأنّهم لَم يعلموا أنّ الطّعام الذي علق بالأصابع أو الصّحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لَم يكن سائر أجزائه مستقذراً لَم يكن الجزء اليسير منه مستقذراً، وليس في ذلك أكبر من مصّه أصابعه بباطن شفتيه. ولا يشكّ عاقل في أن لا بأس بذلك، فقد يمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه ، ثمّ لَم يقل أحدٌ إنّ ذلك قذارة أو سوء أدب.
وفيه استحباب مسح اليد بعد الطّعام.
قال عياض: محلّه فيما لَم يحتج فيه إلى الغسل ممّا ليس فيه غمرٌ ولزوجةٌ ممّا لا يذهبه إلَّا الغسل، لِمَا جاء في الحديث من التّرغيب في غسله والحذر من تركه.
كذا قال ، وحديث الباب يقتضي منع الغسل والمسح بغير لعق ، لأنّه صريح في الأمر باللعق دونهما تحصيلاً للبركة.
نعم. قد يتعيّن النّدب إلى الغسل بعد اللعق لإزالة الرّائحة، وعليه
يحمل الحديث الذي أشار إليه، وقد أخرجه أبو داود بسندٍ صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة رفعه: من بات وفي يده غَمْرٌ ولَم يغسله فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلَّا نفسه. أخرجه التّرمذيّ دون قوله " ولَم يغسله ".
وفيه المحافظة على عدم إهمال شيء من فضل الله كالمأكول أو المشروب ، وإن كان تافهاً حقيراً في العرف.
تكملةٌ: وقع في حديث كعب بن عُجْرة عند الطّبرانيّ في " الأوسط " صفة لعق الأصابع ، ولفظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثّلاث: بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثمّ رأيته يلعق أصابعه الثّلاث قبل أن يمسحها: الوسطى، ثمّ التي تليها، ثمّ الإبهام.
قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": كأنّ السّرّ فيه ، أنّ الوسطى أكثر تلويثاً ، لأنّها أطول فيبقى فيها من الطّعام أكثر من غيرها، ولأنّها لطولها أوّل ما تنزل في الطّعام.
ويحتمل: أنّ الذي يلعق يكون بطن كفّه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى انتقل إلى السّبّابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام، والله أعلم.