الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس عشر
393 -
عن رافع بن خديجٍ رضي الله عنه ، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُلَيفة من تِهامة، فأصاب الناسَ جوعٌ، فأصابوا إبلاً وغنماً، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في أُخريات القوم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت، ثم قسم، فعدل عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فندّ منها بعيرٌ فطلبوه، فأعياهم، وكان في القوم خيلٌ يسيرةٌ، فأهوى رجل منهم بسهمٍ، فحَبَسه الله، فقال: إنَّ لهذه البهائم أوابدَ كأوابد الوحش، فما ندّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا ، قال: قلت يا رسولَ الله. إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مُدىً، أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أَنْهر الدّم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السّنّ والظفر، وسأحدّثكم عن ذلك، أما السّنّ فعظمٌ، وأما الظفر فمُدَى الحبشة. (1)
قوله: (كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة) ذو الحليفة: هذا مكان غير ميقات المدينة، لأنّ الميقات في طريق الذّاهب من المدينة ومن الشّام إلى مكّة، وهذه بالقرب من ذات عرق بين الطّائف ومكّة، كذا جزم به أبو بكر الحازميّ وياقوت.
ووقع للقابسيّ: أنّها الميقات المشهور ، وكذا ذكر النّوويّ. قالوا:
(1) أخرجه البخاري (2488 ، 2372، 2910، 5179، 5184، 5187، 5190، 5223، 5224) ومسلم (1968) من طرق عن سعيد بن مسروق الثوري عن عباية بن رفاعة بن رافع عن جده رافع بن خديج رضي الله عنه.
وكان ذلك عند رجوعهم من الطّائف سنة ثمانٍ.
وتهامة: اسم لكل ما نزل من بلاد الحجاز.
سُمِّيت بذلك: من التّهم - بفتح المثنّاة والهاء - وهو شدّة الحرّ وركود الرّيح ، وقيل: تغيّر الهواء.
قوله: (فأصاب النّاسَ جوعٌ) كأنّ الصّحابيّ قال هذا ممهّداً لعذرهم في ذبحهم الإبل والغنم التي أصابوا.
قوله: (فأصبنا إبلاً وغنماً) في رواية أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق. (1)
عن عباية عند البخاري " وتقدّم سرعان النّاس ، فأصابوا من المغانم " ، ووقع في رواية الثّوريّ عن أبيه. في الصحيحين " فأصبنا نهب إبل وغنم ".
قوله: (وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أُخريات النّاس) أخريات جمع أخرى. وفي رواية أبي الأحوص " في آخر النّاس ".
وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك صوناً للعسكر وحفظاً، لأنّه لو تقدّمهم لَخَشِى أن ينقطع الضّعيف منهم دونه، وكان حرصهم على مرافقته شديداً فيلزم من سيره في مقام السّاقة صون الضّعفاء لوجود من يتأخّر معه قصداً من الأقوياء.
قوله: (فعجِلوا وذبحوا ونصبوا القدور) يعني من الجوع الذي كان بهم، فاستعجلوا فذبحوا الذي غنموه ووضعوه في القدور.
(1) الثوري. والد سفيان. قال الشارح: ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه.
ووقع في رواية داود بن عيسى عن سعيد بن مسروق في البخاري " فانطلق ناسٌ من سرعان النّاس فذبحوا ونصبوا قدورهم ، قبل أن يُقسَم " ، وفي رواية الثّوريّ " فأغلوا القدور "، أي: أوقدوا النّار تحتها حتّى غلت.
وفي رواية زائدة عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عند أبي نعيم في " المستخرج على مسلم " وساق مُسلم إسنادها " فعجّل أوّلهم فذبحوا ونصبوا القدور ".
قوله: (فأمر بالقدور) وللبخاري " فدفع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم فأمر .. " دفع - بضمّ أوّله - على البناء للمجهول، والمعنى أنّه وصل إليهم.
ووقع في رواية زائدة عن سعيد بن مسروق " فانتهى إليهم " أخرجه الطّبرانيّ.
قوله: (فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت) بضمّ الهمزة وسكون الكاف. أي: قلبت وأفرغ ما فيها.
وقد اختلف في هذا المكان في شيئين:
أحدهما: سبب الإراقة
الثّاني: هل أتلف اللحم أم لا؟
فأمّا الأوّل: فقال عياض: كانوا انتهوا إلى دار الإسلام والمحلّ الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلَّا بعد القسمة، وأنّ محلّ جواز ذلك قبل القسمة إنّما هو ما داموا في دار الحرب.
قال: ويحتمل أنّ سبب ذلك كونهم انتهبوها، ولَم يأخذوها
باعتدالٍ وعلى قدر الحاجة.
قال: وقد وقع في حديث آخر ما يدلّ لذلك.
يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه - وله صحبة - عن رجلٍ من الأنصار ، قال: أصاب النّاسَ مجاعةٌ شديدةٌ وجهدٌ ، فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإنّ قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثمّ جعل يرمّل اللحم بالتّراب، ثمّ قال: إنّ النّهبة ليست بأحلّ من الميتة.
وهذا يدلّ على أنّه عاملهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم كما عومل القاتل بمنع الميراث.
وقال المُهلَّب: إنّما أكفأ القدور ليعلم أنّ الغنيمة إنّما يستحقّونها بعد قسمته لها ، وذلك أنّ القصّة وقعت في دار الإسلام ، لقوله فيها {بذي الحليفة} .
وأجاب ابن المنير: بأنّه قد قيل: إنّ الذّبح إذا كان على طريق التّعدّي كان المذبوح ميتةً ، وكأنّ البخاريّ انتصر لهذا المذهب (1)، أو حمل الإكفاء على العقوبة بالمال ، وإن كان ذلك المال لا يختصّ بأولئك الذين ذبحوا ، لكن لَمَّا تعلق به طمعهم كانت النّكاية حاصلة لهم.
قال: وإذا جوّزنا هذا النّوع من العقوبة فعقوبة صاحب المال في
(1) بوَّب عليه البخاري في كتاب الذبائح والصيد (باب إذا أصاب قوم غنيمة، فذبح بعضهم غنماً أو إبلاً، بغير أمر أصحابهم، لَم تؤكل لحديث رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم)
قال الحافظ في " الفتح ": هذا مصيرٌ من البخاري أنَّ سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة كونها لَم تُقسم.
ماله أولى، ومن ثَمّ قال مالك: يراق اللبن المغشوش ولا يترك لصاحبه ، وإن زعم أنّه ينتفع به بغير البيع أدباً له. انتهى.
وأمّا الثّاني: فقال النّوويّ: المأمور به من إراقة القدور إنّما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأمّا اللحم فلم يتلفوه ، بل يحمل على أنّه جمع وردّ إلى المغنم، ولا يظنّ أنّه أمر بإتلافه مع أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ، وهذا من مال الغانمين.
وأيضاً فالجناية بطبخه لَم تقع من جميع مستحقّي الغنيمة ، فإنّ منهم من لَم يطبخ ، ومنهم المستحقّون للخمس ، فإن قيل: لَم ينقل أنّهم حملوا اللحم إلى المغنم ، قلنا: ولَم ينقل أنّهم أحرقوه أو أتلفوه، فيجب تأويله على وفق القواعد. انتهى.
ويردّ عليه حديث أبي داود ، فإنّه جيّد الإسناد ، وترك تسمية الصّحابيّ لا يضرّ، ورجال الإسناد على شرط مسلم.
ولا يقال لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه لإمكان تداركه بالغسل، لأنّ السّياق يشعر بأنّه أريد المبالغة في الزّجر عن ذلك الفعل، فلو كان بصدد أن ينتفع به بعد ذلك لَم يكن فيه كبير زجر، لأنّ الذي يخصّ الواحد منهم نزر يسير ، فكان إفسادها عليهم مع تعلّق قلوبهم بها وحاجتهم إليها وشهوتهم لها أبلغ في الزّجر.
وأبعدَ المُهلَّب فقال: إنّما عاقبهم لأنّهم استعجلوا وتركوه في آخر القوم متعرّضاً لمن يقصده من عدوّ ونحوه.
وتعقّب: بأنّه صلى الله عليه وسلم كان مختاراً لذلك كما تقدّم تقريره، ولا معنى
للحمل على الظّنّ مع ورود النّصّ بالسّبب.
وقال الإسماعيليّ: أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور.
يجوز: أن يكون من أجل أنّ ذبح من لا يملك الشّيء كلّه لا يكون مذكّياً.
ويجوز: أن يكون من أجل أنّهم تعجّلوا إلى الاختصاص بالشّيء دون بقيّة من يستحقّه من قبل أن يقسم ويخرج منه الخمس، فعاقبهم بالمنع من تناول ما سبقوا إليه زجراً لهم عن معاودة مثله.
ثمّ رجّح الثّاني وزيّف الأوّل ، بأنّه لو كان كذلك ، لَم يحلّ أكل البعير النّادّ الذي رماه أحدهم بسهمٍ، إذ لَم يأذن لهم الكلّ في رميه، مع أنّ رميه ذكاة له كما نصّ عليه في نفس حديث الباب. انتهى ملخّصاً.
وقد جنح البخاريّ إلى المعنى الأوّل.
ويمكن الجواب عمّا ألزمه به الإسماعيليّ من قصّة البعير: بأن يكون الرّامي رمى بحضرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والجماعة فأقرّوه، فدلَّ سكوتهم على رضاهم بخلاف ما ذبحه أولئك قبل أن يأتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه، فافترقا. والله أعلم.
قوله: (ثمّ قسم فعدل عشرة من الغنم ببعيرٍ) في رواية [أبي الأحوص " وقسم بينهم وعدل بعيراً بعشر شياهٍ "](1) وهذا محمولٌ
(1) مابين القوسين بياض بالأصل ، ولعلَّ الشارح أراد رواية أبي الأحوص ، فقد ذكرها عدة مرّات في الشرح.
على أنّ هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعلَّ الإبل كانت قليلة أو نفيسة ، والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه.
ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحيّ من أنّ البعير يجزئ عن سبع شياه، لأنّ ذلك هو الغالب في قيمة الشّاة والبعير المعتدلين.
وأمّا هذه القسمة فكانت واقعة عين ، فيحتمل أن يكون التّعديل لِمَا ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر عند مسلم. صريح في الحكم حيث قال فيه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر ، كلّ سبعة منّا في بدنة.
والبدنة تطلق على النّاقة والبقرة.
وأمّا حديث ابن عبّاس: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى ، فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة. فحسّنه التّرمذيّ. وصحَّحه ابن حبّان ، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا.
والذي يتحرّر في هذا: أنّ الأصل أنّ البعير بسبعةٍ ما لَم يعرض عارض من نفاسة ونحوها ، فيتغيّر الحكم بحسب ذلك.
وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك.
ثمّ الذي يظهر من القسمة المذكورة ، أنّها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم التي كانوا غنموها.
ويحتمل: - إن كانت الواقعة تعدّدت - أن تكون القصّة التي ذكرها ابن عبّاس أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطّبخ ، والقصّة التي في حديث رافع. طبخت الشّياه صحاحاً مثلاً ، فلمّا أريق مرقها
ضمّت إلى المغنم لتقسم ثمّ يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النّكتة في انحطاط قيمة الشّياه عن العادة. والله أعلم.
قوله: (فندّ) بفتح النّون وتشديد الدّال. أي: هرب نافراً.
قوله: (منها) أي: من الإبل المقسومة.
قوله: (وكان في القوم خيل يسيرة) فيه تمهيد لعذرهم في كون البعير الذي ندّ أتعبهم ولَم يقدروا على تحصيله، فكأنّه يقول: لو كان فيهم خيول كثيرة لأمكنهم أن يحيطوا به فيأخذوه.
ووقع في رواية أبي الأحوص " ولَم يكن معهم خيل " أي: كثيرة أو شديدة الجري، فيكون النّفي لصفةٍ في الخيل لا لأصل الخيل جمعاً بين الرّوايتين.
قوله: (فأهوى إليه رجل) في رواية أبي عوانة " فطلبوه فأعياهم ، فأهوى إليه رجلٌ " أي: أتعبهم ولَم يقدروا على تحصيله. فقصد نحوه ورماه.
ولَم أقف على اسم هذا الرّامي.
قوله: (فحبسه الله) أي: أصابه السّهم فوقف.
قوله: (إنّ لهذه البهائم) في رواية الثّوريّ وشعبة عن سعيد عند البخاري " إنّ لهذه الإبل ".
قال بعض شرّاح المصابيح: هذه " اللام " تفيد معنى " من " لأنّ البعضيّة تستفاد من اسم إنّ ، لكونه نكرة.
قوله: (أوابد كأوابد الوحش) جمع آبدة بالمدّ وكسر الموحّدة. أي
: غريبة، يقال جاء فلان بآبدةٍ. أي: بكلمةٍ أو فعلة منفّرة، يقال: أبدت بفتح الموحّدة تأبد بضمّها. ويجوز الكسر أبوداً.
ويقال: تأبّدت. أي: توحّشت، والمراد: أنّ لها توحّشاً.
والظّاهر. أنّ تقديم ذكر هذا التّشبيه ، كالتّمهيد لكونها تشارك المتوحّش في الحكم
وقال ابن المنيّر: بل المراد أنّها تنفر كما ينفر الوحش ، لا أنّها تعطى حكمها.
كذا قال، وآخر الحديث يردّ عليه.
قوله: (فما ندّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا) في رواية الثّوريّ " فما غلبكم منها " ، وفي رواية أبي الأحوص " فما فعل منها هذا فافعلوا مثل هذا ".
زاد عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه " فاصنعوا به ذلك. وكلوه ". أخرجه الطّبرانيّ.
وفيه جواز أكل ما رُمي بالسّهم فجرح في أيّ موضع كان من جسده، بشرط أن يكون وحشيّاً أو متوحّشاً.
وأخرج البيهقيّ من طريق أبي العميس عن غضبان بن يزيد البجليّ عن أبيه قال: أعرس رجلٌ من الحيّ ، فاشترى جزوراً فندّت فعرقبها وذكر اسم الله، فأمرهم عبد الله - يعني ابن مسعود - أن يأكلوا، فما طابت أنفسهم حتّى جعلوا له منها بضعة ، ثمّ أتوه بها فأكل.
وروى ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: ما
أعجزك من البهائم ممّا في يديك فهو بمنزلة الصّيد.
ورأى ذلك عليّ وابن عمر وعائشة. حكاه البخاري ، وقد نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور.
وخالفهم مالك والليث، ونُقل أيضاً عن سعيد بن المسيّب وربيعة ، فقالوا: لا يحلّ أكل الإنسيّ إذا توحّش إلَّا بتذكيته في حلقه أو لبّته.
وحجّة الجمهور. حديث رافع.
قوله: (يا رسولَ الله: إنا لاقوا العدو غداً) في رواية أبي عوانة عن سعيد " إنّا لنرجو أو نخاف أن نلقى العدو .. " هو شكٌّ من الرّاوي.
وفي التّعبير بالرّجاء إشارة إلى حرصهم على لقاء العدوّ لِمَا يرجونه من فضل الشّهادة أو الغنيمة، وبالخوف إشارة إلى أنّهم لا يحبّون أن يهجم عليهم العدوّ بغتة.
ووقع في رواية أبي الأحوص " إنّا نلقى العدوّ غداً " بالجزم، ولعله عرف ذلك بخبر مَن صدّقه أو بالقرائن.
وفي رواية يزيد بن هارون عن الثّوريّ عند أبي نعيم في المستخرج على مسلم " إنّا نلقى العدوّ غداً ، وإنّا نرجو " ، كذا بحذف متعلق الرّجاء، ولعل مراده الغنيمة.
قوله: (وليست معنا مُدىً) بضمّ أوّله - مخفّف مقصور - جمع مدية بسكون الدّال بعدها تحتانيّة. وهي السّكّين، سُمّيت بذلك ، لأنّها تقطع مدى الحيوان. أي: عمره.
والرّابط بين قوله " نلقى العدوّ " و " وليست معنا مدىً ".
يحتمل: أن يكون مراده ، أنّهم إذا لقوا العدوّ صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه.
ويحتمل: أن يكون مراده ، أنّهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقوّوا به على العدوّ إذا لقوه.
ويؤيّده ما تقدّم من قسمة الغنم والإبل بينهم فكان معهم ما يذبحونه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم ، لئلا يضرّ ذلك بحدّها والحاجة ماسة له. فسأل عن الذي يجزئ في الذّبح غير السّكّين والسّيف، وهذا وجه الحصر في المدية والقصب ونحوه ، مع إمكان ما في معنى المدية وهو السّيف.
وقد وقع في حديث غير هذا " إنّكم لاقو العدوّ غداً ، والفطر أقوى لكم "(1) ، فندبهم إلى الفطر ليتقوّوا.
قوله: (أفنذبح بالقصب؟) في رواية حبيب بن حبيب عن سعيد بن مسروق عند الطّبرانيّ " أفنذبح بالقصب والمروة؟ " وفي رواية ليث بن أبي سليم عن عباية " أنذبح بالمروة وشقّة العصا؟ ".
ووقع ذكر الذّبح بالمروة في حديث أخرجه أحمد والنّسائيّ والتّرمذيّ وابن ماجه من طريق الشّعبيّ عن محمّد بن صفوان، وفي رواية عن محمّد بن صيفيّ قال: ذبحت أرنبين بمروة، فأمرني النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأكلهما. وصحَّحه ابن حبّان والحاكم.
والمروة حجر أبيض، وقيل: هو الذي يقدح منه النّار.
(1) أخرجه مسلم (1888) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرج الطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث حذيفة رفعه: اذبحوا بكل شيء فَرَى الأوداج (1) ما خلا السّنّ والظّفر.
وفي سنده عبد الله بن خراش مختلف فيه، وله شاهد من حديث أبي أُمامة نحوه.
والأشهر في رواية غير مَن ذكر " أفنذبح بالقصب "؟.
وقوله " وليست معنا مدىً " فيه إشارة إلى أنّ الذّبح بالحديد كان مقرّراً عندهم جوازه، والمراد بالسّؤال عن الذّبح بالمروة جنس الأحجار لا خصوص المروة.
وفي البخاري من حديث كعب بن مالك ، أنّ جاريةً ترعى غنماً له بالْجُبيل - الذي بالسّوق ، وهو بسلعٍ - فأُصيبت شاةٌ ، فكسرتْ حجراً فذبحتْها به ، فذكروا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بأكلها. وفيه التّنصيص على الذّبح بالحجر.
قوله: (ما أنهر الدّم) أي: أساله وصبّه بكثرة، شبّه بجري الماء في النّهر.
قال عياض: هذا هو المشهور في الرّوايات بالرّاء، وذكره أبو ذرّ الخشنيّ بالزّاي. وقال: النّهز بمعنى الرّفع ، وهو غريب.
و" ما " موصولة في موضع رفع بالابتداء ، وخبرها " فكلوا " ، والتّقدير ما أنهر الدّم فهو حلال فكلوا.
ويحتمل: أن تكون شرطيّة.
(1) تقدَّم الكلام عليهما. انظر حديث أسماء رضي الله عنها (381).
ووقع في رواية محمد بن إسحاق (1) عن الثّوريّ " كل ما أنهر الدّم ذكاة " و " ما " في هذا موصولة.
قوله: (وذكر اسم الله عليه) فيه اشتراط التّسمية، لأنّه علَّق الإذن بمجموع الأمرين وهما الإِنهار والتّسمية، والمُعلَّق على شيئين لا يُكتفى فيه إلَّا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما.
وقد تقدّم البحث في اشتراط التّسمية (2)
قوله: (ليس السّنّ والظّفر) بالنّصب على الاستثناء بليس.
ويجوز الرّفع. أي ليس السّنّ والظّفر مباحاً أو مجزئاً.
ووقع في رواية أبي الأحوص " ما لَم يكن سنّ أو ظفر " وفي رواية عمر بن عبيد " غير السّنّ والظّفر "، وفي رواية داود بن عيسى " إلَّا سنّاً أو ظفراً ".
قوله: (وسأحدّثكم عن ذلك) جزم النّوويّ: بأنّه من جملة المرفوع ، وهو من كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو الظّاهر من السّياق.
وجزم أبو الحسن بن القطّان في " كتاب بيان الوهم والإيهام ": بأنّه مُدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر.
وذكر ما حاصله ، أنّ أكثر الرّواة عن سعيد بن مسروق أوردوه على ظاهر الرّفع، وأنّ أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله. أو ظفر ،
(1) وقع في المطبوع من الفتح (أبي إسحاق عن سفيان) وهو خطأ ، والصواب ما أثبتّه. كذا أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه "(6114) والطبراني في " الكبير "(4/ 362) من طريق محمد بن إسحاق عن سفيان الثوري به.
(2)
في حديث أبي ثعلبة برقم (389) قبل حديثين.
قال رافع: وسأحدّثكم عن ذلك. ونسبَ (1) ذلك لرواية أبي داود.
وهو عجيب ، فإنّ أبا داود أخرجه عن مسدّد عن أبي الأحوص ، وليس في شيء من نسخ السّنن قوله " قال: رافع " وإنّما فيه كما عند البخاري بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدّد. هو شيخ البخاريّ فيه هنا.
وقد أورده البخاريّ في الباب الذي بعده بلفظ " غير السّنّ والظّفر ، فإنّ السّنّ عظم .. إلخ " وهو ظاهر جدّاً في أنّ الجميع مرفوع.
قوله: (أمّا السّنّ فعظم) قال البيضاويّ: هو قياس حذفت منه المقدّمة الثّانية لشهرتها عندهم، والتّقدير أمّا السّنّ فعظم، وكلّ عظم لا يحلّ الذّبح به، وطوى النّتيجة لدلالة الاستثناء عليها.
وقال ابن الصّلاح في " مشكل الوسيط ": هذا يدلّ على أنّه صلى الله عليه وسلم كان قد قرّر كون الذّكاة لا تحصل بالعظم ، فلذلك اقتصر على قوله " فعظم ".
قال: ولَم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذّبح بالعظم معنىً يعقل، وكذا وقع في كلام ابن عبد السّلام.
وقال النّوويّ: معنى الحديث: لا تذبحوا بالعظام ، فإنّها تنجّس بالدّم ، وقد نهيتكم عن تنجيسها ، لأنّها زاد إخوانكم من الجنّ.
(1) في مطبوع الفتح (9/ 831)" نسبت " بزيادة التاء ، والظاهر أنها خطأ ، والصواب ما أثبتُّه ، وعليه فمقصود الشارح أنَّ ابن القطان نسَبَ هذه الرواية لأبي داود ، وهو كذلك كما في كتابه " الوهم والإيهام "(2/ 291)
انتهى.
وهو محتمل ، ولا يقال كان يمكن تطهيرها بعد الذّبح بها ، لأنّ الاستنجاء بها كذلك، وقد تقرّر أنّه لا يجزئ.
وقال ابن الجوزيّ في " المشكل ": هذا يدلّ على أنّ الذّبح بالعظم كان معهوداً عندهم أنّه لا يجزئ، وقرّرهم الشّارع على ذلك ، وأشار إليه هنا.
قلت: وتقدّم من حديث حذيفة ما يصلح أن يكون مستنداً لذلك إن ثبت.
قوله: (وأمّا الظّفر: فمُدى الحبشة) أي: وهم كفّار وقد نُهيتم عن التّشبّه بهم، قاله ابن الصّلاح ، وتبعه النّوويّ.
وقيل: نهى عنهما ، لأنّ الذّبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالباً إلَّا الخنق الذي ليس هو على صورة الذّبح، وقد قالوا: إنّ الحبشة تدمي مذابح الشّاة بالظّفر حتّى تزهق نفسها خنقاً.
واعترض على التّعليل الأوّل: بأنّه لو كان كذلك لامتنع الذّبح بالسّكّين وسائر ما يذبح به الكفّار.
وأجيب: بأنّ الذّبح بالسّكّين هو الأصل ، وأمّا ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التّشبيه لضعفها، ومن ثَمّ كانوا يسألون عن جواز الذّبح بغير السّكّين وشبهها كما تقدّم واضحاً.
ثمّ وجدت في " المعرفة للبيهقيّ " من رواية حرملة عن الشّافعيّ: أنّه حمل الظّفر في هذا الحديث على النّوع الذي يدخل في البخور ،
فقال: معقول في الحديث أنّ السّنّ إنّما يذكّى بها إذا كانت منتزعة، فأمّا وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة، يعني فدلَّ على أنّ المراد بالسّنّ ، السّنّ المنتزعة ، وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفيّة من جوازه بالسّنّ المنفصلة.
قال: وأمّا الظّفر فلو كان المراد به ظفر الإنسان ، لقال فيه ما قال في السّنّ، لكن الظّاهر أنّه أراد به الظّفر الذي هو طِيبٌ من بلاد الحبشة ، وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم.
تحريم التّصرّف في الأموال المشتركة من غير إذن ولو قلَّت ولو وقع الاحتياج إليها.
وفيه انقياد الصّحابة لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى في ترك ما بهم إليه الحاجة الشّديدة.
وفيه أنّ للإمام عقوبة الرّعيّة بما فيه إتلاف منفعة ونحوها إذا غلبت المصلحة الشّرعيّة، وأنّ قسمة الغنيمة يجوز فيها التّعديل والتّقويم، ولا يشترط قسمة كلّ شيء منها على حدة.
وأنّ ما توحّش من المستأنس يعطى حكم المتوحّش وبالعكس، وجواز الذّبح بما يحصّل المقصود. سواء كان حديداً أم لا.
وجواز عقر الحيوان النّادّ لمن عجَزَ عن ذبحه كالصّيد البرّيّ والمتوحّش من الإنسيّ ، ويكون جميع أجزائه مذبحاً فإذا أصيب فمات من الإصابة حلَّ.
أمّا المقدور عليه فلا يباح إلَّا بالذّبح أو النّحر إجماعاً. وفيه التّنبيه على أنّ تحريم الميتة لبقاء دمها فيها.
وفيه منع الذّبح بالسّنّ والظّفر متّصلاً كان أو منفصلاً ، طاهراً كان أو متنجّساً.
وفرّق الحنفيّة: بين السّنّ والظّفر المتّصلين. فخصّوا المنع بهما وأجازوه بالمنفصلين، وفرّقوا بأنّ المتّصل يصير في معنى الخنق والمنفصل في معنى الحجر.
وجزم ابن دقيق العيد: بحمل الحديث على المُتّصلَين.
ثمّ قال: واستدل به قوم على منع الذّبح بالعظم مطلقاً لقوله " أمّا السّنّ فعظم " ، فعلَّل منع الذّبح به لكونه عظماً، والحكم يعمّ بعموم علته، وقد جاء عن مالك في هذه المسألة أربع روايات.
ثالثها: يجوز بالعظم دون السّنّ مطلقاً.
رابعها: يجوز بهما مطلقاً. حكاها ابن المنذر.
وحكى الطّحاويّ الجواز مطلقاً عن قوم. واحتجّوا بقوله في حديث عديّ بن حاتم: أَمِرَّ الدّم بما شئت. أخرجه أبو داود. لكن عمومه مخصوص بالنّهي الوارد صحيحاً في حديث رافع عملاً بالحديثين.
وسلك الطّحاويّ طريقاً آخر: فاحتجّ لمذهبه بعموم حديث عديّ.
قال: والاستثناء في حديث رافع يقتضي تخصيص هذا العموم،
لكنّه في المنزوعين (1) غير محقّق وفي غير المنزوعين محقّق من حيث النّظر، وأيضاً فالذّبح بالمتّصلين يشبه الخنق وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة من حجر وخشب. والله أعلم.
تكميل: ذكر البخاري معلَّقاً (2). ووصله سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنه قال: الذكاة في الحلق واللبة، وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه سفيان الثوري في " جامعه " عن عمر مثله، وجاء مرفوعاً من وجهٍ واهٍ.
واللبَّة - بفتح اللام وتشديد الموحدة - هي موضع القلادة من الصدر ، وهي المنحر.
وكأنَّ البخاريَّ لَمَحَ بضعف الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من رواية حماد بن سلمة عن أبي المعشر الدارمي عن أبيه. قال: قلت يا رسول الله. ما تكون الذكاة إلَّا في الحلق واللّبة؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزأك.
لكن من قوَّاه حمله على الوحش والمتوحّش.
(1) أي: السن والظفر إذا نُزعا من الإنسان.
(2)
كتاب الذبائح والصيد ، باب النحر والذبح. ثم ذكر البخاري آثاراً تدلُّ على جواز نحر ما يُذبح. والعكس. انظر ما تقدَّم. ص 217.