الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع عشر
392 -
عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اقتنى كلباً إلَّا كلب صيدٍ، أو ماشيةٍ فإنه ينقص من أجره كل يومٍ قيراطان.
قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرثٍ ، وكان صاحب حرثٍ. (1)
قوله: (عن سالم بن عبد الله بن عمر) أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة.
قوله: (من اقتنى) يقال: اقتنى الشّيء إذا اتّخذه للادّخار ، والاقتناء بالقاف افتعال من القنية بالكسر، وهي الاتّخاذ.
وللشيخين من طريق يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة " من أمسك كلباً فإنّه ينقص كل يومٍ من عمله قيراطٌ ". ورواية الباب مفسّرة للإمساك في هذه الرّواية.
ورواه أحمد ومسلم من طريق الزّهريّ عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " من اتّخذ كلباً إلَّا كلب صيد أو زرع أو ماشية ".
وأخرجه مسلم والنّسائيّ من وجه آخر عن الزّهريّ عن سعيد بن
(1) أخرجه البخاري (5164) ومسلم (1574) من طرق عن سالم به. واللفظ لمسلم.
وليس عند البخاري قولُ سالم.
وأخرجه البخاري (5165) ومسلم (1574) من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر. والبخاري أيضاً (5163) ومسلم (1574) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
المسيّب عن أبي هريرة بلفظ " من اقتنى كلباً ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض ، فإنّه ينقص من أجره كلّ يوم قيراطان ".
قوله: (كلباً) الكلب معروف ، والأنثى كلبة ، والجمع أكلب وكلاب وكَليب بالفتح، كأعبدٍ وعباد وعبيد.
وفي الكلب بَهيميّة وسَبعيّة كأنّه مركّب. وفيه منافع للحراسة والصّيد. وفيه من اقتفاء الأثر وشمّ الرّائحة والحراسة وخفّة النّوم والتّودّد وقبول التّعليم ما ليس لغيره.
وقيل: إنّ أوّل من اتّخذه للحراسة نوح عليه السلام.
قوله: (إلَّا كلب صيدٍ، أو ماشيةٍ)" أو " للتّنويع لا للتّرديد.
ذكر البخاري حديث ابن عمر في ذلك من ثلاثة طرق عنه.
ووقع في الرواية الأولى من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر " ليس بكلب ماشية أو ضارية ".
وفي الثانية من رواية سالم " إلَّا كلباً ضارياً لصيدٍ أو كلب ماشية ".
وفي الثالثة من رواية نافع " إلَّا كلب ماشية أو ضارياً ".
فالرّواية الثّانية: تفسّر الأولى والثّالثة.
فالأولى: إمّا للاستعارة على أنّ ضارياً صفة للجماعة الضّارين أصحاب الكلاب المعتادة الضّارية على الصّيد، يقال ضرا على الصّيد ضراوة. أي: تعوّد ذلك واستمرّ عليه، وضرا الكلب وأضراه صاحبه. أي: عوّده وأغراه بالصّيد، والجمع ضوارٍ.
وإمّا للتّناسب للفظ ماشية مثل لا دريت ولا تليت ، والأصل
تلوت.
والرّواية الثّالثة: فيها حذف تقديره أو كلباً ضارياً.
ووقع في الرّواية الثّانية في غير رواية أبي ذرّ (1)" إلَّا كلب ضاري " بالإضافة. وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، أو لفظ " ضاري "، صفة للرّجل الصّائد. أي: إلَّا كلب رجل معتاد للصّيد.
وثبوت الياء في الاسم المنقوص مع حذف الألف واللام منه لغة.
قوله: (كلب حرثٍ) زيادة الزّرع قد أنكرها ابن عمر (2)، ففي مسلم من طريق عمرو بن دينار عنه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلَّا كلب صيد أو كلب غنم ، فقيل لابن عمر: إنّ أبا هريرة يقول: أو كلب زرع ، فقال ابن عمر: إنَّ لأبي هريرة زرعاً.
ويقال: إنّ ابن عمر أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة ، وأنّ سبب حفظه لهذه الزّيادة دونه أنّه كان صاحب زرع دونه، ومن كان مشتغلاً بشيءٍ احتاج إلى تعرّف أحكامه.
وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزّرع ، سفيان بن أبي زهير كما في الصحيحين، وعبد الله بن مغفل. وهو عند مسلم في حديث أوّله " أمر بقتل الكلاب ، ورخّص في كلب الغنم والصّيد والزّرع ".
(1) هو عبد بن أحمد الهروي ، سبق ترجمته (1/ 114)
(2)
وجاء ذِكر الزرع عن ابن عمر أيضاً. ففي صحيح مسلم (2946) من طريق قتادة عن أبي الحكم قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ كلباً إلَّا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط ".
فلعلَّه حدّث به بعدما سمعه من أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن عبد البرّ: في هذا الحديث إباحة اتّخاذ الكلاب للصّيد والماشية، وكذلك الزّرع لأنّها زيادة حافظ، وكراهة اتّخاذها لغير ذلك، إلَّا أنّه يدخل في معنى الصّيد وغيره ممّا ذكر اتّخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياساً، فتمحض كراهة اتّخاذها لغير حاجة لِمَا فيه من ترويع النّاس وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه.
وفي قوله: " نقص من عمله " أي: من أجر عمله ، ما يشير إلى أنّ اتّخاذها ليس بمحرّمٍ، لأنّ ما كان اتّخاذه محرّماً امتنع اتّخاذه على كلّ حال. سواء نقص الأجر أو لَم ينقص، فدلَّ ذلك على أنّ اتّخاذها مكروه لا حرام.
قال: ووجه الحديث عندي ، أنّ المعاني المتعبّد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعاً لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفّظ منها ، فربّما دخل عليه باتّخاذها ما ينقص أجره من ذلك ، ويُروى أنّ المنصور سأل عمرو بن عبيد. عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه ، فقال المنصور: لأنّه ينبح الضّيف، ويروّع السّائل. انتهى.
وما ادّعاه من عدم التّحريم ، واستند له بما ذكره ليس بلازمٍ.
بل يحتمل: أن تكون العقوبة تقع بعدم التّوفيق للعمل بمقدار قيراط ممّا كان يعمله من الخير لو لَم يتّخذ الكلب.
ويحتمل: أن يكون الاتّخاذ حراماً.
والمراد بالنّقص: أنّ الإثم الحاصل باتّخاذه يوازي قدر قيراط أو قيراطين من أجر ، فينقص من ثواب عمل المتّخذ قدر ما يترتّب عليه
من الإثم باتّخاذه ، وهو قيراط أو قيراطان.
وقيل: سبب النّقصان امتناع الملائكة من دخول بيته ، أو ما يلحق المارّين من الأذى، أو لأنّ بعضها شياطين، أو عقوبة لمخالفة النّهي، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها فربّما يتنجّس الطّاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لَم يقع موقع الطّاهر.
وقال ابن التّين: المراد أنّه لو لَم يتّخذه لكان عمله كاملاً، فإذا اقتناه نقصنَ من ذلك العمل، ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى ، وإنّما أراد أنّه ليس عمله في الكمال عمل من لَم يتّخذه. انتهى.
وما ادّعاه من عدم الجواز منازَعٌ فيه.
فقد حكى الرّويانيّ في " البحر ": اختلافاً في الأجر. هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل؟.
وفي محصّل نقصان القيراطين.
فقيل: من عمل النّهار قيراط ومن عمل الليل آخر.
وقيل: من الفرض قيراط ومن النّفل آخر.
وفي سبب النّقصان. يعني كما تقدّم.
واختلفوا في اختلاف الرّوايتين في القيراطين والقيراط (1).
فقيل: الحكم الزّائد لكونه حفظ ما لَم يحفظه الآخر ، أو أنّه صلى الله عليه وسلم
(1) جاء ذكر القيراطين. في حديث ابن عمر حديث الباب ، وجاء أيضاً عن أبي هريرة في صحيح مسلم.
أمّا القيراط. فأخرجه الشيخان عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه ، وأيضاً عن أبي هريرة.
أخبر أوّلاً بنقص قيراط واحد فسمعه الرّاوي الأوّل ، ثمّ أخبر ثانياً بنقص قيراطين في التّأكيد في التّنفير من ذلك فسمعه الرّاوي الثّاني.
وقيل: يُنزّل على حالين: فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتّخاذها، ونقص القيراط باعتبار قلته.
وقيل: يختصّ نقص القيراطين بمن اتّخذها بالمدينة الشّريفة خاصّة ، والقيراط بما عداها.
وقيل: يلتحق بالمدينة في ذلك سائر المدن والقرى ، ويختصّ القيراط بأهل البوادي، وهو يلتفت إلى معنى كثرة التّأذّي وقلته.
وكذا مَن قال: يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب: ففيما لابسه آدميّ قيراطان وفيما دونه قيراط.
وجوّز ابن عبد البرّ: أن يكون القيراط الذي ينقص أجر إحسانه إليه ، لأنّه من جملة ذوات الأكباد الرّطبة أو الحرّى.
ولا يخفى بُعدُه.
واختلف في القيراطين المذكورين هنا. هل هما كالقيراطين المذكورين في الصّلاة على الجنازة واتّباعها؟.
فقيل: بالتّسوية.
وقيل: اللذان في الجنازة من باب الفضل ، واللذان هنا من باب العقوبة ، وباب الفضل أوسع من غيره.
والأصحّ عن الشّافعيّة إباحة اتّخاذ الكلاب لحفظ الدّرب إلحاقاً للمنصوص بما في معناه. كما أشار إليه ابن عبد البرّ.
واتّفقوا على أنّ المأذون في اتّخاذه ما لَم يحصل الاتّفاق على قتله ، وهو الكلب العقور. (1)
وأمّا غير العقور. فقد اختلف. هل يجوز قتله مطلقاً أم لا؟
واستدل به على جواز تربية الجرو الصّغير لأجل المنفعة التي يئول أمره إليها إذا كبر، ويكون القصد لذلك قائماً مقام وجود المنفعة به ، كما يجوز بيع ما لَم ينتفع به في الحال ، لكونه ينتفع به في المآل.
واستدل به على طهارة الكلب الجائز اتّخاذه ، لأنّ في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقّة شديدة، فالإذن في اتّخاذه إذن في مكمّلات مقصوده، كما أنّ المنع من لوازمه مناسب للمنع منه.
وهو استدلال قويّ لا يعارضه إلَّا عموم الخبر الوارد في الأمر من غسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل (2)، وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوّغه الدّليل.
وفي الحديث الحثّ على تكثير الأعمال الصّالحة، والتّحذير من العمل بما ينقصها، والتّنبيه على أسباب الزّيادة فيها والنّقص منها لتجتنب أو ترتكب.
وبيان لطف الله تعالى بخلقه في إباحة ما لهم به نفع، وتبليغ نبيّهم صلى الله عليه وسلم لهم أمور معاشهم ومعادهم. وفيه ترجيح المصلحة الرّاجحة على المفسدة لوقوع استثناء ما ينتفع به ممّا حرم اتّخاذه.
(1) انظر تعريف الكلب العقور في حديث عائشة في الحج رقم (225).
(2)
انظر حديث أبي هريرة رقم (6) ، وحديث عبد الله بن مغفل (7)