الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد روى الخليليّ في "الإرشاد" بسنده عن إبراهيم بن مَعْقِل قال: سمعت البخاري يقول: ما أدخلت في كتاب "الجامع" إلا ما صح، وقد تركت من الصحاح -قال: يعني خوفا من التطويل.
فالناس -يرحمك الله- تبع لهذا الإمام الكبير المتفق عليه بلا مدافعة، وإنما اقتداؤك به، واقتباسك من أنواره، وأنت وارث علمه، وحائز الْخَصْل بعده، وأما الناس بَعْدَكما فتبع لكما.
وإن خَرّج هذا الحديث الذي خَرّجت أنت، أو أمثاله مَنْ يَلتزم الصحيح مثلك، قلنا: لم يُراع هذا الاحتمال، أو عَلِم السماع أو اللقاء فيه. والله أعلم. انتهى كلام ابن رُشيدر رَحِمَهُ اللهُ تعالى باختصار (1).
قال الجامع عفا الله تعالى: حاصل ما تعقّب به ابن رُشيد كلام المصنّف رحمهما الله تعالى أنه أتى احتجاجًا على خصمه بما لا يكون حجة، وذلك أنه مثّل بعنعنة صحابيّ عن صحابي، وهذا مما لا نزاع فيه، فإن الصحابة كلهم عدولٌ بإجماع من يُعتَدّ بإجماعه، فلو قُدّر إرسال بعضهم عن بعض لم يضرّ ذلك، ولا يكون قادحًا؛ إذ مراسيلهم مقبولة عند جمهور أهل العلم؛ لما ذكرناه، وعلى فرض احتمال كون الصحابيّ يرويه عن تابعيّ، عن صحابي، فلا يضرّ أيضًا؛ لندور ذلك، والحكم إنما يُبنى على الغالب، هذا من حيث العموم، وأما من حيث الخصوصُ، فإن المثال الذي ذكره، وهو كونه لم يطّلع على ثبوت سماع عبد الله بن يزيد من أبي مسعود، غير صحيح، فقد ثبت سماعه عند البخاريّ في "صحيحه".
والحاصل أنه لا يتمّ للمصنّف احتجاجه على خصمه بالمثال الذي ذكره؛ لما سبق آنفًا، فتأمله بإنصاف. والله تعالى أعلم.
إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(فَمِنْ ذَلِكَ) أي فمن أمثلة ما رواه بعض المتعاصرين من بعض، دون ثبوت لقاء وسماع (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ) هو: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حُصين بن عمرو بن الحارث بن خَطْمة، واسمه عبد الله بن جُشَم بن مالك الأوسي الأنصاريّ، أبو موسى الْخَطْمي، شَهِد الحديبية، وهو صغير، وشهد الْجَمَل وصفِّين مع علي، وكان أميرًا على الكوفة، روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي أيوب، وأبي مسعود، وقيس بن سعد ابن عبادة، وحذيفة، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وغيرهم، وعن كتاب عمر بن الخطاب.
(1) راجع "السنن الأبين" ص 125 - 148.
ورَوَى عنه ابنه موسى، وابن ابنته عدي بن ثابت الأنصاري، ومحارب بن دِثَار، والشعبي، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن كعب القُرَظي، ومحمد بن سيرين، وأبو جعفر الفراء، وغيرهم.
قال الآجريّ: قلت لأبي داود: عبد الله بن يزيد له صحبة؟ قال: يقولون: له رؤية، سمعت ابن معين يقول هذا. قال أبو داود: وسمعت مصعبا الزبيري يقول: ليست له صحبة. وقال أبو حاتم: روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان صغيرا في عهده، فإن صحت روايته فذاك (1).
وقال ابن حبان في "كتاب الصحابة": كان أميرا على الكوفة أيام ابن الزبير، وكان الشعبي كاتبه. وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة؟ فقال: أما صحيحة فلا، ثم قال: شيء يرويه أبو بكر بن عياش، عن أبي حَصِين، عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: وما أرى ذاك بشيء. وقال ابن الْبَرْقِيّ: ذكر عبد الله بن عبد الحكم، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عدي بن ثابت، أن عبد الله بن يزيد كان أميرًا على الكوفة زمنَ ابن الزبير، وذَكَرَ أنه شَهِد بيعةَ الرضوان وما بعدها، وهو رسول القوم يوم جِسْر أبي عبيد. وقال الْبَرْقَانيّ: قلت للدارقطني: موسى بن عبد الله بن يزيد الأنصاري، فقال: ثقة، وأبوه وجّدُّه صحابيان. أخرج له الجماعة، وله في "صحيح مسلم" ثمانية أحاديث.
وقوله: (وَقَدْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) جملة أتى بها لبيان أنه قديم يمكنه لقاءُ حُذيفة، والسماع منه؛ لأنه إذا ثبت له رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبالأحرى أن يثبت له لقاء حذيفة، والسماع منه؛ لتأخره بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان موته في أول خلافة عليّ رضي الله عنه ستة (36)(قَدْ رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل، ويقال: حِسْل بن جابر العبسي، حَلِيف بني عبد الأشهل، هَرَب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف اليمانية، وأم حذيفة من بني عبد الأشهل، وأسلم هو وأبوه، وأرادا حضور بدر فأخذهما المشركون، فاستحلفوهما، فحلفا لهم أن لا يشهدا، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"، وشَهِد أحدًا، فقُتل اليمان بها.
رَوَى حذيفة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وروى عنه جابرُ بن عبد الله، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو الطُّفَيل، وغيرُهم من الصحابة،
(1) قال الحافظ: قلت: كذا في الأصل "إن صحت روايته"، وفيما وقفت عليه من كتاب ابن أبي حاتم:"فإن صحت رؤيته"، فيحرر هذا. وروايته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في "صحيح البخاري"، ولم يرقم المزي على ذلك سهوًا، وإلا فقد ذكره هو في "الأطراف". انتهى "تهذيب التهذيب" 2/ 457.
وحصين بن جندب أبو ظبيان، ورِبْعيّ بن حِرَاش وزر بن حبيش، وزيد بن وهب، وأبو وائل، وصِلَة بن زُفَر، وجماعة.
قال العجلي: استعمله عمر على المدائن، ومات بعد قتل عثمان بأربعين يومًا، سكن الكوفة، وكان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه كثيرة مشهورة. وقال علي بن زيد بن جُدْعان، عن ابن المسيب، عن حذيفة:"خَيَّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت النصرة". وقال عبد الله بن يزيد الخطمي عن حذيفة: "لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة". رواه مسلم. وفي "الصحيحين" أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة. وفيهما عن عمر أنه سأل حذيفة عن الفتنة. وكانت له فتوحات سنة (22) في الدِّيْنَوَر، وماسَبَذَان وهَمَذَان، والرَّيّ، وغيرها. وقال ابن نمير وغيره: مات رضي الله عنه سنة (36). أخرجٍ له الجماعة، وله من الأحاديث أكثر من مائة حديث، اتفق الشيخان على (12) حديثًا، وانفرد البخاريّ بثمانية، ومسلم بـ (17) حديثًا (1).
[تنبيه]: الحديث الذي رواه عبد الله بن يزيد الأنصاريّ عن حذيفة رضي الله تعالى عنهما أخرجه مسلم في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" من "صحيحه"، فقال:
وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة ح وحدثني أبو بكر ابن نافع، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن حذيفة، أنه قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أساله ما يُخرج أهل المدينة من المدينة.
قال الشيخ المعلّميّ رَحِمَهُ اللهَ تعالى: أما حديث حذيفة رضي الله عنه فقد أخرج مسلم معناه مطوّلًا من طريق أبي إدريس عن حذيفة، ومن طريق أبي وائل عن حذيفة، ثم ذكره، فهو متابعة، والحديث مشهور عن حذيفة، فإن صحّ قول مسلم في عدم العلم بلقاء عبد الله بن يزيد لحذيفة، فالجواب أنه لما لم يكن له عنه إلا حديث واحد، والحديث مشهور من غير طريقه عن حذيفة، لم يَحتج أهل العلم إلى الكلام فيه، بل رووا الحديث على أنه متابعة، فهو مقبول في مثل ذلك، وإن كان محكومًا عليه بالانقطاع. انتهى كلام المعلّمي (2).
(وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) هو: عقبة بن عمرو بن ثعلبة ابن أسيرة بن عطية بن خُدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري البدري، مشهور بكنيته، اتفقوا على
(1) وفي برنامج الحديث (صخر) أن له في "صحيح مسلم"(43) حديثًا. فليُحرّر.
(2)
راجع رسالة "الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء" ص 361.
أنه شهد العقبة، واختلفوا في شهوده بدرًا، فقال الأكثر: نزلها فنسب إليها، وجزم البخاري بأنه شهدها، واستدل بأحاديث أخرجها في "صحيحه"، في بعضها التصريح بأنه شهدها، منها حديث عروة بن الزبير عن بَشِير بن أبي مسعود قال: أَخَّر المغيرة العصر، فدخل عليه أبو مسعود، عقبة بن عمرو جَدُّ زيد بن حسن، وكان شهد بدرًا. وقال أبو عتبة بن سلام، ومسلم في "الكنى": شهد بدرًا. وقال ابن الْبَرْقي: لم يذكره ابن إسحاق فيهم، وورد في عدة أحاديث أنه شهدها. وقال الطبراني: أهل الكوفة يقولون: شهدها، ولم يذكره أهل المدينة فيهم. وقال ابن سعد عن الواقدي: ليس بين أصحابنا اختلاف في أنه لم يشهدها. وقيل: إنه نزل ماء ببدر، فنسب إليه، وشهد أحدًا وما بعدها، ونزل الكوفة، وكان من أصحاب عليّ، واستُخلف مرّة على الكوفة. قال خليفة: مات قبل سنة أربعين. وقال المدائني: مات سنة أربعين. والصحيح أنه مات بعدها، فقد ثبت أنه أدرك إمارة المغيرة على الكوفة، وذلك بعد سنة أربعين قطعًا. قيل: مات بالكوفة، وقيل: مات بالمدينة (1). أخرج له الجماعة، وله في "صحيح مسلم"(30) حديثًا (2).
[تنبيه]: الحديث الذي رواه. عبد الله بن يزيد، عن أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله تعالى عنهما أخرجه البخاريّ، ومسلم في "صحيحيهما"، فأخرجه البخاريّ في "الإيمان"، فقال:
حدثنا حجاج بن مِنْهال، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عدي بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها، فهو له صدقة"، وأخرجه أيضًا في "المغازي" برقم (4006)، وفي "النفقة" برقم (5351).
وأخرجه مسلم في "الزكاة"، فقال:
حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عدي -وهو ابن ثابت- عن عبد الله بن يزيد، عن أبي مسعود البدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها، كانت له صدقة".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ادّعاه مسلم رَحِمَهُ اللهُ تعالى من عدم سماع عبد الله بن يزيد رضي الله عنه لهذا الحديث عن أبي مسعود رضي الله عنه غير صحيح؛ لأنه وقع التصريح
(1) راجع "الإصابة" 4/ 432.
(2)
وذكر ابن الجوزيّ أنه روى (102) حديثًا، اتفق الشيخان على تسعة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بسعة. فليحرّر.
بالسماع عند البخاريّ في "المغازي" في الباب الذي يلي "شهود الملائكة بدرًا" من "صحيحه" 5/ 107، فقال: نا مسلم، قال: نا شعبة، عن عديّ، عن عبد الله بن يزيد، سمع أبا مسعود البدريّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"نفقة الرجل على أهله صدقة". فقد ثبت تصريح عبد الله بن يزيد بسماعه من أبي مسعود رضي الله تعالى عنهما، خلاف ما ادّعاه مسلم هنا. والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هكذا هو في الأصول: "وعن" بالواو، والوجه حذفها، فإنها تُغيّر المعنى. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه ما قاله النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه يلزم على إثبات الواو أن عبد الله بن يزيد روى حديثًا عن حذيفة وأبي مسعود جميعًا، وعن كلّ واحد منهما بانفراده، ولكن الواقع ليس كذلك؛ لأن روايته إنما هو عن كلّ واحد منهما بانفراده، كما سبق آنفًا.
لكن عندي في هذا نظر؛ إذ لا مانع أن يكون روى عنهما جميعًا، وإن لم نعرف عين ما رواه كذلك؛ لأن مسلمًا إمام مطّلع، لا يدافَع، فيحتمل أنه اطّلع على روايته عنهما جميعًا، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
وقوله: (حَدِيثًا) مفعول "روى". وجملة (يُسْنِدُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) في محل نصب صفة "حديثًا"(وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ) أي رواية عبد الله بن يزيد رضي الله عنه (عَنْهُمَا) أي عن حُذيفة، وأبي مسعود رضي الله تعالى عنهما (ذِكْرُ السَّمَاعِ مِنْهُمَا) برفع "ذكر" على أنه اسم "ليس"(وَلَا حَفِظْنَا) بكسر الفاء، من باب علم (فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ) رضي الله عنه (شَافَهَ) أي كلّم بلا واسطة، يقال: شافهه: إذا أدنى شفته من شفته، فكلّمه. قاله في "اللسان"(حُذَيْفَةَ وَأَبَا مَسْعُودٍ بِحَدِيثٍ قَطُّ، وَلَا وَجَدْنَا ذِكْرَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمَا فِي رِوَايَةٍ بِعَيْنِهَا) هذا بالنسبة لحذيفة رضي الله عنه صحيح، وأما بالنسبة لأبي مسعود رضي الله عنه فغير صحيح؛ لأنه ثبت في "صحيح البخاري" تصريحه بسماعه منه، كما سبق آنفًا. فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ مَضَى) أي قبل زمن مسلم (وَلَا مِمَّنْ أَدْرَكْنَا) أي ممن عاصرهم (أَنَّهُ طَعَنَ فِي هَذيْنِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مَسْعُودٍ) رضي الله عنهم (بِضَعْفٍ) متعلّق بـ "طعن"(فِيهِمَا) متعلّق بصفة لضعف (بَلْ هُمَا) مبتدأ خبره قوله: "من صحاح الأسانيد"(وَمَا أَشْبَهَهُمَا عِنْدَ مَنْ لَاقَيْنَا) بفتح القاف، مفاعلة من اللقاء، يقال: لقيه من باب تعب لُقِيّا بضم، فكسر، ولُقًى الضم مع القصر، ولِقاءً بالكسر، مع المد والقصر: إذا استقبله، وصادفه. أفاده الفيّوميّ. والظرف
متعلّق بحال مقدَّر (مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ) بيان لمن لاقينا (بِالْحَدِيثِ) متعلّق بالعلم (مِنْ صِحَاحِ الْأَسَانِيدِ) بكسر الصاد المهملة: جمع صحيح، والجارّ والمجرور متعلّق بخبر المبتدإ (وَقَوِيِّهَا) بالجر عطفًا على "صحاح" عطف توكيد (يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَ مَا نُقِلَ بِهَا) أي العمل بالحديث الذي روي بهذه الأسانيد، ومرجع الضمير قوله:"بل هما، وما أشبههما". وعطف قوله: (وَالِاحْتِجَاجَ) من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأن الاستعمال يعم الاحتجاج وغيره (بِمَا أَتَتْ)"ما" موصولة أي بالمرويّات التي جاءت بهذه الأسانيد. وقوله (مِنْ سُنَنٍ وَآثَارٍ) بيان لما، وعطف "آثار" على"سنن" من عطف المغاير، إن قلنا إن الآثار تخصّ الموقوفات، أو من عطف المرادف، إن قلنا تعم المرفوعات أيضًا، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في أوائل هذا الشرح (وَهِيَ) أي هذان الإسنادان، وما أشبههما (فِي زَعْمِ) بتثليث الزاي، والفتح لغة الحجاز، والضم لغة بني أسد، والكسر لغة بعض بني قيس، وقد تقدّم أن أكثر ما يُطلق عليه الزعم فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب (مَنْ حَكَيْنَا) بفتح الكاف، من باب ضرب (قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ) بالبناء على الضم، كما سبق توجيهه غير مرّة، والمراد بمن حكى قوله هو المخترع المذكور (وَاهِيَةٌ) أي ضعيفة، قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لو قال: ضعيفة، بدل "واهية" لكان أحسن، فإن هذا القائل لا يدّعي أنَّها واهيةٌ شديدة الضعف، متناهية فيه، كما هو معنى "واهية"، بل يقتصر على أنها ضعيفة، لا تقوم بها الحجة. انتهى (1).
(مُهْمَلَةٌ) أي غير مستعملة، لا في باب العمل، ولا في باب الاحتجاج (حَتَّى يُصِيبَ) بضم أوله، من الإصابة، والضمير يعود لقوله:"من حكينا الخ"(سَمَاعَ الرَّاوِي) بنصب على المفعولية لما قبله (عَمَّنْ رَوَى) أي عنه، فحُذف العائد لكونه مجرورًا بما جرّ به الموصول، كما في قوله عز وجل:{وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} الآية [المؤمنون: 33]، وإلى هذا أشار ابن مالك رَحِمَهُ اللهُ تعالى في "الخلاصة" حيث قال:
كَذَا الَّذِي جُرَّ بِمَا الْمَوْصُولَ جَرّ
…
كَمُرَّ بِالَّذِي مَرَرْتُ فَهْوَ بَرّ
(وَلَوْ ذَهَبْنَا) أي قصدنا، يقال: ذهب مذهب فلان: إذا قصد قصده، وطريقته. قاله الفيّوميّ. و"لو" هذه شرطيّة، وفسّرها سيبويه بأنّها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وفسّرها غيره بأنها حرف امتناع لوجود، وهذا هو المشهور، والأول هو الأصحّ، كما هو مقرّر في محلّه (نُعَدِّدُ) بضم أوله من التعديد، وهو الإحصاء: أي نُحصي (الْأَخْبَارَ الصِّحَاحَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ) بنصب "الأخبار" على المفعوليِّة: أي الأخبار التي
(1)"شرح مسلم" 1/ 138.