الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يقبل العنعنة أصلًا، وما ألزمه به ليس بلازم؛ لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرّةً (1) لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون سمع منه؛ لأنه يلزم من جريانه أن يكون مدلّسًا، والمسألة مفروضة في غير المدلّس. انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله هؤلاء الأئمة من الردّ على المصنّف في إلزامه خصمه بأنه يلزمه أن لا يقبل المعنعن أصلًا حجة قويّة تظهر ضعف إلزامه المذكور.
وذلك لأن خصمه يقول له: قد ألزمتني بأمر لم ألتزمه، وأراه غاية التعنّت، حيث ألزمتني برد كلّ سند معنعن قد ثبت سماع رواته بعضهم من بعض؛ لاحتمال عدم السماع في بعض ما يُروى بذلك السند، وأنا لا أقبل ذلك؛ لأن الاحتمال هنا نادرٌ، والحكم إنما يُبنى على الغالب، لا على النار.
والحاصل أن هذا الردّ في غاية من الحسن، ونهاية من المتانة. والله تعالى أعلم.
إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(وَإِنْ هُوَ ادَّعَى فِيمَا زَعَمَ دَلِيلًا يَحْتَجُّ بِهِ) يعني أنه إذا لم يجد له سلفًا في هذا الرأي، ولكنه ادّعى أنه يجد بنفسه حجة يحتجّ بها على ما ادعاه (قِيلَ لَهُ وَمَا ذَاكَ الدَّلِيلُ؟ ) "ما" استفهاميّة: أي أيُّ شيء ذاك الدليل الذي تحتجّ به؟ (فَإِنْ قَالَ: قُلْتُهُ) أي هذا القول الذي هو اشتراط اللقاء والسماع في أيّ حديث معنعن (لِأَنِّي وَجَدْتُ رُوَاةَ الْأَخْبَارِ) -بضم راء "رُواة" جمع راو، وفتح همزة "الأخبار" جمع خبر، والإضافة من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله (قَدِيمًا وَحَدِيثًا) أي في قديم الزمان وجديده (يَرْوِي) بالبناء للفاعل (أَحَدُهُمْ عَنِ الْآخَرِ الْحَدِيثَ وَلَمَّا يُعَايِنْهُ) أي لم يشاهد من روى عنه ذلك الحديث.
[فائدة]: "لما" هنا -بفتح اللام، وتشديد الميم- هي النافية بمعنى لم، يجتمعان في الحرفية، والنفي، والاختصاص بالمضارع، وقلب معناه إلى المضيّ، وجزمه، ودخول همزة الاستفهام عليهما. وتختصّ "لَمّا" بخمسة أشياء: أحدها: أنها لا تقترن بأداة شرط، فلا يقال:"إن لما تقم"، بخلاف "لم" كقوله تعالى:{وَإِنْ لم يَنْتَهُوا} الآية [المائدة: 73]. والثاني: وجوب اتصال منفيها بحال النطق، بخلاف "لم"، فقد يتصل، نحو {لم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} الآية [الإخلاص: 3]، وقد ينقطع كقوله: {لم يَكُنْ شَيْئًا
(1) تقدّم أن فرض المسألة ليس في اللقاء فقط، بل وعلى السماع، فافهم.
(2)
راجع "نزهة النظر" ص 31 و"النكت" على ابن الصلاح 2/ 596.
مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] أي ثم كان. والثالث: أن منفيها لا يكون إلا قريبًا من الحال، فلا يقال: لما يقم زيد في العام الماضي. والرابع: كون منفيّها متوقّع الحصول غالبًا، نحو:{لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] أي إلى الآن ما ذاقوه، وسيذوقونه. والخامس: جواز حذف مجزومها اختيارًا لدليل، كقاربتُ المدينة، ولَمّا: أي ولما أدخلها، ولا يجوز ذلك في "لم" إلا في الضرورة (1).
(وَلَا سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ) هذا صريح في أن المخترع يشترط السماع، ولا يكتفي باللقاء فقط، كما اشتهر عند كثير ممن كتب في هذه المسألة، فليُتنبّه (فَلَمَّا) -بفتح اللام، وتشديد الميم أيضًا- هي هنا "لَمّا" الحينيّة، وهي تقتضي جملتين، أولاهما شرطها، والثانية جوابها فشرطها هنا قوله:(رَأَيْتُهُمُ اسْتَجَازُوا) أي أجازوا، فالسين، والتاء زائدتان للتوكيد (رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بَيْنَهُمْ) بنصب "روايةً" على المفعوليّة (هَكَذَا) أي رواية مشابهة لما ذُكر، وهو الرواية عن شخص لم يعاينه، ولا سمع منه، فقوله (عَلَى الْإِرْسَالِ) تأكيد لهكذا، وكذا قوله (مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ) لأن غير السماع هو الإرسال، والمراد بالإرسال هنا مطلق الانقطاع، لا بخصوص كونه رفع تابعيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيرًا من المتقدّمين، كالمصنّف، والبخاريّ، وأبي داود، والنسائيّ، وغيرهم يستعملون الإرسال بمعنى الانقطاع، كما سنحقّقه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(وَالْمُرْسَلُ) اسم المفعول من أرسل رباعيّا، وهو مبتدأ، خبره جملة "ليس" الآتية (مِنَ الرِّوَايَاتِ) بيان للمرسل (فِي أَصْلِ قَوْلِنَا) متعلّق بحال مقدّر: أي حال كونه كائنًا. وقوله (وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ) بجرّ "قول" عطفًا على "قولنا" من عطف المؤكّد على المؤكّد؛ لأن المراد بضمير المتكلّم في "قولنا" هم أهل العلم بالأخبار. وقيّد بهم؛ لأن غيرهم من الفقهاء والأصوليين يحتجّون بالمراسيل على ما سنبيّنه، إن شاء الله تعالى.
وقوله (لَيْسَ بِحُجَّةٍ) خبر المبتدإ، كما تقدّم آنفًا.
وقوله (احْتَجْتُ) جواب "لما" الماضية في قوله: "فلما رأيتهم الخ"(لِمَا وَصَفْتُ) بكسر اللام الجارة، وهو تعليل للاحتياج: أي احتجتُ إلى البحث عن السماع؛ لأجل ما ذكرته (مِنَ الْعِلَّةِ) بيان لما: أي من السبب. وقوله (إِلَى الْبَحْثِ) متعلّق بـ "احتجت"(عَنْ سَمَاعِ رَاوِي كُلِّ خَبَرٍ عَنْ رَاوِيهِ) الجارّ والمجرور الأول متعلّق بـ "البحث"، والثاني متعلّق بـ "سماع".
(1) راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 278 - 280.
خلاصة ما أشار إليه في هذا الكلام: أنه إنما احتاج للبحث عن سماع الراوي الْمُعَنْعِن عمن عنعن عنه؛ لكونه رأى أهل الحديث يروون المراسيل عمن لم يشاهدوه، ولم يسمعوا منه، فخشي أن يكون ما عنعنه مما لم يسمعه، فلذلك شدّد في البحث عن السماع.
(فَإِذَا أَنَا)"إذا" شرطيّة، وجوابها قوله:"ثبت عندي الخ"، ودخولها على الجملة الاسميّة مذهب كوفيّ، وهو الحقّ؛ لكثرة وروده في القرآن الكريم، كقوله:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وغير ذلك (هَجَمْتُ عَلَى سَمَاعِهِ) أي وصل علمي إلى سماعه، يقال: هجم عليه هجومًا، من باب قعد: انتهى إليه بغتةً، أو دخل عليه بغير إذن. أفاده في "القاموس". (مِنْهُ) أي من المرويّ عنه بالعنعنة (لِأَدْنَى شَيْءٍ) أي لقليل من الرواية. وقوله (ثَبَتَ عِنْدِي بِذَلِكَ) أي بسبب ما هجم عليه من السماع (جَمِيعُ مَا يَرْوِي عَنْهُ) أي بالعنعنة (بَعْدُ) أي بعد هجومي على السماع، وهي من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونية معناها، وقد تقدم البحث فيها مستوفىً عند قول المصنّف:"أما بعد".
(فَإِنْ عَزَبَ عَنِّي) بفتح الزاي: أي بَعُدَ، وغاب عن علمي، يقال: عزَب الشيء يَعزُبُ بضم الزاي، كنصر ينصر، ويَعزِب بكسرها، كضرب يضرب، لغتان فصيحتان، قُرىء بهما في السبع، والضم أشهر، وأكثر.
وقوله: "عنّي" متعلق بـ "عزب": (مَعْرِفَةُ ذَلِكَ) أي معرفة سماعه لشيء من المرويات (أَوْقَفْتُ الْخَبَرَ) أي توقّفت عن الاحتجاج به. قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "أوقفت الخبر: " كذا هو في الأصول: "أوقفت"، وهي لغة قليلةٌ، والفصيح المشهور "وقفت" بغير ألف. انتهى (1).
وعبارة الجوهريّ في "الصحاح": وقفت الدار للمساكين وقفًا: حبستها، وأوقفتها بالألف لغة رديئة. وليس في الكلام أوقفت إلا حرف واحدٌ، أوقفت عن الأمر الذي كنت فيه: أي أقلعت، قال الطِّرِمَّاح [من الخفيف]:
جَامِحًا فِي غَوَايَتِي ثُمَّ أَوْ قَفْـ
…
ـتُ رِضًا بِالتُّقَى وَذُو الْبِرِّ رَاضِي
وحكَى أبو عمرو: كلّمتهم، ثم أوقفت: أي أسكتُّ، وكلّ شيء تمسك عنه تقول: أوقفت انتهى (2).
(1)"شرح صحيح مسلم" 1/ 132 - 133.
(2)
"الصحاح" 3/ 1190.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر ما ذكره الجوهريّ أن أوقفت لغة فصيحة، بل هي الواردة في كلام العرب لمعنى الإمساك عن الشيء، وأما وقفت ثلاثيا، فمستعمل لمعنى الحبس، كوقفت الدار، وأوقفت بالألف فيه لغة رديئة، فتأمل. والله تعالى أعلم.
(وَلَمْ يَكُنْ) أي ذلك الخبر الذي رواه من لم يثبت عندي سماعه ممن روى عنه، ولو قليلًا (عِنْدِي مَوْضِعَ حُجَّةٍ) أي محل استدلال على الأحكام الشرعيّة (لِإِمْكَانِ الْإِرْسَالِ فِيهِ) علّة لعدم كونه موضع حجة؛ أي لاحتمال الانقطاع بين المعنعن والمعنعن عنه.
(فَيُقَالُ لَهُ) أي للمخترع المذكور (فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ) أي السبب (فِي تَضْعِيفِكَ الْخَبَرَ، وَتَرْكِكَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ) عطفه على ما قبله من عطف المسبب على السبب؛ لأن تركه الاحتجاج به؛ لتضعيفه الخبر (إِمْكَانَ الْإِرْسَالِ) بالنصب على أنه خبر "كان"(فِيهِ) أي في ذلك الخبر الذي تركت الاحتجاج به لتضعيفك إياه (لَزِمَكَ أَنْ لَا تُثْبِتَ) بضم أوله، من الإثبات رباعيّا (إِسْنَادًا مُعَنْعَنًا) اسم مفعول من عنعنه إذا رواه بـ "عن"(حَتَّى تَرَى فِيهِ السَّمَاعَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ) أي من أول الإسناد إلى منتهاه، أي وذلك باطلٌ.
وحاصل ما أشار إليه أن ما احتجّ به على عدم إثبات الحديث المعنعن إلا إذا ثبت سماعه لديه ولو مرة، يستلزم أن لا يصحّح أيَّ حديث إلا إذا اتصل إسناده بسماع كل راو عمن روى عنه من أوله إلى آخره، ولا يكفي فيه ثبوت السماع في الجملة؛ لأنه يوجد الإرسال مع اللقاء، بل مع السماع الكثير، وهذا الإلزام قد عرفت الجواب عنه فيما سبق، فلا تنس نصيبك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ثم أوضح المصنّف ما ذكره بما ضربه من الأمثلة، حيث قال:
(وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَلَيْنَا بِإِسْنَادِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فَبِيَقِينٍ نَعْلَمُ أَنَّ هِشَامًا قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَأَنَّ أَبَاهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَمِعَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَقُلْ هِشَامٌ فِي رِوَايَةٍ يَرْوِيهَا عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ إِنْسَانٌ آخَرُ، أَخْبَرَهُ بِهَا عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهَا هُوَ مِنْ أَبِيهِ، لَمَّا أَحَبَّ أَنْ يَرْوِيَهَا مُرْسَلًا، وَلَا يُسْنِدَهَا إِلَى مَنْ سَمِعَهَا مِنْهُ. وَكَمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا مُمْكِنٌ فِي أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ سَمَاعِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عُرِفَ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ سَمِعَ مِنْ