المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إيضاح الشرح التفصيلي لهذه الفقرة: - قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الحديث:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الحديث:

- ‌شرح الأثر:

- ‌مسألتان تتعلّقان بهذا الأثر:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌‌‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌(المسألة الأولى): في حدّ الغيبة لغةً، وشرعًا:

- ‌(المسألة الثانية): في حكم الغيبة:

- ‌(المسألة الرابعة): قد وردت أحاديث في فضل من ردّ عن عرض أخيه:

- ‌(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة:

- ‌[تنبيهات]:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌مسائل تتعلقّ بهذا الحديث:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌مسألتان تتعلّقان بالحديث المذكور:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌مسائل تتعلّق بحديث جابر رضي الله عنه هذا:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في أكل لحوم الخيل:

- ‌(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في أكل لحوم الحمر الأهليّة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجمالّي لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجمالّي لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌[تنبيهات]:

الفصل: ‌إيضاح الشرح التفصيلي لهذه الفقرة:

والمعنعن عنهم (جَمِيعًا كَانُوا فِي الْعَصْرِ الَّذِي اتَّفَقُوا فِيهِ) أي اتّفق وجودهم فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال المصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

(وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي تَوْهِينِ الْحَدِيثِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفَ، أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهِ، وَيُثَارَ ذِكْرُهُ، إِذْ كَانَ قَوْلًا مُحْدَثًا، وَكَلَامًا خَلْفًا، لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفَ، وَيَسْتَنْكِرُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ خَلَفَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي رَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا شرَحْنَا، إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَقَالَةِ وَقَائِلِهَا الْقَدْرَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى دَفْعِ مَا خَالَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ).

‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

بيّن رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه بعدما تبيّن ما كان عليه الأئمة النقّاد من تصحيح الحديث المعنعن إذا ثبتت المعاصرة مع ارتفاع الموانع من اللقاء والسماع، ثبت أن هذا القول المحدث في تضعيف الأحاديث المعنعنة من المتعاصرين بسبب احتمال الانقطاع أقلّ من أن يُمال ويُلتفت إليه، ويُشاع ذكره بين طلاب العلم؛ حيث كان -حسب زعم المصنّف- قولًا مخترغًا، وكلامًا ساقطًا، لم يقله أحد من السلف، ويُنكره من أتى بعدهم من الخلف، فلا حاجة إلى ردّه بأكثر مما سبق؛ إذ كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي بيّنّاه من أنه قول محدث، وكلام ساقط، والله عز وجل هو الذي يُطلب منه العون على دفع ما خالف مذهب العلماء، وعليه الاعتماد في كلّ ذلك.

هذا خلاصة ما ذكره، وقد مضى، ويأتي ما ناقشه فيه ابن رُشيد، وغيره من العلماء، فتأمل ما قاله بفكر سديد، ولا تتهوّر بالتقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد. والله تعالى أعلم.

‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

(وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ) بالرفع على أنه اسم "كان"(الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ) وهو الذي عبر عنه فيما مضى تارة بالمنتحل، وتارة بالمخترع المستحدث (فِي تَوْهِينِ الْحَدِيثِ) متعلّق بـ "أحدث" (بِالْعِلَّةِ) متعلّق بـ "توهين" (الَّتِي وَصَفَ) بالبناء للفاعل: أي وصفها القائل (أَقَلَّ) بالنصب على أنه خبر "كان"(مِنْ أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهِ) بتشديد الراء، من التعريج، والفعل مبنيّ للمفعول: أي يُتوقّف عنده، ويُعتمد عليه، يقال: عرّجت على الشيء بالتشديد: إذا توقّفت عنده. أفاده في "المصباح". وقال في "القاموس": وعرّج تعريجًا: مَيَّلَ، وأقام، وحَبَسَ المطيّة على المنزل. انتهى. (وَيُثَارَ ذِكْرُهُ) بالبناء للمفعول أيضًا: أي يُهَاج، ويُنشر ذكر ذلك القول (إِذْ) تعليليِّة أيضًا: أي لأنه (كَانَ قَوْلًا مُحْدَثًا)

ص: 480

أي مستجدّا بعد أن لم يكن (وَكَلَامًا خَلْفًا) بفتح الخاء المعجمة، وسكون اللام: أي ساقطا فاسدًا، قال الفيّوميّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الخلف وزانُ فلس، الرديء من القول، يقال: سكت ألفًا، ونطق خَلْفًا: أي سكت عن ألف كلمة، ونطق بخطإ. وقال أبو عبيد في "كتاب الأمثال": الخلف من القول السَّقَط الرديء، كالْخَلْفِ من الناس. انتهى (1).

(لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفَ) بصيغة الماضي: أي مضى. ويحتمل أن يكون "سَلَفٌ" بفتحتين مرفوعًا بدلا من "أحدٌ": أي لم يقله سلف.

(وَيَسْتَنْكِرُهُ) أي يُنكره، فالسين، والتاء للمبالغة (مَنْ) بفتح الميم موصولة بالظرف (بَعْدَهُمْ خَلَفَ) بصيغة الماضي أيضًا: أي أتى بعد السلف. ويحتمل أن تكون "من" حرف جرّ، و"بعدهم" مجرور بها، و"خلف" بفتحتين مرفوع على أنه فاعل "يستنكره".

والمعنى أن هذا الذي قاله هذا المنتحل من اشتراط السماع لقبول المعنعن لم يتقدّمه أحد من السلف، ولا يقبله، بل يستنكره كلّ من أتى من بعدهم من الخلف.

لكن قد عرفت مناقشته في هذا الادّعاء، وسيأتي أيضًا إكمال ما تبقّى من المناقشة قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

(فَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي رَدِّهِ) أي ردّ هذا القول المحدث فيِ زعمه (بِأَكْثَرَ مِمَّا شَرَحْنَا) أي أوضحنا فيما مضى من الكلام (إِذْ) تعليليّة، أي لأنه (كَانَ قَدْرُ الْمَقَالَةِ وَقَائِلِهَا الْقَدْرَ) بالنصب على أنه خبر "كان"(الَّذِي وَصَفْنَاهُ) أي بكونه قولا محدثًا، وكلاما خلفًا، غير مسبوق قائله به (وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ) أي الذي يُطلب منه العون (عَلَى دَفْعِ مَا خَالَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ) بضم التاء، وسكون الكاف: اسم من الاتّكال، يقال: توكّل على الله: اعتمد عليه، ووثق به، واتّكل في أمره كذلك (2)، أي وعليه الاتكال. انتهى شرح المقدمة، ولله تعالى الحمد والمنة، وله الفضل والنعمة، ومنه التوفيق والعصمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه:

ولْنَعُد إلى إكمال مناقشة الإمام ابن رُشيد للمصنّف رحمهما الله تعالى فيما ذكره من قوله: "وهذا أبو عثمان النهديّ، وأبو رافع الصائغ -إلى آخر كلامه".

قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

(الدليل الرابع): وهو أيضا خاصٌّ، وهو كالتتميم للثاني؛ لأنه تمثيل له، إلا أن

(1)"المصباح المنير" 1/ 179.

(2)

راجع "المصباح المنير" 1/ 670.

ص: 481

ذلك تمثيل في الصحابة، وهذا تمثيل في التابعين، وكلاهما بالحقيقة جزء من الدليل الثاني.

قوله: "وهذا أبو عثمان النهديّ، وأبو رافع الصائغ، وهما ممن أدرك الجاهلية، وصحبا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم

" الفصل إلى قوله: "فكل هؤلاء من التابعين الذين نَصَبْنَا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم، لم يُحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها، ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه

الكلام إلى آخره الذي اشتد فيه بالإنكار على قائله، وحَمَلَ عليه أشدَّ الحمل، ولعله لم يَعلَم أنه قولُ ابن المديني والبخاري، وكأنه إنما تكلم مع بعض أقرانه أو من دونه، ممن قال بذلك المذهب -والله أعلم- فإنه لو علمه لكَفّ من غَرْبه (1)، وخَفَضَ لهما الْجَنَاح، ولم يَسِمْهما الكِفَاح (2).

وحاصل هذا الدليل الرابع ادِّعاء الإجماع أيضا على قبول أحاديث التابعين الثقات السالمين من وصمة التدليس، إذا عنعنوا عن الصحابة الذين ثبتت معاصرتهم لهم، وإن لم يُعلَم اللقاء ولا السماع، كما أُصِّلَ ذلك في أحاديث الصحابة رضي الله عنهم.

قال: ولنا عن هذا الدليل أجوبة ثلاثة:

(الأول): نقض الإجماع بما تقدم من نقل ذلك عمن عُلِمَ.

(الثاني): أن هؤلاء الذين سَمَّيتَ ممن عُلِم سماعُ بعضهم من بعض عند من أثبت صحة حديثهم، ألا ترى أن أبا الحسن علي بن المديني قد قال في "كتاب التاريخ" له: أبو عثمان النهديُّ عبد الرحمن بن مَلّ، وكان جاهليّا ثقةً، لَقِيَ عمر، وابن مسعود، وأبا بكرة، وسعدًا، وأسامة، ورَوَى عن علي، وأبي موسى، وعن أبي بن كعب، وقال في بعض حديثه: حدثني أبي بن كعب، وقد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

فقد نَصّ عليٌّ أنه يقول في بعض حديثه: حدّثني أبي بن كعب، فمنه ما اطلعنا عليه، ومنه ما لم نَطَّلِع عليه حسبما نُبَيّن -إن شاء الله تعالى-.

(الثالث): أن هذه أمثلة خاصة لا عامة، جزئية لا كلية، يمكن أن تَقتَرن بها قرائن تُفهِم اللقاء أو السماع، كمن سَمَّيتَ ممن أدرك الجاهلية، ثم أسلم بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصَحِبَ البدريين فمن بعدهم، فهذا يَبْعُد فيه ألا يكون سمع ممن رَوَى عنه، وإن جَوّزنا أنه لم يسمع منه، قلنا: الظاهر روايته عن الصحابة، والإرسالُ لا يَضُرّه، كما قدّمنا من الجواب عن الدليل الثالث.

(1) الغرب بفتح، فسكون من معانيه في "القاموس": حدّ الشيء، والْحِدّة، والنشاط.

(2)

أي لم يذقهما المواجهة الشديدة.

ص: 482

على أن الإمام الحافظ أبا حاتم البستِيّ قد طَرَدَ هذا الحكم فيمن تحقق منه أنه لا يرسل إلا عن ثقة.

قال رحمه الله: وأما المدلسون الذين هم ثقات عدول، فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بَيَّنُوا السماع فيما رووا، مثل الثوري، والأعمش، وأبي إسحاق، وأضرابهم من الأئمة المتقنين، وأهل الورع في الدين؛ لأنا متى قبلنا خبر مُدَلِّس لم يُبَيِّن السماع فيه، وإن كان ثقة لَزِمَنا قبولُ المقاطيع والمراسيل كلها؛ لأنه لا يُدرَى لعل هذا المدلس دَلّس هذا الخبر عن ضعيف، يَهِي الخبرُ بذكره إذا عُرِف.

اللهم إلا أن يكون المدلس يُعلَم أنه ما دَلّس قط إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قُبِلت روايته، وإن لم يُبَيّن السماع، وهذا شيء ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يُدَلّس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وُجِد ذلك الخبر بعينه قد بَيَّنَ سماعه فيه عن ثقة، فالحكم في قبول روايته لهذه العلة، وإن لم يُبَيِّن السماع فيها، كالحكم في رواية ابن عباس إذا رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لم يَسمَع منه. انتهى ما قاله أبو حاتم (1).

فهذه الأمثلة التي أتيتَ بها أيُّها الإمام كلُّها جزئيات، والحكم على الكليات بحكم الجزئيات لا يَطَّرد، فقد يكون لكل حديث حكمٌ يخصه، فَيُطَّلَع فيه على ما يُفهِمُ اللقاء أو السماع (2)، ويُثِير ظنّا خاصّا في صحة ذلك الحديث، فَيُصَحَّح اعتمادًا على ذلك، لا من مجرد العنعنة.

ومثل هذا أيُّها الإمام لا تقدر على إنكاره، وقد فَعَلتَ في كتابك مثله من رَعْيِ الاعتبار بالمتابعات والشواهد، وذلك مشهور عند أهل الصنعة، فيُتْبِعُون ويستشهدون بمن لا يُحْتَمَلُ انفرادُهُ، ومثل ذلك لا يُنكَر في الفقه وأصوله.

وقد فعلتَ أنت أيُّها الإمام ما هو أشد من ذلك في كتابك "المسند الصحيح" حيث أدخلتَ فيه أَسْبَاط بن نصر، وقَطَنَ بن نُسَير، وأحمد بن عيسى المصري، فاعتَرَض فعلك أبو زرعة الرازي، وأنكر عليك، فاعتذرت حين بلغك إنكاره، فيما ذكره الحافظ الثقة الإمام أبو بكر الْبَرْقانيّ، عن الحسين بن يعقوب الفقيه، قال: نا أحمد بن طاهر الميانجي، نا أبو عثمان سعيد بن عمرو، قال: شَهِدتُ أبا زرعة الرازي، وذَكَرَ قصةً فيها طول اختصرتها، قال فيها: وأتاه ذات يوم رجل بكتاب "الصحيح" لمسلم،

(1) راجع "الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" 1/ 161.

(2)

الأولى "والسماع" بالواو؛ لأن الراجح اشتراط السماع، كما مرّ.

ص: 483

فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: ما أبعد هذا من الصحيح، يُدخِل في كتابه أسباط بن نصر، ثم رَأَى في الكتاب قَطَنَ بن نُسَير، فقال لي: وهذا أطمُّ من الأول، قَطَن بن نُسير وَصَلَ أحاديثَ عن ثابت، جعلها عن أنس، ثم نَظَر، فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه "الصحيح"؟ قال لي أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أن أحمد بن عيسى، وأشار أبو زرعة إلى لسانه كأنه يقول الكذب.

ثم قال لي: يُحَدِّث عن هؤلاء، ويترك محمد بن عجلان ونظراءه، قال: فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه ذلك، فقال لي مسلم: إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط بن نصر، وقطن، وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهمِ، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتَصِر على أولائك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات. انتهى ما أوردنا من الحكاية، وبعضها منقول بالمعنى، ذكرها عن الْبَرْقاني الحافظُ المتقنُ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأَوْنَبِيّ في "كتاب المنتقى" له (1).

وهذا المعنى الذي قصدتَهُ إن عُدَّ مُخَلِّصًا بالنظر إليك فيما يلزمك التطوق به، حيث غلب على ظنك صحته، فلا يلزم غيرك ممن يَجتهد في الرجال، نعم يكون

(1) وقد استطرد ابن رُشيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى هنا: ما نصّه:

وقرأتُ ذلك بخطه، وضَبَطَ قولَه:"إنما قلتُ: صحيح" بضم التاء على التكلم، وكَتَبَ "إنما" متصلة على أنها الحصرية، فإن صح هذا الضبط، فيكون معناه: إنما قلت: صحيح: أي صحيح عندي، ولم أقل: من هذا الطريق، فيكون في الكلام حذف، وهذا المعنى عندي فيه بُعْدٌ، والأقربُ فيما أراده: إن ما قلتَ: صحيح، بتاء الخطاب، و"ما" بمعنى الذي: أي إن الذي قلته من إنكار أبي زرعة صحيح، من أجل هؤلاء الرواة، ثم أبدى وجه العذر، وأتى بـ "إنما" التي للحصر في قوله:"وإنما أدخلتُ". انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الذي يظهر لي أن ضبطه بضم التاء لا بُعدَ فيه، بل هو الأولى؛ لأنه يؤيّده ما في "سؤالات البرذعي"(ص 677) بعد أن ذُكِرَ لمسلم من أنه بإخراجه حديث قطن وأشباهه يُطرق لأهل البدع علينا، قال مسلم مُعتذرًا: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيفٌ، ولكنّي إنما أخرجتُ هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي، وعند من يكتبه عنّي، فلا يَرتاب في صحّتها، ولم أقُل: إن ما سواه ضعيف

إلخ.

وهذا كما ترى يؤيّد الرواية بالضمّ، ومثله عند ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم"(ص 100). والله تعالى أعلم. راجع ما كتبه محقّق "السنن الأبين" ص (154).

ص: 484

صحيحا في حقّ من يكتفى بتقليدك -وإنك لخليق بذلك- من الفقهاء، أو المحدثين ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في معرفة الصحيح والسقيم.

وقد نحا نحوًا من مذهبك الإمام أبو حاتم البستيُّ فيما حَكَى عن نفسه في صدر كتابه الذي وسمه بكتاب "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطعٍ في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها": ما نصه: "إذا صَحّ عندي خبر من رواية مدلس بأنه بَيَّنَ السماع فيه لا أُبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر". انتهى (1).

فلا يُنكر أيها الإمام الْمُعْتَمَدُ أن يكون مَنْ قَبِل تلك الأحاديث، وصحت عنده، واحتج بها قد اعتَمَد نحوًا من هذا المسلك، فلم يقبلها بمجرد العنعنة، بل بضميمةٍ إليها أفادته صحة اللقاء والسماع، وإن لم يقترن بها ذلك لفظًا.

وقد وقع للإمام أبي عبد الله البخاري في "جامعه الصحيح" ما يَنظُر إلى هذا المعنى، وهو ما ذكره في "كتاب الصلاة" من كتابه في "باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة"، قال فيه: نا آدم، قال: نا شعبة قال: نا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جُرُف نهر، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجَعَلتِ الدابة تنازعه، وجعل يتبعها -قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي (2) - فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف قال: إني سمعت قولكم، وإني غزوت معِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات، أو سبع غزوات، أو ثمان، وشهدت تيسيره، وإني أنْ كنت أن أرجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها، فيشق علي.

فهذا الأزرق بن قيس البصري، من بلحارث بن كعب من التابعين، قال أبو حاتم فيه: صالح الحديث، وقال ابن معين، والنسائيّ، وغيرهما فيه: ثقة، لم يَعرِف أبا برزة، ولا يَثبُتُ قول قائل لا يُعرَف صدقُه مُخبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه قال كذا، أو أنه رآه فعل كذا، إلا بعد ثبوت صحبته، أو ثبوت عدالته قبل أن يُخبر أنه صاحب، على نظر في هذا القسم الآخر، فإنه إذا قال لنا من عاصره صلى الله عليه وسلم، ممن ثبت إسلامه وعدالته: أنا صاحبٌ صُدِّقَ، وقُبِل قولُهُ، وسُمِعت روايته.

(1) انظر "صحيحه" 2/ 81.

(2)

وأبو بَرْزَة اختُلِف في اسمه، واسم أبيه، فقيل: نَضْلَة بن عُبَيد، قال بعض المتقنين: وعليه أكثر العلماء، وقيل: نضلة بن عائذ. وقيل: عبد الله بن نَضْلَة، وقيل: غير ذلك، وأصله مدنيّ، نزل البصرة. انتهى "السنن الأبين" ص 157.

ص: 485

قال الإمام الفقيه المالكي أبو عمرو بن الحاجب: ويحتمل الخلافُ؛ للاتهام بدعوى رتبة لنفسه.

قلت (1): لكن لما ثبت عند شعبة أن هذا الرجل الذي نازعته دابته هو أبو برزة الأسلمي، وهو معروف الصحبة والسماع من النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت الحديث وصحّ، فلذلك أخرجه البخاري في "صحيحه"، فهذا حديث صح بضميمة.

وعلى نحوٍ من هذا تأول علماء الصنعة بَعْدَكُما عليكما -أَعنِيك والبخاريَّ فيما وقع في كتابيكما من حديث مَنْ عُلِم بالتدليس، ممن لم يُبَيِّن سماعَهُ في ذلك الإسناد الذي أخرجتما الحديث به، فظنوا بكما ما ينبغي من حسن الظن، والْتِمَاس أحسن المخارج، وأصوب المذاهب؛ لتقدمكما في الإمامة، وسَعَة علمكما وحفظكما، وتمييزكما ونقدكما، أن ما أخرجتما من الأحاديث عن هذا الضرب، مما عرفتما سلامته من التدليس.

وكذلك أيضا حَكَمُوا فيما أخرجتما من أحاديث الثقات الذين قد اختلطوا، فحَمَلُوا ذلك على أنه مما رُوي عنهم قبل الاختلاط، أو مما سَلِمُوا فيه عند التحديث، على نَظَرٍ في هذا القسم الآخر، يحتاج إلى إمعان التأمل، فبعضٌ منها تَوَصَّلُوا إلى العلم بالسلامة فيه بطبقة الرواة عنهم، وتمييز وقت سماعهم، وبعضٌ أشكل، وقد كان ينبغي فيما أشكل أن يُتَوَقَّف فيه، لكنهم قَنِعُوا، أو أكثرهم بإحسان الظن بكما، فقَبِلُوه ظنّا منهم أنه قد بان عندكما أمره، وحسبنا الاقتداء بما فَعَلُوا، ولزومُ الاتباع ومجانبةُ الابتداع.

وقد سلك أيضا هذا المسلك أبو حاتم البستيّ، فقال في صدر كتابه: وأما المختلطون في أواخر أعمارهم، مثلُ الجريريّ، وسعيد بن أبي عروبة، وأشباههما، فإنا نَرْوي عنهم في كتابنا هذا، ونَحتَجُّ بما رووا، إلا أنا لا نعتمد من حديثهم إلا على ما رَوَى عنهم الثقات من القدماء الذين يُعلَم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم، أو ما وافقوا الثقات من الروايات التي لا شك في صحتها، وثبوتها من جهة أخرى؛ لأن حكمهم وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحُمِل عنهم في اختلاطهم بعدَ تقدم عدالتهم حكم الثقة إذا أخطأ، أن الواجب ترك خطئه إذا عُلِم، والاحتجاج بما يُعلَم أنه لم يخطىء، وكذلك حكم هؤلاء الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات، وما انفردوا مما رَوَى عنهم القدماء، من الثقات الذين كان سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء. انتهى ما قاله أبو حاتم البستيّ.

(1) القائل ابن رشيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

ص: 486

وفي بعض كلامه نظرٌ فليسا سواء، وتشبيهه بحال الثقة إذا أخطأ لا يُسَاعَد عليه، أما ما رُوي عنهم قبل الاختلاط، وتَمَيَّز مما رُوي بعده فلا إشكال فيه، وأما ما رُوي عنهم مستقيما بعد الاختلاط ففيه نظر، وقد أنكره يحيى بن معين على وكيع، وقال له: تُحَدّث عن سعيد بن أبي عروبة، وإنما سمعت منه في الاختلاط، فقال رأيتَنِي حدثتُ عنه إلا بحديث مستو؟ .

فإنه إن كان الاعتماد على الثقات الذين وافقوهم دونهم، فلم يُعتَمَد عليهم، في الفائدة في تخريج الحديث عنهم، دون أولائك الثقات، وإن كان الاعتماد على الرواة عنهم، وعلى ما قرؤوه عليهم من صحيح كتبهم التي كتبوها في حال الصحة، أو التي كَتَب عنهم أصحابهم قبل الاختلاط، كما قال ابن معين: سمعت ابن أبي عدي يقول: لا نكذب الله كنا نأتي الْجُرَيري، وهو مختلط، فنُلَقِّنُه، فيجيء بالحديث كما هو في كتابنا، فقد حصل في الحديث انقطاع، وصار وجودهم كعدمهم، ولا فرق بين أن يُقرأ عليه، وهو مختلط، وأن يقرأ على قبره وهو ميت، فآل الأمر إلى الاعتماد على الوِجَادة.

وأحسنُ ما يُلتَمس لهم أنهم لم يَفرُط الاختلاط فيهم، بحيث يكونون مُطبَقِين، أو كانت لهم أوقاتٌ تَثُوب إليهم عقولهم فيها، فيتحين الآخذون عنهم تلك الأوقات، ويقرأون عليهم مِنْ كتبهم، أو كتب أصحابهم، أو يسمعون منهم ما حَفِظوه مما تظهر لهم السلامة فيه.

هذا هو الذي يَجِب أن يُعتَقَد فيمن رَوَى عنهم من الثقات، وعلى ذلك يُحمَلُ فعل وكيع بن الجراح وغيره، ممن فعله، وإلا عاد ذلك بالقدح على الرواة عنهم، على أن أبا حاتم البستيَّ، وإن كان من أئمة الحديث، فعنده بعض التساهل في القضاء بالصحيح، فما حَكَمَ بصحته مما لم يَحكُم به غيره، إن لم يكن من قبيل الصحيح، يكون من قبيل الحسن، وكلاهما يُحتَجّ به، ويُعمَل عليه، إلا أن يَظهَر فيه ما يوجب ضعفه.

ثم اعلم أَيُّها الإمام الْمُتَّبَع الْمُعْتَمَد أنك سميت في جملة مَن ذَكَرتَ أنك لا تَعلَم سماعهم ممن حدّثوا عنه قيسَ بن أبي حازم، عن أبي مسعود، والنعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد، وذكرت غيرهم ممن انفردت عن البخاري بتخريج بعضهم، ولم يُخَرِّجهم لأحد وجهين:

إما لعدم ذلك الشرط عنده، كحديث عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أحد مَن سَمَّيت، وانفردتَ بإخراجه عنه، وهو حديث:"الدين النصيحة، لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، خَرَّجته في "كتاب

ص: 487

الإيمان" (1)، من كتابك، وليس لتميم الداري في كتابك غيره، وأما البخاري فلم يُخَرِّج لتميم الداري شيئًا.

وكما أنك أيضًا لم تُخَرّج حديث بعض من سَمَّيتَ كحديث أبي رافع، عن أُبَيّ، وهو حديث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يَعتكف عامًا، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وغيرهما (2).

وإما لأنه لم يقع له -أعني للإمام أبي عبد الله البخاري- على بُعْدِ ذلك عليه (3) فقد روينا عن محمد بن حمدويه قال: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأعرف مائتي ألف غير صحيح"، وإن خَرّج منها شيئًا، قلنا: اطّلع على ما لم تَطّلِع عليه من ذلك.

فأما ما ذكرت من شأن قيس عن أبي مسعود، والنعمان عن أبي سعيد، فاعلم أيّها الإمام الأوحد، أنهم عَلِمُوا صحة سماع قيس من أبي مسعود، والنعمان من أبي سعيد، فَجَرَوا على نَهْجهم الواضح، وشرطهم الصحيح.

فأما قيس فقد ذكر البخاري سماعه من أبي مسعود في موضعين من كتابه: (أحدهما) في "باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود"، فقال: نا أحمد ابن يونس قال: نا زهير قال: نا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت قيسا قال: أخبرني

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه" انظر 1/ 53 "باب لا يدخل الجنة إلا المؤمنون

"، قال ابن رُشيد: وهذا الحديث مما أغفل القاضي أبو الفضل عياض في "إكماله" التنبيهَ على موقعه من كتاب مسلم أو غيره، فرأينا أن نُنَبِّه عليه. انتهى. "السنن الأبين" ص 161.

(2)

قال ابن رُشيد رحمه الله: ولقد أبعد النُّجْعَة أبو الفضل -يعني القاضي عياض- في قوله: خَرَّجه ابن أبي شيبة في "مسنده"، كما أبعد أيضًا النُّجْعَة في بيان أحد حديثي أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرة، عن أبي مسعود اللذين أشار إليهما مسلم، ولم يُخَرِّجه مسلم، وهو حديث:"لا تُجزئ صلاة لا يُقيم الرجل صُلْبه فيها، في الركوع والسجود"، فقال: خَرَّجه ابن أبي شيبة، وذلك إبعاد منه للنجعة، فقد خَرّجه أيضا أبو داود، والنسائيّ في "سننهما"، والترمذي في "جامعه" كلهم من طريق الأعمش، عن عمارة بن عُمير، عن أبي مَعْمَر، عن أبي مسعود، وليس فيه ذكر سماع عند جميعهم، وإنما نُنَبِّه هنا منها على ما أغفله القاضي أبو الفضل إكمالًا لما نَقَص من المقدمة في "إكماله". انتهى كلام ابن رشيد.

(3)

كتب محقّق "السنن الأبين" ص 166 - 167: ما نصّه: والواقع يأباه، فقد أخرج البخاريّ الحديث في "التاريخ الكبير" 6/ 460 - 461 و"الصغير" 2/ 34 - 35 وساق فيه خلافًا طويلًا، وإنما لم يخرجه في "الصحيح" لعدم ورود سماع عمارة بن عمير من أبي معمر، وقد ذكر في "التاريخ الكبير" 6/ 499 أنه رأى أبا معمر، فكان الأولى أن يقال: قد يقع له الحديث، ولا يُخرجه إذ أنه ليس على شرطه في "الصحيح"، كما في حديث تميم السابق، وحديثنا هذا. والله أعلم. انتهى.

ص: 488

أبو مسعود، أن رجلا قال: والله يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا (ح) فقال فيه عن قيس: أخبرني أبو مسعود.

(والثاني): ذكره في "باب صلاة كسوف الشمس"، فقال: نا شهاب بن عباد قال: نا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: سمعت أبا مسعود يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا يَكسِفان لموت أحد من الناس"(ع) قال فيه عن قيس: سمعت أبا مسعود، فقد انتهى إليه ما لم ينته إليك.

وسماع قيس -وهو ابن أبي حازم، عوف بن عبد الحارث- من أبي مسعود -واسمه عقبة بن عمرو- البدري مشهور مذكور عند أئمة الصنعة.

وقد نص عليه الإمام الناقد، أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نَجِيح بن المديني في "كتاب التاريخ والعلل" من تأليفه قال:

"قيس بن أبي حازم سَمِع من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وسعد بن أبي وقاص، والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وأَبِي شَهْم (1) وجرير بن عبد الله البجليّ، وأبي مسعود البدري، وخباب بن الأرتّ، والمغيرة بن شعبة، ومِرْدَاس بن مالك الأسلمي، ومُستورِد بن شداد الفهري، ودُكَين بن سعيد المزني، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبي سفيان بن حرب، وخالد بن الوليد، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن زيد، وأبي جُحيفة.

قيل لعلي: هؤلاء كلهم سمع منهم قيس بن أبي حازم سماعًا؟ قال: نعم سمع منهم سماعًا، ولولا ذلك لم نَعُدّه له سماعًا (2).

فانظر عنايته بسماعه، وتأكيده له المرة بعد المرة.

وأما أحاديث النعمان عن أبي سعيد، فقد خَرَّجها البخاري، وخَرَّجْتَها أنت أيها الإمام في مواضع من كتابك، منصوصًا فيها على السماع، فأثبتَّ في آخر كتابك ما نَفَيتَ في أوله، وأقررت بما أنكرت، وشَهِدتَ من نفسك على نفسك، فما ذنبهم أن حَفِظوا ونسيتَ، ولا غَرْوَ فإنما ذلك تعويذ لكمالك.

[من الكامل]:

شَخَصَ الأَنَامُ إِلَى كَمَالِكَ فَاسْتَعِذْ

مِنْ شَرِّ أَعْيُنِهِمْ بِعَيْبٍ وَاحِدِ

(1) هو أبو شهم التيميّ، من تيم الرباب، جاهليّ أدرك الإسلام. انظر "الإصابة" 7/ 181.

(2)

راجع "العلل" لابن المدينيّ ص 49 - 50.

ص: 489

وذكرت أيّها الإمام في "صفة الجنة" -يسر الله علينا فيها بلا محنة-:

"حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنا المخزومي (1)، قال: نا وهيب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".

قال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزُّرَقِيّ، فقال: حدثني أبو سعيد الخدري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. (2).

وخَرّجه أيضا البخاري كذلك؛ لوجود شرطه في "صفة الجنّة"، وهو معرفة السماع، فقال: وقال إسحاق بن إبراهيم، أنا المغيرة بن سلمة، قال: نا وهيب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها"، قال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش، فقال: حدثني أبو سعيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قال: "إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب الْجَوَاد الْمُضمَر السريع مائة عام ما يقطعها"(3).

فقد اتفقتما على تخريج هذا الحديث عن شيخ واحد، منصوصًا فيه عندكما على سماع النعمان من أبي سعيد.

(الموضع الثاني): قريب منه في الباب نفسه، من كتابك، قلت فيه: نا قتيبة بن سعيد، قال: نا يعقوب -يعني ابن عبد الرحمن القاريّ- عن أبي حازم، عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة، كما تراءون الكوكب في السماء".

قال: فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش، فقال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "كما تراءون الكوكب الدُّرّيّ في الأفق الشرقيّ، أو الغربيّ".

وخَرّجه البخاري أيضا في "صفة الجنة"، فقال: أنا عبد الله بن مسلمة، نا عبد العزيز (4)، عن أبيه، عن سهيل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغُرَف في

(1)"المخزومي": هو أبو هاشم، المغيرة بن سلمة المخزومي البصري، قال أبو الوليد الباجي عند ذكره هذا الحديث: ولم أر له في الكتاب غيره -يعني في "صحيح البخاري". وقال أبو القاسم اللالكائي: أخرجا له جميعًا، وأكثر له مسلم، سَمِعَ وُهيبا، وعبد الواحد بن زياد، رَوَى عنه علي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، والمحمدون: ابن المثنّى، وابن عبد الله الْمُخَرِّمِيّ، وابن بشار، قال ابن الجنيد: ثقة. وقال البخاري: مات سنة مائتين. راجع "السنن الأبين" ص 172 - 173.

(2)

"صحيح مسلم" 8/ 144.

(3)

"صحيح البخاريّ" 8/ 142.

(4)

"عبد العزيز" المذكور في هذا الحديث، هو أبو تَمام عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار.

ص: 490

الجنة، كما يتراءون الكوكب في السماء". قال أبي: فحدثت النعمان بن أبي عياش، فقال: أشهد لسمعت أبا سعيد الخدري يحدث، ويزيد فيه:"كما تراءون الكوكب الغارب في الأفق الشرقيّ والغربيّ".

(الموضع الثالث): قلتَ في "المناقب" من كتابك: نا قتيبة بن سعيد، قال: نا يعقوب -يعني ابن عبد الرحمن القاريّ- عن أبي حازم قال: سمعت سهلا يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فَرَطُكم على الحوض"، وفيه: قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، وأنا أحدثهم هذا الحديث، فقال: هكذا سمعتَ سهلا يقول؟ ، قال: فقلت: نعم، قال: فأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد: "فأقول: إنهم مني

"، وذكر الحديث بتمامه.

وخَرّجه البخاري في موضعين في "الفتن"، وفي "ذكر الحوض"، فقال في "كتاب الفتن" في باب قول الله سبحانه:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]: نا يحيى بن بكير، نا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فَرَطُكم على الحوض"، (ح) وفيه: قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، وأنا أحدثهم هذا، فقال: هكذا سمعتَ سهلًا؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه: قال: "إنهم مني

"، ثم ذكر تمام الحديث.

وقال في "باب الحوض": ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن مُطَرِّف، حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنا فَرَطُكم على الحوض، مَن مَرَّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظما أبدًا، لَيَرِدَنَّ عليّ أقوام أعرفهم، ويعرفونني، ثم يُحال بيني وبينهم". قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعتَ من سهل؟ ، فقلت: نعم، قال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته، وهو يزيد فيها: فأقول: "إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحْقًا سُحْقًا بعدي".

والعذر لك أَيُّها الإمام بادٍ، فإنّ النصّ على السماع فيما خَرَّجت أنت من هذه الأحاديث وَرَدَ مضَمَّنًا غُضُون الحديث ليس مُصَدَّرًا به، ولا ملاقيًا للناظر، وإنما ذُكِرت هذه الأحاديث في المسانيد، في مسند سهل؛ لأن هذه الزيادة إنما وقع ذكرها عن أبي سعيد بحكم التَّبَع، وقد جَرَّت هذه الغفلةُ عليك يرحمك الله غفلةً أُخرَى، رأينا أن نُنَبِّهَ عليها تَتِمَّةَ الفائدة، وصِلَةً بالنفع عائدةً، وهي أنك قلت: وأسند النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد الخدري ثلاثة أحاديث، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام يُفهِمُ ظاهرُه أنه لم يُسنِد غيرها، وقد أخرجت له في "صحيحك" ستة أحاديث من رواية النعمان بن أبي

ص: 491

عياش، عن أبي سعيد:[أحدها]: المتن المدرج في حديث: "إن في الجنة شجرة".

[والثاني]: المدرج أيضا في حديث: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة".

[والثالث]: المدرج في حديث: "أنا فَرَطُكُم على الحوض".

[والرابع]: حديث: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً، رجلٌ صَرَفَ الله وجهه عن النار قِبَلَ الجنة" تفردت به عن البخاري.

[والخامس]: حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل النار عذابًا مُنتَعِلٌ بنعل من نار يَغلِي دماغه من حرارة نعليه"، خَرَّجتهما في "الإيمان" من كتابك.

[والسادس]: حديث: "من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا"، خَرّجته في "الصيام" من كتابك، وخَرّجه البخاري في "الجهاد"، من غير نَصٍّ منكما على سماع النعمان له من أبي سعيد، وخَرّجه أبو عبد الرحمن النسائيّ في "مصنفه" ناصّا فيه على سماع النعمان من أبي سعيد، فقال: أنا مُؤَمَّل بن إيهاب، قال: نا عبد الرزاق، أنا ابن جريح، أخبرني يحيى بن سعيد، وسهيل بن أبي صالح، سمعا النعمان بن أبي عياش قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله

فذكره.

وللنعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد حديث سابعٌ، خَرّجه أبو بكر البزار في "مسنده"، قال البزار: نا أحمد بن منصور، قال: نا سعيد بن سليمان، قال: نا إسماعيل بن جعفر، قال: نا محمد بن أبي حرملة، عن النعمان بن أبي عياش الزُّرَقيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". قال الحافظ أبو عبد الله بن أبي بكر -وقد ذكر هذا الحديث، من طريق البزار-: إسناده صالح حسن، محمد بن أبي حرملة حدث عنه مالك بن أنس وغيره من الثقات.

قال ابن رُشيد: الذي يظهر أن مسلمًا رحمه الله إنما عَنَى بقوله: ثلاثة أحاديث الثلاثة الأخيرة مما ذكر التي لم يَرِد فيها منصوصًا سماع النعمان من أبي سعيد، ولم تَمُرّ بذكره الثلاثة الأحاديث التي نُصّ فيها على سماعه منه؛ لأنها وردت مُتْبَعَةً لحديث سهل بن سعد حسبما بَيّنّاه، على أن أبا عبد الرحمن النسائي قد نَصّ في "مصنفه" على سماع النعمان بن أبي عياش من أبي سعيد، في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من صام يوما في سبيل الله"(ح) فقال -أعني النسائي-: أنا مؤمل بن إيهاب، قال: نا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني يحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح، سمعا النعمان بن أبي عياش، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

ص: 492

قال ابن رُشيد: وهو في البخاري ومسلم، من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، بسنده في كتاب النسائي، وفيه: سمعا (1) النعمان عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير نَصٍّ على سماع النعمان من أبي سعيد، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق، ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور، وعبد الرحمن بن بشر، عن عبد الرزاق، وزاد مسلم في طرقه رواية ابن الهادي، والدَّرَاوَرْدي له عن سهيل، عن النعمان، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم (2)(3).

وقد ذكر حديثَ الشجرة الإمام الحافظ أبو نعيم، أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهانيّ في كتابه "المخَرّج" على كتابك، وفيه التنبيه على أنه من مسند أبي سعيد، قال:

أنا أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم كتابةً، قال: أنا أبو نعيم الحافظ، قال: نا أبو أحمد الغطريفيّ، نا عبد الله بن محمد بن شيرويه، نا إسحاق بن إبراهيم نا المخزوميّ، نا وهيب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"في الجنة شجرةٌ يَسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها"، قال: فحدثتُ به النعمان ابن أبي عياش، فحدثني عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"في الجنة شجرة، يَسِير الراكب على الفرس الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطعها"، رواه -يعني مسلما- عن إسحاق، حدثناه في مسند أبي سعيد الخدري.

فانظر كيف أشار الحافظ أبو نعيم إلى أن أبا أحمد الغطريفي حدثهم به عن مسند أبي سعيد، إذ هو مظنة الغفلة والنسيان اللازمين للإنسان، وأول ناسٍ أول الناس. انتهت مناقشة الحافظ ابن رُشيد للإمام مسلم رحمهما الله تعالى في رسالته "السنن الأبين، والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن" ص 148 - 182.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ملخّص المناقشة أن المصنّف رحمه الله ادّعى في هذا

(1) الضمير ليحيى بن سعيد، وسُهيل بن أبي صالح.

(2)

"صحيح البخاريّ" 4/ 31 - 32 وهذا الموضع الوحيد الذي أخرج فيه البخاريّ لسهيل موصولًا، ولم يَحتجّ به بمفرده، وإنما قرنه بيحيى بن سعيد الأنصاريّ، وقد استشهد به في "صحيحه" في موضعين آخرين، ووقع اختلاف عليه فيهما، وحديثنا هذا أخرجه مسلم 3/ 159. ذكره محقق "السنن الأبين" ص 179 - 180.

(3)

كتب ابن رُشيد هنا: ما نصّه: وقد نقصَ القاضيَ أبا الفضل من صدر "إكماله" التنبيهُ على هذه المواضع، والاستدراك على مسلم رحمه الله فيها، ولا بد للأول أن يُفَضِّل للآخر:

مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إِلَى

عَيْبٍ يُوَقِّيهِ مِنَ الْعَيْنِ

انتهى كلامه ص 180.

ص: 493

الدليل الرابع الإجماع على قبول أحاديث التابعين الثقات السالمين من وَصْمة التدليس، إذا رووا بالعنعنة عمن عاصروه من الصحابة، وإن لم يُعلم لقاؤهم لهم، وسماعهم منهم، كما أن ذلك مقبول في الصحابة على ما سبق بيانه، فناقشه ابن رُشيد رحمه الله بثلاثة أمور:

(أحدها): نقض الإجماع المدّعَى؛ إذ الخلاف في ذلك قائم. (وثانيها): أن الأمثلة التي ذكرها غير صحيحة؛ لما ثبت من هؤلاء الذين مثّل بهم ممن ثبت سماع بعضهم من بعض. (وثالثها): أن هذه أمثلة خاصّة جزئيّة، ولا يمكن بناء الحكم الكليّ بحكم الجزئيّات؛ إذ لا يطّرد؛ لاحتمال أن يكون لكل حديث حكم يخصّه بسبب قرائن انضمّت إليه مما يفيد اللقاء والسماع، فيصحّح ذلك الحديث اعتمادًا عليها، لا على مجرّد المعاصرة، وهذا كثير في استعمال المحدّثين، حتى إن المصنّف نفسه وقع له نظير ذلك، فقد أدخل في "الصحيح" أحاديث أسباط بن نصر، وقَطَن بن نسير، وأحمد بن عيسى، مع أنه لا يَعتمد عليهم، فلما اعتَرَض عليه ذلك أبو زرعة الرازيّ، اعتذر إليه بأنه إنما أدخل من أحاديثهم ما ثبت لديه صحّته مما رواه الثقات عن شيوخهم، لا لاعتماده عليهم، ثم بيّن سبب عدوله إليهم حيث قال: إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.

والحاصل أن قبول الأئمة لعنعنة المعاصرين من التابعين ليس لمجرد المعاصرة، بل لما انضمّ إلى ذلك من القرائن التي تفيد صحة اللقاء والسماع، فلا يتمّ الاحتجاج على الخصم بالاحتمال الضعيف مع وجود الاحتمال القويّ.

ثم ناقشه فيما ادّعاه من عدم ثبوت سماع كلّ من قيس بن أبي حازم، والنعمان بن أبي عيّاش من أبي مسعود رضي الله عنه، فقد ثبت سماع قيس منه عند البخاريّ في موضعين من "صحيحه"، وقد ثبت سماع النعمان عند البخاريّ، وعنده أيضًا في آخر الكتاب، إلا أنه نسيه في أوله، وقد اعتذر له عن هذا بأنه إنما وقع عنده ضمنًا، لا مصدّرا به.

وناقشه أيضًا في قوله: "وأسند النعمان بن أبي عيّاش، عن أبي سعيد الخدريّ ثلاثة أحاديث"، إذ أخرج له هو في "صحيحه"، ستة أحاديث، فكيف نسي هذا؟ .

ورحم الله تعالى الإمام ابن رُشيد حيث أجاد في هذه المناقشة الهادئة التي يظهر عليها سمة الاحترام والاعتذار للمصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى، ولنعم ما فعل، فإن هذه صفة العلماء المخلصين المبتغين وجه الله تعالى بعلمهم.

فتلخّص مما سبق أن أحاديث المتعاصرين إذا وردت معنعنةً، ليس فيها تصريح

ص: 494

بأن الراوي لقي شيخه الذي عنعن عنه، وشافهه بالحديث، فمنهم من ردّه مطلقًا، وشرط أن يرد في الحديث تصريح بالسماع من أول راو في الإسناد إلى آخره، وسبق أن هذا من مذاهب أهل التشديد؛ إذ أنه لن يسلم لنا من الأحاديث إلا القليل.

واشترط بعضهم طول الصحبة بينهما، كما سبق ذلك أيضًا، وهذا أيضًا مذهب متشدّد تُرَدّ به الأحاديث التي حملها الرواة عن شيوخهم أثناء الرحلة، وفي موسم الحجّ، ونحو ذلك.

وذهب الإمام مسلم إلى أنه تقبل عنعنة المتعاصرين، وإن لم يُصَرَّح فيها بالسماع، بشرط أن يكون هناك احتمال قويّ للِّقاء بينهما، وأن لا يرد تصريح بانتفاء سماع هذا الراوي من شيخه الذي يُحدّث به، واستدلّ على ذلك بأحاديث رُويت معنعنةً، ولم يَرِد فيها تصريح بالسماع، وأن أهل العلم بالأخبار قَبِلوها، ولم يردّوا منها شيئًا حسبما زعم، وقد سبق مناقشة ابن رُشيد له في هذا الادَّعاء، وأن الإجماع على خلاف ما ذهب إليه، ومما يُرَدّ به عليه ما سبق له في هذه المقدّمة، من أن الإرسال كان شائعًا في ذلك الوقت، فيلزم من ذلك أنه لا بدّ من وضع قيد ضابط للمسألة، ولا أقلّ في ذلك مما قاله من يشترط اللقاء والسماع، كما نُسب إلى ابن المدينيّ والبخاريّ، وغيرهما، وذلك أن يوجد هناك تصريح جُمْليّ من الراوي أنه سمع من شيخه الذي عنعن عنه، كي يُؤْمَنَ إرساله بشرط انتفاء وصمة التدليس عن هذا الراوي الذي حدّث بالعنعنة، وأن يصحّ السند إليه في الحديث الذي صرّح فيه بالسماع من شيخه ولو مرّة واحدة.

وبالجملة فهذا المذهب الذي وضع هذا القيد والضابط في وقت قد شاع فيه الإرسال أجدر بأن يكون راجحًا على ما ذهب إليه المصنّف من قبول العنعنة بدون القيد المذكور.

والحاصل أن القول باشتراط اللقاء والسماع، ولو لمرّة واحدة هو الحقّ الذي لا مرية فيه، وأن الاكتفاء بمجرد المعاصرة، وإن كان احتمال السماع قويًّا لا يخلو عن تساهل، كما أن اشتراط طول الصحبة تشدّد محض، وخير الأمور الوسط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بما سبق من كلام المصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

(المسألة الأولى): في البحث المتعلّق بقوله: "أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم العمل به إلخ":

(اعلم): أن القول بوجوب الاحتجاج بخبر الواحد العدل مجمع عليه بين جمهور أهل العلم، قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللهُ تعالى معلّقًا على كلام المصنّف: ما نصّه: هذا

ص: 495

الذي قاله هو مذهب جمهور المسلمين من السلف، والفقهاء والأصوليين، وذهبت الروافض، والقدريّة، وبعض أهل الظاهر إلى أنه لا يجب به عمل. انتهى كلام عياض (1).

قال الجامع: في نسبته المذهب المذكور إلى بعض الظاهرية نظر لا يخفى (2). والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: "وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمت- على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به إذا ثبت، ولم ينسخه غيره، من أثر، أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كلّ عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا إلا الخوارج، وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تُعدّ خلافًا. انتهى كلام ابن عبد البرّ (3).

وقال الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: خبر الواحد الثقة الذي ليس له معارضٌ أقوى منه، فإنه يجب قبوله؛ لأدلّة دلّت على ذلك، وقد يُتوقّف فيه أحيانًا لمعارضته بما يقتضي التوقّف فيه، كما توقّف النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول ذي اليدين حتى توبع عليه. انتهى (4).

وقال العلامة الصنعانيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (اعلم): أن الأقوال في إفادة خبر الواحد العلم ثلاثة، كما ذكره ابن الحاجب، والعضد، وغيرهما:

(الأول): أنه يفيد العلم بنفسه مطّردًا، أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم، وهو قول أحمد بن حنبل رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

(الثاني): أنه يحصل به العلم، ولا يطّرد، أي ليس كلما حصل حصل العلم به.

(الثالث): أنه لا يحصل العلم به إلا بقرينة.

قال العلامة الصنعانيّ -بعد ذكر هذه الأقوال-: والحقّ أن فيه ما يُفيد العلم، كما هو أحد الأقوال، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبعث الآحاد إلى الأقطار يدعون إلى الإيمان، ولا بدّ فيه من العلم، ولا يكفي فيه الدخول بالظنّ، وكان يترتّب على خبر الآحاد ما يترتّب على ما يفيد العلم، كقبول خبر الوليد بن عقبة في قصّة بني المصطلق، وإرادته غزوهم؛ استنادًا إلى خبره، حتى أنزل الله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية

(1)"إكمال المعلم" 1/ 168.

(2)

راجع ما كتبه الإمام أبو محمد بن حزم في هذا الموضوع في كتابه الممتع "إحكام الإحكام" في الأصول، فقد أطال البحث في ذلك 1/ 115 - 132.

(3)

"التمهيد" 1/ 2.

(4)

راجع "فتح الباري" للحافظ ابن رجب في آخر شرح حديث رقم (1227) ج 1 / ص 424.

ص: 496

[الحجرات: 6]. ثم المراد من العلم هنا بخبر الآحاد العلم بالمعنى الأخصّ، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الذي لا يبقى معه شكّ، ولا شبهة. انتهى كلام الصنعانيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى (1).

واختار أبو محمد بن حزم رَحِمَهُ اللهُ تعالى كونه يفيد العلم، حيث قال في كتابه "إحكام الأحكام": إن خبر الواحد العدل، عن مثله، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معًا، ثم أطال في الاحتجاج له، والردّ على مخالفيه في بحث نفيس لا تجده في غيره من الكتب، فراجعه 1/ 115 - 132.

وكذا اختار هذا القول ابن القيّم في كتابه "الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة"، وحقّقه تحقيقًا بديعًا، وذكر له من الأدلّة أحدًا وعشرين دليلًا أذكرها هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، فأقول:

(الدليل الأول): أن المسلمين لَمّا أخبرهم الواحد، وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حُوّلت إلى الكعبة، قبلوا خبره، وتركوا الحجّة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم يُنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شُكِروا على ذلك، وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يَتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يُفيد العلم، وغاية ما يقال فيه: إنه خبر اقترنت به قرينة، وكثير منهم يقول: لا يفيد العلم بقرينة، ولا غيرها، وهذا في غاية المكابرة، ومعلوم أن قرينة تلقّي الأمة بالقبول له، وروايته قرنًا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن، وأظهرها، فأيّ قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها.

(الدليل الثاني): أن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: 6]، وفي القراءة الأخرى:{فَتَبَيَّنُوا} ، وهذا يدلّ على الجزم بقبول خبر الواحد؛ لأنه لا يحتاج إلى التثبّت حتى يحصل العلم. ومما يدلّ عليه أيضًا أن السلف الصالح، وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة. وفي "صحيح البخاريّ": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدّة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من صحابيّ غيره، وهذا شهادة من القائل، وجَزْمٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نُسِبَ إليه من قول، أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم.

(1)"توضيح الأفكار" 1/ 26 - 27.

ص: 497

(الدليل الثالث): أن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك جزم منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخّرين أن المراد بالصّحَّة صحّة السند لا صحّة المتن، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحّة الإضافة إليه، وأنه قاله كما كانوا يَجزمون بقولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر، ونهى، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث كان يقع لهم في ذلك يقولون يُذْكَرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُروَى عنه، ونحو ذلك، ومن له خبرة بالحديث يفرّق بين قول أحدهم هذا الحديث صحيح، وبين قوله: إسناده صحيح، فالأول جزم بصحّة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني شهادة بصحّة سنده، وقد يكون فيه علّة، أو شذوذ، فيكون سنده صحيحًا، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه.

(الدليل الرابع): قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 132]. والطائفة تقع على الواحد، فما فوقه، فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم، والإنذار: الإعلام بما يفيد العلم، وقوله: لعلهم يحذرون نظير قوله في آياته المتلوّة والمشهودة {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، {لَعَلَّهُمْ يَهْتدُونَ} ، وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل العلم، لا فيما لا يفيد العلم.

(الدليل الخامس): قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتبعه، ولا تعمل به، ولم يزال المسلمون من عهد الصحابة يَقْفُون أخبار الآحاد، ويعملون بها، ويثبتون لله تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علمًا لكان الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، وأئمّة الإسلام كلّهم قد قَفَوا ما ليس لهم به علم.

(الدليل السادس): قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر، وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم، لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علمًا، وهو سبحانه لم يقبل: سلوا عدد التواتر، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقًا، فلو كان واحدًا لكان سؤاله وجوابه كافيًا.

(الدليل السابع): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية، وقال:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بلّغوا عنّي"، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: "أنتم مسوولون عنّي (1)، فما

(1) أخرجه البخاري في "صحيحه" بلفظ: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج

" الحديث.

ص: 498

أنتم قائلون"، قالوا: نشهد أنك بلّغت، وأدّيت، ونصحت"(1)، ومعلوم أن هذا البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلَّغ، ويَحصُل به العلم، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما تقوم بما يَحصُل به العلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرسل الواحد من أصحابه يُبلّغ عنه، فتقوم الحجة على من بلّغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بَلَّغَنا العدول الثقات من أقواله، وأفعاله، وسنّته، ولو لم يُفد العلم لم تقُم علينا بذلك حجة، ولا على من بَلَّغَه واحدٌ، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل، فيلزم من قال: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين: إما أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلّغ غير القرآن، وما رواه عنه عدد التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة، ولا تبليغٌ، وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علما، ولا يقتضي علمًا، وإذا بطل هذا الأمران، بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ، وتلقّتها الأمة بالقبول، لا تفيد علمًا، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.

(الدليل الثامن): قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، وقوله:{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن جعل هذه الأمة عُدُولًا خيارًا ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلّغوهم عن الله رسالته، وأَدُّوا عليهم ذلك، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم الماضية، وشهادتهم على أهل عصرهم، ومن بعدهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بكذا، ونهاهم عن كذا، فهم حجة الله على من خالف رسول الله، وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه الحجة، وتشهد هذه الأمة الوسط عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه، ويشهد كلّ واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به من أهل الشهادة، فلو كانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد لم يشهد به الشاهد، ولم تقم به الحجة على المشهود عليه.

(الدليل التاسع): قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} ، وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفّاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون حقّا، أو باطلًا، أو مشكوكًا فيها، لا يُدرى، هل هي حقّ، أو باطل، فإن كانت باطلًا، أو مشكوكًا فيها وجب اطّراحها، وأن لا يُلتفت إليها، وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلّيّة، وإن كانت حقّا، فيجب الشهادة بها على البتّ أنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الشاهد بذلك شاهدًا بالحقّ، وهو يَعلم صحّة المشهود به.

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه".

ص: 499

(الدليل العاشر): قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "على مثلها، فاشهدوا"، أشار إلى الشمس، ولم يزل الصحابة، والتابعون، وأئمة الحديث يشهدون عليه صلى الله عليه وسلم على القطع أنه قال كذا، وأمر به، ونهى عنه، وفعله لِمَا بلّغهم إياه الواحد، والاثنان، والثلاثة، فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وحرّم كذا، وأباح كذا، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن المشهود به كالشمس في الوضوح، ولا ريب أن كلّ من له التفات إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون ربّهم عِيانًا يوم القيامة، وأنّ قومًا من أهل التوحيد يدخلون النار، ثم يخرجون منها بالشفاعة، وأن الصراط حقّ، وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك، وأن الولاء لمن أَعتَق، إلى أضعاف أضعاف ذلك، بل يشهد بكلّ خبر صحيح مُتلقّى بالقبول، لم يُنكره أهل الحديث شهادة لا يشكّ فيها.

(الدليل الحادي عشر): أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم العلم يشهدون شهادةً جازمةً قاطعةً على أئمّتهم بمذاهبهم، وأقوالهم، ولو قيل لهم: إنها لم تصحّ عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار، وتعجّبوا من جهل قائله، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد، والاثنان، والثلاثة، ونحوهم، لم يروها عنهم عدد التواتر، وهذا معلومٌ يقينًا، فكيف حصل لهم العلم الضروريّ، أو المقارب للضروريّ بأن أئمتهم، ومن قلّدوهم دينهم أفتوا بكذا، وذهبوا إلى كذا، ولم يحصُل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وسائر الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بما رواه عنهم التابعون، وشاع في الأمّة، وذاع، وتعدّدت طرقه، وتنوّعت، وكان حرصه عليه أعم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم، إن هذا لهو العجب الْعُجاب! ! ! .

وهذا وإن لم يكن نفسه دليلًا يُلزمهم أحد أمرين: إما أن يقولوا: أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتاواه، وأقضيته تفيد العلم، وإما أن يقولوا: إنهم لا علم لهم بصحّة شيء مما نُقل عن أئمتهم، وأن النقول عنهم لا تفيد علمًا، وإما أن يكون ذلك مفيدًا للعلم بصحّته عن أئمّتهم، دون المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من أبين الباطل.

(الدليل الثاني عشر): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، ووجه الاستدلال أن هذا أمر لكلّ مؤمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ودعوته نوعان: مواجهة، ونوعٌ بواسطة المبلّغ، وهو مأمور بإجابة الدعوتين في الحالتين، وقد عُلم أن حياته في تلك الدعوة، والاستجابة لها، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علمًا، أو يُحييه بما لا يفيد علمًا، أو يتوعّده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علمًا بأنه إن لم يفعل عاقبه، وحال بينه وبين قلبه.

(الدليل الثالث عشر): قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وهذا يعمّ كلّ مخالف بلغه أمره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولو كان

ص: 500

ما بلغه لم يفد علمًا لما كان متعرّضًا بمخالفة ما لا يفيد علمًا للفتنة، والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر.

(الدليل الرابع عشر): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، ووجه الاستدلال أنه أمر أن يُرَدَّ ما تنازع فيه المسلمون إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والردُّ إلى الله هو الرّدّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم، وفصل النزاع لم يكن في الردّ إليه فائدة، إذ كيف يُردّ حكم المتنازع فيه إلى ما لا يُفيد علمًا البتّة، ولا يُدرَى حقّ هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع -بحمد الله تعالى- فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُفيد علمًا: إنا نرُدّ ما تنازعنا فيه إلى العقول، والآراء، والأقيسة، فإنها تفيد العلم.

(الدليل الخامس عشر): قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . ووجه الاستدلال أن كلّ ما حَكَمَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مما أنزل الله، وهو ذكر من الله تعالى، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تكفّل الله سبحانه بحفظه، فلو جاز على حكمه الكذب، والغلط، والسهو من الرواة، ولم يَقُم دليلٌ على غلطه، وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله، وكفالته لحفظه، وهذا من أعظم الباطل، ونحن لا ندّعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب، أو غلِط، أو سها، فلا بدّ أن يقوم دليلٌ على ذلك، ولا بدّ أن يكون في الأمّة من يَعرِف كذبه، وغلطه؛ ليتمّ حفظه لحججه، وأدلّته، ولا يلتبس بما ليس منها، فإنه من حكم الجاهليّة، بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كلّ هذه الأخبار، والأحكام المنقولة إلينا آحادًا كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} .

(الدليل السادس عشر): ما احتجّ به الشافعيّ نفسه، فقال: أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأدّاها، فربّ حامل فقه، غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يُغلّ عليهنّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"(1)، قال الشافعيّ: فلما ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها،

(1) حديث صحيح أخرجه في "مسنده" وابن ماجه، والحاكم.

ص: 501

وأدائها، وأمر أن يؤدّيها، ولو واحدٌ، دلّ على أنه لا يؤمر من يؤدّي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدِّيَ إليه؛ لأنه إنما يُؤَدَّى عنه حلالٌ يؤتي، وحرامٌ يُجتنب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويُعطَى، ونصيحة في دين ودنيا. ودلّ على أنه قد يَحمل الفقه غيرُ الفقيه، يكون له حافظًا، ولا يكون فيه فقيهًا. وأَمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتجّ به في أن إجماع المسلمين لازم. انتهى.

والمقصود أن خبر الواحد العدل لو لم يُفد علمًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يَقبَلَ من أُدِّي إليه إلا من عدد التواتر الذي لا يحصُلُ العلم إلا بخبرهم، ولم يدع للحامل المؤدّي إن كان واحدًا؛ لأن ما حمله لا يُفيد العلم، فلم يَفعل ما يستحقّ الدعاء وحده إلا بانضمامه إلى أهل التواتر، وهذا خلاف ما اقتضاه الحديث، ومعلومٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ندب إلى ذلك، وحثّ عليه، وأمر به لتقوم الحجة على من يُؤَدَّى إليه، فلو لم يُفد العلم لم يكن فيه حجة.

(الدليل السابع عشر): حديث أبي رافع رضي الله عنه الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أُلفيَنّ أحدًا منكم، متّكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري يقول: لا ندري ما هذا؟ بيننا وبينكم القرآن، ألا وإني أُوتيت الكتاب، ومثله معه". ووجه الاستدلال أن هذا نهيٌ عامّ لكلّ من بلغه حديثٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالفه، أو يقول: لا أقبل إلا القرآن، بل هو أمرٌ لازمٌ، وفرضٌ حتمٌ بقبول أخباره، وسننه، وإعلام منه صلى الله عليه وسلم أنها من الله، أوحاها إليه، فلو لم تُفد علمًا لقال من بَلَغَتْهُ: إنها أخبار آحاد لا تفيد علمًا، فلا يلزمني قبول ما لا علم لي بصحَّته، والله تعالى لم يكلّفني العملَ بما لم أعلم صحّته، ولا اعتقاده، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ونهاهم عنه، ولَمّا علم أن في هذه الأمة من يقوله حذّرهم منه، فان القائل: إن أخباره لا تفيد العلم هكذا يقول سواء: ما هذه الأحاديث، وكان سلف هؤلاء يقولون: بيننا وبينكم القرآن، وخلفهم يقولون: بيننا وبينكم أدلّة العقول، وقد صرّحوا بذلك، وقالوا: نقدّم العقول على هذه الأحاديث، آحادها ومتواترها، ونقدّم الأقيسة عليها.

(الدليل الثامن عشر): ما رواه مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت أسقي أبا عُبيدة بن الجرّاح، وأبا طلحة الأنصاريّ، وأُبيّ بن كعب شرابًا من فَضِيخ، فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حُرّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الْجِرار، فاكسرها، فقمت إلى مِهْرَاس لنا، فضربتها بأسفله، حتى كسرتها.

ووجه الاستدلال أن أبا طلحة أقدم على قبول خبر التحريم، حيث ثبت به

ص: 502

التحريم لِمَا كان حلالًا، وهو يمكنه أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شِفاهًا، وأكّد ذلك القبولَ بإتلاف الإناء، وما فيه، وهو مالٌ، وما كان لِيُقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيد خبره العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فقام خبر ذلك الآتي عنده، وعند من معه مقام السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لم يشكّوا، ولم يرتابوا في حدقه، والمتكلّفون يقولون: إن مثل ذلك الخبر لا يفيد العلم لا بقرينة، ولا بغير قرينة.

(الدليل التاسع عشر): أن خبر الواحد لو لم يُفد العلم لم يُثْبِت به الصحابة التحليل والتحريم، والإباحة، والفروض، ويجعل ذلك دينًا يُدان به في الأرض إلى آخر الدهر، فهذا الصدّيق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدّة، وجعله شريعةً مستمرّةً إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة فقط، وجعل حكم الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نصّ القرآن في إثبات فرض الأمّ، ثم اتّفق الصحابة، والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد. وأثبت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بخبر حَمَل بن مالك دية الجنين وجعلها فرضًا لازمًا للأمة. وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحّاك بن سفيان الكلابيّ وحده، وصار ذلك شرعًا مستمرّا إلى يوم القيامة. وأثبت شريعة عامّةً في حقّ المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وحده. وأثبت عثمان بن عفّان رضي الله عنه شريعةً عامّةً في سكنى المتوفّى عنها زوجها بخبر فُريعة بنت مالك وحدها. وهذا أكثر من أن يُذكَر، بل هو إجماعٌ معلوم منهم. ولا يقال على هذا: إنما يدلّ على العمل بخبر الواحد في الظنّيّات، ونحن لا ننكر ذلك؛ لأنا قد قدّمنا أنهم أجمعوا على قبوله، والعمل بموجبه، ولو جاز أن يكون كذبًا، أو غلطًا في نفس الأمر، لكانت مجمعةً على قبول الخطإ، والعمل به، وهذا قدح في الدين والأمّة.

(الدليل العشرون): أن الرّسُل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقبلون خبر الواحد، ويقطعون بمضمونه، فقبله موسى عليه السلام من الذي جاء من أقصى المدينة قائلًا له:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ، فجزم بخبره، وخرج هاربًا من المدينة. وقبِلَ خبر بنت صاحب مدين لَمّا قالت:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . وقبِلَ خبر أبيها في قوله: هذه ابنتي، وتزوّجها بخبره. وقبِل يوسف الصدّيق عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك، وقال:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} . وقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يُخبرونه بنقض عهد المعاهدين له، وغزاهم بخبرهم، واستباح دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريّهم. ورسُلُ الله صلوات الله وسلامه عليهم لم يرتّبوا على تلك الأخبار أحكامها، وهم يُجوّزون أن تكون كذبًا وغلطًا، وكذلك الأمة لم تُثبت الشرائع العامّة الكليّة بأخبار الآحاد، وهم يجوّزون أن يكون كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم-

ص: 503

في نفس الأمر، ولم يُخبروا عن الربّ تبارك وتعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به، بل يجوّزون أن يكون كذبًا وخطأ في نفس الأمر، هذا مما يَقطَع ببطلانه كلُّ عالم ببطلانه.

(الدليل الحادي والعشرون): أن خبر العدل الواحد الْمُتَلَقَّى بالقبول لو لم يفد العلم لم تجُز الشهادة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بمضمونه، ومن المعلوم المتيَقَّن أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن لم تزل تشهد على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بمضمون هذه الأخبار، جازمين بالشهادة في تصانيفهم، وخطابهم، فيقولون: شرع الله كذا وكذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكونوا عالمين بصدق تلك الأخبار، جازمين بها لكانوا قد شَهِدوا بغير علم، وكانت شهادة زور، وقولًا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، ولعمر الله هذا حقيقة قولهم، وهم أولى بشهادة الزور من سادات الأمة وعلمائها.

قال أبو عمرو بن الصلاح، وقد ذكر الحديث الصحيح المتلقَّى بالقبول المتّفق على صحّته: وهذا القسم جميعه مقطوع بصحّته، والعلم اليقينيّ النظريّ واقع به، خلافًا لقول من نفى ذلك، محتجّا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظنّ، وإنما تلقّته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظنّ، والظنّ قد يُخطىء. قال: وقد كنت أميل إلى هذا، وأحسبه قويّا، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أَوّلًا هو الصحيح؛ لأن ظنّ من هو معصوم من الخطإ لا يُخطىء، والأمة في إجماعها معصومة من الخطإ، ولهذا كان الإجماع المبنيّ على الاجتهاد حجةً، مقطوعًا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك. وهذه نكتة نفيسة نافعة. انتهى.

وقال إمام عصره المجمع على إمامته، أبو المظفّر، منصور بن محمد السمعانيّ في كتاب "الانتصار" له: ما خلاصته:

إذا صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتلقّته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا قول عامّة أهل الحديث، والمتقنين من القائمين على السنّة، وأما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال، فلا بدّ من نقله بطريق التواتر؛ لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدريّة، والمعتزلة، وكان قصدهم منه ردّ الأخبار، وتلقّفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يَقِفوا على مقصودهم من هذا القول.

ولو أنصف أهل الفِرَق من الأمّة لأقرّوا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدلّ كلُّ فريق منهم على صحّة ما يذهب

ص: 504

إليه بخبر الواحد. ترى أصحاب القدر يستدلّون بقوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ مولودٌ يولد على الفطرة"، وبقوله:"خلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم". وترى أهل الإرجاء يستدلّون بقوله: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنّة"، قيل: وإن زنى، وإن سرق؟ قال:"وإن زنى، وإن سرق". وترى الرافضة يحتجّون بقوله صلى الله عليه وسلم: "يُجاء بقوم من أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم". وترى الخوارج يستدلّون بقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر"، وبقوله:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدلّ بها أهل الفرق، ومشهورٌ معلوم استدلال أهل السنّة بالأحاديث، ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدّموهم ومتأخّروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصول الإيمان، والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحّدين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنّة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفي فضائل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومناقب أصحابه، وأخبار الأنبياء المتقدّمين وأخبار الرقاق، وغيرها مما يكثر ذكره، وهذه الأشياء علميّة، لا عمليّة، وإنما تُروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا: خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطإ، وجعلناهم لاغين، هازلين، مشتغلين بما لا يفيد أحدًا شيئًا، ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دوّنوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه، والاعتماد عليه. قال: وربّما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أدَّى هذا الدين إلى الواحد، فالواحد من الصحابة يؤدّيه إلى الأمة، وينقله عنه، فإذا لم يُقبل قول الراوي؛ لأنه واحد، رجع هذا العيب إلى المؤدّي -نعوذ بالله من هذا القول البشيع والاعتقاد القبيح- قال: ويدل عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث الرسلَ إلى الملوك إلى كسرى، وقيصر، وملك الإسكندرية، وإلى أُكيدر دُومة، وغيرهم من ملوك الأطراف، وكَتَبَ إليهم كتبًا على ما عرف، ونقل، واشتهر، وإنما بعث واحدًا واحدًا، ودعاهم إلى الله تعالى، والتصديق برسالته صلى الله عليه وسلم لإلزام الحجة، وقطع العذر؛ لقوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وهذه المعاني لا تحصلُ إلا بعد وقوع العلم ممن أرسل إليه بالإرسال والمرسل، وأن الكتاب من قِبَله، والدعوة منه، وقد كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافّةً كثيرًا من الرسل إلى هؤلاء الملوك، والكتاب إليهم لبَثَّ الدعوة إليهم في جميع الممالك، ودعا الناس إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة في هذا الأمر، وكذلك في أمور كثيرة، اكتفى بإرسال الواحد من الصحابة:

ص: 505

(منها): أنه بَعَثَ عليّا لينادي في موسم الحجّ بمنًى: "ألا لا يحجّنّ بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فمدّته إلى أربعة أشهر، ولا يدخل الجنّة إلا نفسٌ مسلمة". ولا بُدّ في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبسوط العذر في قتالهم، وقتلهم، وكذلك بعث معاذا إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام، ويعلّهم إذ أجابوا شرائعه، وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدًا يقول: إما أن تَدُوا، أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله، وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنزلهم على حكمه، وجاء أهلَ قباء واحدٌ، وهم في مسجدهم يصلّون، فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام، فانصرفوا إليه في صلاتهم، واكتفوا بقوله، ولا بدّ في مثل هذا من وقوع العلم به.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرسل الطلائع، والجواسيس في بلاد الكفر، ويقتصر على الواحد في ذلك، ويَقبَل قوله إذا رجع، وربّما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده، ومن تدبّر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيرته لم يخف عليه ما ذكرناه، وما يَرُدّ هذا إلا مكابرٌ، أو معاند. ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصدّيق، والفاروق رضي الله تعالى عنهما، أو غيرهما من وجوه الصحابة، يروي لك حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر من الاعتقاد، من جواز الرؤية على الله، وإثبات القدر، أو غير ذلك، لوجدت قلبك مطمئنّا إلى قوله، لا يداخلك شكّ في حدقه، وثبوت قوله، وفي زماننا ترى الرجل يسمع من أستاذه يُخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله بها، فيحصُلُ للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك، بحيث لا يختلجه شبهةٌ، ولا يَعتريه شكّ، وكذلك كثير من الأخبار التي قضيّتها العلم توجد بين الناس، فيحصل لهم العلم بذلك الخبر، ومن رجع إلى نفسه علم بذلك. انتهى ما كتبه ابن القيّم، منقولًا من "مختصر الصواعق المرسلة"(1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق من بيان الأدلّة أن الحقّ والصواب هو ما عليه مُحقِّقُو أهل السنّة والجماعة، من أن خبر الواحد الصحيح حجة ملزمة يفيد العلم والعمل جميعًا، ، وأن من خصّ ذلك بما في "الصحيحين" فقد خالف الصواب، وإن نسبه بعضهم إلى الجمهور، فكن مع الأدلّة، وإن كان القائلون بها قلّة، ولا تسلُك خلافها، وإن سلكه جِلّة الفقها، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو الأعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في البحث المتعلّق بقوله: "وَالْمُرْسَلُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي أَصْلِ

(1)"مختصر الصواعق المرسلة" 2/ 394 - 409.

ص: 506

قَوْلنَا، وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ":

(اعلم): أن المرسل في اللغة اسم مفعول، جمعه مراسيل بإثبات الياء وحذفِها، مأخوذ من الإرسال، وهو الإطلاق، وعدم المنع، قال عز وجل:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} الآية [مريم: 83]، فكأن المرسِلَ أطلق الإسناد، ولم يُقيّده براو معروف، أو من قولهم: ناقةٌ مِرْسالٌ: أي سريعة السير، كأن المرسِلَ أسرع فيه عَجِلًا، فحذف بعض إسناده، قال كعب بن زُهير [من البسيط]:

أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلِّغُهَا

إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ

أو من قولهم: جاء القوم أرسالًا: أي متفرّقين؛ لأن بعض الإسناد منقطع من بقيّته (1).

وأما اصطلاحًا فهو ما رفعه التابعيّ مطلقًا كبيرًا كان أو صغيرًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا، قولًا كان، أو فعلًا، أو تقريرًا، أو نحوها، هذا الصحيح في تعريفه، وقيل: هو ما رفعه التابعيّ الكبير، وهو الذي جلُّ روايته عن الصحابة رضي الله عنهم. وقيل: هو ما سقط من سنده راو واحد، أو أكثر، سواء كان من أوله، أو وسطه، أو آخره، وهو مذهب الفقهاء والأصوليين، وأبي بكر الخطيب، وجماعة من المحدّثين، كأبي داود، والنسائيّ، والحاكم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والدارقطنيّ، والبغويّ، والبيهقيّ، وغيرهم.

ثم اختلفوا في حكمه:

فذهب جماعة إلى أنه لا يُحتجّ به، وإليه ذهب الإمام الشافعيّ، ويقال: إنه أول من ردّ المرسل، كما سيأتي في كلام أبي داود، وهو مذهب أهل الحديث قاطبةً، كما نصّ عليه مسلم في كلامه السابق، وابن عبد البرّ في "التمهيد"، وحكاه الحاكم عن ابن المسيّب، ومالك، وهو قول كثير من الفقهاء والأصوليين، وأهل النظر.

واستدلّوا بجهل حال المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون غير صحابيّ، وإذا كان كذلك، فيحتمل أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمله عن تابعيّ آخر، وهكذا فيعود الاحتمال المذكور، ويتعدّد أما بالتجويز العقليّ فإلى ما لا نهاية له، وأما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وُجد من رواية التابعين بعضِهم عن بعض. أفاده الحافظ (2).

(1) راجع "فتح المغيث" 1/ 157.

(2)

راجع "النزهة" بحاشية "لقط الدرر" ص 74.

ص: 507

وإن اتّفق أن يكون المرسِل لا يروي إلا عن ثقة فالتوثيق مع الإبهام غير كاف، كما سبق بيانه، ولأنه إذا كان المجهول المسمّى لا يُقبل حتى يوثّق، فالمجهول عينًا وحالًا أولى. أفاده في "التدريب"(1).

وذهب جماعة إلى أنه حجة، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك في المشهور عنه، وجمهور أتباعهما، وأحمد في رواية عنه، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن كثير من الفقهاء، أو أكثرهم، قال: ونقله الغزاليّ عن الجماهير، وقال أبو داود في "رسالته": وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجّون بها فيما مضى، مثل سفيان الثوريّ، ومالك، والأوزاعيّ، حتى جاء الشافعيّ رحمه الله، فتكلّم في ذلك، وتابعه عليه أحمد وغيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول أبي داود رَحِمَهُ اللهُ تعالى: "حتى جاء الشافعيّ الخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه نُقل عن سعيد المسيب ردّه، وكذا عن مالك في رواية عنه، وبما نقل عن الزهريّ، وابن سيرين، وكلهم قبل الشافعيّ، وكذا عن ابن مهديّ، ويحيى القطّان، إلا أن يقال: إن اختصاص الشافعيّ به لمزيد التحقيق فيه. والله تعالى أعلم.

ثم إن قبوله مشروط -كما قال ابن عبد البرّ وغيره- بما إذا لم يكن الْمُرسِل ممن لا يحترز، ويُرسل عن غير الثقات، وإلا فلا خلاف في ردّه. قاله النوويّ في "شرح المهذّب". وقال غيره: محلّ قبوله عند الحنفيّة إذا كان مرسله من أهل القرون الثلاثة المفضّلة، فإن كان من غيرها فلا؛ لحديث: "ثم يفشوا الكذب

" الحديث (2).

ثم إن المحتجّين به اختلفوا هل هو أعلى من المسند، أو دونه، أو مثله، وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض، والذي ذهب إليه أحمد، وأكثر المالكيّة، والمحقّقون من الحنفيّة، كالطحاويِّ، وأبي بكر الرازيّ تقديم المسند، قال ابن عبد البرّ: وشبّهوا ذلك بالشهود يكون بعضهم أفضل حالًا من بعض، وأقعد، وأتمّ معرفةً، وإن كان الكلّ عُدولًا جائزي الشهادة. انتهى.

وذهب آخرون إلى أنه أعلى وأرجح من المسند، ووجّهوا ذلك بأن من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد تكفّل لك.

والمعنى: أن من ذكر إسناد الحديث، فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال

(1)"تدريب الراوي" 1/ 170.

(2)

حديث صحيح أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (109) والترمذيّ في "جامعه"(2091) من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 508

رواته، والبحث عنهم، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثِقَته فقد قطع لك بصحّته، وكفاك النظر فيه.

ومحلّ الخلاف فيما قيل إذا لم ينضمّ إلى الإرسال ضعفٌ في بعض رواته، وإلا فهو أسوأ حالًا من مسند ضعيف جزمًا، ولذا قيل: إنهم اتفقوا على اشتراط ثقة المرسِل، وكونه لا يرسل إلا عن الثقات. قاله ابن عبد البرّ، وأبو الوليد الباجيّ من المالكية، وأبو بكر الرازيّ من الحنفيّة.

ومن الْحُجج لهذا القول أن احتمال الضعف في الواسطة حيث كان تابعيًّا لا سيّما بالكذب بعيدٌ جدًّا، فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على عصر التابعين، وشهد له بعد الصحابة بالخيريّة، ثم للقرنين بعده، بحيث استُدلّ بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، فإرسال التابعيّ، بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة الحديثَ بالجزم من غير وُثوق بمن قاله مناف لها، مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل. قاله السخاويّ (1).

وإلى ما سبق من تعريف المرسل، والاختلاف في حكمه أشرت في "الشافية" بقولي:

مَا رَفَعَ التَّابِعُ مُطْلَقًا إِلَى

نَبِيِّنَا هُوَ الْمُسَمَّى مُرْسَلَا

وَقِيلَ بَلْ كَبِيرُهُمْ أَوْ مُطْلَقُ

مُنْقَطِعٍ كَذَا الْخِلَافَ حَقَّقُوا

وَالأَرْجَحُ الأَوَّلُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا

فِي حُكْمِهِ فَالأَكْثَرُون ضَعَّفُوا

ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ عَنْ جَمَاعَةِ

أَهْلِ الْحَدِيثِ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ

مِثْلُ سَعِيدٍ مَالِكٍ وَالزُّهْرِي

وَالشَّافِعِي وَأَحْمَدَ الأَبَرِّ

كَذَاكَ الاوْزَاعِي وَفِي أَكْثَرِ مَا

ذَكَرَ يُنْظَرُ فَلَيْسَ مُحْكَمَا

وَلَا يَصِحُّ عَنْهُمُ الطَّعْنُ عَلَى

إِطْلَاقِهِ بَلَى لِبَعْضٍ نُقِلَا

وهَكَذَا قِيلَ وَلَكِنْ مُسْلِمُ

أَطْلَقَهُ هُنَا فَسَلِّمْ تَسْلَمُ

عَزَاهُ لِلْمُحَدِّثِينَ مُطْلَقَا

فَضُعْفُهُ لَدَيْهِمُ تَحَقَّقَا

وَشَرَطَ الْحَبْرُ الإِمَامُ الشَّافِعِي

فِي مُرْسَلٍ يَقْبَلُهُ عَنْ تَابِعِي

عَدَمَ نَقْلِهِ لِمَنْ لَا يُقْبَلُ

وَعَدَمَ الْخِلَافِ حِينَ يَنْقُلُ

لِسَائِرِ الْحُفَّاظِ فِيمَا أَسْنَدَا

وَكَوْنَهُ مِنَ الْكِبَارِ اعْتَمَدَا

وَأَيْضًا اشْتَرَطَ فِي مُرْسَلِهِ

كَوْنَهُ مَعْضُودًا بِمُرْسِي أَصْلِهِ

تَعْضِدُهُ أَشْيَاءُ مِنْهَا الأَقْوَى

كَوْنُهُ مُسْنَدًا بِوَجْهٍ أَقْوَى

(1) راجع "فتح المغيث" 1/ 162.

ص: 509

كَذَاكَ مُرْسَلٌ أَتَى عَمَّنْ نَقَلْ

عَنْ غَيْرِ مَنْ مُرْسِلُ ذَا عَنْهُ حَمَلْ

كَذَاكَ إِنْ وَافَقَهُ مَا قَدْ وَرَدْ

عَنْ بَعْضِ أَصْحَاب النَّبِيِّ الْمُعْتَمَدْ

كَذَاكَ إِنْ وَافَقَهُ مَا نُقِلَا

عَنْ جُلَّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْضًا قُبِلَا

هَذَا خُلَاصَةُ مَقَالِ الشَّافِعِي

فِي مُرْسَلٍ يَقْبَلُهُ يَا سَامِعِي

وَهْوَ لَدَى الْحُجَّةِ دُونَ الْمُتَّصِلْ

وَنَحْوُ مَا قَالَهُ أَيْضًا قَدْ نُقِلْ

عَنْ غَيْرِهِ مِنْ جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ

كَنَجْلِ حَنْبَلٍ حَلِيفِ الْحِلْمِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): اشتهر عن الشافعي أنه لا يَحتَجّ بالمرسل إلا مراسيل سعيد بن المسيب، قال النوويّ في "شرح المهذّب"، وفي "الإرشاد": والإطلاق في النفي والإثبات غلط، بل هو يَحتَجّ بالمرسل بالشروط المذكورة، ولا يحتج بمراسيل سعيد إلا بها أيضًا، قال: وأصل ذلك أن الشافعي قال في "مختصر المزني": أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عن بيع اللحم بالحيوان"، وعن ابن عباس: أن جَزُورًا نَحِرت على عهد أبي بكر، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا، قال الشافعي: وكان القاسم ابن محمد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، يُحَرِّمون بيع اللحم بالحيوان، قال: وبهذا نأخذ، ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف أبا بكر الصديق، وإرسالُ ابن المسيب عندنا حسن.

فاختلف أصحابنا في معنى قوله: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" على وجهين، حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع"، والخطيب البغدادي وغيرهما:

[أحدهما]: معناه أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل، قالوا: لأنها فُتِّشَت، فوجدت مسندة.

[والثاني]: أنها ليست بحجة عنده، بل هي كغيرها، قالوا: وإنما رَجّح الشافعي بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز، قال الخطيب: وهو الصواب، والأول ليس بشيء؛ لأن في مراسيله ما لم يوجد مسندًا بحال من وجه يصح، وكذا قال البيهقي، قال: وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالًا فيما زعم الحفاظ، قال النوويّ: فهذان إمامان حافظان فقيهان شافعيان، متضلعان من الحديث والفقه والأصول، والْخِبْرَة التامة بنصوص الشافعي، ومعاني كلامه.

قال: وأما قول القفال: مرسل ابن المسيب حجة عندنا، فهو محمول على

ص: 510

التفصيل المتقدم، قال: ولا يصح تعلّق من قال: إنه حجة بقوله: إرساله حسن؛ لأن الشافعي لم يَعتَمِد عليه وحده، بل لِمَا انضم إليه من قول أبي بكر، ومن حضره من الصحابة، وقول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم، وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة. وقد نَقَل ابنُ الصباغ وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة، وهو مذهب مالك وغيره، فهذا عاضد ثان للمرسل.

وقال البلقيني: ذكر الماوردي في "الحاوي": أن الشافعي اختَلَفَ قوله في مراسيل سعيد، فكان في القديم يحتج بها بانفرادها؛ لأنه لا يُرسل حديثا إلا يوجد مسندًا، ولأنه لا يَروِي إلا ما سمعه من جماعة، أو من أكابر الصحابة، أو عضده قولهم، أو رآه منتشرا عند الكافّة، أو وافقه فعل أهل العصر، وأيضا فإن مراسيله سُبِرَت، فكانت مأخوذة عن أبي هريرة؛ لما بينهما من الوصلة والصِّهَارة، فصار إرساله كإسناده عنه، ومذهب الشافعي في الجديد أنه كغيره.

ثم هذا الحديث الذي أورده الشافعي من مراسيل سعيد يصلح مثالًا لأقسام المرسل المقبول؛ فإنه عضده قول صحابي، وأفتى أكثر أهل العلم بمقتضاه، وله شاهد مرسل آخر، أرسله مَنْ أخذ العلم عن غير رجال الأول، وشاهد آخر مسند، فَرَوى البيهقي في "المدخل" من طريق الشافعي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بَزَّة قال، قَدِمتُ المدينة، فوجدت جَزُورًا قد جُزرت، فجزئت أربعة أجزاء، كلّ جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءًا، فقال لي رجل من أهل المدينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى أن يباع حي بميت"، فسألت عن ذلك الرجل، فأُخبرت عنه خيرًا، قال البيهقي: فهذا حديث أرسله سعيد بن المسيب، ورواه القاسم بن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلًا، والظاهر أنه غير سعيد، فإنه أشهر من أن لا يعرفه القاسم بن أبي بزة المكي، حتى يسأل عنه، قال: وقد رَوَيناه من حديث الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أنّ الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة، فمنهم من أثبته، فيكون مثالًا للفصل الأول -يعني ما له شاهد مسند، ومنهم من لم يُثبته، فيكون أيضًا مرسلًا انضم إلى مرسل سعيد. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: إن لم يكن في الباب دليل سوى المرسل، فثلاثة أقوال للشافعي، ثالثها: -هو الأظهر- يجب الانكفاف لأجله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 511

(المسألة الرابعة): تَلَخَّص في الاحتجاج بالمرسل عشرة أقوال: حجة مطلقًا، لا يحتج به مطلقًا، يحتج به إن أرسله أهل القرون الثلاثة، يُحتج به إن لم يَروِ إلا عن عدل، يُحتج به إن أرسله سعيد فقط، يحتج به إن لم يكن في الباب سواه، هو أقوى من المسند، يحتج به ندبًا لا وجوبًا، يُحتج به إن أرسله صحابي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: نظمت هذه الأقوال العشرة بقولي:

وَجُمْلَةُ الأَقْوَالِ فِي الْمَرَاسِلِ

عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فَاسْتَفْصِلِ

بهِ احْتِجَاجٌ مُطْلَقًا وَقِيلَ لَا

أَوْ إِنْ أَتَى عَنِ الْقُرُونِ الْفُضَلَا

أَوْ إِنْ رَوَى مَنْ بِثِقَاتٍ قُيِّدَا

أَوْ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ يَجِي مُعْتَضِدَا

أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ جَا سِوَاهُ

وَبَعْضُهُمْ مِنْ مُسْنَدٍ أَعْلَاهُ

أَوْ حُجَّةٌ نَدْبًا أَوِ الصَّحَابِي

أَرْسَلَهُ فَذَا تَمَامُ الْبَابِ

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِالاحْتِجَاجِ

إِنْ يَعْتَضِدْ أَصَحّ فِي الْحِجَاجِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الحاكم في "علوم الحديث"(1): أكثر ما تُروَى المراسيل من أهل المدينة عن ابن المسيب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل البصرة عن الحسن البصري، ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن يزيد النخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول، قال: وأصحها كما قال ابن معين مراسيل بن المسيب؛ لأنه من أولاد الصحابة، وأدرك العشرة (2)، وفقيه أهل الحجاز ومفتيهم، وأول الفقهاء السبعة الذين يَعْتَدُّ مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس، وقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله، فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره، قال: والدليل على عدم الاحتجاج بالمرسل من الكتاب قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} الآية [التوبة: 122]، ومن السنة حديث:"تَسمَعون، ويُسمَع منكم، ويُسمَع ممن يَسمَع منكم"(3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) راجع "معرفة علوم الحديث" ص 25 - 26.

(2)

فيه نظرٌ؛ لأنه لم يُدرك أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه، فإنه وُلد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 44.

(3)

حديث صحيح أخرجه أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. راجع "صحيح الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 567 رقم الحديث (2947).

ص: 512

(المسألة السادسة): في ذكر ما جاء عن بعض أهل العلم في مراسيل التابعين:

قال عليّ بن المديني في مراسيل عطاء: كان عطاء يأخذ عن كلّ ضَرْب، مرسلات مجاهد أحب إليّ من مرسلاته بكثير. وقال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصحُّ المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح، فإنهما كانا يأخذان عن كلّ واحد، ومراسيل الحسن تقدم القول فيها عن أحمد. وقال ابن المديني: مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقلّ ما يسقط منها. وقال أبو زرعة: كلُّ شيء قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له أصلا ثابتًا ما خلا أربعةَ أحاديث. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما قال الحسن في حديثه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدنا له أصلًا إلا حديثًا أو حديثين. قال الحافظ ابن حجر: ولعله أراد ما جَزَم به الحسن. وقال غيره: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إنك تحدثنا فتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كُنتَ تُسنده لنا إلى من حدثك؟ فقال الحسن: أيها الرجل ما كَذَبنا ولا كُذِبنا، ولقد غزونا غزوة إلى خراسان، ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال يونس بن عبيد: سألت الحسن قلت: يا أبا سعيد إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لم تدركه، فقال: يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى -وكان في زمن الحجاج- كلُّ شيء سمعتني أقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن علي بن أبي طالب، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا (1).

وقال محمد بن سعيد: كلُّ ما أَسنَد من حديثه، أو رَوَى عمن سمع منه فهو حسن حجة، وما أَرسل من الحديث فليس بحجة. وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح، وأما مراسيل النخعي فقال ابن معين: مراسيل إبراهيم أحب إلي من مراسيل الشعبي. وعنه أيضًا: أعجب إليّ من مرسلات سالم بن عبد الله، والقاسم، وسعيد بن المسيب. وقال أحمد: لا بأس بها. وقال الأعمش: قلت لإبراهيم النخعي: أَسْنِد لي عن ابن مسعود، فقال: إذا حدثتكم عن رجل، عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد، عن عبد الله.

ومراسيل الزهري قال ابن معين، ويحيى بن سعيد القطان: ليس بشيء، وكذا قال

(1) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد أن حكى هذه القصّة: ما نصّه: وهذا إسناد ضعيف، ولم يثبُت للحسن سماع من عليّ. انتهى "شرح علل الترمذيّ" ص 177 نسخة تحقيق صبحي السامرّائيّ.

ص: 513

الشافعي، قال: لأنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم. ورَوَى البيهقي عن يحيى بن سعيد قال: مرسل الزهري شَرّ من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قَدَرَ أن يُسَمِّي سَمَّى، وإنما يَتْرُك من لا يَستحب أن يسميه. وكان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال قتادة شيئًا، ويقول: هو بمنزلة الريح. وقال يحيى بن سعيد: مرسلات سعيد بن جبير أحب إليّ من مرسلات عطاء، قيل: فمرسلات مجاهد أحب إليك أو مرسلات طاوس؟ قال: ما أقربهما، وقال أيضا: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان عن إبراهيم، وكل ضعيف. وقال أيضا: سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء؛ لأنه لو كان فيه إسناد صاح. وقال: مرسلات أبي إسحاق الهمداني، والأعمش، والتيمي، ويحيى بن أبي كثير شبه لا شيء، ومرسلات إسماعيل بن أبي خالد، ليس بشيء، ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلي، ومرسلات معاوية بن قُرّة أحب إلي من مرسلات زيد بن أسلم، ومرسلات ابن عيينة شبه الريح، وسفيان بن سعيد، ومرسلات مالك بن أنس أحب إليّ، وليس في القوم أصح حديثا منه (1).

وقد أشرت إلى بعض ما ذكر مع بيان ما نِقُل عن يحيى القطان في تقسيمه أسباب ضعف المرسل إلى أربعة أقسام في "شافية الغلل" فقلت:

وَذَكَرَ الْقَطَّانُ أَنَّ الْمُرْسَلَا

بَعْضُهُ أَضْعَفُ مِنَ الْبَعْضِ اعْقِلَا

وَضَرَبَ الأَمْثِلَةَ الْمُبَيِّنَهْ

حَاصِلُهَا أَرْبَعَةٌ مُعَيَّنَهْ

(أَحَدُهَا) مَنْ عَنْ ضَعِيفٍ يُعْرَفُ

بِالنَّقْلِ مَا أَرْسَلَهُ يُضَعَّفُ

(وَالثُّانِ) أَنَّ مَنْ لَهُ صَحَّ السَّنَدْ .. إِلَى الَّذِي أَرْسَلَ عَنْهُ لَا يُرَدّ

(ثَالِثُهَا) مَنْ كَانَ أَقْوَى حِفْظَا

مُرْسَلُهُ أَوْهَى فَدَعْ لِتَحْظَى

إِذْ أَنَّهُ يَحْفَظُ كُلَّ مَا وَصَلْ

لِسَمْعِهِ وَفِيهِ وَاهٍ ذُو خَلَلْ

(رَابِعُهَا) مَنْ كَانَ حَافِظًا إِذَا

عَنْ ثِقَةٍ رَوَى أَبَانَ الْمَأْخَذَا

فَتْرُكُهُ اسْمَ شَيْخِهِ دَلَّ عَلَى

غَيْرِ الرِّضَا بهِ فَرَيْبُنَا جَلَا

لِذَا رَأَوْا مَرَاسِلَ الزُّهْرِيِّ

وَاهِيَةً لِشَكِّنَا الْقَوِيِّ

وَاخْتَلَفُوا فِي مُرْسَلَاتِ الْحَسَنِ

صَحَّحَهَا قَوْمٌ حَلِيفُو الْحَسَنِ

كَابْنِ الْمَدِينِيِّ الإِمَامِ الثَّبَتِ

وَكَأَبِي زُرْعَةَ عَالِي الْحُجَّةِ

وَبَعْضُهُمْ ضَعَّفَهَا لِكَوْنِهِ

يَأْخُذُ عَنْ كُلٍّ بِلَا تَبْيِينِهِ

وَمُرْسَلَاتُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَحَبّ

مِنْ مُرْسَلَاتِهِ لَدَى يَحْيَى الأَحَبّ

وَمُرْسَلُ الشَّعْبِيِّ قَدْ صحَّ لَدَى

ابْنِ الْمَدِينِيِّ فَخُذْ نِلْتَ الْهُدَى

(1) راجع "التدريب" ج 1 ص 205.

ص: 514

وَمُرْسَلَاتُ النَّخَعِيِّ صُحِّحَتْ

سِوَى حَدِيثَيْنِ لَدَى يَحْيَى الثَّبَتْ

حَدِيثُ إِيجَابِ الْوُضُوءِ بالضَّحِكْ

وَتَاجِرُ الْبَحْرَيْنِ فَاهْجُرْ مَا تُرِكْ

وَكَوْنُهَا أَعْلَى مِنَ الْمُسْنَدِ إِنْ

إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَزَاهَا قُلْ قَمِنْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في البحث المتعلّق بالتدليس:

"التدليس": مصدر دَلّس، يقال: دَلّسَ البائع تدليسًا: إذا كتم عيبَ السلعة من المشتري وأخفاه. قاله الخطابيّ وجماعةٌ. ويقال: أيضًا دَلَسَ دَلْسًا، من باب ضرب، والتشديد أشهر في الاستعمال. قال الأزهريّ: سمعتُ أعرابيّا يقول: ليس لي في الأمر وَلْسٌ ولا دَلْسٌ: أي لا خيانة، ولا خَدِيعةٌ. والدُّلْسَة بالضمّ: الخديعة أيضًا. وقال ابن فارس: وأصله من الدَّلَس، وهو الظلمة. قاله الفيّوميّ (1).

وقال في "فتح المغيث": واشتقاقه من الدّلَس بالتحريك، وهو اختلاط الظلام، كأنه لتغطيته على الواقف عليه أظلم أمره. انتهى (2). وقال في "توضيح الأفكار": إنه مشتقّ من الدّلَس، وهو الظلام. قاله ابن السِّيد، وكأنه أظلم أمره على الناظر لتغطيته وجه الصواب. وقال البقاعيّ: إنه مأخوذ من الدّلَس بالتحريك، وهو اختلاط الظلام الذي هو سبب لتغطية الأشياء عن البصر، ومنه التدليس في البيع، يقال: دَلّس فلان على فلان: أي ستر عنه العيب الذي في متاعه، كأنه أظلم عليه الأمر. انتهى (3).

ثم إن التدليس قسمان: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ:

أما تدليس الإسناد، فتحته خمسة أقسام:

(أحدها): أن يروي عمن عاصره، أو لقيه ما لم يسمعه منه، موهما سماعه، حيث أورده بلفظ يوهم الاتصال، ولا يقتضيه، قائلًا: قال فلان، أو عن فلان ونحوه، كأن فلانا قال، فإن لم يكن عاصره فليس الرواية عنه بذلك تدليسًا على المشهور.

وقال قوم: إنه تدليس، فحدوه: بأن يُحَدِّث الرجل عن الرجل بما لم يسمعه منه، بلفظ لا يقتضي تصريحا بالسماع، قال ابن عبد البر: وعلى هذا في سَلِمَ أحدٌ من التدليس لا مالك ولا غيره. وقال الحافظ أبو بكر البزار، وأبو الحسن بن القطان: هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمع منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه، قال: والفرق بينه وبين الإرسال أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه.

(1)"المصباح المنير" 1/ 198.

(2)

"فتح المغيث" 1/ 208.

(3)

راجع "توضيح الأفكار على تنقيح الأنظار" 1/ 346 - 347.

ص: 515

قال العراقي: والقول الأول هو المشهور، وقيده الحافظ بقسم اللقاء، وجعل قسم المعاصرة إرسالًا خفيًّا.

(ثانيها): أن يُسقط أداةَ الرواية، ويُسَمِّي الشيخَ فقط، فيقول: فلان، قال علي بن خشرم: كنا عند ابن عيينة، فقال: الزهري، فقيل له: حدثكم الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا ولا ممن سمعه من الزهري، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. وسَمَّى الحافظ هذا النوع بتدليس القطع.

(الثالث): تدليس التسوية، سماه بذلك ابن القطان، وهو أن لا يُسقط شيخه، بل يُسقط شيخ شيخه، أو أعلى منه؛ لكونه ضعيفا، وشيخه ثقة، أو صغيرًا، ويأتي فيه بلفظ محتمل عن الثقة الثاني؛ تحسينًا للحديث، وهو أشر أنواع التدليس؛ لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفا بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية، قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة، وفيه غرور شديد.

وممن اشتهر بفعل ذلك بقية بن الوليد، قال ابن أبي حاتم في "العلل": سمعت أبي، وذَكَر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه، عن بقية، حدثني أبو وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر، حديث:"لا تَحمَدُوا إسلام المرء حتى تَعرِفوا عقدة رأيه"، فقال أبي: هذا الحديث له أمر قَلَّ من يَفْهَمه، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر، وعبيد الله كنيته أبو وهب، وهو أسدي، فكناه بقية، ونسبه إلى بني أسد؛ كي لا يُفطَن له، حتى إذا ترك إسحاق لا يُهتَدَى له، قال: وكان بقية من أفعل الناس لهذا.

وممن عُرِف به أيضا الوليد بن مسلم، قال أبو مسهر: كان يحدث بأحاديث الأوزاعي من الكذابين، ثم يدلسها عنهم. وقال صالح جزرة: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد: قد أفسدت حديث الأوزاعي، قال: كيف؟ قلتُ: تروي عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرك يُدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبدَ الله بن عَامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري أبا الهيثم بن مرّة، قال: أُنبِل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء، قلت: فإذا روى هؤلاء، وهم ضعفاء أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت، وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضُعِّف الأوزاعي، فلم يلتفت إلى قولي. قال الخطيب: وكان الأعمش، وسفيان الثوري يفعلون مثل هذا.

قال الحافظ العلائي، وبالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقًا وشرها.

قال الحافظ العراقيّ: وهو قادح فيمن تعمد فعله. وقال الحافظ: لا شك أنه

ص: 516

جرح، وإن وُصف به الثوري والأعمش، فالاعتذار أنهما لا يفعلانه إلا في حق من يكون ثقة عندهما، ضعيفًا عند غيرهما.

قال: ثم إن ابن القطان إنما سماه تسوية، بدون لفظ التدليس، فيقول: سَوّاه فلان، وهذه تسوية، والقدماء يسمونه تجويدًا، فيقولون: جَوّده فلان، أي ذكر من فيه من الأَجْوَاد، وحذف غيرهم، قال: والتحقيق أن يقال: متى قيل تدليس التسوية، فلا بد أن يكون كلّ من الثقات الذين حُذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد، قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل: تسوية بدون لفظ التدليس، لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه، كما فَعَل مالك، فإنه لم يقع في التدليس أصلًا، ووقع في هذا، فإنه يروي عن ثور، عن ابن عباس، وثور لم يلقه، وإنما رَوَى عن عكرمة عنه، فأسقط عكرمةَ؛ لأنه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع بأن شرط الساقط هنا أن يكون ضعيفًا، فهو منقطع خاص.

(رابعها): تدليس العطف، زاده الحافظ، وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه، ويكون قد سمع من أحدهما دون الآخر، فيُصرّح عن الأول بالسماع، ويعطف الثاني عليه، فيوهم بذلك أنه حدّث عنه بالسماع أيضًا، وإنما حدّث بالسماع عن الأول فقط، ونوى القطع، فقال: وفلان: أي وحدّث فلان.

ومثاله: ما نَقَله الحاكم والخطيب عن هشيم، أن أصحابه قالوا له: نريد أن تحدثنا اليوم شيئًا لا يكون فيه تدليس، فقال: خذوا، ثم أملى عليهم مجلسًا يقول في كل حديث منه: حدثنا فلان وفلان، ثم يسوق السند والمتن، فلما فرغ قال: هل دلست لكم اليوم شيئًا؟ قالوا؟ لا، قال: بلى، كلُّ ما قلت فيه: وفلان، فإني لم أسمعه منه.

(الخامس): تدليس القطع والحذف، ومثاله: ما ذكر محمد بن سعيد عن أبي حفص عمر بن علي المقدمي، أنه كان يدلس تدليسا شديدا، يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة الأعمش، وقال أحمد بن حنبل: كان يقول حجاج: سمعته، يعني حدثنا آخر، وقال جماعة: كان أبو إسحاق يقول: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، فقوله: عبد الرحمن تدليس، يوهم أنه سمعه منه.

وحكم هذا القسم الأول أنه مكروه جدّا، ذمّه أكثر العلماء، وبالغ شعبة في ذمه، فقال: لأن أزني أحب إليّ من أن أدلّس (1) وقال: التدليس أخو الكذب. قال ابن

(1) وروي "أُربي" بالراء المهملة، وبالباء الموحدة، مضموم الهمزة من الربى؛ قيل: وهذ أولى؛ لأن الربا أخفّ من الزنا، ولما فيه من المناسبة بين الربا والتدليس؛ لأن الربا أصله التكثير والزيادة، ومتى دلّس فقد كثّر مروياته وتُعُقّب بأن الربا ليس بأخفّ من الزنا؛ بل هو أشد؛ لحديث عبد الله بن =

ص: 517

الصلاح: وهذا منه إفراط، محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير.

ثم قال فريق من أهل الحديث والفقهاء: مَن عُرف به صار مجروحًا، مردود الرواية مطلقًا، وإن بَيَّن السماع، وقال الجمهور: مَن يَقبل المرسل يقبله مطلقًا، حكاه الخطيب، وأما ما نقله النوويّ في "شرح المهذّب" من الاتفاق على رَدّ ما عنعنه تبعًا للبيهقي وابن عبد البر، فمحمول على اتفاق من لا يَحتج بالمرسل، لكن حكى ابن عبد البر عن أئمة الحديث أنهم قالوا: يُقبل تدليس ابن عيينة؛ لأنه إذا وُقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما، ورجحه ابن حبان، قال: وهذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان ابن عيينة، فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد له خبر دَلّس فيه إلا وقد بَيّن سماعه عن ثقة مثل ثقته، ثم مَثّل ذلك بمراسيل كبار التابعين، فإنهم لا يُرسلون إلا عن صحابي، وسبقه إلى ذلك أبو بكر البزار، وأبو الفتح الأزدي، وعبارة البزار: مَن كان يدلس عن الثقات، كان تدليسه عند أهل العلم مقبولًا. وفي "الدلائل" لأبي بكر الصيرفي: مَن ظَهَر تدليسه عن غير الثقات لم يُقبل خبره حتى يقول: حدثني، أو سمعت. فعلى هذا فهو قول ثالث مفصّل غير التفصيل الآتي.

قال ابن الصلاح والنوويّ -وعُزي للأكثرين، منهم: الشافعي، وابن المديني، وابن معين، وآخرون-:"الصحيح التفصيل، في رواه بلفظ محتمل، لم يُبَيّن فيه السماع فمرسل لا يقبل، وما بين فيه السماع، كسمعت، وحدثنا، وأخبرنا، وشبهها فمقبول، محتجّ به، وفي "الصحيحين" وغيرهما من هذا الضرب كثير، كقتادة، والسفيانين، وغيرهم، وهذا الحكم جارٍ فيمن دلس مرّة واحدةً، وما كان في "الصحيحين"، وشبههما من الكتب الصحيحة عن المدلسين بـ "عن"، فمحمول على ثبوت السماع له من جهة أخرى، وإنما اختار صاحب "الصحيح" طريق العنعنة على طريق التصريح بالسماع؛ لكونها على شرطه، دون تلك.

وفَصّل بعضهم تفصيلا آخر، فقال: إن كان الحامل له على التدليس تغطية الضعيف فجرح؛ لأن ذلك حرامٌ وغَشٌّ، وإلا فلا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التفصيل الذي قاله الأكثرون هو الأرجح عندي.

وحاصله أن المدلّس إن صرّح بالسماع قُبلت روايته، وإلا فلا. والله تعالى أعلم بالصواب.

= حنظلة رضي الله عنه مرفوعًا: "درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم أشدّ عند الله من ستة وثلاثين زنية". رواه أحمد، والطبرانيّ بإسناد صحيح. انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 636 رقم (3375).

ص: 518