المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(القسم الثاني من قسمي التدليس): تدليس الشيوخ، وهو أن يسمي - قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الحديث:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الحديث:

- ‌شرح الأثر:

- ‌مسألتان تتعلّقان بهذا الأثر:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌‌‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌(المسألة الأولى): في حدّ الغيبة لغةً، وشرعًا:

- ‌(المسألة الثانية): في حكم الغيبة:

- ‌(المسألة الرابعة): قد وردت أحاديث في فضل من ردّ عن عرض أخيه:

- ‌(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة:

- ‌[تنبيهات]:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌مسائل تتعلقّ بهذا الحديث:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌مسألتان تتعلّقان بالحديث المذكور:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌مسائل تتعلّق بحديث جابر رضي الله عنه هذا:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في أكل لحوم الخيل:

- ‌(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في أكل لحوم الحمر الأهليّة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجمالّي لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجمالّي لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌[تنبيهات]:

الفصل: (القسم الثاني من قسمي التدليس): تدليس الشيوخ، وهو أن يسمي

(القسم الثاني من قسمي التدليس): تدليس الشيوخ، وهو أن يسمي شيخه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يُعرَف به، ويدخل في هذا القسم التسوية أيضًا، بأن يصف شيخ شيخه بذلك. قاله الحافظ.

وحكم هذا القسم أنه مكروه، وهو أخفّ من الأول، وسببها توعير طريق معرفته على السامع، كقول أبي بكر بن مجاهد أحد أئمة القراء: حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله، يريد أبا بكر بن أبي داود السجستاني، وفيه تضييع للمروي عنه، والمروي أيضًا؛ لأنه قد لا يُفطَن له، فيُحكم عليه بالجهالة.

ثم إن الكراهة تختلف بحسب غرضه، فإن كان لكون الْمُغَيَّر اسمه ضعيفًا، فيدلّسه حتى لا يَظهر روايته عن الضعفاء، فهو شَرُّ هذا القسم، والأصح أنه ليس بجرح، وجزم ابن الصباغ في "الْعُدّة" بأنّ مَن فَعَلَ ذلك لكون غير ثقة عند الناس، فغَيّرَه ليقبلوا خبره، يجب أن لا يُقبَل خبره، وإن كان هو يَعتَقد فيه الثقة؛ لجواز أن يَعرف غيره من جرحه ما لا يَعرفه هو. وقال الآمدي: إن فعله لضعفه فجرح، أو لضعف نسبه، أو لاختلافهم في قبول روايته فلا. وقال ابن السمعاني: إن كان بحيث لو سُئل عنه لم يبينه فجرح، وإلا فلا.

ومنع بعضهم إطلاق اسم التدليس على هذا، رَوَى البيهقي في "المدخل" عن محمد بن رافع قال: قلت لأبي عامر: كان الثوري يُدلّس، قال: لا، قلت: أليس إذا دخل كُورة يَعلَم أن أهلها لا يكتبون حديث رجل قال: حدثني رجل، وإذا عُرف الرجل بالاسم كناه، وإذا عُرف بالكنية سماه؟ قال: هذا تزيين، ليس بتدليس.

وإن كان لكونه صغيرا في السن، أو متأخر الوفاة حتى شاركه من هو دونه، فالأمر فيه سهل، أو سمع منه كثيرًا، فامتنع من تكراره على صورة واحدة؛ إيهاما لكثرة الشيوخ، أو تفننا في العبارة فسهل أيضًا. وقد يسمح الخطيب وغيره من الرواة المصنفين بهذا.

[تنبيهات]:

(الأول): من أقسام التدليس إعطاء شخص اسم آخر مشهورٍ تشبيهًا، ذكره ابن السبكي في "جمع الجوامع"، قال: كقولنا: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، يعني الذهبي؛ تشبيها بالبيهقي حيث يقول ذلك، يعني به الحاكم، وكذا إيهام اللُّقِيّ والرحلة، كحدثنا من وراء النهر يوهم أنه جيحون، ويريد نهر عيسى ببغداد، أو الجيزة بمصر، وليس ذلك بجرح قطعًا؛ لأن ذلك من المعاريض، لا من الكذب. قاله الآمدي في "الإحكام"، وابن دقيق العيد في "الاقتراح".

ص: 519

(الثاني): قسَّم الحاكم التدليس إلى ستة أقسام: [الأول]: قوم لم يميزوا بين ما سمعوه وما لم يسمعوه.

[الثاني]: قوم يُدلسون، فإذا وقع لهم من يَنقُر عنهم، ويُلِحُّ في سماعاتهم ذكروا له، ومَثّله بما حَكَى ابن خشرم عن ابن عيينة.

[الثالث]: قوم دَلَّسوا عن مجهولين، لا يُدرَى مَن هم؟ ومَثّله بما رُوي عن ابن المديني قال: حدثني حسين الأشقر، حدثنا شعيب بن عبد الله، عن أبي عبد الله، عن نَوْف، قال: "بِتُّ عند علي

"، فذكر كلامًا، قال ابن المديني: فقلت لحسين: ممن سمعت هذا؟ فقال: حدثنيه شعيب، عن أبي عبد الله، عن نوف، فقلت لشعيب: مَن حدثك بهذا؟ فقال أبو عبد الله الجصاص، فقلت: عمن؟ قال: عن حماد القصار، فلقيت حمادًا، فقلت له: من حدثك بهذا؟ قال: بلغني عن فرقد السَّبَخِيّ، عن نوف.

فإذا هو قد دلّس عن ثلاثة، وأبو عبد الله مجهول، وحماد لا يُدرَى من هو؟ وبلغه عن فرقد، وفرقد لم يدرك نوفا.

[الرابع]: قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير، وربما فاتهم الشيء عنهم، فيدلسونه.

[الخامس]: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم، فيقولون: قال فلان، فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم سماع.

قال البلقيني: هذه الخمسة كلها داخلة تحت تدليس الإسناد. انتهى.

ثم ذكر [السادس]، وهو تدليس الشيوخ المتقدّم.

(الثالث): قال الحاكم رحمه الله: أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي وخراسان والجبال وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا نعلم أحدًا من أئمتهم دَلّسوا، قال: وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة، ونفر يسير من أهل البصرة، قال: وأما أهل بغداد فلم يُذكر عن أحد من أهلها التدليس، إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغَنديّ الواسطي، فهو أول من أحدث التدليس بها، ومن دَلّس من أهلها إنما تبعه في ذلك. انتهى.

وقد أفرد الخطيب كتابا في أسماء المدلسين، ثم ابن عساكر.

(الرابع): استُدلّ على أن التدليس غير حرام بما أخرجه ابن عديّ عن البراء قال: "لم يكن فينا فارس يوم بدر إلا المقداد"، قال ابن عساكر: قوله: "فينا" يعني

ص: 520

المسلمين؛ لأن البراء لم يشهد بدرًا. ذكر هذا كلّه في "التدريب"(1).

(الخامس): أن الحافظ رحمه الله قسم المدلّسين في رسالته خمسة أقسام، وقد ذكرتُ ذلك، في نظمي لتلك الرسالة، فقلت:

أَوَّلُهَا مَنْ لَيْسَ يُوصَفُ بِذَا

إِلَّا بنُدْرَةٍ فَقُلْ يَا حَبَّذَا

وَالثَّانِ مَنْ تَحْتَمِلُ الأَئِمَّةُ

لِكَوْنِهِ قَلَّلَ وَهْوَ قُدْوَةُ

ثَالِثُهَا مَنْ أَكْثَرُوا فَأُهْمِلُوا

إِلَاّ إِذَا السَّمَاعُ مِنْهُمْ يُنْقَلُ

وَرَدَّهُمْ بَعْضٌ وَبَعْضٌ قَبِلَا

مِنْهُمْ عَلَى الإِطْلَاقِ فِيهِمَا انْجَلَى

رَابِعُهَا مَنْ بِاتِّفَاقٍ طُرِحُوا

إِلَّا إِذَا السَّمَاعَ حَقًّا صَرَّحُوا

لِكَثْرَةِ التَّدْلِيسِ عَمَّنْ جُهِلَا

وَالضُّعَفَاءِ فَاحْذَرَنْ أَنْ تَنْقُلَا

خَامِسُهَا مَنْ ضُعْفُهُمْ قَدْ نَجَمَا

بِمَا سِوَى التَّدْلِيسِ فَارْدُدْ دَائِمَا

إِلَّا إِذَا وُثِّقَ مَنْ ضُعْفُهُ قَلّ

فَاقْبَلْ لِمَا سَمَاعُهُ نَصًّا حَصَلْ

(المسألة الثامنة): في البحث المتعلّق بقوله: "فيُخبرون بالنزول إن نزلوا، وبالصعود إن صَعِدوا"، وهو النوع المسمّى في "مصطلح أهل الحديث" بـ"العالي والنازل":

(اعلم): أن الإسناد خِصِّيصَة فاضلة لهذه الأمة، ليست لغيرها من الأمم، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: نَقلُ الثقة عن الثقة يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، خَصّ الله به المسلمين، دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال، فيوجد في كثير من اليهود، لكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم، بل يَقِفُون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه، قال: وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين، فكثير في نقل اليهود والنصارى، قال: وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلًا، ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولس.

وقال أبو علي الْجَيّاني: خَصّ الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها مَن قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب.

ومن أدلة ذلك ما رواه الحاكم وغيره عن مطر الوراق في قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: إسناد الحديث (2).

(1) راجع "تدريب الراوي" 1/ 223 - 232.

(2)

راجع "التدريب" 2/ 161.

ص: 521

وقال الحافظ السخاويّ رحمه الله: وقد روينا من طريق أبي العبّاس الدّغُوليّ، قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفّر يقول: إن الله قد أكرم هذه الأمة، وشرّفها، وفضّلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد، إنما هو صُحُف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات، وهذه الأمة إنما تنصّ الحديث عن الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشدّ البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسةً لمن فوقه ممن كان أقلّ مجالسةً، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا، أو أكثر حتى يُهذّبوه من الغلط والزلل، ويَضبِطوا حروفه، ويعُدّوه عدّا، فهذا من أفضل نعم الله على هذه الأمّة، فنستوزع الله شكر هذه النعمة (1).

وقال أبو حاتم الرازيّ: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أُمناء يحفظون آثار الرسول إلا في هذه الأمّة (2).

وعند الحاكم في ترجمة عبد الله بن طاهر من "تاريخه" بسنده إلى إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ قال: كان عبد الله بن طاهر إذا سألني عن حديث، فذكرته له بلا إسناد، سألني عن إسناده، ويقول: رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزَّمْنَى، فإن إسناد الحديث كرامة من الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم (3).

وإلى ما سبق أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:

قَدْ خُصَّتِ الأُمَّةُ بِالإِسْنَادِ

وَهْوَ مِنَ الدِّينِ بِلَا تَرْدَادِ

[تنبيه]: (اعلم): أن طلب علو الإسناد سنة، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف؛ لأن أصحاب عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنه كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة، فيتعلمون من عمر رضي الله عنه، ويسمعون منه. وقال محمد بن أسلم الطوسي: قُرْب الإسناد قُرْبٌ، أو قربة إلى الله، ولهذا استحبت الرحلة.

قال أبو عبد الله الحاكم: إن طلب العلوّ سنة صحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، متمسّكًا في ذلك بحديث أنس رضي الله عنه في مجيىء ضمام بن ثعلبة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"أتانا رسولك، فزعم كذا .... " الحديث رواه مسلم، قال: ولو كان طلب العلو غير مستحب لأنكر عليه سؤاله لذلك، ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه، قال: وقد رحل في

(1)"شرف أصحاب الحديث" ص 43 و"فتح المغيث" 3/ 331 - 332.

(2)

"شرف أصحاب الحديث" ص 40.

(3)

"فتح المغيث" 3/ 332.

ص: 522

طلب الإسناد غير واحد من الصحابة، ثم ساق بسنده حديث خروج أبي أيوب إلى عقبة ابن عامر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عقبة

" الحديث في ستر المؤمن.

وقال العلائي: في الاستدلال بما ذكروه نظر لا يخفى.

أما حديث ضمام، فقد اختَلَف العلماء فيه، هل كان أسلم قبل مجيئه أم لا، فإن قلنا: إنه لم يكن أسلم كما اختاره أبو داود، فلا ريب في أن هذا ليس طلبا للعلو، بل كان شاكّا في قول الرسول الذي جاءه، فرحل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى استثبت الأمر، وشاهد من أحواله ما حصل له العلم القطعي بصدقه، ولهذا قال في كلامه: "فزعم لنا أنك

" إلى آخره، فإن الزعم إنما يكون في مظنة الكذب، وإن قلنا كان أسلم، فلم يكن مجيئه أيضا لطلب العلو في الإسناد، بل ليرتقي من الظن إلى اليقين؛ لأن الرسول الذي أتاهم لم يُفد خبره إلا الظن، ولقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أفاد اليقين.

قال: وكذلك ما يُحتَجُّ به لهذا القول من رحلة جماعة من الصحابة والتابعين في سماع أحاديث معينة إلى البلاد، لا دليل فيه أيضًا؛ لجواز أن تكون تلك الأحاديث لم تتصل إلى من رحل بسببها من جهة صحيحة، وكانت الرحلة لتحصيلها، لا للعلو فيها.

قال: نعم لا ريب في اتفاق أئمة الحديث قديما وحديثا على الرحلة إلى مَنْ عنده الإسناد العالي.

ثمّ العلو على خمسة أقسام: أجلّها القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث العدد بإسناد صحيح نظيف، بخلاف ما إذا كان مع ضعف، فلا التفات إلى هذا العلو، لا سيما إن كان فيه بعض الكذابين المتأخرين، ممن ادّعى سماعا من الصحابة، كابن هدبة، ودينار، وخراش، ونعيم بن سالم، ويعلى بن الأشدق، وأبي الدنيا الأشجّ.

قال الإمام الذهبي: متى رأيت المحدث يَفرَح بعوالي هؤلاء، فاعلم أنه عامي يعدّها.

(الثاني): القرب من إمام من أئمة الحديث، كالأعمش، وهشيم، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، وشعبة، وغيرهم مع الصحة أيضا، وإن كثر بعده العدد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(الثالث): العلو المقيد بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الخمسة، أو غيرها من الكتب المعتمدة، وسماه ابن دقيق العيد عُلُوَّ التنزيل، وليس بعلو مطلق، إذ الراوي لو رَوَى الحديث من طريق كتاب منها وقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها، وقد يكون عاليا مطلقا أيضًا.

ص: 523

وهو ما كثُر اعتناء المتأخرين به من الموافقة، والبدل، والمساواة، والمصافحة.

فالموافقة أن يقع لك حديث عن شيخ مسلم مثلا من غير جهته بعدد أقل من عددك، إذا رويته بإسنادك عن مسلم عنه.

والبدل أن يقع هذا العلو عن شيخ غير مسلم، وهو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث، وقد يسمى هذا موافقة بالنسبة إلى شيخ شيخ مسلم، فهو موافقة مقيدة، وقد تُطلق الموافقة والبدل مع عدم الْعُلُوّ، بل ومع النزول أيضًا كما وقع في كلام الذهبي وغيره. وقال ابن الصلاح: هو موافقة وبدل، ولكن لا يطلق عليه ذلك؛ لعدم الالتفات. إليه.

والمساواة في الأعصار المتأخّرة قلّةُ عدد إسنادك إلى الصحابي، أو من قاربه بحيث يقع بينك وبين صحابي مثلا من العدد مثل ما وقع بين مسلم وبينه، وهذا كان يوجد قديما، وأما الآن فلا يوجد في حديث بعينه، بل يوجد مطلق العدد، كما قال العراقي.

والمصافحة أن تقع هذه المساواة لشيخك، فيكون لك مصافحة، كأنك صافحت مسلمًا، فأخذته عنه، فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك، وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك، فالمصافحة لشيخ شيخك، وهذا العلو تابع لنزول غالبًا، فلولا نزول مسلم وشبهه لم تَعلُ أنت، وقد يكون مع علوه أيضًا، فيكون عاليا مطلقًا.

(الرابع): العلو بتقدم وفاة الراوي، وإن تساويا في العدد، قال النوويّ: فما أرويه عن ثلاثة عن البيهقي، عن الحاكم أعلاهما أن أرويه عن ثلاثة عن أبي بكر بن خلف عن الحاكم؛ لتقدم وفاة البيهقي عن ابن خلف، وكذلك من سمع "مسند أحمد" على الحلاوي، عن أبي العباس الحلبيّ، عن النجيب أعلى ممن سمعه على الجمال الكنانيّ، عن الْعَرَضِيّ، عن زينب بنت مكيّ؛ لتقدّم وفاة الثلاثة الأولين على الثلاثة الآخرين.

وأما علوه بتقديم وفاة شيخك، لا مع التفات لأمر آخر، أو شيخ آخر، فحده الحافظ أحمد بن عُمير بن جُوصَا الدمشقي بمضي خمسين سنة من تاريخ وفاة الشيخ، وحدّه أبو عبد الله بن منده بثلاثين تمضي من موته، وليس يقع في تلك المدة أعلى من ذلك. قال ابن الصلاح: وهو أوسع.

(الخامس): العلو بتقدم السماع من الشيخ، فمن سمع منه مُتَقَدِّمًا كان أعلى ممن سمع منه بعده، ويدخل كثير منه فيما قبله، ويمتاز بأن يسمع شخصان من شيخ، وسماع

ص: 524

أحدهما من ستين سنة مثلًا، والآخر من أربعين سنةً، وتَسَاوَى العدد إليهما، فالأول أعلى من الثاني، ويتأكد ذلك في حَقّ من اختلط شيخه أو خرف، وربما كان المتأخر أرجح، بأن يكون تحديثه الأول قبل أن يبلغ درجة الإتقان والضبط، ثم حصل له ذلك بعدُ إلا أن هذا علو معنوي.

[تنبيه]: جعل ابن طاهر (1)، وابن دقيق العيد هذا والذي قبله قسمًا واحدًا، وزادا العلو إلى صاحبي "الصحيحين"، ومُصنفي الكتب المشهورة، وجعله ابن طاهر اسمين:

[أحدهما]: العلو إلى الشيخين، وأبي داود، وأبي حاتم، ونحوهم.

[والآخر]: العلو إلى كتب مصنفة لأقوام كابن أبي الدنيا، والخطابيّ، ثم قال:(واعلم): أن كل حديث عز على المحدث ولم يجده غالبًا، ولا بد له من إيراده، فمن أي وجه أورده فهو عال بعزته، ومَثّل ذلك بأن البخاري رَوَى عن أماثل أصحاب مالك، ثم رَوَى حديثا لأبي إسحق الفزاري عن مالك؛ لمعنى فيه، فكان فيه بينه وبين مالك ثلاثة رجال.

وأما النزول فضد العلو فهو خمسة أقسام أيضا تُعرَف من ضدّها، فكل قسم من أقسام العلو ضده قسم من أقسام النزول، وهو مفضول مرغوب عنه على الصواب، وقول الجمهور، قال ابن المديني: النزول شؤم. وقال ابن معين: الإسناد النازل قرحة في الوجه. وفضّله بعضهم على العلو، حكاه ابن خلاد عن بعض أهل النظر؛ لأن الإسناد كلما زاد عدده زاد الاجتهاد فيه، فيزداد الثواب فيه.

قال ابن الصلاح: وهذا مذهب ضعيف الحجة. قال ابن دقيق العيد: لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، ومراعاةُ المعنى المقصود من الرواية، وهو الصحة أولى.

فإن تميز الإسناد النازل بفائدة، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ، أو أفقه، أو كونه متصلا بالسماع، وفي العالي حضور، أو إجازة، أو مناولة، أو تَسَاهَل بعض رواته في الحمل، ونحو ذلك فهو مختار، قال وكيع لأصحابه: الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل، عن عبد الله، أم سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله؟ فقالوا: الأعمش عن أبي وائل أقرب، فقال: الأعمش شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة، فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه. وقال ابن المبارك: ليس جَودَةُ الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال. وقال السِّلَفَيّ: الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة، على مذهب

(1) سيأتي قريبًا في رسالته، إن شاء الله تعالى.

ص: 525

المحققين من النقلة، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق.

قال ابن الصلاح: ليس هذا من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى.

قال الحافظ: ولابن حبان تفصيل حسنٌ، وهو أن النظر إن كان للسند فالشيوخ أولى، وإن كان للمتن فالفقهاء. ذكر هذا كلّه في "التدريب"(1).

وإلى ما تقدّم أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الأثر" حيث قال:

قَدْ خُصَّتِ الأُمَّةُ بِالإِسْنَادِ

وَهْوَ مِنَ الدَّينِ بِلَا تَرْدَادِ

وَطَلَبُ الْعُلُوِّ سُنَّةٌ وَمَنْ

يُفَضِّلِ النُّزُولَ عَنْهُ مَا فَطَنْ

وَقَسَّمُوهُ خَمْسَةً كَمَا رَأَوْا

قُرْبٌ إِلَى النَّبِيِّ أَوْ إِمَامٍ أَوْ

بِنِسْبَةٍ إِلَى كِتَابٍ مُعْتَمَدْ

يُنْزَلُ لَوْ ذَا مِنْ طَريقِهِ وَرَدْ

فَإِنْ يَصِلْ لِشَيْخِهِ مُوَافَقَهْ

أَوْ شَيْخِ شَيْخٍ بَدَلٌ أَوْ وَافَقَهْ

فِي عَدَدٍ فَهْوَ الْمَسَاوَاةُ وَإِنْ

فَرْدًا يُزَدْ مُصَافَحَاتٌ فَاسْتَبِنْ

وَقِدَمُ الْوَفَاةِ أَوْ خَمْسِينَا

عَامًا تَقَضَّتْ أَوْ سِوَى عِشرِينَا

وَقِدَمُ السَّمَاعِ وَالنُّزُولُ

نَقِيضُهُ فَخَمْسَةً مَجْعُولُ

وَإِنَّمَا يُذَمُّ مَا لَمْ يَنْجَبِرْ

لَكِنَّهُ عُلُوُّ مَعْنًى يَقْتَصِرْ

وَلابْنِ حِبَّانَ إِذَا دَارَ السَّنَدْ

مِنْ عَالِمٍ يَنْزِلُ أَوْ عَالٍ فَقَدْ

فَإِنْ تَرَى لِلْمَتْنِ فَالأَعْلَامُ

وَإِنْ تَرَى الإِسْنَادَ فَالْعَوَامُ

انتهى.

ولنختم هذا البحث بذكر رسالة الإمام المقدسيّ رحمه الله تعالى؛ لكثرة فوائدها، ومحافظةً على بقاء نصّها:

قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسيّ المعروف بابن القيسرانيّ (448 - 507 هـ) رحمهُ الله تعالى:

الحمد لله وحده، وصلواته على سيّدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم تسليمًا.

سألتَ -أحسن الله لنا ولك التوفيق- عن علامة العلوّ في الحديث، وبأيّ شيء يَعرف المبتدىء العلوّ من النزول، وأن أُبيّن لك ذلك، وأشرحه على الاختصار، مع إقامة الشواهد التي تهتدي بها إلى معرفة ذلك.

(اعلم): أن الحديث وطلبه مندوب إليه، مثابٌ صاحبه عليه، ويَرغَب فيه أشراف

(1) راجع "تدريب الراوي" 2/ 159 - 172.

ص: 526

الناس، ويَزهد فيه الأغبياء والأدناس، أهله منصورون، وأعداؤه مقهورون، ذكرهم الله عز وجل في كتابه، ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه.

قرأت على أبي بكر أحمد بن عليّ الأديب بنيسابور (1)، أخبركم أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الواعظ يقول: سمعت عبد الله بن عديّ الحافظ يقول: سمعت محمد بن يزيد الواسطيّ، سمعت يزيد بن هارون يقول: قلت لحمّاد بن زيد: يا أبا إسماعيل هل ذكر الله عز وجل أصحاب الحديث في القرآن؟ . فقال: بلى ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} الآية [التوبة: 122]. فهذا فيمن رحل في طلب العلم، ثم رجع به إلى من وراءه ليُعلّمهم إيّاه.

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن عليّ الأصبهانيّ بها، قال: أنا أبو علي الحسن بن عليّ بن أحمد بن سليمان بن أبي بكير، ثنا هُريم بن سُفيان، ثنا عبد الملك ابن عُمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فأدّاه كما سمعه، فربّ مبلّغ أوعى من سامع"(2).

أخبرنا أبو سعد عبد الواحد بن عبد الكريم المذكر النيسابوريّ، قدم علينا الريّ حاجّا، قال: أنا أبو إسحاق حميد بن المأمون بن حميد الْهَمَذَانيّ بها، قال: أنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الْهَمَذَانيّ، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن أبو عليّ الأسديّ، ثنا محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن الزبير، قال: سمعت سفيان يقول: ما من أحد يطلب الحديث، إلا وفي وجهه نَضْرة (3)؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فبلّغه"(4).

أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك السرخسيّ بها، قال: أنا عبد العزيز بن أحمد الخلّال، قال: سمعت أبا بكر بن حمدان الغزّال يقول: سمعت أبا الموجّه (5) يقول: سمعت عبدان بن جبلة يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: "الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له: من حدّثك بقي (6) ".

(1) هو أحمد بن علي بن خلف الأديب أبو بكر الشيرازي المتوفى سنة (487 هـ).

(2)

أخرجه الترمذيّ 4/ 142 وقال: حديث حسن صحيح.

(3)

النضرة بفتح، فسكون: الحسن والرونق.

(4)

انظر "شرف أصحاب الحديث" ص 19.

(5)

هو: محمد بن عمر بن الموجّه حافظ ثقة مات سنة (282 هـ) انظر "تذكرة الحفاظ" 2/ 615 - 616.

(6)

"بَقِي" بفتح الموحدة، وكسر القاف: أي بقي ساكتًا، أو حيران. وفي بعض النسخ "يَقِي" بفتح التحتانيّة، وكسر القاف من وقى يقي: أي يصون نفسه عند التحديث بلا إسناد.

ص: 527

أخبرنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاريّ الإمام بهراة، قال: أنا أبو الفضل عمر بن إبراهيم بن إسماعيل الزاهد إملاءً، أنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن محمد بن العبّاس الساويّ بمرو، قال: أنا أبو الحسن محمد بن أبي بكر المروزيّ، ثنا عليّ بن محمد المروزيّ، ثنا أبو الفضل صالح بن محمد قال: سمعت أبا يعقوب البويطيّ يقول: سمعت محمد بن إدريس الشافعيّ يقول: "إذا رأيتُ صاحب حديث، فكأني رأيتُ رجلًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هو بمنزلته". قال لنا الشافعيّ: جزاهم الله عنّا. خيرًا، إنهم حفِظوا لنا الأصل، فلهم علينا فضل.

أخبرنا أبو محمد عليّ بن الحسين بن محمد التِّنِّيسيّ بها، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الرّقّيّ -وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبّال بمصر، ثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن مرزوق- قالا: أنا أحمد بن عبيد بن أحمد الصفّار، ثنا أحمد بن عليّ الحافظ، ثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن عبد الله المقرىء، ثنا يحيى بن أكثم قال: قال لي الرشيد: ما أنبلُ المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجلّ منّي؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجلٌ في حلقة يقول: حدّثنا فلان عن فلان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا أمير المؤمنين هذا خير منك؟ وأنت ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووليّ عهد المسلمين؟ قال: نعم ويلك خير منّي؛ لأن اسمه مقترنٌ باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبدًا، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.

أخبرنا أبو شريف الطوسيّ بها، قال: أنا أبو محمد بن عبد العزيز النيليّ قال: أنا أبو عمر بن حمدان، ثنا أبو بكر بن داود، ثنا سليمان بن معبد السِّنْجيّ، ثنا سعيد بن عامر، عن أبي بكر الْهُذَليِّ قال: قال لي الزهريّ: يا هُذليّ أيُعجبك الحديث؟ قلت: نعم قال: أما إنه يُعجِب مُذَكَّرِي الرجال، ويكرهه مؤنثوهم (1).

أخبرنا أبو القاسم عليّ بن محمد الكوفيّ بمكة، قال: أنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي -وأخبرنا أبو القاسم قاسم بن أحمد الأصبهانيّ بآمد قال: أنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده الحافظ قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصمّ

(1) وقد أنشد أبو الفضل العباس بن محمد الخراسانيّ بهذا المعنى، فقال [من البسيط]:

رَحَلْتُ أَطْلُبُ أَصْلَ الْعِلْمِ مُجْتَهِدًا

وَزِينَةُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا الأَحَادِيثُ

لَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلَّا بَّازِلٌ ذَكَرٌ

وَلَيْسَ يُبْغِضُهُ إِلَّا الْمَخَانِيثُ

لَا تَعْجَبَنَّ بِمَالٍ سَوْفَ تَتْرُكُهُ

فَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا مَوَارِيثُ

انظر "شرف أصحاب الحديث" ص 71 و"الرحلة في طلب الحديث" ص 96.

ص: 528

قال: سمعت محمد بن الحسين الْحُنَينيّ قال: سمعت عمر بن حفص بن غياث يقول: سمعت أبي يقول: وقالوا له: يا أبا عمر ما ترى أصحاب الحديث كيف تغيّروا؟ قد فسدوا، قال: هم على ما هم خيار القبائل.

أخبرنا أبو بكر الأديب قال: أنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن بالويه المزكي يقول: سمعت أبا بكر عيسى بن موسى يقول: سمعت الحسن بن عليّ يقول: سمعت عليّ بن المدينيّ يقول: "ليس قوم خيرًا من أصحاب الحديث، الناس في طلب الدنيا، وهم في طلب الدين".

أنشدنا أبو الفِراس قاسم بن محمد الْخُوزيّ بمكّة قال: أنشدنا أبو نصر محمد بن عبد الله الشاهد قال: أنشدنا أبو عليّ الحسن بن العباس الكرمانيّ قال: أنشدنا هبة الله ابن الحسن الشيرازيّ لنفسه [من الطويل]:

عَلَيْكَ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ

عَلَى مَنْهَجِ لِلدِّينِ مَا زَالَ مُعْلَمَا

وَمَا النُّورُ إِلَّا فِي الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ

إِذَا مَا دَجَى اللَّيْلُ الْبَهِيمُ وَأَظْلَمَا

وَأَعْلَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى السُّنَنِ اعْتَزَى

وَأَغْوَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى الْبِدَعِ انْتَمَى

وَمَنْ تَرَكَ الآثَارَ ضَلَّلَ سَعْيَهُ

وَهَلْ يَتْرُكُ الآثَارَ مَنْ كَانَ مُسْلِمَا

أنشدنا أبو الحسن يحيى بن الحسين العلويّ الزيديّ بالريّ قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصوريّ الحافظ لنفسه [من الخفيف]:

قُلْ لِمَنْ عَانَدَ الْحَدِيثِ وَأَضْحَى

عَائِبًا أَهْلَهُ وَمَنْ يَدَّعِيهِ

أَبِالْعِلْمِ تَقُولُ هَذَا أَبِنْ لِي

أَمْ بِجَهْلٍ فَالْجَهْلُ خُلْقٍ السَّفِيهِ

أَيُعَابُ الَّذِينَ هُمْ حَفِظُوا الدِّي

ـنِ مِنَ التُّرَّهَاتِ وَالتَّمْوِيهِ

وإِلَى قَوْلِهِمْ وَمَا قَدَرَوَوْهُ

رَاجِعٌ كُلُّ عَالِمٍ وَفَقِيهِ

أنشدنا أبو الحسن عليّ بن عبد السلام الأرمنازي بصور لنفسه [من الطويل]:

أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ

وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ بإِحْسَانِ

أُنَاسٌ أَرَادَ الله إِحْيَاءَ دِينِهِ

بِحِفْظِ الَّذِي يَرْوِي عَنِ الأَوَّلِ الثَّانِي

أَقَامُوا حُدُودَ شَرْعِ شَرْعَ مُحَمَّدِ

بِمَا وَضَّحُوهُ مِنْ دَلِيلٍ وَبُرْهَانِ

وَسَارُوا مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي جَمْعِ عِلْمِهِ

فَأَوْطَانَهُمْ أَضْحَتْ لَهُمْ غَيْرَ أَوْطَانِ

إِذَا عَالِمٌ عَالِي الْحَدِيثِ تَسَامَعُوا

بِهِ جَاءَ الْقَاصِي مِنَ الْقَوْمِ وَالدَّانِي (1)

(1) انظر "أدب الإملاء" 154 - 155 عن أبي الفرج غيث بن علي عن أبيه، ليس فيه البيتان الأخيران، ولكن توجد خمسة أبيات أخرى ثم إن البيت الأخير الشطر الأخير منه منكسر.

ص: 529

سمعت المرتضى أبا الحسن المطهر بن أبي عليّ العلوي بالريّ يقول: سمعت أبا سعد السمّان إمام المعتزلة يقول: "من لم يكتب لم يتغرغر بحلاوة الإسلام".

قال المقدسيّ: ولست أقصد أن أستقصي ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم، وعن أئمة المسلمين قرنًا بعد قرن ما في مدح هذه الفرقة على أن لا تقام سنة، ولا تذلّ بدعة، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، إلا هو دليل على فضلهم؛ لأنهم الذين رووه ونقلوه، ودوّنوه حتى بلغ إلى من عمل به.

وقد صنّف غير واحد من أئمتنا في هذا المعنى كتبًا تشتمل على مناقبهم، وإنما قدّمنا هذه النُّبَذ في أول هذا السؤال لنبني عليها المقال، فاسمع الآن ما له قصدتَ، وبيان ما عنه سألتَ.

(اعلم): أن طلب العلوّ من الحديث من علوّ همّة المحدّث، ونبل قدره، وجزالة رأيه، وقد ورد في طلب العلوّ سنة صحيحة.

أخبرنا بها أبو عمرو عثمان بن محمد بن عبيد الله العدل بنيسابور، قال: أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرائينيّ، ثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، ثنا محمد بن حيوة، ثنا أبو سلمة، ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا ثابت، عن أنس بن مالك قال: قد نُهِينا أن نَسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية فيسأله، ونحن نسمع، وكانوا أجرأ على ذلك منّا، قال: فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال:"صدق"، قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله"، قال: فمن نصب هذه الجبال"، قال: "الله"، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، وجعل فيها المنافع، آلله أرسلك؟ قال: "نعم"، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"، [قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟ قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"] (1)، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"، قال: وزعم رسولك أن علينا حجَّ البيت من استطاع إليه سبيلًا؟ قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ ، ثم ولَّى الرجل، ثم قال: والذي بعثك

(1) ما بين القوسين إصلاح من "صحيح مسلم".

ص: 530

بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهنّ شيئًا، ثم ولَّى، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق، ليَدخُلنّ الجنة".

صحيح أخرجه مسلم في "صحيحه" عن عمرو الناقد، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان، وقال البخاريّ في "كتاب العلم": ورواه موسى وعليّ بن عبد الحميد، عن سليمان.

وأبو سلمة المكنيّ في إسنادنا هو موسى الذي ذكره البخاريّ، وهو موسى بن إسماعيل التبوذكيّ.

فهذا دليل على طلب المرء العلوّ من الإسناد، والرحلة فيه، فإن هذا الرجل المكنيّ عن اسمه في هذا الحديث هو ضمام بن ثعلبة لَمّا جاء رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما فُرِض عليهم لم يُقنعه ذلك حتى وصل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فلو كان طلب العلوّ غير مستحبّ لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم سؤاله عما أخبره رسوله عنه. والله أعلم بالصواب (1).

فقد أجمع أهل النقل على طلبهم العلوّ، ومدحوه، إذ لو اقتصروا على سماعه بنزول لم يرحل أحد منهم.

ثم وجدنا الأئمة المقتدى بهم في هذا الشأن سافروا الآفاق في سماعه، ولو اقتصروا على النزول لوجد كلّ واحد منهم ببلده من يُخبره بذلك الحديث.

ولو شرعنا في ذكر مدح العلوّ، ونعت من رحل فيه، وأقاويلهم في ذلك تجاوزنا حدّ الاختصار، إلا أن المميّز يستدلّ برواياتهم على سفرهم.

وقد ذمّ قوم النزول، وأطنبوا في ذمّه كما أخبرنا أبو الفتح المطهّر بن أحمد البيّع بأصبهان، قال: أنا أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ، قال: سمعت أبا بكر محمد بن عليّ الأصبهانيّ يقول سمعت الحسن بن حبيب بدمشق يقول: حدّثنا علان بن المغيرة قال: سمعت يحيى بن معين يقول: الحديث بنزول كالقرحة في الوجه.

أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة الجرجانيّ بها، قال: أنا حمزة بن يوسف السهميّ قال: أنا عبد الله بن عديّ قال: أنا بكر بن محمد الكاتب بمرو قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق يقول: سمعت علي بن المدينيّ يقول: "النزول شؤم".

مسألة العلوّ والنزول في الحديث:

(1) قد علمت فيما سبق اعتراض العلائي الاستدلال على طلب العلو بهذا الحديث، فلا تغفل.

ص: 531

فإذا كان الأمر على ما ذكرناه من مدحهم العلوّ، وذمّهم النزول، فاعلم أن العلوّ في الحديث على درجات خمس:

(الدرجة الأولى): حديث صحّ سنده، وقلّ عدده، وهذا الحدّ الذي وضعناه يعسُر على المبتدىء، ويسهل على المميّز بين الصحيح والسقيم، فربّ إسنادين استويا في العدد، أحدهما ثابتٌ، والآخر واهٍ، لا أصل له، مثاله: ما أخبرناه أبو القاسم قاسم بن أحمد بثغر آمد، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن حشيش العدل، ثنا أبو سعيد الحسن بن عليّ العدويّ، ثنا شيبان بن فرّوخ، ثنا نافع بن عبد الله أبو هرمز، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بركعتي الفجر، فإن فيهما الرغائب".

فهذا إسناد إذا تأمّله من ليس الحديث من صناعته اعتقد علوّه، وقدّمه على سائر حديثه، وافتخر بقلّة عدد رواته، إلا أن إسناده لا تقوم به الحجة؛ لأن نافعًا هذا غير ثقة.

أخبرنا أبو القاسم الإسماعيليّ قال: أنا حمزة بن يوسف، ثنا عبد الله بن عديّ، قال: سمعت أبا العلى الموصليّ يقول: سألت يحيى بن معين، عن نافع أبي هرمز قال: ليس بشيء. وقال ابن أبي مريم: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: ليس بثقة. وقال عباس: ثنا يحيى قال: أبو هرمز الذي يروي عن أنس ضعيف الحديث. وقال النسائيّ: ليس بثقة. والعدويّ هذا أيضًا كذّاب.

فإذا ورد عليك أحاديث هذا مع أمثاله، مثل كثير بن سُليم، ويغنم بن سالم بن قنبر، وفرج، وموسى بن عبد الله الطويل، وأبي الدنيا عثمان بن الخطاب، وخِراش بن عبد الله، فلا تفرح بها، ولا تعرّج عليها.

وهؤلاء قوم معروفون عند أهل النقل بطول (1) السنّ، ورواياتهم شبه الريح، يدّعون أعمارًا طويلة، ويروون أحاديث دخيلةً، لم يحتجّ بحديثهم محتجّ، ولم ينقل في كتب الأئمة عنهم شيئًا، وإنما تُنقل أحاديثهم للمعرفة، والاستدلال على كذبهم. أعاذنا الله وإياك من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا الحدّ الواهي الذي أشرت إليه قبلُ، وقد يقع لأمثالنا بهذا العدد أحاديث مشهورة الأسانيد متّصلة، مثاله: ما أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البزاز ببغداد، قال: أنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن إسحاق، قال: أنا عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغويّ، ثنا طالوت بن عباد، قال: حدّثني فضال بن جبير قال: سمعت

(1) كان في النسخة "بطيور" وهو مصحّف، والصول "بطول السنّ".

ص: 532

أبا أمامة الباهليّ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكفلوا لي بستّ أكفل لكم بالجنّة، إذا حدّث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، غضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم"(1).

فإسناد هذا الحديث في العدّة إلى الصحابيّ كالإسناد المتقدّم، وطريقه أشهر، ورواته أوثق، أما فضال بن جبير، فإن أبا أحمد العسّال الحافظ الأصبهانيّ ذكره، فقال: فضال بن جبير سمع من أبي أمامة يُكنى أبا المهنّد، وأورد له هذا الحديث في كتابه عن مطيّن محمد بن عبد الله الكوفيّ. وأما طالوت بن عبّاد الصيرفيّ أبو عثمان الجحدريّ، فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيّ في كتابه: طالوت بن عباد سئل عنه أبي، فقال: صدوق. ومن بعدهما إلى شيخنا عدول ثقات.

فهذا أحد الدرجة الأولى من العلوّ، والتمييز فيما بين الصحيح والسقيم. وقد يقع إلينا بعلوّ درجة على ما تقدّم، إلا أنه أضعف من الذي ذكرناه، وأوهى، من ذلك: ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الخطيب الصريفينيّ ببغداد إملاء من حفظه، قال: حدّثني أبو حفص عمر بن إبراهيم الكنانيّ المقرىء، قال: حدّثني أبو سعيد الحسن بن عليّ العدويّ قال. حدّثني خِراش بن عبد الله، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصوم جنّة"، وهذا أعلى من المتقدّم بدرجة، إلا أنه شبه الريح؛ لأن خراشًا هذا مجهول، والعَدَوِيُّ كذّاب، والحمل فيه عليه.

وقوله: "الصوم جنّة" صحيح من طريق أبي هريرة، فركّب له العدويّ إسنادًا، وجعله عن أنس بعلوّ. أخبرنا به أبو بكر إسماعيل بن عليّ الخطيب بالريّ، قال: أنا أبو زكريّا يحيى بن إبراهيم، ثنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد الجمحيّ بمكة، ثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا أبو نُعيم الفضل بن دُكين قال: نا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته، وأكله، وشربه من أجلي، والصوم جنّة، وللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقائه ربّه، ولَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(2). أخرجه البخاريّ في "التوحيد" عن أبي نعيم الفضل كذلك.

(الدرجة الثانية): العلوّ إلى الأئمة:

(1) أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 8/ 314 رقم (8018).

(2)

متفق عليه.

ص: 533

وهذه الدرجة تنقسم إلى قسمين:

(الأول): العلوّ إلى الأئمة، وعلوّ الأئمة إلى الصحابيّ، فنجد أوّلًا حدّا يعرف به المبتدىء الأئمة، فنقول: قوم حدّثونا عن التابعين، ثم يقع حديثهم إلى أمثالنا عن أربعة رجال، مثل مالك بن أنس، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وشعبة، والثوريّ، والحمادين، ومن في طبقتهم على القاعدة التي قدّمناها في الثقة، وإمكان سماع كلّ واحد من صاحبه، وفي هذه الطبقة قوم تأخّرت وفاتهم عمن ذكرنا فعلا حديثهم، ومنهم من تقدّمت وفاتهم، فلا يقع حديثهم إلا نازلًا، وسيجيء الكلام على تفصيل طبقاتهم -إن شاء الله تعالى-.

(فمثال القسم الأول): إسناد يقع لأمثالنا إلى شعبة، أو غيره، ممن قدمنا ذكره بعلوّ، ثم بعلوّ لشعبة إلى الصحابيّ الراوي للحديث.

ومثاله: ما أخبرناه أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الهرويّ بها، قال: أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شُريح الأنصاريّ، ثنا أبو القاسم البغويّ، ثنا عليّ بن الجعد، ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرًا قال: "استأذنت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "من هذا؟ " فقلت: أنا، فقال: "أنا أنا"، كأنه كرهه (1).

فهذا هو الحدّ في العلوّ إلى الإمام، وعلوّ الإمام إلى الصحابيّ مع صحّة سماع كلّ واحد من صاحبه. وعلى هذا سائر الروايات إلى كلّ من روى عن متقدّمي التابعين ومتأخريهم، فإن التابعين أيضًا على طبقات عدّة، إلا أنا نختصرهم، فنمثّلهم ثلاث طبقات.

(الطبقة الأولى): قوم رووا عن العشرة، فمن في طبقتهم، فلا يكاد يقع حديثهم إلا كما يقع حديث متأخري الصحابة؛ لتقدّم موتهم، ولا يوجد حديثهم إلا عند تابعيّ.

(الطبقة الثانية): قوم رووا عن متوسطي الصحابة، وهم الذين أدركهم هؤلاء الأئمة، وأمثالهم.

(الطبقة الثالثة): قوم حدّثوا عن صغار الصحابة الذين تأخرت وفاتهم، فأدركوهم في حال صغر سنّهم، وكبر سنّ الصحابة الذين عُمّروا، وكانوا صغارًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن آخر من مات بمكة من الصحابة أبو الطفيل عامر بن واثلة، وبالمدينة سهل ابن سعد، وبالشام عبد الله بن بُسْر، وبمصر عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وبالكوفة عبد

(1) متّفقٌ عليه.

ص: 534

الله بن أبي أوفى، وبالبصرة أنس بن مالك، هؤلاء آخر من بقي من الصحابة في بلاد الإسلام، وأدركهم جماعة من العلماء، فسُمّي من لقي منهم تابعيّا، وإن كان صغيرًا وقت السماع، أو كبيرًا، إلا أن الرواة عن هؤلاء الصحابة على حزبين: صادق في لقيّه لهم، وكاذب، وقد قدّمنا من هذه سِمَته من كلا الفريقين.

(والقسم الثاني من الدرجة الثانية): علوّ المحدّثين إلى الإمام، ثم نزول الإمام بعدُ إلى الصحابة، ومثاله: ما أخبرنا أبو القاسم فضل بن عبد الله المفسّر بنيسابور، ثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن عمر الزاهد، ثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السرّاج، ثنا غياث بن جعفر، ثنا سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سُليم، عن أبي قتادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليُصلّ ركعتين قبل أن يجلِس"(1).

فهذا الحديث عالٍ إلى أبي محمد سفيان بن عيينة، فإنه أحد الأئمة، أدرك جماعة من التابعين، وروى عنهم، إلا أنه نزل إلى الصحابيّ في هذا الإسناد من طريق العدد، فافهم.

أخبرنا أبو بكر الأديب بنيسابور قال: أنا الحاكم أبو عبد الله قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الشافعيّ يقول: سمعت بشر بن موسى يقول: سمعت الحميديّ يقول: سمعت سفيان يقول: رأيت شعبة، وثمانين نفسًا من التابعين.

رجعنا الآن إلى شرح طبقات الأئمة، فرَتَّبْتُهُم على ثلاث طبقات، وكلّ طبقة منها تنقسم على طبقات، إلا أنا هَهنا نذكرها مجملة، كما فعلنا في طبقات التابعين.

(الطبقة الأولى): قوم حدّثوا عن التابعين، وتقدّمت وفاتهم، فلا يقع الحديث إلى واحد منهم إلا بزيادة رجل في الإسناد عن الحدّ الذي شرطناه.

فمن تقدّم من الأئمة، مثل ابن جريج، والأوزاعيّ، ويونس بن يزيد، وأقرانهم، فإن هؤلاء حدّثوا عن الزهريّ، وغيره من التابعين، فقد يقع الحديث إلى الزهريّ من غير طريقهم عاليًا، إلا أنا إذا أوردناه عن واحد منهم، فلا يقع لنا بالعدد الذي قدّمنا ذكره.

مثاله إلى الأوزاعيّ: ما أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي الكاتب بشيراز، قال: أنا أبو الحسن بن أحمد بن محمد بن الليث الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: أنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتيّ، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعيّ قال: حدّثني ابن شهاب، عن أنس بن مالك أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1) متّفقٌ عليه.

ص: 535

شرب لبنًا، وعن يساره أبو بكر وعمر، وعن يمينه رجلٌ أعرابيّ، فأعطى الأعرابيّ فضله، ثم قال:"الأيمن، فالأيمن"(1).

فهذا الحديث بعينه قد وقع من حديث الزهريّ عاليًا، إلا أنه من طريق الأوزاعيّ لا يقع أعلى من هذا، فيكون علوّنا إلى الأوزاعيّ فيه عنه، فإن العبّاس بن الوليد ممن روى عنه أبو داود، وأبو زرعة، والنسائيّ، وغيرهم.

وعلى هذا المثال سائر الأئمة الذين تقدّمت وفاتهم، ثم لم يقع حديثهم إلى المحدّث بعلوّ، فهذه العدّة علامة العلوّ إليهم.

(والطبقة الثانية): من الأئمة الجماعة الذين قدّمنا ذكرهم، وأمثالهم، فأغنى عن إيراد مثال يُستدلّ به على منزلتهم.

(والطبقة الثالثة): قوم تأخرت وفاتهم، وتقدّم سماعهم من متأخري التابعين الذين وصفناهم، كيزيد بن هارون، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وأبي عاصم النبيل، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم.

(الدرجة الثانية من العلوّ): تقدّم السماع وتأخره، مثاله أن يسمع تابعيّ من صحابيّ حديثًا، وتقدّم وفاة ذلك التابعيّ.

مثاله: ما حدّثنا أبو القاسم عليّ بن أحمد البندار ببغداد، قال: أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلّص، ثنا أبو القاسم البغويّ، ثنا شيبان بن فرّوخ، ثنا مبارك ابن فَضَالة، ثنا الحسن، عن أنس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة، مسندًا ظهره إليها، فلما كثر الناس، وقال: "ابنوا لي منبرًا"، فبنوا له عتبتين، فلما قام على المنبر، فخطب، حنّت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين الواله، فما زالت تحنّ حتى نزل إليها، فاحتضنها، فسكتت"(2).

فكان الحسن إذا حدّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه، لمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إلى لقائه.

فالحسن بن أبي الحسن البصريّ رحمه الله سمع هذا الحديث من أنس، وتوفّي في رجب سنة عشر ومائة.

ثم يروي عن أنس تابعيٌّ آخرُ، مثاله: ما أخبرنا أبو الفضل العباس بن محمد بن الحسين بمرشت -قرية من رستاق مرو روذ- قال: أنا أبو الفضل الرشيديّ، ثنا أبو بكر

(1) متّفقٌ عليه.

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 226 وله شواهد في "صحيح البخاريّ" وغيره، فهو حديث صحيح.

ص: 536

المفيد، ثنا أحمد بن عبد الرحمن السقطيّ، ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حميد، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنّة، فرأيت قصرًا من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ ، قالوا لشابّ من قريش، فظننت أني هو، فقلت: لمن؟ قالوا: لعمر بن الخطاب"(1).

هذا حميد بن أبي حميد روى عن أنس، وصحّ سماعه منه، توفّي سنة ثلاث وأربعين ومائة، فلا يكون الإسناد إلى الحسن مثل الإسناد إلى حميد، وإن استويا في المرتبة، بل يكون الطريق إلى الحسن أعلى وأجلّ، ثم الراوي عن الحسن المبارك بن فَضَالة، وتوفّي سنة ستّ وستين ومائة، والراوي عن حميد يزيد بن هارون، وتوفّي بواسط غُرّة ربيع الأول سنة ست ومائتين.

وقد يقع في طبقات المتأخرين ما هو أعجب من هذا، مثاله إن البخاريّ حدّث في كتابه عن أحمد بن أبي داود، عن روح حديث قوله صلى الله عليه وسلم: لأبيّ بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن". وحدّث بهذا الحديث بعينه أبو عمر بن السماك، عن ابن أبي داود هذا، وبين وفاته ووفاة البخاريّ ثمان وثمانون سنة، فإن البخاريّ توفّي سنة ست وخمسين ومائتين، وتوفّي أبو عمر سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.

والسبب أن البخاريّ توفّي قبل ابن أبي داود بأربع عشرة سنة، فلو وُلد مولود بعد وفاة البخاريّ احتمل أن يسمع من ابن أبي داود، فهما وإن اجتمعا في المنزلة، فقد افترقا في الجلالة، وقِدَم السماع، فلا يكون الطريق إلى البخاريّ كالطريق إلى أبي عمر السماك.

أخبرنا أبو نصر عبد السيد بن محمد الفقيه البغداديّ بأصبهان، قال: أنا أبو عليّ الحسن بن أحمد بن شاذان، ثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، ثنا أبو جعفر محمد بن عبيد الله المنادي، ثنا روح بن عبادة، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ ابن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن"، قال: آلله سماني لك؟ قال: "نعم" قال: وقد ذكرت عند ربّ العالمين؟ قال: "نعم"، فذَرَفَت عيناه. أخرجه البخاريّ عن أحمد بن أبي داود، وكذلك كان يسمّيه البخاريّ، وهو أبو جعفر هذا. والله أعلم.

وعلى هذا القياس، فهذه قاعدة إذا وقفت عليها قِستَ عليها طبقات الصحابة، ثم هلُمّ جرّا إلى عصرنا هذا.

(الدرجة الرابعة من العلوّ): أقوام لا يقع حديثهم إلى محدّث زماننا إلا بتلك

(1) رواه الترمذيّ في "المناقب" 5/ 282 وهو متّفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 537

العدّة، مثل محمد بن إسماعيل البخاريّ، ومسلم بن الحجاج، وأبي داود السجستانيّ، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازيين، ومن في طبقاتهم من المشايخ، فهم وإن كان معظم ما يروونه وجُلّه عن أصحاب الأئمة إلا أن حديثهم لا يقع كما يقع من الطريق التي قدّمنا إلى الأئمة.

فعلامة العلوّ إلى هذه الطبقة ما: أخبرنا أبو محمد عليّ بن الحسين العدل بتنّيس، قال: أنا جدّي أبو العباس محمد بن إبراهيم البغداديّ قال: أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن الحسن الجرويّ، ثنا محمد بن إسماعيل.

وعلى هذا القياس يقع أحاديث من ذكرنا من هؤلاء المشايخ، ومن لم نذكرهم ههنا.

(الطبقة الخامسة من العلوّ): كتبٌ مصنّفةٌ لأقوام من أهل العلم، فإذا أراد اوجل أن ينظر فيها، ويرويها لا يمكنه ذلك إلا بالرواية إلى المصنّف، مثال ذلك: تصانيف أبي بكر بن أبي الدنيا، وبعده أبو سليمان الخطابيّ، وأشباههما، فيكون علوّنا إلى أبي سليمان أن نقول: أخبرنا الإمام أبو القاسم سعد بن عليّ الزنجانيّ بمكة يرحمه الله قال: أنا محمد بن جعفر المروزيّ، ثنا أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابيّ، ولا يقع بأقلّ من هذا العدد.

ثم نظرنا فإذا أجلّ شيخ روى عنه: أبو سعيد بن الأعرابيّ، وقد وقع لنا حديثه عاليًا، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحافظ الحبّال بمصر، قال: أنا أبو محمد عبد الرحمن بن النحّاس قال: أنا أبو سعيد بن الأعرابيّ، وعندنا إلى أبي سعيد بن الأعرابيّ عدّة طرق بهذه المنزلة، إلا أن هذه التصانيف لعزّتها، وكثرة المنفعة بها، وتعذّر وجودها لقدم موت المصنّف، والراوي عنه تكون عاليةً بهذه العدّة.

(واعلم): أن كلّ حديث عسُر على المحدّث، ولم يجده عاليًا، ولا بُدّ له من إيراده في تصنيف، أو احتجاج به، فمن أيّ وجه أورده فهو عالٍ لعزّته، مثاله: أن البخاريّ إمام الصنعة أدرك الإسناد، وروى عن أصحاب التابعين، مثل محمد بن عبد الله الأنصاريّ، وأبي عاصم النبيل، ومكيِّ بن إبراهيم، وعبيد الله بن موسى وغيرهم، وحدّث عن أصحاب مالك بن أنس، ولَمّا أراد إخراج حديث أبي إسحاق الفزاريّ تَعَنَّى فيه، فلم يجده إلا عن ثلاثة، عن مالك.

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد إمام جامع أصبهان، أنا أبو بكر أحمد بن موسى الحافظ، ثنا دعلج بن أحمد، ثنا محمد بن أحمد بن النضر، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاريّ، عن مالك بن أنس، قال: حدّثني ثور بن زيد، قال: حدثني سالم مولى ابن مطيع، أنه سمع أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر، فلم نغنم ذهبًا

ص: 538

ولا فضّة، إنما غنمنا الإبل والبقر، والمتاع، والحوائط، ثم انصرفنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى

وذكر الحديث.

فهذا رواه البخاريّ عن عبد الله بن محمد المسنديّ البخاريّ، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق، عن مالك، فيكون دعلج في روايته عن النضر بمنزلة البخاريّ.

ثم إنا لو أردنا أن نورده بإسناد إلى البخاريّ عاليًا لم نجده، أو إلى شيخه لم نجده، وإذا أردنا أن نورده من حديث مالك وجدنا، أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الهرويّ بها، قال: أنا عبد الرحمن بن أبي شريح، ثنا أبو القاسم البغويّ، ثنا مصعب بن عبد الله الزبيريّ، قال: حدّثني مالك، عن ثور بن زيد الديليّ، عن أبي الغيث مولى ابن مطيع، عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، فلم نغنم ذهبًا ولا فضّةً

وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الحديث وطرقه، والكلام عليه، والسبب الذي نزل فيه البخاريّ لأجله في غير هذا الموضع.

فهذا الحديث بعينه قد وقع لنا إلى مالك عاليًا، فأكون كأني سمعته من البخاريّ نفسه من طريق العدد، فإن مصعبًا في مقابلة الفزاريّ، والبغويّ في مقابلة معاوية بن عمرو، وابن أبي شريح في مقابلة عبد الله بن محمد، وشيخنا في مقابلة البخاريّ رحمه الله، وقد تقدّم لمسلم بن الحجّاج مثل هذا أيضًا أحاديث منها:

ما أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد البزاز ببغداد، ثنا عيسى بن عليّ إملاء، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز (1)، ثنا عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن سعيد، قالا: أنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن بكر بن وائل، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عبّاس أن سعدًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه، وذكر الحديث. ومثله عن ابن عبّاس، عن سعد قال: ماتت أمي، وعليها نذر، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أقضيه عنها. وهذا رواه مسلم في كتابه عن عثمان بن أبي شيبة هذا كما أوردناه.

والنزول في هذا الحديث لا يُنسب إلى مسلم، فإنه حدّث عن عثمان بن أبي شيبة، وهو من أماثل رجاله، ولا يُنسب إلى عثمان، فإنه حدّث عن عبدة، وهو من أجلّاء مشايخه، ولا إلى عبدة، فإنه حدّث عن هشام، وهو من أنبال مشايخه، وإنما النزول في هذا الحديث يُنسب إلى هشام، فإنه حدّث عن رجل أصغر منه (2)، عن الزهريّ، وهو في طبقته.

(1) هو أبو القاسم البغويّ المتوفّى سنة (389 هـ).

(2)

هو بكر بن وائل التميميّ، مات قديمًا، فروى عنه أبوه، قال الحافظ: وروى عنه هشام بن عروة، وهو أكبر منه. اهـ "تهذيب التهذيب" 1/ 488.

ص: 539

وقد وقع إلينا هذا الحديث بعينه من حديث الزهريّ عاليًا.

أخبرنا أبو عليّ الحسن بن عبد الرحمن الشافعيّ بمكة، ثنا أبو الحسن بن فراس، قال: أنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد المقرىء، قال: أمنا جدّي محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عبيد الله

بالحديث بعينه.

فيكون كأنا سمعناه من مسلم بن الحجاج (1)؛ لأن ابن وائل في مقابلة سفيان، وابن المقرىء في مقابلة هشام، وأبو محمد في مقابلة عبدة، وابن فراس في مقابلة عثمان، وشيخنا في مقابلة مسلم (2).

فتدبّر -نفعنا الله وإياك- ما ذكرت لك من هذه النبذ بفكرك، وتصوّرها بقلبك، فإنها تُرشد إلى المراد. والله أعلم.

انتهت الرسالة، والحمد لله أولًا وآخرا،

وبتمامها تمّ شرح "مقدّمة صحيح مسلم".

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1) هذا مثل للمصافحة لابن طاهر؛ لأنه سمع شيخه المساوي لمسلم في قرب الإسناد، وعدد رجاله، فكان كأنه صافح مسلمًا، وسمع منه.

(2)

وهذا مثال للمساواة لأبي عليّ شيخ ابن طاهر أيضًا مع مسلم؛ قد صار مساويًا له في عدد رجال الإسناد.

ص: 540

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم ابن موسى الإتيوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة:

قد انتهيت من شرح "مقدّمة صحيح الإمام مسلم" رحمه الله ليلة الجمعة 15/ 1/ 1423 هـ الموافق 29 مارس/ 2002 م.

أسأل الله العليّ العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا

{أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}

"اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم،

إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد

كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 541

تمَّ بحمد الله

وصلى الله وسلّم وبارك على عبده

وحبيبه محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه

وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}

[الصافات، الآيات: 180 - 181 - 182]

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 568