المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة: - قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الحديث:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الحديث:

- ‌شرح الأثر:

- ‌مسألتان تتعلّقان بهذا الأثر:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌لطائف هذا الإسناد:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌‌‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌شرح الأثر:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌(المسألة الأولى): في حدّ الغيبة لغةً، وشرعًا:

- ‌(المسألة الثانية): في حكم الغيبة:

- ‌(المسألة الرابعة): قد وردت أحاديث في فضل من ردّ عن عرض أخيه:

- ‌(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة:

- ‌[تنبيهات]:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌مسائل تتعلقّ بهذا الحديث:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌مسألتان تتعلّقان بالحديث المذكور:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في فوائده:

- ‌مسائل تتعلّق بحديث جابر رضي الله عنه هذا:

- ‌(المسألة الأولى): في تخريجه:

- ‌(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في أكل لحوم الخيل:

- ‌(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في أكل لحوم الحمر الأهليّة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجمالّي لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجمالّي لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:

- ‌إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:

- ‌[تنبيهات]:

الفصل: ‌(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة:

فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسي ثوبا برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة". حديث صحيح.

فهذه النصوص صريحة في تحريم الغيبة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة، كذلك يحرم على السامع استماعها، وإقرارها، بل يجب عليه النهي عنها، إن لم يَخَف ضررًا ظاهرًا، وإلا وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس، إن أمكن، وإلا أنكر بقلبه، ويحرم عليه الاستماع، بل يشتغل بنحو ذكر الله تعالى، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء. قال الله عز وجل:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. أفاده النووي رحمه الله تعالى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قد وردت أحاديث في فضل من ردّ عن عرض أخيه:

فقد أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من رَدّ عن عِرْض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة". قال الترمذيّ: هذا حديث حسن.

وأخرج أبو داود أيضًا عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حَمَى مؤمنا من منافق"، أُراه قال:"بعث الله ملكا يَحمِي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رَمَى مسلما بشيء يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم، حتى يخرج مما قال". حديث حسن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة:

(اعلم): أن الغيبة، وإن كانت محرّمة، إلا أنها تباح للمصلحة في أحوال، وذلك إذا حدث غرض صحيح شرعيّ لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب:

(الأول): التظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما ممن له ولاية، أو له قدرة على إنصافه من ظالمه، فيذكر أن فلانًا ظلمني، وفعل بي كذا وكذا، وأخذ لي كذا وكذا، ونحو ذلك.

(1)"الأذكار" ص 298 - 302.

ص: 311

(الثاني): الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يفعل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوسّل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.

(الثالث): الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك، أو لا؟ ، وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظلم عني؟ ، ونحو ذلك. وكذلك قوله: زوجتي تفعل معي كذا، أو زوجي يفعل كذا، ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط أن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا، أو في زوج، أو زوجة تفعل كذا، ونحو ذلك، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز؛ لحديث هند زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح

" ولم ينهها النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

(الرابع): تحذير المسلمين من الشرّ، ونصيحتهم، وذلك من وجوه:

منها: جرح المجروحين من الرواة للحديث والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.

ومنها: إذا استشارك إنسان في مصاهرته، أو مشاركته، أو إيداعه، أو الإيداع عنده، أو معاملته بغير ذلك وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النصيحة، فإن حصل الغرض بمجرّد قولك: لا تصلح لك معاملته، أو مصاهرته، أو لا تفعل هذا، أو نحو ذلك لم تجز الزيادة بذكر المساوي، وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعيبه، فاذكره بصريحه.

ومنها: إذا رأيت من يشتري عبدًا معروفًا بالسرقة، أو الزنا، أو الشرب، أو غيرها، فعليك أن تبيّن ذلك للمشتري إن لم يكن عالمًا به، ولا يختصّ بذلك، بل كل من علم بالسلعة المبيعة عيبًا وجب عليه بيانه للمشتري إذا لم يعلمه.

ومنها: إذا رأيت متفقّهًا يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخفت أن يتضرّر المتفقّه بذلك، فعليك نصيحته ببيان حاله، ويشترك أن يقصد النصيحة، وهذا مما يَغْلَط فيه كثير من الناس، فقد يحمل المتكلّم بذلك الحسد، أو يُلبّس الشيطان عليه ذلك، ويُخيّل إليه أنه نصيحة وشفقة، فليُتفطّن لذلك.

ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحًا لها، وإما بأن يكون فاسقًا، أو مُغَفّلا، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية

ص: 312

عامّة؛ ليُزيله، ويولّي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغترّ به، وأن يسعى في أن يحثّه على الاستقامة، أو يستبدل به.

(الخامس): أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو مصادرة الناس، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.

(السادس): التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصمّ، والأعمى، والأحول، والأفطس، ونحو ذلك، جاز تعريفه بذلك بنية التعريف، ويحرم إطلاقه على جهة النقص، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى.

فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء مما تباح بها الغيبة على ما ذكرناه، وأكثر هذه

الأسباب مُجمَع على جواز الغيبة بها. وقد نظمت هذه الستة بقولي:

يَا طَالِبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ

اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ لِلْفَضِيلَهْ

أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا

مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى

لَكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ

أُبِيحَ عَدَّهَا ذَوُو التَّرْجِيحِ

فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظلَّمِ

وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدِّ مُجْرِمِ

وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ

بِمَا بِهِ جَاهَرَ لا بِمَا امْتَنَعْ

وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرِفَا

بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا (1)

وَحَذِّرَنْ مَنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا

تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأَذَى

وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ

تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيلِ الأَرَبِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في بيان أدلّة جواز الغيبة في المواضع الستة المذكورة:

(اعلم): أنه قد وردت نصوص كثيرة تدلّ على جواز الغيبة في هذه الأمور:

(فمنها): ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال:"بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة"، فلما جلس تَطَلّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل: قالت له عائشة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأيت

(1) الأحنف من الحنف بفتحتين، وهو الاعوجاج في الرجل إلى داخل، وهو أيضًا الذي يمشي على ظهور قدميه. أفاده في "المصباح" 1/ 154.

ص: 313

الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة متى عَهِدتني فحاشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه الناس اتقاء شره".

وقد استدلّ به البخاريّ رحمه الله تعالى على جواز غيبة أهل الفساد والرِّيَب، فقال في "صحيحه":"باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب"، ثم أورد الحديث المذكور.

(ومنها): ما أخرجاه أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتمعر وجهه، وقال:"رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". وفي بعض الروايات: قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقلت: لا أرفع إليه بعد هذا حديثًا. وقد احتجّ البخاريّ رحمه اللهُ تعالى بهذا في إخبار الرجل أخاه بما يقال فيه.

(ومنها): ما أخرجه البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا". قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.

(ومنها): ما أخرجه الشيخان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غَزَاة، فسمعت عبد الله بن أُبَيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليُخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني، فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتك، فأنزل الله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} الآية [المنافقون: 1]، فبعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال:"إن الله قد صدقك يا زيد".

(ومنها): ما أخرجه مسلم عن فاطمة بنت قيس في قصّة طلاقها، وفيه: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك، لا مال له

" الحديث.

وقد سبق حديث قصّة هند مع زوجها أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما.

فهذه النصوص ونحوها تدلّ على جواز الغيبة لغرض شرعيّ، كما تبيّن إيضاحه في المسائل الست. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 314

(المسألة السابعة): في إجماع أهل العلم على جواز جرح الرواة:

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "العلل الصغير": ما نصّه: وقد عاب بعض من لا يَفهَم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين، قد تكلموا في الرجال، منهم الحسن البصري، وطاووس، تكلما في معبد الجهني، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب، وتكلم إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي في الحارث الأعور، وهكذا رُوي عن أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وسليمان التيمي، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم، أنهم تكلموا في الرجال، وضعفوا، وإنما حملهم على ذلك عندنا -والله أعلم- النصيحة للمسلمين، لا نظن بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس، أو الغيبة، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء؛ لكي يُعرفوا؛ لأن بعضهم من الذين ضُعِّفوا كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متهما في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة، وكثرة خطإ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم، شفقة على الدين، وتثبّتًا؛ لأن الشهادة في الدين أحق أن يُتَثَبَّت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال. انتهى. كلام الترمذيّ رحمه الله تعالى (1).

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرحه": مقصود الترمذيّ رحمه الله تعالى أن يبيّن أن الكلام في الجرح والتعديل جائز، قد أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها؛ لما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله. وقد ظنّ بعض من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة، وليس كذلك، فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة، ولو كانت خاصّة، كالقدح في شهادة شاهد الزور جائز بغير نزاع، فما كان فيه مصلحة عامّة للمسلمين أولى. وذكر ابن أبي حاتم بسنده عن بهز بن أسد قال: لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم، ثم جحدها، لم يستطع أخذها إلا بشاهدين عدلين، فَدِينُ الله أحقّ أن يؤخذ فيه بالعدول. انتهى (2).

وقد ذكر الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس "الكفاية في علم الرواية" بابًا نفيسًا أحببت إيراد ملخّصه؛ لنفاسته، قال رحمه الله تعالى:

"باب وجوب تعريف المزكي ما عنده من حال المسؤول عنه"

(1) علل الترمذي ج: 1 ص: 738.

(2)

"شرح علل الترمذيّ لابن رجب ص 59.

ص: 315

ثم أخرج بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سُئل عن علم يعلمه، فكتمه، أُلجم يوم القيامة بلجام من نار"(1).

قال: وقد أنكر قوم، لم يتبحروا في العلم، قولَ الحفاظ من أئمتنا، وأُولي المعرفة من أسلافنا أن فلانا الراوي ضعيف، وفلانًا غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام، ورأوا ذلك غيبة لمن قيل فيه، إن كان الأمر على ما ذكره القائل، وإن كان الأمر على خلافه فهو بهتان، واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟

" الحديث. وقد تقدّم ذكره. قال: وقال قائلهم في ذلك شعرًا، أنشده بكر بن حماد الشاعر المغربي لنفسه [من الطويل] (2):

(1) حديث صحيح أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، والحاكم.

(2)

وقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله تعالى أبيات بكر بن حماد هذه مع ردودها، فأفاد وأجاد، حيث قال في "جامع بيان العلم" 2/ 1016 - 1019 بعد أن ذكر قصّة عن سفيان بن عيينة أن أصحاب الحديث ألجؤوه إلى الميل الأخضر، فالتفت إليهم، فقال: ما أرى الذي تطلبونه من الخير، ولو كان من الخير لنقص كما ينقص الخير، قال أبو عمر: هذا كلام خرج على ضجر، وفيه لأولي العلم نظر، وقد أخذه بكر بن حماد، فقال:

لَقَدْ جَفَّتِ الأَقْلَامُ بالْخَلْقِ كُلِّهِمْ

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ خَائِبٌ وَسَعِيدُ

تَمُرُّ اللَّيَالِي بالنُّفُوسِ سَرِيِعَةً

وَيُبْدِىْ رَبِّي خَلْقَهُ وَيُعِيدُ

أَرَى الْخَيْرَ فِي الَدُّنْيَا يَقِلُّ كَثِيرُهُ

وَيَنْقُصُ نَقْصًا وَالْحَدِيثُ يَزِيدُ

فَلَوْ كَانَ خَيْرًا قَلَّ كَالْخَيْرِ كُلِّهِ

وَأَحْسِبُ أَنَّ الْخَيْرَ مِنْهُ بَعِيدُ

وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ مَقَالَةٌ

سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالْمَلِيكُ شَهِيدُ

فَإِنْ تَكُ حَقَّا فَهْيَ فِي الْحُكْمِ غِيبَةٌ

وَإِنْ تَكُ زُورًا فَالْقِصَاصُ شَدِيدُ

وَكُلُّ شَيَاطِينِ الْعِبَادِ ضَعِيفَةٌ

وَشَيْطَانُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَرِيدُ

قال أبو عمر بن عبد البرّ: وقد ردّ جماعة هذا القول على بكر بن حمادَ نظمًا، فمن ذلك ما أخبرني غير واحد عن مسلمة بن القاسم، قال: ذاكرت أبا الأصبغ عبد السلام بن يزيد بن غياث الإشبيليّ رفيقي أبيات بكر بن حماد هذه، ونحن في المسجد الحرام، وسألته الردّ عليه، فعارضه بشعر أوله:

تَبَارَكَ مَنْ لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ

وَمَنْ بَطْشُهُ بِالْمُعْتَدِينَ شَدِيدُ

وفيه:

تَعَرَّضْتَ يَا بَكْرَ بْنَ حَمَّادَ خُطَّةً

بِأَمْثَالِهَا فِي النَّاسِ شَابَ الْوَلِيدُ

تَقُولُ بِأَنَّ الْخَيْرَ قَلَّ كَثِيرُهُ

وَأَخْبَرْتَنَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَزِيدُ

وَصَيَّرْتَهُ إِذْ زَادَ شَرًّا وَقَامَ فِي

ضَمِيرِكَ أَنَّ الْخَيْرَ مِنْهُ بَعِيدُ

فَلَمْ تَأْتِ فِيهَ الْحَقَّ إِذْ قُلْتَ فِيهَ مَا

بِهِ عَنْ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ تَحِيدُ

وَمَا زَالَ ذَا قِسْمَيْنِ حَقًّا وَبَاطِلَا

فَهَذَا خَلَاخِلٌ وَذَاكَ قُيُودُ

وَذَا ذَهَبٌ مَحْضٌ وَذَلِكَ آنُكٌ

وَذَا وَرِقٌ صَافٍ وَذَاكَ حَدِيدُ

وَهَذَا أَثِيرٌ فِي الأَنَامِ مُعَظَّمٌ

وَذَاكَ طَرِيدٌ فِي الْبِلادِ شَرِيدُ

فَذَمُّكَ هَذَا فِي الْمَقَالِ مُذَمَّمٌ

وَذَمُّكَ هَذَا فِي الْفِعَالِ حَمِيدُ =

ص: 316

أَرَى الْخَيْرَ فِي الدُّنْيَا يَقِلُّ كَثِيرُهُ

وَيَنْقُصُ نَقْصًا وَالْحَدِيثُ يَزِيدُ

فَلَوْ كَانَ خَيْرًا كَانَ كَالْخَيْرِ كُلِّهِ

وَلَكِنَّ شَيْطَانَ الْحَدِيثِ مَرِيدُ

= وَأَلْزَمْتَ هَذَا ذَنْبَ ذَا كَمُعَاقِبِ

ظِبَاءٍ بِذَنْبٍ قَارَفَتْهُ أُسُودُ

وَهَلْ ضَرَّ أَحْرَارًا كِرَامًا أَعِزَّةً

إِذَا جَاوَرَتْهُمْ فِي النَّدِيِّ عَبِيدُ

وَلَوْلَا الْحَدِيثُ الْمُحْتَوِي سُنَنَ الْهُدَى

لَقَامَتْ عَلَى رَأْسِ الضَّلَالِ بُنُودُ

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ يُعْرَفُ حَدُّهُ

فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الرُّوَاةِ مَزِيدُ

وَمَا كَانَ مِن إِفْكٍ وَزُورٍ فَإِنَّهُ

كَعُدَّةِ رَمْلٍ تَحْتَوِيهِ زُرُودُ

وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ

يَزيدُ جَدِيدًا يَقْتَضِيهِ جَدِيدُ

وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الَّذِي قَالَ أُسْوَةٌ

وَرَأَيٌ مُصِيبٌ للصَّوَابِ سَدِيدُ

وَأَحرٍ بِهِ يُعْلِي الإِلَهُ مَحَلَّهُ

وَيُنْزِلُهُ فِي الْخُلْدِ حَيْثُ يُرِيدُ

يُنَاضِلُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ وَيَطْرُدُ الْـ

ـأَبَاطِيلَ عَنْ أَحْوَاضِهِ وَيَذُودُ

وَجِلَّةُ أَهْلِ الْعِلْم قَالُوا بِقَوْلِهِ

وَمَا هُوَ فِي شَيْءٍ أَتَاهُ فَرِيدُ

وَقَلْتَ وَلَيْسَ الصِّدْقُ مِنْكَ سَجِيَّةً

وَشَيْطَانُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَرِيدُ

وَمَا النَّاسُ إِلَّا اثْنَانِ بَرٌّ وَفَاجِرٌ

فَقَوْلُكَ عَنْ سُبْلَ الصَّوَابِ حَيُودُ

وَكُلُّ حَدِيثِيٍّ تَأَزَّرَ بِالتُّقَى

فَذَاكَ امْرُؤٌ عِنْدَ الإِلَهِ سَعِيدُ

وَلَوْ لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِدِينِنَا

فَمَنْ كَانَ يَرْوِي عِلْمَهُ وَيُفِيدُ

هُمُ وَرِثُوا عِلْمَ النُّبُوَّةِ وَاحْتَوَوْا

مِنَ الفَضْلِ مَا عَنْهُ الأَنَامُ رُقُودُ

وَهُمْ كَمَصَابِيحِ الدُّجَى يُهْتَدَى بِهِمْ

ومَا لَهُمُ بَعْدَ الْمَمَاتِ خُمُودُ

عَلَيْكَ ابْنَ غِيَاثٍ لُزُومُ سَبِيلِهِمْ

فَحَالُهُمُ عنْدَ الإِلَهِ حَمِيدُ

وقال أبو عليّ بن ملولة القيروانيّ يُعارض بكر بن حماد:

وَلاِبْنِ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ مَقَالَةٌ

تَقَدَّمَهُ فِيهَا شَرِيكٌ وَمَالِكُ

فَإِنْ يَكُ مَا قَالَاهُ سَهْلًا وَوَاسِعًا

فَقَدْ سَهُلَتْ لابْنِ الْمَعِينِ الْمَسَالِكُ

وَإِنْ يَكُ زُورًا مِنْهُمُ أَوْ نَمِيمَةٌ

فَمَا مِنْهُمُ فِي الْقَوْلِ إِلَّا مُشَارِكُ

وأنشدني أحمد بن عمر بن عصفور لنفسه يُعارض بكر بن حماد:

أَجَلْ إِنَّ حُكْمَ اللهِ فِي الْخَلْقِ سَابِقٌ

وَمَا لامْرِىءٍ عَمَّا يحم (1) مَحِيدُ

هُوَ الرَّبُّ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَفِيَّةٌ

عَلِيمٌ بِمَا تُخْفِي الصُّدُورُ شَهِيدُ

جَرَتْ بِقَضَايَاهُ الْمَقَادِيرُ فِي الْوَرَى

فَمُقَرَّبٌ مِنْ خَيْرِهَا وَبَعِيدُ

أَيَا قَادِحًا فِي الْعِلْمِ زِيدَ عَمَاؤُهُ

رُوَيْدًا بِمَا تُبْدِي بِهِ وَتُعِيدُ

جَعَلْتَ شَيَاطِينَ الْحَدِيثِ مَرِيدَةً

أَلَا إِنَّ شَيْطَانَ الضَّلَالِ مَرِيدُ

وَجَرَّحْتَ بِالتَّكْذِيبِ مَنْ كَانَ صَادِقًا

فَقَوْلُكَ مَرْدُودٌ وَأَنْتَ عَنِيدُ

ذَوُو الْعِلْمِ فِي الدُّنْيَا نُجُومُ هِدَايَةٍ

إِذَا غَابَ نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيدُ

بِهِمْ عَزَّ دِينُ اللهِ طُرًّا وَهُمْ لَهُ

مَعَاقِلُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَجُنُودُ

_________

(1)

هكذا النسخة ولعل الصواب: "يُرِيدُ" والله أعلم.

ص: 317

وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرّجَالِ مَقَالَةٌ

سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالْمَلِيكُ شَهِيدُ

فَإِنْ تَكُ حَقَّا فَهْيَ فِي الْحُكْمِ غِيبَةٌ

وَإِنْ تَكُ زُورًا فَالْقِصَاصُ شَدِيدُ

ثم أخرج بسنده عن محمد بن الفضل العباسي، قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ علينا "كتاب الجرح والتعديل"، فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي، فقال له: يا أبا محمد، ما هذا الذي تقرؤه على الناس؟ قال: كتاب صنفته في الجرح والتعديل، قال: وما الجرح والتعديل؟ قال: أُظهر أحوال أهل العلم، من كان منهم ثقة، أو غير ثقة، فقال له يوسف بن الحسين: استحييت لك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم حَطّوا رواحلهم في الجنة، منذ مائة سنة، ومائتي سنة، وأنت تذكرهم، وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن، وقال: يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفى هذا الكتاب، لما صنفته (1).

قال الخطيب رحمه الله تعالى: وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقا في روايته، مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا، وبضد قول من خالفنا، ثم أخرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة

" الحديث، وقد تقدّم.

ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: "بئس رجل العشيرة" دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة، إذ لو كان ذلك غيبة لَمَا أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليه السلام بما ذَكر فيه -والله أعلم- أن يُبَيِّنَ للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش، فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه، والثَّلْب له، وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل؛ لئلا يَتَغطّى أمره على من لا يَخبُره، فيظنه من أهل العدالة، فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر، إذا كان على الوجه الذي ذكرناه لا يكون غيبة. ومما يؤيد ذلك حديث فاطمة بنت قيس، ثم أخرجه، وقد تقدّم ذكره.

ثم قال: في هذا الخبر: دلالة على إجازة الجرح للضعفاء، من جهة النصيحة؛ لتُجتَنَب الرواية عنهم، وليُعدَل عن الاحتجاج بأخبارهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا ذكر في أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك، لا مال له عند

(1) قلت: في هذه الحكاية نظر لا يخفى؛ لأن ابن أبي حاتم لو ندم على تصنيفه، لما قرأه بعد ذلك، بل أمر بإحراقه، ونحو ذلك. والله تعالى أعلم بصحتها.

ص: 318

مشورة، استُشير فيها، لا تتعدى المستشير، كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نَقَلَة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم، وكشفها عليهم، إلى تحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإلى الفساد في شريعة الإسلام، أولى بالجواز، وأحق بالإظهار.

وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها بقوله عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [الحجرات: 12]، وزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها بقوله: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم

" الحديث (1). فهي ذكر الرجل عيوب أخيه، يقصد بها الوضع منه، والتنقيص له، والإزراء به، فيما لا يعود إلى حكم النصيحة، وإيجاب الديانة، من التحذير عن ائتمان الخائن، وقبول خبر الفاسق، واستماع شهادة الكاذب، وقد تكون الكلمة الواحدة لها معنيان مختلفان، على حسب اختلاف حال قائلها، في بعض الأحوال يأثم قائلها، وفي حالة أخرى لا يأثم.

ثم أخرج حديث عائشة رضي الله عنها في الإفك، ثم قال: وفي استشارة النبي صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة، وسؤاله بريرة عما عندهم من العلم بأهله بيان واضح أنه لم يكن ليسألهم إلا وواجب عليهم إخباره بما يعلمون من ذلك، فكذلك يجب على جميع من عنده علم من ناقل خبر، أو حامل أثر، ممن لا يبلغ محله في الدين محل عائشة أم المؤمنين، ولا منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتها منه بخصلة تكون منه يضعف خبره عند إظهارها عليه، وبجرحة تثبت فيه، يسقط حديثه عند ذكرها عنه أن يبديها لمن لا علم له به؛ ليكون بتحذير الناس إياه من الناصرين لدين الله، الذابين الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا لها منزلةً ما أعظمها، أو مرتبة ما أشرفها، وإن جهلها جاهل، وأنكرها منكر.

ثم أخرج عن الصَّلْت بن طَريف قال: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكري له بما فيه غيبة له؟ قال: لا ولا كرامة. وعن الحسن أيضًا كان يقول: ليس لأهل البدعة غيبة. وعن يحيى بن سعيد قال: سألت شعبة، وسفيان، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، عن الرجل يُتَّهَم في الحديث، أو لا يحفظه؟ قالوا: بَيّن أمره للناس. وروى محمد بن أبي خلف قال: كنا عند ابن عُلَيّة، فجاءه رجل، فسأله عن حديث الليث بن أبي سليم، فقال بعض من حضره: وما تصنع بليث بن أبي سليم، وهو ضعيف الحديث؟ لم لا تسأله عن حديث لأيوب؟ قال: فقال سبحان الله، أتغتاب رجلا من العلماء؟ قال: فقال ابن علية يا جاهل نصحك، إن هذا أمانة، ليس بغيبة. وعن عبد الرحمن بن مهديّ قال: مررت مع شعبة برجل -يعني يحدث- فقال: كذب، والله لولا أنه لا يحل لي أن أسكت عنه لسكت، أو

(1) أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وقد تقدّم أنه صحيح.

ص: 319

كلمة نحوها. وعن عليّ بن المديني قال: سمعت عبد الرحمن بن مهديّ يقول: ثنا حماد بن زيد، قال: كلمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد، وجرير بن حازم في رجل (1)، قلنا: لو كففت عن ذكره، فكأنه لان وأجابنا، ثم مضيت يوما أريد الجمعة، فإذا شعبة ينادي من خلفي، فقال: ذاك الذي قلت لكم فيه، لا أراه يسعني. وأخرج عن عثمان بن حميد الدبوسيّ قال: قيل لشعبة بن الحجاج: يا أبا بسطام كيف تركت علم رجال، وفضحتهم، فلو كففت؟ فقال: أجلوني حتى أنظر الليلة فيما بيني وبين خالقي، هل يسعني ذلك؟ قال: فلما كان من الغد خرج علينا، على حمير له، فقال: قد نظرت فيما بيني وبين خالقي، فلا يسعني دون أن أُبَيّن أمورهم للناس، والسلام. وعن أبي بكر بن خلاد قال: قلت ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى؟ قال: قال لأن يكون هؤلاء خصمائي، أحب إليّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لِمَ حدثت عني حديثا ترى أنه كذب". وعن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصر بعمرو بن عبيد، فجثوت على ركبتي، فقلت: يا أبا الخطاب، هذه الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ فقال: يا أحول رجل ابتدع بدعة، فيذكر خير من أن يُكَفّ عنه. وعن أحمد بن محمد المكيّ قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: كان شعبة يقول: تعالَوا حتى نغتاب في الله عز وجل. وعن أبي زيد الأنصاري النحوي قال: أتينا شعبة يوم مطر، فقال: ليس هذا يوم حديث، اليومُ يومُ غيبة، تعالوا حتى نغتاب الكذابين. وعن مكي بن إبراهيم قال: كان شعبة يأتي عمران بن حُدَير يقول: يا عمران تعال حتى نغتاب ساعة في الله عز وجل، يذكرون مساوي أصحاب الحديث. وعن الحسن بن الربيع قال: قال ابن المبارك: الْمُعَلّى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، قال: فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ فقال: اسكت إذا لم نُبَيّن كيف يُعرَف الحق من الباطل، أو نحو هذا من الكلام. وعن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو قال: سمعت أبا مسهر يُسأل عن الرجل يَغلَط، ويَهِم، ويُصَحِّف، فقال: بَيّن أمره، فقلت لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: لا. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: جاء أبو تراب النَّخْشَبيّ إلى أبي، فجعل أبي يقول: فلان ضعيف، فلان ثقة، فقال أبو تراب: يا شيخ لا تَغتَب العلماء، فالتفت أبي إليه، فقال له: ويحك هذا نصيحة، ليس هذا غيبة. وعن محمد بن بندار السبّاك الجرجاني قال: قلت لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليّ أن

(1) الرجل هو أبان بن أبي عياش، كما سبق.

ص: 320

أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب، فقال أحمد: إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا، فمتى يَعرِف الجاهل الصحيح من السقيم؟ . وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث، يأتون الشيخ، لعله أن يكون مرجئا، أو شيعيا، أو فيه شيء من خلاف السنة، أيسعني أن أسكت عنه، أم أحذر عنه؟ فقال أبي: إن كان يدعو إلى بدعة، وهو إمام فيها، ويدعو إليها، قال: نعم تُحَذِّر عنه. انتهى كلام الحافظ أبي بكر الخطيب رحمه الله تعالى، ملخصًا (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق مما أورد الأئمة: مسلم، والترمذيّ، والخطيب، وغيرهم رحمهم الله تعالى أنه يجوز جرح الرواة، بل يجب إذا تعيّن على الشخص بأن لا يعرفه غيره، وليس ذلك من الغيبة المحرّمة؛ للأدلة التي ساقوها، من الكتاب والسنة، كقول عز وجل:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: 6]، وقوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية [الطلاق: 2]. وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الآية [البقرة: 282]، وعدالة الشخص، وكونه مرضيّا لا يحصلان إلا بذكر ما فيه من المناقب، والمثالب، فدلت الآيات على ما قلنا، وقد تقدّمت أحاديث كثيرة دالّة على ذلك.

وقد أشرت إلى ما تقدم في "شافية الْغُلَل"، حيث قلت:

أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَفْصِيلِ

عَلَى جَوَازِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ

إِذْ فِيهِ تَمْيِيزٌ لِمَا قَدْ يُقْبَلُ

مِنْ ضِدِّهِ مِنَ الْحَدِيثِ فَاقْبَلُوا

وَعَابَهُمْ بَعْضٌ مِنَ الْجَهَلَةِ

وَقَالَ إِنَّ ذَا صَرِيحُ الْغِيبَةِ

وَذَا لِجَهْلِهِ فَلَيْسَ مِنْهُ ذَا

فَشَاهِدُ الزُّورِ بِجَرْحٍ نُبِذَا

بِلَا خِلَافٍ وَهْوَ قَدْ يَخْتَصُّ

فَكَيْفَ مَا يَعُمُّ يَا مُخْتَصُّ

إِذِ الْحَدِيثُ يَأْتِي لِلتَّحْلِيلِ

وَنَحْوِهِ مِنْ شَرْعِنَا الْجَمِيلِ

وَذَلِكَ الشَّرْعُ يَكُونُ دَائِمَا

عَلَى الْمُكَلَّفِينَ حُكْمًا لَازِمَا

لِذَا يَكُونُ الاحْتِيَاطُ أَوْجَبَا

مِنْ غَيْرِهِ فَاسْلُكْ طَرِيقَ النُّجَبَا

فَأَنْتَ لَوْ أَقْرَضتَ شَخْصًا عَشَرَهْ

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ مَضَتْ قَدْ أَنْكَرَهْ

لاحْتَجْتَ لِلْعُدُولِ فِي اسْتِحْقَاقِ

فَكَيْفَ بِالدِّينِ الْحَنِيفِ الْبَاقِي

وَالأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ {تَبَيَّنُوا}

فِي نَبَإِ الْفَاسِقِ أَمْرٌ بَيِّنُ

قَالَ النَّبِيُّ قَادِحًا لِذِي أَذَى

"بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرِ" صَاحِبُ الْبَذَا

و"نِعْمَ عَبْدُ اللهِ" قَالَ مَادِحَا

كَذَا لِفَاطِمَةَ قَالَ نَاصِحَا

(1)"راجع "الكفاية في علم الرواية" ص 81 - 92.

ص: 321

"أَمَّا مُعَاوِيَةُ لا مَالَ لَهُ"

"لا يَضَعُ الْعَصَا" لِثَانٍ قَالَهُ

كَذَا اسْتَشَارَ حِبَّهُ أُسَامَهْ

مَعَ أَبِي الْحَسَنِ ذِي الْكَرَامَهْ

لَمَّا ذَوُو الإِفْكِ أَثَارُوا الْفِتَنَا

يُفَارِقُ الأَهْلَ فَجَاءَهُ الْهَنَا

أَمَّا كَلَامُ السَّلَفِ الأَئِمَّةِ

حَدِّثْ عَنِ الْبَحْرِ بِلَا مَشَقّةِ

طَاوُسُهُمْ وَحَسَنٌ تَكَلَّمَا

فِي الْجُهَنِيِّ مَعْبَدٍ إِذْ أَجْرَمَا

وَابْنُ جُبَيْرٍ قَالَ فِي طَلْقٍ كَذَا

فِي الْحَارِثِ الأَعْوَرِ بِئْسَمَا ابْتَذَى

تَكَلَّمَ الشَّعْبِيُّ ثُمَّ النَّخَعِي

كَذَاكَ مَنْ بَعْدَهُمُ فَاسْتَمِعِ

أَيُّوبُ وَالتَّيْمِيُّ وَالثَّوْرِيُّ

وَمَالِكُ كَذَاكَ الأوْزَاعِيُّ

وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَنَجْلُ عَوْنِ

وَابْنُ عُيَيْنَةَ حَلِيفُو الزَّيْنِ

وَنَجْلُ مَهْدِيٍّ كَذَا وَكِيعُ

وَكُلُّ مَنْ مَقَامُهُ رَفِيعُ

أَمَّا إِمَامُ الْقَوْمِ شُعْبَةُ فَقَدْ

أَتَى لِذَبِّهِ بِقَوْلٍ يُعْتَمَدْ

فَقَالَ لِلْقَوْمِ تَعَالَوْا حَتَّى

نَغْتَابَ فِي اللهِ دِفَاعًا بَحْتَا

لَقَدْ أَجَادَ قَوْلَهُ الْقَطَّانُ أَنْ

خُوِّفَ بِالْخَصْمِ غَدًا وَقْتَ الْمِحَنْ

لأَنْ يَكُونُوا خُصَمَائِيَ غَدَا

أَحَبُّ مِنْ خَصْمِ النَّبِيِّ الْمُقْتَدَى

إِذْ لَمْ أَذُبَّ عَنْ حَدِيثِهِ الْكَذِبْ

فَاسْلُكْ سَبِيلَهُ لَدَى الذَّبِّ تُصِبْ

وَكُلُّهُمْ قَدْ قَصَدُوا النَّصِيحَهْ

لا حُبَّ غِيبَةٍ وَلَا الْفَضِيحَهْ

وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنْ يُعْرَفَا

مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حَدِيثِ الْمُصْطَفَى

فَإِنَّ مَنْ جُرِحَ بَعْضُهُمْ غَدَا

مُبْتَدِعًا يَدْعُو فَبِئْسَمَا اعْتَدَى

وَبَعْضُهُمْ مُتَّهَمٌ فِي الْخَبَرِ

وَبَعْضُهُمْ صَاحِبَ غَفْلَةٍ دُرِي

أَوْ كَثْرَةِ الْخَطَإِ فِي الرِّوَايَةِ

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْغَوَايَةِ

لِذَا رَأَوْا أَنْ يَكْشِفُوا أَحْوَالَهُمْ

شَفَقَةً لِلدِّينِ فَاعْرِفْ فَضْلَهُمْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في شروط من يتصدّى للجرح والتعديل:

(اعلم): أن أهل العلم قد ذكروا شروطًا لمن يتصدّى لجرح الرواة وتعديلهم:

فمنها: العلم، والتقوى، والورع، والصدق، والأمانة، والابتعاد عن التعصّب، ومعرفة أسباب الجرح والتعديل، وأن يكون مستيقظًا، مستحضرًا، متحريا لأقوال العلماء، ضابطا لما يصدر منه؛ لئلا يقع في التناقض، عالما بتصاريف الكلام؛ لئلا يُغيّر كلام الناس إلى عكس ما يريدونه، وأن لا تحمله العداوة الشخصية في الجرح، وأن يكون حليمًا صبورًا، فلا يغضب في كلام الناس فيه، فيرميهم بما لا يستحقّونه،

ص: 322

وأن لا تحمله القرابة على العدول عن قول الحقّ في الراوي، وقد ضرب العلماء في هذا أورع مثل، فقد قال ابن المدينيّ عن أبيه: إنه ضعيف، وقال محمد بن أبي السريّ، عن أخيه الحسين بن أبي السريّ: لا تكتبوا عن أخي فإنه كذّاب، وقال عنه أبو عروبة الحرانيّ: هو خال أمي، وهو كذّاب.

وإلى ما ذُكر أشرت في "شافية الْغُلَل" بقولي:

الْعِلْمُ وَالتَّقْوَى وِصِدْقٌ وَوَرَعْ

شُرُوطُ مَنْ عَدَّلَ أَوْ جَرْحًا وَضَعْ

أَمَانَةٌ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمَا

بِسَبَب الْجَرْحِ وَضِدٍّ سَالِمَا

عَنِ التَّعَصُّبِ لِمَذْهَبٍ وَلَا

تَحْمِلُهُ قَرَابَةٌ أَنْ يَعْدِلَا

مُسْتَيْقِظًا مُسْتَحْضِرًا تَحَرَّى

كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهْوَ أَحْرَى

وَضَابِطًا مَا عَنْهُ يَصْدُرُ فَلَا

يَقَعُ فِي تَنَاقُضٍ عِنْدَ الْمَلَا

وَعَالِمًا مَخَارِجَ الْكَلَامِ

لِيَسْلَمَ الْوُقُوعَ فِي الْمَلَامِ

بِحَمْلِهِ الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ مَا

يُرِيدُهُ الْقَائِلُ جَرْحًا مُؤْلِمَا

فَاجْرَحْ وَعَدِّلَنْ لِحِفْظِ الدِّينِ

وَابْتَعِدَنْ عَنْ غَرَضٍ مَهِينِ

عَلَيْكَ بِالتَّثَبُّتِ الْقَوِيمِ

فَلَا تَزِغْ عَنِ الْهُدَى السَّلِيمِ

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ

مُحَذِّرًا عَنْ دَرَكٍ شَدِيدِ

أَعْرَاضُ مَنْ أَسْلَمَ حُفْرَةٌ غَدَتْ

مِنْ حُفَرِ النَّارِ وَبِئْسَمَا احْتَوَتْ

قَامَ عَلَى شَفِيرِهَا صِنْفَانِ

أَهْلُ الْحَدِيثِ وَذَوُو السُّلْطَانِ

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَهْلُ الْعَصرِ لَا

يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ سِوَى الَّذِي انْجَلَى

مِنْهُمُ بِالْبَيِّنَةِ الْوَاضحَةِ

وَنِعْمَ مَا قَالَ قَوِيُّ الْحُجَّةِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قال الإمام الذهبيّ -رحمه اللهُ تعالى- في مقدّمة كتابه "ذكر من يُعتَمد قوله في الجرح والتعديل": (اعلم) -هداك الله- أن الذين قَبِلَ الناس قولهم في الجرح والتعديل على ثلاثة أقسام:

قسم تكلّموا في أكثر الرواة، كابن معين، وأبي حاتم الرازي. وقسم تكلّموا في كثير من الرواة، كمالك، وشعبة. وقسم تكلّموا في الرجل بعد الرجل، كابن عيينة، والشافعيّ. قال: والكل أيضًا على ثلاثة أقسام: قسم منهم متعنّتٌ في التوثيق، متثبّتٌ في التعديل، يَغْمِزُ الراوي بالغلطتين وبالثلاث، ويُليّن بذلك حديثه، فهذا إذا عدّل شخصًا، فعَضّ على قوله بنواجذك، وتمسّك بتوثيقه، وإذا ضعّف رجلًا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه، ولم يوثِّق ذلك الرجل أحد من الحذّاق، فهو ضعيف،

ص: 323

وإن وثّقه أحد، فهذا هو الذي قالوا فيه: لا يُقبل منه الجرح إلا مفسّرًا. يعني لا يكفي فيه قول ابن معين مثلًا: هو ضعيف، ولم يُبيّن سبب ضعفه، ثم يجيىء البخاريّ وغيره يوثّقه، ومثل هذا يُتوقّف في تصحيح حديثه، وهو إلى الحسن أقرب، كابن معين، وأبي حاتم، والجوزجانيّ.

وقسم في مقابلة هؤلاء متساهلون، كأبي عيسى الترمذيّ، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقيّ، قال السخاويّ: وكابن حزم، فإنه قال في كلّ من أبي عيسى الترمذيّ، وأبي القاسم البغويّ، وإسماعيل الصفّار، وأبي عيسى الأصمّ، وغيرهم من المشهورين: إنه مجهول.

وقسم معتدلون، ومنصفون، كأحمد، والبخاريّ، وأبي زرعة، والدارقطنيّ، وابن عديّ. انتهى (1).

وقد تكلّم في الرجال -كما قال الإمام الذهبيّ -رحمه اللهُ تعالى- جماعة من الصحابة، ثم من التابعين، كالشعبيّ، وابن سيرين، ولكنه في التابعين بالنسبة لمن بعدهم بقلّة؛ لقلّة الضعف في متبوعيهم، إذ أكثرهم صحابة عدولٌ، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض في الصحابة، وكبار التابعين ضعيفٌ إلا الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور، والمختار الكذّاب، فلما مضى القرن الأول، ودخل الثاني كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين ضُعّفوا غالبًا من قبل تحمّلهم، وضبطهم للحديث، فتراهم يرفعون الموقوف، ويُرسلون كثيرًا، ولهم غلطٌ، كأبي هارون العبديّ، فلما كان عند آخر عصر التابعين، وهو حدود الخمسين ومائة تكلّم في التوثيق والتضعيف طائفة من الأئمة، فقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر الجعفيّ، وضعّف الأعمش جماعةً، ووثّق آخرين، ونظر في الرجال شعبة، وكان متثبّتًا لا يكاد يروي إلا عن ثقة، وكذا كان مالك.

وممن إذا قال في هذا العصر قُبل قوله: معمر، وهشام الدستوائيّ، والأوزاعيّ، والثوريّ، وابن الماجشون، وحمّاد بن سلمة، والليث بن سعد، وغيرهم.

ثم طبقة أخرى بعد هؤلاء، كابن المبارك، وهُشيم، وأبي إسحاق الفزاريّ، والمعافى بن عمران الموصليّ، وبشر بن المفضّل، وابن عيينة، وغيرهم.

ثم طبقة أخرى في زمانهم، كابن عُليّة، وابن وهب، ووكيع، ثم انتدب في زمانهم أيضًا لنقد الرجال الحافظان الحجتان: يحيى بن سعيد القطّان، وابن مهديّ،

(1) راجع "الموقظة" ص 83 و"ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل" ص 158 - 159.

ص: 324

فمن جرحاه لا يكاد يندمل جرحه، ومن وثّقاه فهو المقبول، ومن اختلفا فيه، وذلك قليل، اجتُهد في أمره.

ثم كان بعدهم ممن إذا قال سُمع منه الشافعيّ، ويزيد بن هارون، وأبو داود الطيالسيّ، وعبد الرزاق، والفريابيّ، وأبو عاصم النبيل. وبعدهم طبقة أخرى، كالحميديّ، والقعنبيّ، وأبي عبيد، ويحيى بن يحيى، وأبي الوليد الطيالسيّ.

ثم صنّفت الكتب، ودُوّنت في الجرح والتعديل، والعلل، وبُيّن من هو في الثقة والثبت كالسارية، ومن هو في الثقة كالشابّ الصحيح الجسم، ومن هو ليّنٌ، كمن توجعه رأسه، وهو متماسك، يُعدّ من أهل العافية، ومن صفته كالمحموم، ترجّح إلى السلامة، ومن صفته كمريض شبعان من المرض، وآخر كمن سقط قُواه، وأشرف على التلف، وهو الذي يسقط حديثه.

وتولّى الجرح والتعديل بعد من ذكرنا يحيى بن معين، وقد سأله عن الرجال غير واحد من الحفّاظ، ومن ثَمّ اختلفت آراؤه، وعبارته في بعض الرجال، كما اختلف اجتهاد الفقهاء، وصارت لهم الأقوال والوجوه، فاجتهدوا في المسائل، كما اجتهد ابن معين في الرجال. ومن طبقته أحمد بن حنبل، سأله جماعة من تلامذته عن الرجال، وكلامه فيهم باعتدال، وإنصاف، وأدب، وورع. وكذا تكلّم في الجرح والتعديل أبو عبد الله محمد بن سعد، كاتب الواقديّ في "طبقاته" بكلام جيّد مقبول. وأبو خيثمة زهير بن حرب، له كلام كثير، رواه عنه ابنه أحمد وغيره. وأبو جعفر عبيد الله بن محمد النبيل، حافظ الجزيرة الذي قال فيه أبو داود: لم أر أحفظ منه. وعلي بن المدينيّ، وله التصانيف الكثيرة في العلل، والرجال. ومحمد بن عبد الله بن نمير الذي قال فيه أحمد: هو دُرّة العراق. وأبو بكر بن أبي شيبة، صاحب "المسند"، وكان آية في الحفظ، يُشبّه بأحمد في المعرفة. وعبيد الله بن عمر القواريريّ الذي قال فيه صالح جزرة: هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة. وإسحاق بن راهويه، إمام خراسان. وأبو جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصليّ الحافظ، وله كلام جيّد في الجرح والتعديل. وأحمد بن صالح الطبريّ، حافظ مصر، وكان قليل المثل. وهارون بن عبد الله الحمّال، وكلهم من أئمة الجرح والتعديل.

ثم خلفهم طبقة أخرى متّصلة بهم، منهم: إسحاق الكَوْسج، والدارميّ، والذهليّ، والبخاريّ، والعجليّ الحافظ نزيل المغرب. ثم بعدهم أبو زرعة، وأبو حاتم الرازيّان، ومسلم، وأبو داود السجستانيّ، وبقيّ بن مخلد، وأبو زرعة الدمشقيّ، وغيرهم.

ص: 325

ثم بعدهم عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش البغداديّ، له مصنّف في الجرح والتعديل، قويّ النفس، كأبي حاتم، وإبراهيم بن إسحاق الجوزجانيّ، ومحمد بن وضّاح الأندلسيّ، حافظ قرطبة، وأبو بكر بن أبي عاصم، وعبد الله بن أحمد، وصالح جزرة، وأبو بكر البزّار، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وهو ضعيف، لكنه من أئمة هذا الشأن، ومحمد بن نصر المروزيّ.

ثم من بعدهم: أبو بكر الفريابيّ، والبرديجيّ، والنسائيّ، وأبو يعلى، والحسن بن سفيان، وابن خزيمة، وابن جرير الطبريّ، والدولابيّ، وأبو عروبة الْحَرّانيّ، وأبو الحسن أحمد بن عُمير بن جوصا، وأبو جعفر العقيليّ.

ثم طبقة أخرى منهم: ابن أبي حاتم، وأبو طالب أحمد بن نصر البغداديّ الحافظ، شيخ الدارقطنيّ، وابن عقدة، وعبد الباقي بن قانع.

ثم بعدهم: أبو سعيد بن يونس، وابن حبّان البستيّ، والطبرانيّ، وابن عديّ الجرجانيّ، ومصنّفه في الرجال إليه المنتهى في الجرح.

ثم بعدهم: أبو عليّ الحسين بن محمد الماسرجسيّ النيسابوريّ، وله مسند معلّلٌ في ألف وثلاثمائة جزء، وأبو الشيخ بن حيّان، وأبو بكر الإسماعيليّ، وأبو أحمد الحاكم، والدارقطنيّ، وبه خُتم معرفة العلل.

ثمّ بعدهم: أبو عبد الله بن منده، وأبو عبد الله الحاكم، وأبو نصر الكلاباذيّ، وأبو المطرّف عبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة، وله "دلائل السنة" في خمسمائة مجلّدات، و"فضائل الصحابة". وعبد الغنيّ بن سعيد، وأبو بكر بن مردويه الأصبهانيّ، وتمّام الرازيّ.

ثم بعدهم أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس البغداديّ، وأبو بكر الْبَرْقَانيّ، وأبو حازم العبدريّ، وقد كَتَب عنه عشرة أنفس عشرة آلاف جزء، وخلف بن محمد الواسطيّ، وأبو مسعود الدمشقيّ، وأبو الفضل الفلكيّ، وله "كتاب الطبقات" في ألف جزء، وأبو القاسم حمزة السهميّ، وأبو يعقوب الْقَرّاب، وأبو ذرّ الهرويان.

ثم بعدهم: أبو محمد الحسن بن محمد الخلال البغداديّ، وأبو عبد الله الصوريّ، وأبو سعد السمان، وأبو يعلى الخليليّ.

ثم بعدهم ابن عبد البرّ، وابن حزم الأندلسيّان، والبيهقيّ، والخطيب. ثم أبو القاسم سعد بن محمد الزنجانيّ، وشيخ الإسلام الأنصاريّ، وأبو صالح المؤذن، وابن ماكولا، وأبو الوليد الباجيّ، وقد صنّف في الجرح والتعديل، وكان علّامة حجة، وأبو عبد الله الحميديّ، وابن مفوّز المعافريّ الشاطبيّ، ثم أبو الفضل بن طاهر المقدسيّ،

ص: 326

وشجاع بن فارس الذهليّ، والمؤتمن بن أحمد بن عليّ الساجيّ، وشيرويه الديلميّ الهرويّ، مصنّف تأريخ هراة، وأبو عليّ الغسّانيّ، ثم بعدهم أبو الفضل بن ناصر السلاميّ، والقاضي عياض، والسلفيّ، وأبو موسى المدينيّ، وأبو القاسم بن عساكر، وابن بشكوال.

ثم بعدهم: عبد الحقّ الإشبيليّ، وابن الجوزيّ، وأبو عبد الله بن الفخار المالقيّ، وأبو القاسم السهيليّ، ثم أبو بكر الحازميّ، وعبد الغنيّ المقدسيّ، والرُّهاويّ، وابن مفضّل المقدسيّ. ثم بعدهم أبو الحسن بن القطّان، وابن الأنماطيّ، وابن نُقطة، وابن الدبيثيّ، وابن خليل الدمشقيّ، وأبو بكر بن خلفون الأزديّ، وابن النجّار، ثم الزكيّ المنذريّ، والبرزاليّ، والصريفينيّ، والرشيد العطّار، وابن الصلاح، وابن الأبّار، وابن العديم، وأبو شامة، وأبو البقاء خالد بن يوسف النابلسيّ، وابن الصابونيّ. ثم بعدهم الدمياطيّ، وابن الظاهريّ، والميدوميّ، والد الصدر، وابن دقيق العيد، وابن فرج، وعبيد الأسعرديّ. ثم بعدهم سعد الدين الحارثيّ، والمزّيّ، وابن تيميّة، والذهبيّ، وصفيّ الدين القرافيّ، وابن البرزاليّ، والقطب الحلبيّ، وابن سيّد الناس، في آخرين من كلّ طبقة، منهم أبو الفضل العراقيّ، ثم أبو الفضل بن حجر العسقلانيّ، قال السخاويّ: وقد فاق في ذلك على جميع من أدركه، وطُوي البساط بعده، إلا لمن شاء الله، ختم لنا بخير.

فعدّلوا، وجرحوا، ووهّنوا، ووصحّحوا، ولم يحابوا أبًا، ولا ابنًا، ولا أخًا، حتى إن ابن المدينيّ سُئل عن أبيه، فقال: سلوا عنه غيري، فأعادوا، فأطرق، ثم رفع رأسه، فقال: هو الدين، إنه ضعيف. وكان وكيع بن الجرّاح لكون والده كان على بيت المال يقرن معه آخر إذا روى عنه. وقال أبو داود، صاحب "السنن": ابني عبد الله كذّاب، ونحوه قول الذهبيّ في ولده أبي هريرة: إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه. وقال زيد بن أبي أنيسة: لا تأخذوا عن أخي، يعنى يحيى المذكور بالكذب (1)، وقد تقدّم هذا فيما ذكره مسلم. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكرت في "شافية الْغُلَل" بعض العلماء المشهورين في هذا الفنّ، والكتب المصنّفة فيه، فقلت:

فَمِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ مَعْ مُحَمَّدِ

أَيِ ابْنِ سِيرِينَ إِمَامَا النُّقَّدِ

وَمِنْهُمُ شُعْبَةُ وَهْوَ أَوَّلُ

مَنْ وَسَّعَ الْفَنَّ عَلَى مَا نَقَلُوا

(1) راجع "فتح المغيث" شرح "ألفية الحديث" للحافظ العراقيّ -رحمه الله تعالى- 4/ 356 - 361.

ص: 327

تِلْمِيذُهُ الْقَطَّانُ يَحْيَى الأَحْوَلُ

حَكَّمَهُ شُعْبَةُ فَاعْجَبْ يَافُلُ

عَنْهُ تَلَقَّى ابْنُ مَعِينٍ أَحْمَدُ

وَابْنُ الْمَدِينِيِّ الْوُعَاةُ النُّقَّدُ

وَمِنْهُمُ الإِمَامُ نَجْلُ مَهْدِي

لَهُ الْيَدُ الطُّولَى لِبَابِ النَّقْدِ

ثُمَّ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ الْمَهَرَهْ

يَحْيَى وَأَحْمَدُ إِمَامَا الْبَرَرَهْ

مُحَمَّدٌ وَشَيْخُهُ عَلِيُّ

وَمُسْلِمٌ تِلْمِيذُهُ الْحَفِيُّ

كَذَا أَبُو دَاوُدَ صَاحِبُ السُّنَنْ

وَالنَّسَئِيُّ الْمُنْتَقِي ذَوِي الْفِطَنْ

مِثْلَ أَبِي زُرْعَةَ وَالذُّهْلِيِّ

وَكَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ

كَتَبَ يَعْقُوبُ بْنُ شيْبَةَ الْمُعَلّ

مِنَ الْمَسَانِيدِ فَلَيْتَهُ كَمَلْ

أَمَّا الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ فَسَبَقْ

بِالْجَمْعِ بِالأَبْوَابِ فَالْفَضْلَ وَسَقْ

عِلَلَهُ الْكَبِيرَ أَلَّفَ كَذَا

صَغِيرَهُ الَّذِي جَعَلْتُ مَأْخَذَا

كَذَا أَبُو زُرْعَةَ ذُو دِمَشْقِ

كَذَلِكَ الْبَزَّارُ أَهْلُ الصِّدْقِ

كَذَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ

ابْنُ مُحَمَّدٍ عَلَاهُ الزَّيْنُ

أَلَّفَ مُسْنَدًا كَبِيرًا عُلِّلَا

مُهَذَّبًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ الْمَلَا

أَخَذَ عَنْهُ الْحَاكِمُ الْكَرَابِسِي

صَنَّفَ فِي الْعِلَلِ نِعْمَ الْمُؤْتَسِي

وَالْحَافِظُ الْكَبِيرُ عَبْدُ اللهِ

ابْنُ عَدِيٍّ الرَّفِيعُ الْجَاهِ

قَدْ أَلَّفَ "الْكَامِلَ" وَالْمَقْرِيزِي

لَهُ اخْتِصَارٌ فَائِقٌ التَّطْرِيزِ

وَالْمُقْرِىءُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَجَّاجِي

لَهُ مُصَنَّفٌ كَذَاكَ السَّاجِي

أَمَّا الإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ عُمَرِ

الدَّارَقُطْنِيُّ الْعَجِيبُ النَّظَرِ

فَقَدْ أَتَى لَنَا بِسِفْرٍ ضَخْمِ

لَمْ يَرَ مِثْلَهُ فُحُولُ الْعِلْمِ

لِلْحَاكِمِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْبَيِّعِ

وَأَحْمَدَ الْخَلَّالِ كُتْبٌ فَاتْبَعِ

وَلابْنِ جَوْزِيٍّ كِتَابُ "الْعِلَلِ

الْمُتَنَاهِيَةِ" فَاقْرَأْ وَانْهَلِ

ثُمَّ الإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرِ

لَهُ كِتَابٌ فَائِقٌ فِي الْخَبَرِ

يَا لَيْتَ "زَهْرَهُ" الشَّذِيَّ نُشِرَا

وَفَاحَ نَشْرُهُ الْعَبِيرُ فِي الْوَرَى

وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ أَحْسَنَا

جَزَاهُمُ اللهُ الْجَزَاءَ الْحَسَنَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال الإمام الذهبيّ -رحمه اللهُ تعالى- في ترجمة داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس من "تاريخ الإسلام": قد أعرض أهل الجرح والتعديل عن كشف حالهم -يعني الخلفاء، وذويهم- خوفًا من السيف والضرب. قال: وما زال هذا في كلّ دولة قائمة، يصف المؤرّخ محاسنها، ويُغضي عن مساوئها، هذا إذا كان ذا دين وخير، فإن كان

ص: 328

مدّاحًا مُداهنًا لم يَلتفت إلى الورع، بل ربّما أخرج مساوىء الكبير، وهناته في هيئة المدح، والمكارم، والعظمة، فلا حول ولا قوّة إلا بالله. انتهى (1). والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه آخر]: قال الحافظ السخاويّ -رحمه اللهُ تعالى-: ولا شكّ أن في المتكلّمين في ذلك من المتأخرين من كان من الورع بمكان، كالحافظ عبد الغنيّ، صاحب "الكمال في معرفة الرجال" المخرّج لهم في الكتب الستة الذي هذّبه المزيّ، وصار كتابًا حافلًا، عليه معوّل من جاء بعده، واختصره شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- وغيره. ومن المتقدّمين من لم يُشكّ في ورعه، كالإمام أحمد، بل قال: إنه أفضل من الصوم والصلاة، وابن المبارك، فإنه قال: لو خُيّرت بين أن أدخل الجنة، وبين أن ألقى عبد الله بن المُحَرّر، لاخترتُ أن ألقاه، ثم أدخل الجنّة، فلما رأيته كانت بعرة أحبّ إليّ منه. وابن معين، مع تصريحه بقوله: إنا لنتكلّم في أناس قد حطّوا رحالهم في الجنّة. والبخاريّ القائل: ما اغتبت أحدًا مذ علمت أن الغيبة حرام. وحجتهم التوصّل لصون الشريعة، وأن حقّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هو المقدّم. انتهى (2). والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة العاشرة): فيما قيل في جرح العلماء المتأخّرين:

قال الحافظ السخاويّ -رحمه اللهُ تعالى-:

(فإن قيل): قد شُغِف جماعة من المتأخّرين القائمين بالتأريخ، وما أشبهه، كالذهبيّ، ثم شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- بذكر المعايب، ولو لم يكن الْمُعاب من أهل الرواية، وذلك غيبة محضة، ولذا تعقّب ابن دقيق العيد ابنَ السمعانيّ في ذكره بعض الشعراء، وقدح فيه بقوله: إذا لم يضطرّ إلى القدح فيه للرواية لم يجز، ونحوه قول ابن المرابط: قد دُوّنت الأخبار، وما بقي للتجريح فائدة، بل انقطعت من رأس الأربعمائة، ودندن هو وغيره ممن لم يتدبّر مقاله بعيب المحدّثين بذلك.

(قلت): الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة، ولا انحصار لها في الرواية، فقد ذكروا من الأماكن التي يجوز فيها ذكر المرء بما يكره، ولا يُعدّ ذلك غيبة، بل هو نصيحة واجبة أن تكون للمذكور ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحًا لها، وإما بأن يكون فاسقًا، أو مغفّلًا، أو نحو ذلك، فيُذكَر ليزال بغيره ممن

(1)"تاريخ الإسلام" 5/ 242، كما في هامش "سير أعلام النبلاء" 5/ 444.

(2)

"فتح المغيث" 4/ 361 - 362.

ص: 329

يصلح، أو يكون مبتدعًا، أو فاسقًا، ويرى من يتردّد إليه للعلم، ويخاف عليه عود الضرر من قِبَله ببيان حاله، ويلتحق بذلك المتساهل في الفتوى، أو التصنيف، أو الأحكام، أو الشهادات، أو النقل، أو المتساهل في ذكر العلماء، أو في الرشاء والارتشاء، إما بتعاطيه له، أو بإقراره عليه مع قدرته على منعه، وأكل أموال الناس بالحيل، والافتراء، أو الغاصب لكتب العلم من أربابها، أو المساجد بحيث تصير ملكًا، أو غير ذلك من الْمُحَرّمات، فكل ذلك جائزٌ، أو واجب ذكره؛ ليحذر ضرره. وكذا يجب ذكر المتجاهر بشيء مما ذُكر، ونحوه من باب أولى. قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر-: ويتأكّد الذكر لكلّ هذا في حقّ المحدّث؛ لأن أصل وضع فنّه بيان الجرح والتعديل، فمن عابه بذكره لعيب المجاهر بالفسق، أو المتّصف بشيء مما ذُكر، فهو جاهل، أو ملبس، أو مشارك له في صفته، فيُخشى أن يسري إليه الوصف.

نعم لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد، فقد قال العزّ بن عبد السلام في "قواعده": إنه لا يجوز للشاهد أن يجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما، فإن القدح إنما يجوز للضرورة، فليُقدَّر بقدرها، ووافقه عليه القرافيّ، وهو ظاهر. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الجرح ليس خاصّا بالمتقدّمين، بل هو مشروع في المتأخرين أيضًا بحسب الحاجة إليه، وعلى قدر المصالح المترتّبة عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): في بيان مراتب ألفاظ الجرح والتعديل:

[اعلم: أن مراتب التعديل ست]:

(أولها): ما جاء بأفعل، كأوثق الناس، وأثبت الناس، ومنه قول هشام بن حسان: حدثني أصدق من أدركت من البشر، محمد بن سيرين. ومنه إليه المنتهى في الثبّت، ولا أعرف له نظيرًا في الدنيا، وفلان لا يُسأَل عنه، ومن مثل فلان؟ .

(ثانيها): ما كُرّر من ألفاظ المرتبة الثالثة، لفظًا، كثقة ثقة، ثبت ثبت، أو معنى، كثقة حجة، ثقة مأمون، أو عدل ضابط.

(ثالثها): ثقة، أو ثبت، أو كأنه مصحف، أو متقنٌ، أو حجة، أو حافظ، أو ضابط.

(رابعها): ليس به بأس، أو لا بأس به، أو صدوقٌ، أو مأمون، أو خيارٌ.

(خامسها): محله الصدق، رووا عنه، إلى الصدق ما هو؟ ، شيخ وسط، أو

(1)"فتح المغيث" 4/ 363 - 364.

ص: 330

شيخ، أو وسط، صالح الحديث، روى الناس عنه، مقارِبَ الحديث بالكسر والفتح جيد الحديث، حسن الحديث، ومنه من يُرمَى ببدعة كالتشيع، والقَدَر، والنَّصْبِ، والإرجاء، والتّجَهُّم.

(سادسها): صويلح، أو صدوقٌ إن شاء الله، أرجو بأن لا بأس به، أو مقبول.

ثم إن الحكم في أهل هذه المراتب الاحتجاج بالأربعة الأولى منها، وأما التي بعدها، فإنه لا يُحتجّ بأحد من أهلها؛ لكون ألفاظها لا تُشعر بشريطة الضبط، بل يُكتب حديثهم، ويُخْتَبر.

وإلى ما ذُكر من مراتب التعديل، وحكمها أشرت في "الشافية" بقولي:

مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ سِتٌّ وَاضِحَهْ

صِيَغُهَا الَّتِي تَدُورُ لَائِحَهْ

(أُولَى الْمَرَاتِبِ) هِيَ الَّتِي أَتَى

أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِهَا قَدْ ثَبَتَا

كَأَوْثَقِ النَّاسِ وَنَحْوِهِ كَذَا

إِلَيْهِ مُنْتَهَى التَّثَبُّتِ خُذَا

(ثَانِيَةُ الْمَرَاتِبِ) الَّتِي وَرَدْ

مُكَرَّرًا فِيهَا الَّذِي بَعْدُ انْفَرَدْ

بِلَفْظٍ أَوْ مَعْنًى كَثَبْتٍ ثَبَتِ

أَوْ ثِقَةٍ ثبْتٍ وَثَبْتٍ حُجَّةِ

(ثَالِثُهَا) ثَبْتٌ وَمُتْقِنٌ ثِقَهْ

أَوْ حَافِظٌ أَوْ ضَابِطٌ لِذِي الثِّقَهْ

وَحُجَّةٌ (رَابِعُهَا) صَدُوقٌ أَوْ

خِيَارُهُمْ مَأْمُونُ لَا بَأْسَ رَأَوْا

(خَامِسُهَا) مَحَلُّهُ الصِّدْقُ وَسَطْ

شَيْخٌ مُكَرَّرَيْنِ أَوْ لَا فَانْضَبَطْ

كَذَا رَوَوْا عَنْهُ وَجَيِّدُ الْخَبَرْ

حَسَنُهُ كَذَاكَ صَالِحُ الأَثَرْ

مُقَارِبُ الْحَدِيثِ أَوْ مُقَارَبُهْ

بِكَسْرِ رَائِهِ وَفَتْحًا يَصْحَبُهْ

أَوْ ضُمَّ لِلصَّدُوقِ سُوءُ الْحِفْظِ أَوْ

يَهِمُ أَوْ يُخْطِي تَغَيُّرًا رَأَوْا

وَمِنْهُ مَنْ يُرْمَى بنَوْعِ بِدْعَةِ

كَالنَّصْبِ وَالْقَدْرِ وَمِثلَ الشِّيعَةِ (1)

(سَادِسُهَا) صُوَيْلِحٌ أَرْجُو بِأَنْ

لَا بَأْسَ بِهْ كَذَا صَدُوقٌ إِنْ يُبَنْ

مَعَ الْمَشِيئَةِ كَذَا مَقْبُولُ

وَحُكْمُهَا يَا أَيُّهَا الْمَقْبُولُ

الاحْتِجَاجُ إِنْ أَتَى مِنْ أَرْبَعَهْ

لِكَوْنِهِمْ أَهْلًا بِلَا مُمَانَعَهْ

أَمَّا الَّتِي تَلِي فَلَيْسَ أَهْلُهَا

مَحَلَّ حُجَّةٍ يُرَامُ نَقْلُهَا

بَلَى حَدِيثُهُمْ لِلاخْتِبَارِ

بِغَيْرِهِ يُكْتَبُ لا اسْتِبْصَارِ

أَمَّا الَّتِي تَلِي فَحُكْمُ أَهْلِهَا

دُونَ الَّتِي مَضَتْ فَحِدْ عَنْ نَقْلِهَا

وَبَعْضُهُمْ حَدِيثُهُ قَدْ يُكْتَبُ

لِلاعْتِبَارِ لا اخْتِبَارٍ يُطْلَبُ

(1) بسكون الدال لغة في فتحها. وقوله: "ومثل الشيعة" على حذف مضاف: أي ومثل بدعة الشيعة.

ص: 331

[وأما مراتب التجريح، فست أيضًا]:

(أولها): الوصف بما دلّ على المبالغة فيه، وأصرح ذلك التعبير بأفعل، كـ "أكذب الناس"، وكذا قولهم:"إليه المنتهى في الوضع"، وهو ركن الكذب، ونحو ذلك.

(ثانيها): كذّاب، وضّاع، دجّالٌ، يضع الحديث، يكذب، وضع حديثًا، وهذه أسهلها، بخلاف اللتين قبلها، فإنهما دالتان عرفًا على ملازمة الوضع والكذب.

(ثالثها): فلان يَسرِق الحديث، متهمٌ بالكذب، أو بالوضع، وفلان ساقطٌ، وهالك، وذاهبٌ، أو ذاهب الحديث، ومتروك، أو متروك الحديث، أو تركوه، ولا يُعتبر به، أو بحديثه، وليس بثقة، أو ليس بمأمون، ونحو ذلك، وفلان فيه نظرٌ، وسكتوا عنه.

[تنبيه]: كثيرًا ما يُعبّر البخاريّ بهاتين العبارتين الأخيرتين فيمن تركوا حديثه، بل قال ابن كثير: إنهما أدنى المنازل عنده وأردؤها، وعلى هذا فهما عند البخاريّ من المرتبة الثانية، فليُتنبّه.

(رابعها): فلان رُدّ حديثه، ومردود الحديث، وضعيف جدّا، وواهٍ بمرّة (1)، طرحوا حديثه، ومُطَّرَحٌ، وارْم به، ولا يُكتب حديثه، ولا تحلّ الرواية عنه، ومنه قول الشافعيّ -رحمه اللهُ تعالى-: الرواية عن حرام بن عثمان حرام، وليس بشيء، ولا يُساوي شيئًا، أو فلسًا.

[تنبيه]: إدراج "ليس بشيء" في هذه المرتبة هو المعتمد، وإن قال ابن القطّان: إن ابن معين إذا قال في الراوي: "ليس بشيء" إنما يُريد أنه لم يرو حديثًا كثيرًا، هذا مع أن ابن أبي حاتم قد حكى أن عثمان الدارميّ سأله عن أبي درّاس، فقال: إنما يروي حديثًا واحدًا، ليس به بأس، قال السخاويّ: على أنا قد روينا عن المزنيّ، قال: سمعني الشافعيّ يومًا، وأنا أقول: فلانٌ كذّاب، فقال لي: يا أبا إبراهيم اكسُ ألفاظك أحسنها، لا تقل: فلان كذّاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء، وهذا يقتضي أنها حيث وُجدت في كلام الشافعيّ تكون من المرتبة الثانية. انتهى (2).

(خامسها): فلانٌ ضعيفٌ، منكر الحديث، أو حديثه منكر، أو له ما يُنكر، أو مناكير، ومضطرب الحديث، وواهٍ، وضعّفوه، ولا يُحتجّ به.

(1) أي قولًا واحدًا لا تردّد فيه، وكأن الباء زيدت للتأكيد. قاله في "فتح المغيث" 2/ 122.

(2)

"فتح المغيث" 2/ 123.

ص: 332

(سادسها): فلانٌ فيه مقال، وضُعِّفَ، وفيه ضَعْفٌ، وفلانٌ تُنْكِر وتَعْرِفُ، وليس بذاك، أو ليس بذاك القويّ، وليس بالمتين، وليس بالقويّ، وليس بحجّة، وليس بعمدة، وليس بمأمون، وفلان ليس بالمرضيّ، وليس يحمدونه، وليس بالحافظ، وغيره أوثق منه، وفي حديثه شيء، ومجهول، أو فيه جهالة، ولا أدري ما هو، وللضعف ما هو (1)، وفيه خُلْفٌ، وطعنوا فيه، أو مطعون فيه، ونَزَكُوه، وسيّىء الحفظ، وليّنٌ، أو لين الحديث، أو فيه لينٌ. قال الدارقطنيّ: إذا قلت: فلانٌ ليّن لا يكون ساقطًا متروك الحديث، ولكن مجروحًا بشيء لا يُسقط به عن العدالة. انتهى.

وتكلّموا فيه، وسكتوا عنه، وفيه نظر، من غير البخاريّ، كما سبق بيانه.

[تنبيه]: من هذه المرتبة قولهم: "ليس من أهل القِبَاب"، كما قاله مالك في عَطّاف بن خالد، أحدِ من اختُلف في توثيقه وتجريحه، قال الحافظ: هذه العبارة يؤخذ منها أنه يُروَى حديثه، ولا يُحتجّ بما يَنفرِد به؛ لما لا يخفَى من الكناية المذكورة. ونحوه:"ليس من جِمَال المحامل"، كما قال داود بن رُشيد في سُريج بن يونس:"ليس من جَمَّازات" -أي أبعرة المحامل-، والْجَمَّاز البعير (2). انتهى.

ثم إن الحكم في المراتب الأربع الأُوَل أنه لا يُحتَجّ بواحد من أهلها، ولا يُستشهد به، ولا يُعتبر به. وأما الخامسة والسادسة فيُكتب حديثها للاعتبار؛ لإشعار صيغها بصلاحية المتّصف بها لذلك، وعدم منافاتها لها. لكن قال البخاريّ: كلُّ من قلتُ فيه منكر الحديث -يعني الذي أُدرج في المرتبة الخامسة- لا يُحتجّ به، وفي لفظ: لا تحلّ الرواية عنه. وصنيع الحافظ في "شرح النخبة" يُشعر بالمشي عليه، حيث قال: فقولهم: متروك، أو ساقط، أو فاحش الغلط، أو منكر الحديث أشدّ من قولهم: ضعيف، أو ليس بالقويّ، أو فيه مقال. انتهى (3).

وإلى ما ذُكر من مراتب الجرح وحكمها أشرت في "الشافية" بقولي:

(أُولَى مَرَاتِب الْجُرُوحِ) مَنْ وُصِفْ

بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَوْ شِبْهٍ عُرِفْ

كَأَكْذَبِ النَّاسِ كَذَا رُكْنُ الْكَذِبْ

كَذَا إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى وَضْعًا نُسِبْ

(ثَانِيَةُ الْمَرَاتِبِ) الدَّجَّالُ

وَضَّاعٌ الْكَذَّابُ بِئْسَ الْقَالُ

يَضَعُ يَكْذِبُ كَذَاكَ وَضَعَا

وَذَا أَخَفُّ بِئْسَمَا قَدْ صَنَعَا

(1) أي ليس ببعيد عن الضعف.

(2)

يقال: جمز الإنسان وغيره من باب ضرب جمزًا، وجَمَزَى: إذا عَدَا دون الْحُضْر وفوق الْعَنَق، وحمار جمّاز: أي وثّاب. أفاده في "القاموس".

(3)

"النزهة" ص 133.

ص: 333

(ثَالِثَةُ الْمَرَاتِب) الْمُتَّهَمُ

بِكِذْبٍ أَوْ بِالْوَضْعِ بِئْسَ الْمُجْرِمُ

وَسَاقِطٌ وَهَالِكٌ فِيهِ نَظَرْ

مَتْرُوكٌ أَوْ فَذَاهِبٌ لا يُعْتَبَرْ

وَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَيْسَ بِثِقَهْ

أَوْ لَيْسَ مَأْمُونًا لَدَى مَنْ حَقَّقَهْ

أَمَّا الْبُخَارِيُّ إِذَا قَالَ نَظَرْ

أَوْ سَكَتُوا فَذَاكَ أَوْهَى مَنْ أَثَرْ

(رَابِعَةُ الْمَرَاتِبِ) ارْمِ رُدَّا

وَاهٍ بِمَرَّةٍ ضَعِيفٌ جِدًّا

قَدْ طَرَحُوا حَدِيثَهُ مُطَّرَحُ

لَيْسَ بِشَيْءٍ لا يُسَاوِي صَرَّحُوا

(خَامِسَةُ الْمَرَاتِبِ) الضَّعِيفُ

مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ يَا حَصِيفُ (1)

مُنْكَرُهُ وَاهٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِهْ

كَذَا فُلَانٌ ضَعَّفُوهُ فَانِتَبِهْ

ثُمَّةَ (سَادِسَتُهَا) ضُعِّفَ أَوْ

فِيهِ مَقَالٌ أَوْ بِهِ ضُعْفًا رَأَوْا

فَلَانُ تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ كَذَا

لَيْس بِذَاكَ أَوْ بِحُجَّةٍ خُذَا

أَوْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَوْ عُمْدَةٍ أَوْ

مَتِينٍ أَوْ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ حَكَوْا

لِلضُّعْفِ مَا هُو فِيهِ خُلْفٌ طَعَنُوا

تَكَلَّمُوا سَيِّىءُ حِفْظٍ لَيِّنُ

وَأَهْلُ هَذِهِ كَذَا الْخَامِسَةُ

حَدِيثَهُمْ لِلاعْتِبَارِ أَثْبُوا

وَمَا عَدَاهُمَا فَيُطْرَحُ كَذَا

لَدَى الْبُخَارِيْ مُنْكَرٌ فَلْيُنْبَذَا

وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الصَّادِرِ مِنْ

أَقْوَالِ مَنْ جَرَحَ أَوْ زَكَّى الْفَطِنْ

فَقَدْ يَقُولُونَ ضَعِيفٌ أَوْ ثِقَهْ

وَلَا يُرِيدُونَ احْتِجَاجًا بِالثِّقَهْ

أَوْ رَدَّ ضِدِّهِ وَإِنَّمَا عَنَوْا

بِنِسْبَةِ الْمَقْرُونِ مَعْهُ فَكَنَوْا

كَمُتَوَسِّطٍ مَعَ الضَّعِيفِ جَا

فَذَا لَدَى الْخُلْفِ يَكُونُ مَنْهَجَا

كَابْنِ مَعِينٍ إِذْ يُرَى مُضَعِّفَا

شَخْصًا وَقَدْ عَدَّلَهُ مُعَرِّفَا

وَقَدْ يَكُونُ ذَا اجْتِهَادًا اخْتَلَفْ

فَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ عِنْدَ مَنْ عَرَفْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): في اختلاف أهل العلم في قبول الجرح والتعديل المجملين:

ذهب بعضهم إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر سببه، وهذا هو الصحيح المشهور؛ لأن أسبابه كثيرة، فيشُقُّ ذكر جميعها؛ لأن ذلك يُحْوِج الْمُعَدِّل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا، فيُعَدِّد جميع ما يُفَسَّقُ بفعله أو بتركه، وذلك شاقّ جدّا، ولا يقبل الجرح إلا مُبَيَّنَ السبب؛ لأنه يحصل بأمر واحد، فلا يشُقّ

(1) بفح، فكسر: أي كامل العقل.

ص: 334

ذكره، ولأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فيُطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه؛ لينظر هل هو قادح أو لا، قال أبو عمرو بن الصلاح، وهذا ظاهر مُقَرَّر في الفقه وأصوله، وذكر الخطيب أنه مذهب الأئمة، من حفاظ الحديث، كالشيخين وغيرهما، ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم، كعكرمة، وعمرو بن مرزوق، واحتج مسلم بسُويد ابن سعيد، وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فُسِّر سببه، ويدل على ذلك أيضا أنه ربما استُفْسِر الجارح، فذكر ما ليس بجرح، وقد عقد الخطيب لذلك بابا، رَوَى فيه عن محمد بن جعفر المدائني قال: قيل لشعبة: لم تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يَركُض على بِرْذَون (1) فتركت حديثه. ورَوَى عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث صالح الْمُرِّيّ، فقال: وما تَصنَع بصالح؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة، فامتخط حماد. ورَوَى عن وهب بن جرير قال: قال شعبة: أتيت المنهال بن عمرو، فسمعت صوت الطنبور فرجعت، فقيل له: فهلا سألت عنه، إذ لا يعلم هو؟ . ورَوينا عن شعبة قال: قلت للحكم بن عتيبة: لِمَ لَمْ تَرْوِ عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام وأشباه ذلك.

قال الصيرفي: وكذا إذا قالوا: فلان كذاب، لا بد من بيانه؛ لأن الكذب يحتمل الغلط، كقوله: كذب أبو محمد.

ولَمّا صحح ابن الصلاح هذا القول أَوْرد على نفسه سؤالًا، فقال: ولقائل أن يقول: إنما يَعتَمِد الناس في جرح الرواة ورَدَّ حديثهم على الكتب التي صَنَّفَها أئمة الحديث في الجرح والتعديل، وقَلَّما يتعرّضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، وهذا حديث ضعيف، أو حديثٌ غير ثابت، ونحو ذلك، واشتراط بيان السبب يُفضي إلى تعطيل ذلك، وسَدِّ باب الجرح في الأغلب الأكثر.

ثم أجاب عن ذلك بقوله: وأما كتب الجرح والتعديل التي لا يُذكَر فيها سبب الجرح، فإنّا وإن لم نعتمدها في إثبات الجرح والحكم به، ففائدتها التوقّف فيمن جرحوه عن قبول حديثه؛ لِمَا أَوقع ذلك عندنا من الرِّيبة القوية فيهم، فإن بحثنا عن حاله، وانزاحت عنه الرِّيبة، وحصلت الثقة به قَبِلنا حديثه، كجماعة في "الصحيحين" بهذه المثابة.

(1) الركض: استحثاث الدابّة بالرجل للعدو. و"البرذون" -بكسر الباء، وبالذال المعجمة: الجافي الخِلْقة الجلد على السير في الشعاب والوعر من الخيل، غير العربية، كما ذكره السخاويّ في "فتح المغيث".

ص: 335

ومقابل الصحيح أقوال:

[أحدها]: قبول الجرح غيرَ مُفَسَّر، ولا يُقبل التعديل إلا بذكر سببه؛ لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها، فيَبْنِي الْمُعَدِّل على الظاهر، فهذا الإمام مالك مع شدّة نقله وتحرّيه، قيل له: في الرواية عن عبد الكريم بن أبي الْمُخَارق، فقال: غرّني بكثرة جلوسه في المسجد. يعني لما ورد من كونه بيتَ كل تقيّ.

[الثاني]: لا يقبلان إلا مُفَسَّرين، حكاه الخطيب والأصوليون؛ لأنه كما قد يَجرَح الجارح بما لا يَقدَح كذلك يوثِّق الْمُعَدِّل بما لا يقتضي العدالة، كما رَوَى يعقوب الْفَسَويّ (1) في "تاريخه" قال: سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس: عبدُ الله العمري ضعيف، قال: إنما يُضَعِّفه رافضيٌّ، مُبغِضٌ لآبائه، لو رأيت لحيته وهيئته لعرفت أنه ثقة.

فاستدل على ثقته بما ليس بحجة؛ لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل وغيره.

قال السخاويّ بعد ذكره نحوَ ما سبق: ما نصّه: وهو ظاهرٌ، وإن أمكن أن يقال: لعله أراد أن توسّمه يقضي بعدالته فضلًا عن دينه ومروءته وضبطه، لكن يندفع هذا في العمريّ بخصوصه بأن الجمهور على ضعفه، وكثيرًا ما يوجد مدح المرء بأنك إذا رأيت سمته علمت أنه يخشى الله. (2).

(الثالث): أنه لا يجب ذكر السبب في واحد منهما إذا كان الجارح والمعدّل عالمين بأسباب الجرح والتعديل، والخلافِ في ذلك، بصيرين مرضيين في اعتقادهما وأفعالهما.

وهذا اختيار القاضي أبي بكر، ونقله عن الجمهور، واختاره إمام الحرمين، والغزالي، والرازي، والخطيب، وصححه الحافظ أبو الفضل العراقيّ، والبلقيني في "محاسن الاصطلاح".

واختار الحافظ ابن حجر تفصيلًا حسنًا، فإن كان مَنْ جُرِح مجملًا قد وثقه أحد من أئمة هذا الشأن، لم يُقبَل الجرح فيه مِنْ أحدٍ كائنا مَنْ كان إلا مُفَسَّرًا؛ لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة، فلا يُزَحْزَح عنها إلا بأمر جَلِيّ، فإن أئمة هذا الشأن لا يوثقون إلا من اعتبروا حاله في دينه، ثم في حديثه، ونَقَدُوه كما ينبغي، وهُمْ أيقظُ الناس فلا يُنقَض حكم أحدهم إلا بأمر صريح، وإن خلا عن التعديل قُبِل الجرح غيرَ مفسر، إذا صدر

(1) هو العالم الكبير يعقوب بن سفيان، سمع ورحل وصنّف، توفّي سنة (277 هـ) و"الْفَسَويّ" بفتح الفاء والسين المهملة: نسبة إلى فَسَا مدينة من بلاد فارس.

(2)

"فتح المغيث" 2/ 26.

ص: 336

من عارف؛ لأنه إذا لم يُعَدَّل فهو في حَيِّز المجهول، وإعمالُ قول الْمُجَرِّح فيه أولى من إهماله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التفصيل الذي اختاره الحافظ هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجته.

وإلى ما ذُكر من الخلاف أشار في "الكوكب الساطع" بقوله:

وَالْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ فِي الْبَابَيْنِ (1)

قَاضِيهِمُ يَقْبَلُ مُطْلَقَيْنِ

قَوْلُ الإِمَامَيْنِ وَإِطْلَاقُهُمَا

يَكْفِي مِنَ الْعَالِمِ أَسْبَابَهُمَا

وَافَقَهُ فَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لَا

يُقْبَلُ إِلّا مِنْ إِمَامٍ ذِي عَلَا

وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ إِلّا بِالسَّبَبْ

وَقِيلَ فِي التَّعْدِيلِ لَا الْجَرْحِ وَجَبْ

وَالْعَكْسُ فِي بَاب الشَّهَادَةِ الأَصَحّ

وَفِي سِوَاهَا أَوَّلٌ إِذَا وَضَحْ

مَذْهَبُ جَارحٍ وَذَا (2) فِي الْمُعْتَمَدْ

مُقَدَّمٌ إِنْ زَادَ أَوْ قَلَّ عَدَدْ

وَقِيلَ فِي الْقِلَّةِ ذَا مَرْجُوحُ

وَفِي التَّسَاوِي يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف أهل العلم في الاكتفاء بتعديل الواحد، وجرحه:

الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد، سواء كان ذكرًا أو أنثى، حرّا أو عبدًا؛ لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر، فلم يُشترط في جرح راويه وتعديله؛ لأن التزكية بمنزلة الحكم، وهو أيضا لا يشترط فيه العدد، ولأنه إن كان المزكّي للراوي ناقلًا عن غيره فهو من جملة الأخبار، أو كان اجتهادًا من قِبَل نفسه فهو بمنزلة الحاكم، وفي الحالين لا يُشترط العدد، والفرق بينهما ضِيق الأمر في الشهادة لكونها في الحقوق الخاصّة التي يمكن الترافع فيها، وهي محلّ الأغراض بخلاف الرواية، فإنها في شيء عامّ للناس غالبًا، لا ترافُع فيه. قال ابن عبد السلام: الغالب من المسلمين مهابة الكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور.

ولأنه قد ينفرد بالحديث واحدٌ فلو لم يُقبل لفاتت المصلحة، بخلاف فوات حقّ

(1) أي باب الشهادة وباب الرواية.

(2)

قوله: "وذا الخ" إشارة إلى مسألة تعارض الجرح والتعديل، وسيأتي تمام البحث فيها في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

ص: 337

واحد في المحاكمات، ولأن بين الناس إِحَنًا وعداوات تحملهم على شهادة الزور بخلاف الرواية.

والقول الثاني: اشتراط اثنين في الرواية أيضًا، حكاه القاضي أبو بكر الباقلّانيّ عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم؛ لأن التزكية صفة فتحتاج في ثبوتها إلى عدلين كالرُّشْد والكفاءة وغيرهما، وقياسًا على الشاهد بالنسبة لما هو المرجّح فيها عند الشافعيّة والمالكيّة، بل هو قول محمد بن الحسن، واختاره الطحاويّ، وإلا فأبو عبيد لا يَقبل في التزكية فيها أقلّ من ثلاثة، متمسّكًا بحديث قبيصة فيمن تحلّ له المسألة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى، فيشهدون له، قال: وإذا كان هذا في حقّ الحاجة، فغيرها أولى، ولكن المعتمد الأول، وأما الحديث فمحمولٌ على الاستحباب فيمن عُرف له مال قبلُ.

وممن رجّح الحكم كذلك في البابين الفخر الرازيّ، والسيف الآمديّ، ونقله هو وابن الحاجب عن الأكثرين، ولا تنافيه الحكاية الماضية للتسوية عن الأكثرين لتقييدها بالفقهاء.

وممن اختار التفرقة أيضًا الخطيب وغيره، وكذا اختار القاضي أبو بكر بعد حكاية ما تقدّم الاكتفاء بواحد، لكن في البابين معًا، كما نُقل عن أبي حنيفة وأبي يوسف في الشاهد خاصّةً، وعبارته: والذي يوجبه القياس وجوب قبول تزكية كلّ عدل مرضيّ ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد، شاهدٍ ومخبر، أي عارف بما يجب أن يكون عليه العدل، وما به يحصل الجرح، كما اقتضاه أول كلامه الذي حكاه الخطيب عنه، وهو ظاهر، واستثنى تزكية المرأة في الحكم الذي لا تُقبل شهادتها فيه، كلُّ ذلك بعد حكايته عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم عدمَ قبول تزكية النساء مطلقًا في البابين.

وكذا أشار لتخصيص تزكية العبد بالرواية لقبوله فيها دون الشهادة، ولكن التعميم في قبول تزكية كلّ عدل لأنها -كما قال الطحاويّ- خبرٌ، وليست شهادة، صرّح به أيضًا صاحب "المحصول" وغيره من غير تقييد.

وقال النوويّ في "التقريب": يُقبل أي في الرواية تعديل العبد والمرأة العارفين، ولم يَحكِ غيره. قال الخطيب في "الكفاية": الأصل في هذا الباب سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصّة الإفك بَرِيرة عن حال عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وجوابها له -يعني الذي ترجم عليه البخاريّ في "صحيحه":"تعديل النساء بعضهنّ بعضًا".

ولا تُقبل تزكية الصبيّ المراهق، ولا الغلام الضابط جزمًا، وإن اختُلف في روايتهما؛ لأن الغلام، وإن كانت حاله ضبطَ ما سمعه، والتعبير عنه على وجهه، فهو

ص: 338

غير عارف بأحكام أفعال المكلّفين، وما به يكون العدل عدلًا، والفاسق فاسقًا، فذلك إنما يكمل له المكلّف، وأيضًا فلكونه غير مكلّف لا يؤمن منه تفسيق العدل، وتعديل الفاسق، ولا كذلك المرأة والعبد فافترق الأمر فيهما. قاله الخطيب. (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن الراجح قبول تزكية الواحد مطلقًا، ذكرًا كان أو أنثى، حرّا كان أو عبدًا؛ لوضوح أدلّته.

وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ -رحمه اللهُ تعالى- في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَاثْنَانِ مَنْ زَكَّاهُ عَدْلٌ وَالأَصَحّ

إِنْ عَدَّلَ الْوَاحِدُ يَكْفِي أَوْ جَرَحْ

وقال أيضًا:

وَيُقْبَلُ التَّعْدِيلُ مِنْ عَبْدٍ وَمِنْ

أُنْثَى وَفِي الأُنْثَى خِلَافٌ قَدْ زُكِنْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة عشرة): في اختلاف أهل العلم في تعارض الجرح والتعديل، أيهما يُقدّم؟ :

(اعلم): أنهم اختلفوا فيما إذا اجتمع في شخص واحد جرح وتعديل على أقوال:

(الأول): أن الجرح مقدّم على التعديل مطلقًا، استوى الطرفان في العدد أم لا؟ . وإليه ذهب الجمهور، قال ابن الصلاح: إنه الصحيح، وكذا صححه الأصوليّون كالفخر الرازيّ والآمديّ، بل حكى الخطيب اتفاق أهل العلم عليه، إذا استوى العددان، وصنيع ابن الصلاح مشعر بذلك، وعليه يُحمل قول ابن عساكر: أجمع أهل العلم على تقديم قول من جرح راويًا على قول من عدّله، واقتضت حكاية الاتفاق في التساوي كون ذلك أولى فيما إذا زاد عدد الجارحين.

قال الخطيب: والعلّة في ذلك أن الجارح يُخبِر عن أمر باطنيّ قد عَلِمه، ويُصدّق المعدّل، ويقول له: قد علمتُ من حاله الظاهر ما علمتَهُ، وتفردتُّ بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، يعني فمعه زيادة علم، قال: وإخبار المعدّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أنه يكون الجرح أولى من التعديل، وغاية قول المعدّل -كما قال العضد (2) -: إنه لم يَعلَم فسقًا، ولم يظنّه، فظنّ عدالته؛

(1)"الكفاية" ص 99 و"فتح المغيث" 2/ 9 - 10.

(2)

هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفّار عضد الدين الإيجيّ، كان إمامًا في المعقول، عالمًا بالأصول والمعاني والعربيّة، مشاركًا في الفنون. توفي سنة (756 هـ) وأشهر كتبه في أصول الفقه "شرح مختصر ابن الحاجب". انظر "الطبقات الكبرى" للسبكيّ 10/ 46 - 48 و"الأعلام" للزركلي 4/ 66.

ص: 339

إذ العلم بالعدم لا يُتصوّر، والجارح يقول: أنا علمتُ فسقه، فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبًا، ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما أخبرا به، والجمع أولى ما أمكن؛ لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر. انتهى.

وإلى ذلك أشار الخطيب بما حاصله أن العمل بقول الجارح غير متضمّنة لتهمة المزكي بخلاف مقابله. قال: ولأجل هذا وجب إذا شهد شاهدان على رجل بحقّ، وشهد له آخران أنه قد خرج منه أن يكون العمل بشهادة من شهد بالقضاء أولى؛ لأن شاهدي القضاء يصدّقان الآخرين، ويقولان: علمنا خروجه من الحقّ الذي كان عليه، وأنتما لم تعلما ذلك، ولو قال شاهدا ثبوت الحقّ: نشهد أنه لم يخرج من الحقّ لكانت شهادة باطلة.

لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فُسّر، وما تقدّم قريبًا يساعده، وعليه يُحمل قول من قدّم التعديل، كالقاضي أبي الطيّب الطبريّ وغيره، أما إذا تعارضا من غير تفسير فالتعديل كما قاله الحافظ المزّيّ وغيره.

وقال ابن دقيق العيد: إن الأقوى حينئذ أن يُطلب الترجيح؛ لأن كلا منهما ينفي قول الآخر، وكذا قيّده الفقهاء بما إذا أطلق التعديل، أما إذا قال المعدّل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب منه وحسنت توبته، فإنه يقدّم المعدّل ما لم يكن في الكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا لو نفاه بطريق معتبر، كأن يقول المعدّل عند التجريح بقتله لفلان في يوم كذا ظلمًا: إن فلانًا المشار إليه قد رأيته بعد هذا اليوم، وهو حيّ، فإنه حينئذ يقع التعارض لعدم إمكان الجمع، ويُصار إلى الترجيح، ولذا قال ابن الحاجب: أما عند إثبات معيّن، ونفيه باليقين فالترجيح.

وقيل: إن كان المعدّلون أكثر عددًا قدّم التعديل، حكاه الخطيب عن طائفة، وصاحب "المحصول"؛ لأن الكثرة تُقوّي الظنّ، والعمل بأقوى الظنين واجبٌ كما في تعارض الحديثين.

قال الخطيب: وهذا خطأ، وبُعدٌ ممن توهّمه؛ لأن المعدّلين وإن كثُروا ليسوا يُخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك، وقالوا: نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك عن أن يكونوا أهل تعديل أو جرح؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصحّ ويجوز وقوعه، وإن لم يعلموه، فثبت ما ذكرناه، وإن تقديم الجرح إنما هو لتضمّنه زيادةً خفيت على المعدّل، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدّل ونقصه ومساواته، فلو جرحه واحدٌ، وعدّله مائة قُدّم الواحد لذلك.

وقيل: يرجح بالأحفظ، حكاه البلقينيّ في "محاسن الاصطلاح".

ص: 340

وقيل: إنهما حينئذ يتعارضان، فلا يرجّح أحدهما إلا بمرجّح؛ لأن مع المعدّل زيادة قوّة بالكثرة، ومع الجارح زيادة قوّة بالاطلاع على الباطن. حكاه ابن الحاجب وغيره عن ابن شعبان من المالكية.

قال العراقيّ: وكلام الخطيب يقتضي نفي هذا القول، فإنه قال: اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والاثنان، وعدّله مثل عدد من جرحه، فإن الجرح به أولى، ففي هذه الصورة حكاية الإجماع على تقديم الجرح خلاف ما حكاه ابن الحاجب. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح فيما إذا تعارض الجرح والتعديل على شخص واحد تقديم قول الجارح مطلقًا تساوى العدد أم زاد، أم نقص؛ لأن معه زيادة علم ليست مع المعدّل، لكن يُستثنى من ذلك ما إذا قال المعدل: عرفت سبب الجرح، لكنه تاب منه، وحسنت توبته، أو نفى المعدّل ما أثبته الجارح بطرق معتبرة، كما سبق وجهه ففي مثل هذا يقدّم التعديل. والله تعالى أعلم.

وإلى ما ذُكر أشار الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث"، فقال:

وَقَدِّمِ الْجَرْحَ وَلَوْ عَدَّلَهُ

أَكْثَرُ فِي الأَقْوَى فِإِنْ فَصَّلَهُ

فَقَالَ مِنْهُ تَابَ أَوْ نَفَاهُ

بِوَجْهِهِ قُدِّمَ مَنْ زَكَّاهُ

[تنبيه]: هذا الذي تقدّم من الاختلاف فيما إذا صدر التعارض من قائلين، فأما إذا كانا من قائل واحد، كما يتّفق لابن معين وغيره من أئمة النقد، فهذا قد لا يكون تناقضًا، بل نسبيّا في أحدهما، أو ناشئًا عن تغيّر اجتهاد، فلا ينضبط بأمر كلّيّ، وإن قال بعض المتأخرين: إن الظاهر أن المعمول به المتأخّر منهما إن عُلم، وإلا وجب التوقّف. قاله السخاويّ (2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة عشرة): في اختلاف أهل العلم في التعديل المبهم:

ذهبت طائفة إلى أنه إذا قال المحدّث: حدثني الثقة، أو نحوه، من غير أن يسميه لا يكتفى به في التعديل، وإليه ذهب أبو بكر الصيرفيّ، والخطيب، وأبو نصر بن الصبّاغ، والماورديّ، والرويانيّ، وغيرهم من الشافعية، وصححه النوويّ في "التقريب"، وسواء في ذلك المقلّد؛ لأنه وإن كان ثقة عنده فربما لو سماه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته رِيبةٌ تُوقِع ترددًا في القلب، بل زاد

(1) انظر "تدريب الراوي" 1/ 310 و"فتح المغيث" 2/ 31 - 33.

(2)

"فتح المغيث" 2/ 33.

ص: 341

الخطيب: أنه لو صَرَّح بأن كل شيوخه ثقات، ثم رَوَى عمن لم يسمه لم يعمل بتزكيته؛ لجواز أن يُعرَف إذا ذكره بغير العدالة.

وذهبت طائفة إلى أنه يُكتَفَى بذلك مطلقا، كما لو عَيَّنه؛ لأنه مأمون في الحالتين معًا، فإن كان القائل عالمًا: أي مجتهدًا، كمالك والشافعي، وكثيرًا ما يفعلان ذلك، كَفَى في حق مواقفه في المذهب لا غيره، عند بعض المحققين، قال ابن الصباغ: لأنه لم يورد ذلك احتجاجًا بالخبر على غيره، بل يذكر لأصحابه قيامَ الحجة عنده على الحكم، وقد عَرَفَ هو مَنْ روى عنه ذلك، واختاره إمام الحرمين، ورجحه الرافعي في "شرح المسند"، وفرضه في صدور ذلك من أهل التعديل. وقيل: لا يَكفِي أيضا حتى يقول: كُلُّ من أروي لكم عنه، ولم أسمه فهو عدل.

قال الخطيب: وقد يوجد في بعض من أبهموه الضعف؛ لخفاء حاله، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق.

[فائدتان]:

(الأولى): لو قال نحو الشافعي: أخبرني من لا أَتَّهِمُ، فهو كقوله: أخبرني الثقة، وقال الذهبي: ليس بتوثيق؛ لأنه نفي للتهمة، وليس فيه تعرض لإتقانه، ولا لأنه حجة، قال ابن السبكي: وهذا صحيحٌ غير أن هذا إذا وقع من الشافعي على مسألة دينية، فهي والتوثيق سواء في أصل الحجة، وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي، فمن ثَمَّ خالفناه في مثل الشافعي، أما من ليس مثله فالأمر كما قال. انتهى.

قال الزركشيّ: والعجب من اقتصاره على نقله عن الذهبي، مع أن طوائف من فُحول أصحابنا صَرَّحوا به، منهم: السِّيرافيُّ، والماورديّ، والروياني. انتهى.

وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

وَإِنْ يَقُلْ حَدَّثَ مَنْ لَا أَتَّهِمْ

أَوْ ثِقَةٌ أَوْ كُلُّ شَيْخٍ لِي وُسِمْ

بِثِقَةٍ ثُمَّ رَوَى عَنْ مُبْهَمِ

لَا يُكْتَفَى عَلَى الصَّحِيحِ فَاعْلَمِ

وَيُكْتَفَى مِنْ عَالِمٍ فِي حَقِّ مَنْ

قَلَّدَهُ وَقِيلَ لَا مَا لم يُبَنْ

وقال في "الكوكب الساطع":

وَالْوَصْفُ مِنْ كَالشَّافِعِيِّ بالثِّقَهْ

عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَوْثِقَهْ

وَقِيلَ لَا وَمِثْلُهُ لَا أَتَّهِمْ

وَالذَّهَبِيُّ لَيْس تَوْثِيقًا نَسِمْ

(الفائدة الثانية): قال ابن عبد البر: إذا قال مالك عن الثقة عن بكير بن عبد الله الأشجّ، فالثقة مخرمة بن بكير، وإذا قال: عن الثقة، عن عمرو بن شعيب، فهو عبد

ص: 342

الله بن وهب، وقيل: الزهري. وقال النسائي: الذي يقول مالك في كتابه: الثقة عن بكير يشبه أن يكون عمرو بن الحارث، وقال غيره: قال ابن وهب: كلُّ ما في كتاب مالك أخبرني من لا أتَّهِم من أهل العلم، فهو الليث بن سعد. وقال أبو الحسن الآبُرِيّ (1): سمعت بعض أهل الحديث يقول: إذا قال الشافعيّ: أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب، فهو ابن أبي فُدَيك، هأذا قال: أخبرنا الثقة عن الليث بن سعد، فهو يحيى ابن حسان، وإذا قال: أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير، فهو أبو أسامة، وإذا قال: أخبرنا الثقة عن الأوزاعي، فهو عمرو بن أبي سَلمة، وإذا قال: أخبرنا الثقة عن ابن جريج، فهو مسلم بن خالد، وإذا قال: أخبرنا الثقة عن صالح مولى التوأمة، فهو إبراهيم بن أبي يحيى. انتهى، ونقله غيره عن أبي حاتم الرازيّ.

وقال الحافظ في "رجال الأربعة": إذا قال مالك: عن الثقة، عن عمرو بن شعيب، فقيل: هو عمرو بن الحارث، أو ابن لهيعة، وعن الثقة عن بكير بن الأشجّ، قيل: هو مخرمة بن بكير، وعن الثقة عن ابن عمر، هو نافع كما في "موطإ ابن القاسم"، وإذا قال الشافعيّ. عن الثقة عن ليث بن سعد، قال الربيع: هو يحيى بن حسان، وعن الثقة عن أسامة بن زيد، هو إبراهيم بن أبي يحيى، وعن الثقة عن حميد، هو ابن عُلَيّة، وعن الثقة عن معمر، هو مُطَرِّف بن مازن، وعن الثقة عن الوليد بن كثير، هو أبو أسامة، وعن الثقة عن يحيى بن أبي كثير، لعله ابنه عبد الله بن يحيى، وعن الثقة عن يونس بن عبيد عن الحسن، هو ابن علية، وعن الثقة عن الزهري، هو سفيان بن عيينة. انتهى.

ورَوَينا في "مسند الشافعي" عن الأصمّ قال: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرني من لا أَتَّهم يريد به إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال: أخبرني الثقة يريد به يحيى بن حسان، وقد رَوَى الشافعي قال: أخبرنا الثقة عن عبد الله بن الحارث، إن لم أكن سمعته من عبد الله بن الحرث، عن مالك بن أنس، عن يزيد بن قُسَيط، عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قضيا في الْمِلْطَاة (2) بنصف دية الموضحة. قال الحافظ أبو الفضل الفلكيّ: الرجل الذي لم يُسَمِّ الشافعي هو أحمد بن حنبل. وفي "تاريخ ابن عساكر": قال عبد الله بن أحمد: كل شيء في كتاب الشافعيّ: أخبرنا الثقة

(1) بفتح الهمزة الممدودة، وضمّ الباء: منسوب لآبر، قرية من قرى سِجِستان، وهو أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم.

(2)

بكسر الميم، وسكون اللام -وتسمّى عند الحجازيين بالسِّمْحاق-: هي القشرة الرقيقة بين عظم الرأس ولحمه، تمنع الشجة أن توضح، والمراد الشجّة التي تبلغ الجلد التي بين اللحم والعظم.

ص: 343

عن أبي (1). وقال الحافظ: يوجد في كلام الشافعي: أخبرني الثقة عن يحيى بن أبي كثير، والشافعي لم يأخذ عن أحد ممن أدرك يحيى بن أبي كثير، فَيُحْمَلُ على أنه أراد بسنده إلى يحيى، قال: وذكر عبد الله بن أحمد أن الشافعي إذا قال: أخبرنا الثقة، وذكر أحدًا من العراقيين، فهو يعني أباه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة عشرة): في اختلاف أهل العلم في رواية العدل عمن سمّاه هل يكون تعديلًا أم لا؟ :

ذهب الأكثرون من أهل الحديث وغيرهم، وهو الصحيح أنه إذا روى العدل عمن سمّاه لا يكون تعديلًا له؛ لجواز رواية العدل عن غير العدل، فلم تتضمن روايته عنه تعديله، وقد رَوَينا عن الشعبي أنه قال: حدثنا الحارث، وأشهد بالله أنه كان كذابا، وروى الحاكم وغيره عن أحمد بن حنبل، أنه رأى يحيى بن معين، وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان، عن أنس، فإذا اطّلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر، عن أبان، عن أنس، وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان، ثم تكتب حديثه؟ ، فقال: يا أبا عبد الله أكتب هذه الصحيفة، فاحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجيء إنسان، فيجعل بدل أبان ثابتا، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس، فأقول له: كَذَبتَ، إنما هي عن معمر عن أبان، لا عن ثابت.

وذهب بعضهم إلى أنه تعديل له، إذ لو عَلِمَ فيه جرحًا لذَكَره، ولو لم يذكره لكان غاشا في الدين. حكاه جماعة منهم الخطيب، وكذا قال ابن المنيّر في "الكفيل": للتعديل قسمان: صريح، وغير صريح، فالصريح واضح، وغير الصريح كرواية العدل، وعمل العالم.

وردّه الخطيب بأنه قد لا يَعرِف عدالته ولا جرحه، كيف وقد وُجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنهم غير مرضيين، وفي بعضها شَهِدوا عليهم بالكذب.

وكذا خطّأه أبو بكر الصيرفي، وقال: لأن الرواية تعريف له، أي مطلق تعريف، يزول جهالة العين بها بشرطه، والعدالة بالخبرة، والرواية لا تدلّ على الخبرة.

وقد قال سفيان الثوريّ: إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه: فللحجة من

(1) قال الرافعيّ: وهذا في الكتب القديمة. انتهى. والمعنى أنه قصد الشافعي فقوله: الثقة أنه أخبره أحمد ابن حنبل.

ص: 344

رجل، وللتوقّف فيه من آخر، ولمحبّة معرفة مذهب من لا أعتدّ بحديثه، لكن عاب شعبة عليه ذلك. وقيل لأبي حاتم الرازيّ: أهلُ الحديث ربّما رووا حديثًا لا أصل له، ولا يصحّ، فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم الحديث الواهي للمعرفة ليتبيّن لمن بعدهم أنهم ميّزوا الآثار، وحفِظوها. قال البيهقيّ: فعلى هذا الوجه كانت رواية من روى من الأئمة عن الضعفاء (1).

وذهب بعضهم إلى التفصيل، فإن كان العدل الذي رَوَى عنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته تعديلًا، وإلا فلا، واختاره الأصوليون، كالآمدي، وابن الحاجب، وغيرهما، بل وذهب إليه جمع من المحدّثين، وإليه ميلُ الشيخين، وابن خزيمة في "صحاحهم"، والحاكم في "مستدركه"، ونحوه قولُ الشافعيّ رحمه الله فيما يَتقوّى به المرسل: أن يكون المرسل إذا سمّى من روى عنه لم يُسمّ مجهولًا، ولا مرغوبًا عن الرواية عنه. انتهى.

وأما رواية غير العدل فلا تكون تعديلًا بالاتفاق. قاله السخاويّ (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من أن رواية العدل عمن سمّاه لا تكون تعديلًا له؛ لظهور حجته، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم.

وقد نظمت ما سبق في هذه المسألة من الأقوال في "شافية الغلل" بقولي:

اعْلَمْ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا

فِي ثِقَةٍ رَوَى لِمَنْ لَا يُعْرَفُ

هَلْ ذَاكَ تَعْدِيلٌ لَهُ قِيلَ نَعَمْ

وَقِيلَ لَا وَقِيلَ تَفْصِيلٌ يُؤَمّ

فَأَوَّلٌ لِحَنَفِيَّةٍ وَمَا

يَلِي لِشَافِعِيَّةٍ قَدِ انْتَمَى

وَقَدْ حَكَوْا نَحْوَهُمَا عَنْ أَحْمَدَا

وَلَكِنِ الَّذِي بِنَصِّهِ بَدَا

دَلَّ عَلَى أَنَّ الّذِي قَدْ عُرِفَا

اخْتَصَّ بِالثِّقَةِ تَعْدِيلًا وَفَا

أَوْ لَا فَلَا وَذَاكَ كَابْنِ مَهْدِي

وَمَالِكٍ إِمَامِ كُلِّ مَهْدِي

وَابْنُ مَعِينٍ قَالَ مَنْهُ نَقَلْ

مِثْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَشَعْبِيٍّ يَنَلْ

رَفْعَ الْجَهَالَةِ وإِنْ عَنْهُ رَوَى

مِثْلُ السَّبِيعِي وِسِمَاكٍ مَا حَوَى

عُرْفًا لِكَوْنِ ذَيْنِ يَرْوِيَانِ عَنْ

كُلِّ الْمَجَاهِيلِ وَذَا رَأْيٌ حَسَنْ

وَشَرَطَ الذُّهْلِيُّ فِيمَنْ تُرْفَعُ

عَنْهُ الْجَهَالَةُ رُوَاةً سَمِعُوا

اثْنَيْنِ أَوْ فَوْقُ وَذَا الَّذِي اشْتَهَرْ

فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الأَثَرْ

(1)"فتح المغيث" 2/ 40 - 41.

(2)

"فتح المغيث" 2/ 41 - 42.

ص: 345

وَابْنُ الْمَدِينِيِّ اشْتِهَارًا شَرَطَا

كَذَا أَبُو حَاتِم أَيْضًا ضَبَطَا

وَنَجْلُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ مَنْ رَوَى

عَنْهُ ثَلَاثَةٌ أَوِ اثْنَانِ حَوَى

مَعْرِفَةً لَهُ وَلَمَّا سُئِلَا

عَنْ حَالِ رَاوٍ مَالِكٌ حَبْرُ الْمَلَا

ذَكَرَ لِلسَّائِلِ لَوْ كَانَ ثِقَهْ

رَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي الْمُوَثَّقَهْ

وَابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ نَنْظُرُ

إِنْ مَالِكٌ رَوَى لِشَيْخٍ نَأْثُرُ

أَوْ لَا فَلَا فَنِعْمَ مِيزَانُ الأَثَرْ

لَكِنَّ ذَا فِي الْغُرَبَا لَا يُعْتَبَرْ

إِذْ قَدْ رَوَى عَنْ بَعْضِ مَنْ قَدْ ضُعِّفَا

مِثْلُ أَبِي أُمَيَّةٍ فَلْتَعْرِفَا

قَالَ أَبُو حَاتِمَ مَنْ قَدْ عُرِفَا

بِالضُّعْفِ لم يَقْوَ بِنَقْلِ الْحُنَفَا

وَمَنْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالْجَهْلِ

نَفَعَهُ نَقْلُ الثِّقَاتِ الْعَدْلِ

كَذَا أَبُو زُرْعَةَ نَحْوَهُ ذَكَرْ

قِيلَ عَنِ الْكَلْبِيِّ سُفْيَانُ أَثَرْ

فَقَالَ إِنَّمَا رَوَى تَعَجُّبَا

وَمُنْكِرًا وَمُظْهِرًا تَجَنُّبَا

يُرْوَى عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ ذَكَرْ

أَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ ثَلَاثَةِ نَفَرْ

عَنْ رَجُلٍ أَجْعَلُهُ دِينًا يُعِزّ

وَرَجُلٍ أَقِفُهُ وَأَحْتَرِزْ

وَرَجُلٍ أَسْمَعُ لَا أُبَالِي

أُحِبُّ أنْ أَعْرِفَ لِلإِبْطَالِ

وَنِعْمَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ هَذَا الثَّبَتْ

فَخُذْهُ مَنْهَجًا تَكُنْ مِمَّنْ ثَبَتْ

[فائدة]: ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا نادرًا: الإمامُ أحمد، وبقيُّ بن مَخْلد، وحَريزُ بن عثمان، وسليمان بن حرب، وشعبة، وعبد الرحمن بن مهديّ، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد القطّان، وذلك في شعبة على المشهور، فإنه كان يتعنّت في الرجال، ولا يروي إلا عن ثبت، وإلا فقد قال عاصم بن عليّ: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدّثكم إلا عن ثقة لم أحدّثكم عن ثلاثة، وفي نسخة: ثلاثين، وذلك اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره، فيُنظر، وعلى كلّ حال، فهو لا يروي عن متروك، ولا عمن أُجمع على ضعفه. وأما سفيان الثوريّ، فكان يترخّص مع سعة علمه، وشدّة ورعه، ويروي عن الضعفاء حتى قال فيه صاحبه شعبة: لا تحملوا عن الثوريّ إلا عمن تعرفون، فإنه لا يبالي عمن حمل. ذكره السخاويّ (1).

وممن كان لا يروي إلا عن ثقة محمد بن الوليد الزُّبيدي الحمصيّ، قال الإمام أحمد: لا يأخذ إلا عن الثقات (2). وبكير بن عبد الله، قال أحمد بن صالح المصريّ: إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل، فلا تسأل عنه، فهو الثقة، لا شكّ فيه (3).

(1)"فتح المغيث" 2/ 42.

(2)

"تهذيب التهذيب" 9/ ص 503.

(3)

المصدر السابق 1/ 493.

ص: 346