الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(42) ذكر وقعه عين جالوت وكسره التتار
وكان قبل دلك فى هده السنه قد وصل الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى، لما فارق خدمه الملك الناصر وحضر الى خدمه الملك المظفر وكان فى طريقه قد نزل بغزه، وصاهر الشهرزوريه وتزوج منهم. وبعث طيبرس الوزيرى الى عند الملك المظفر ليحلفه. فاجابه لدلك وحلف له، فطاب خاطره، ودخل القاهره يوم السبت ثانى عشرين ربيع الاول. وركب السلطان الملك المظفر والتقاه من مسجد التبن، وانزله دار الوزاره، ورتب له راتبا عظيما، واقطعه قليوب بكمالها. وهو الدى صغر امر التتار عنده، وقوى قلوب الاسلام على ملتقاهم، وتكفل له النصر من الله تعالى.
وكان خروج السلطان الملك المظفر بالعساكر من الديار المصريه لملتقا (9) التتار يوم الاثنين خامس عشر شعبان. وكان قد جهز هلاوون جيوش المغل تقدمهم كتبغا نوين، ونزل حمص. فلما بلغه ان السلطان المظفر نزل مرج عكا ركب من حمص، وتوجه الى ان وصل الغور. وبعث المظفر الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى شاليشا فى عده من فرسان الحرب المعودين للطعن والضرب. فلما وقعت عينه عليهم سيّر عرّف السلطان. ثم انه انتهز الفرصه فى مناوشتهم الحرب، ليكون له اليد البيضا عند الله تعالى وعند الاسلام، وليصغر امرهم فى اعين الجيوش القادمه عليهم. وعاد يقابلهم (15) ويستدرجهم، ويكر عليهم ويتقدم امامهم، الى ان وصلوا عين جالوت. فلما كان يوم الجمعه الخامس والعشرين من رمضان المعظّم التقا (17) الجمعان، وعمل السيف والسنان بالضرب (43) والطعان. وتبث (18) الشجاع وفرّ الجبان، وكانت دايره السوء على الكفار من عبدة الاوثان، ونصر الله حملة القرآن. وانهزمت التتار الكفار، وعمل فى
(9) لملتقا: لملتقى
(15)
يقابلهم: فى الأصل «يقالبهم»
(17)
التقا: التقى
(18)
وتبث: وثبت
اعناقهم الصارم البتار، وتشتتوا فى الاقطار. وركبت المسلمون اكتافهم اسرا وقتلا، حتى ملا دلك عيون وحش الفلا. وقتل ملكهم اللعين، كتبغا نوين، وقطع دابر القوم الدين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.
حكى جدى برى بلجك لوالدى رحمهما الله، قال: لم نزل معتقلين (4) بالقلعه الى ان اخرجنا الملك المظفر عند خروجه الى التتار، فكنت فى هده الغزاه المباركه.
وكان قد قفز من التتار الى السلطان المظفر شابا (6) من المغل. فقربه السلطان، وانعم عليه، وجعله سلاح دارا. فلما كان يوم المصاف والتحم القتال، ضرب دلك الشاب السلطان بسهم، فلن يخطى (8) الجواد لسعاده الاسلام ونصرة امة النبى عليه السلام، فوقع السلطان الى الارض، وقتل دلك الشاب. وعاد السلطان راجلا والناس قد اشتغلوا بقتل دلك الملعون الدى اراد هلاك السلطان. قال: فنزل فخر الدين ماما عن جواده، وقدمه للسلطان، فامتنع عن الركوب. فقال له الامير (11) فخر الدين:«يا خوند، اركب، فمادا (12) وقت امتناع» . فقال [قطز]: «تقتل، يا فخر الدين» . فقال: «اذا قتلت انا كنت واحد (13) من المسلمين، وكان عوضى كثير، واذا قتلت انت فى هدا الوقت فما لك عوض، وقتل المسلمين (14) كلهم» . فركب ثم التقت الجنايب والوشاقيه، فركب فخر الدين من جنايب السلطان. فلما انكسر التتار، قال للسلطان بعض خواصه، عن امتناعه عن الركوب فى ذلك الوقت، «يا خوند، لو صدفك-والعياذ بالله-فى ذلك الوقت الذى انت فيه راجل بعض المغل كنت رحت، (44) وراحت الإسلام لرواحك» . فقال: «اما انا فكنت اروح الجنه، واما الاسلام فما كان الله ليضيعه، فقد مات السلطان الملك الصالح رحمه الله، وقتل ابنه المعظم، والامير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر، وبعد دا (20) نصر الله الاسلام وحده بغير ملك بعد اليأس» .
(4) معتقلين: فى الأصل «معتلقين»
(6)
شابا: شاب
(8)
فلن يخطى: فلم يخطئ
(11)
الامير: فى الأصل «للامير»
(12)
دا: هذا
(13)
واحد: واحدا
(14)
المسلمين: المسلمون
(20)
دا: هذا
ولبعض الشعرا يمدح الملك المظفر رحمه الله <من الخفيف>:
هلك الكفر فى الشآم جميعا
…
واستجدّ الاسلام بعد دحوضه
بالمل [ي] ك المظفر [الملك] الار
…
وع سيف الاسلام عند نهوظه (3)
اوجب الله شكر ذاك علينا
…
دايما مثل واجبات فروضه
وفى دلك لشهاب الدين ابى شامه <من الكامل>:
غلب التتار على البلاد فجاءهم
…
من مصر تركىّ يجود بنفسه
بالشام بدّدهم وفرّق شملهم
…
ولكل شئ آفة من جنسه
وقال جمال الدين بن مصعب رحمه الله <من الخفيف>:
(9)
…
[إن يوم الحمراء يوم عجيب
فيه ولّى جيش الطغات البغات (9_)
دار كاس المنون لما مزجنا
…
عين جالوت بالدما للسقات (10)
يا لها جمعة غدا المغل فيها
…
سجّدا للسيوف لا للصلاة] (11).
ووصل الخبر الى دمشق بكسره التتار فى ليله السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم. فانهزم نلك الليله من كان بدمشق من التتار، وشحنتهم بها كان يسمى ايل ستان (14)، وتبعهم الناس واهل القرى والضياع يقتلون وياسرون.
وكان الملك السّعيد ابن (15) العزيز بن العادل صاحب الصبيبه وبا نياس محبوسا بقلاع الشام، بعد موت الصالح وولده توران شاه المعظم، فاخرجوه (16) التتار، وصار معهم، ويدل على عورات المسلمين. وقدم [الملك السعيد] فى الجيش الدى كان مع كتبغا نوين الى دمشق، وحضر فتح قلعتها، واعادوه الى بلاده. ثم توجه مع عسكر
(3) انظر اليونينى ج 1 ص 367 - -نهوظه: نهوضه
(9 - 11) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش
(9_) الطغات البغات: الطغاة البغاة
(10)
للسقات: للسقاة
(14)
ايل ستان: فى الأصل «ابل سنان» ؛ فى أبو شامة، ذيل الروضتين (ط. القاهرة 1947) ص 207 «ايل سبان»
(15)
ابن: بن
(16)
فاخرجوه: فأخرجه
كتبغا نوين، وقاتل المسلمين. فلما وقعت الكسره عليهم جا الى السلطان الملك المظفر متنصلا فلم يقبله، وقال (45) له:«لولا الكسره كانت على التتار ما اتيت» ، ثم شهد عليه جماعه من الناس انه كان يقاتل مع التتار اشد قتال، وربما قتل من المسلمين.
فعند دلك امر السلطان المظفر بقتله فقتل، ثم ورد كتاب السلطان المظفر الى دمشق بالنصر والظفر يوم الاحد ثالث يوم الوقعه.
وكان النصارا (6) -لعنهم الله-لما ملكوا التتار دمشق شمخت نفوسهم، وقالوا:
«هدا الدى كنا قد وعدنا به؛ ان فى اخر زمان يخرج من يعضد الملة النصرانيه وهم هولاء» . وعاد كبارهم يترددون الى الشحنه المسمى ايل ستان (8) والى كبار المغل، وحسنوا لهم دينهم، وعبروا بهم كنايسهم، وحضر من عند هلاوون فرمانات اليهم بالاعتنا بهم، وارتفاع كلمتهم، واعزاز دينهم، وايضاع الاسلام. وعادوا يشربون الخمر على رؤس (11) الناس، وعلى ابواب المساجد. وعادت المسلمين معهم فى اشد الاحوال حتى انهم فى شهر رمضان يشربون الخمور، ويطرشون به المسلمين.
وربما شربونه (13) فى الجامع الكبير الاموى فى شهر رمضان المعظم، ويعطلون على الناس الصلوات الخمس. فعند دلك اجتمعت اكابر دمشق من المسلمين، واتوا الى القلعه الى الشحنه ايل (15) ستان، ومعهم القضاه والعدول، وشكوا اليه فعل النصارا، وما الناس فيه من الشده معهم، فاهانهم، واخرق بهم، فعظم دلك على الاسلام.
فلما منّ الله تعالى بفضله العميم، وانتصر الاسلام، وهربت التتار من دمشق ليله الاحد، اصبح الناس وطلبوا دور النصارا (18) فنهبوها، واخربوا ما استطاعوا، واخربوا كنيسه اليعاقبه، وكنيسه مريم حتى اعادوهما كومان (19). وقتل من النصارا
(6) النصارا: النصارى--ملكوا: ملك
(8)
ايل ستان: فى الأصل «ابل سنان»
(11)
رؤس: رؤوس--المسلمين: المشلمون
(13)
شربونه: شربوه
(15)
ايل: فى الأصل «ابل» --النصارا: النصارى
(18)
النصارا: النصارى
(19)
كومان: كومين--النصارا: النصارى
جماعه. واختفوا، ولزموا بيوتم، وجرا (1) عليهم امور اشتفى (46) بها صدور المسلمين.
ثم نهبوا بعض اليهود، ثم كفوا عنهم، فانهم لم يجرا (2) منهم فى حقّ الاسلام شئ يكرهونه.
وفى اول هده السنه كان اخد حلب وهروب الناصر حسبما تقدم من الكلام.
حكى الصارم ازبك، مملوك الاشرف صاحب حمص (5)، قال: كان سبب اجتماعى بهلاوون انى تزاييت بزى التتار، ولبست لبسهم. وكان لهم صاريا معروفا (6) به صندوق، وعنده رجلان موكلان به من جهه هلاوون، وكان كل من له ظلامه يكتب قصه ويحضرها الى دلك الامين، فيضعها فى الصندوق الى يوم الجمعه يجلس هلاوون، وتعرض عليه القصص، ويكشف ظلامات الناس. قال الصارم: فكتبت قصه، وانا اقول:«المملوك ازبك مملوك الملك الاشرف صاحب حمص يقبّل الارض، وينهى ويسال الحضور بين يدى القان» . قال: فطلبنى. فلما حضرت بين يديه، رايت ملكا جليلا وهيبه عظيمه. وصفته انه قصير القامه، ليس له عنق يظهر، وراسه كدماغ البغل على كتفيه، وجفون عينيه على روس (13) خديه، كأن وجهه ترس النار تشعل من عينيه. فلما مثلت بين يديه اوقفنى من اربع (14) حجاب. وقال:«انت مملوك الاشرف صاحب حمص، بهادر المسلمين؟» قلت: «نعم» . ثم كلمنى، فوجدنى فصيحا، قوى الجنان، فقربنى وكلمنى، وحدثنى من جانب واحد. ثم قال:«تشرب الخمر؟» قلت: «نعم» . فامر لى بهناب مملوا (17) خمرا. فتناولته، وقبلت الارض، ورقصت،
(1) وجرا: وجرى
(2)
يجرا: يجر
(5)
ذكر القصة التالية، نقلا عن قرطاى العزى الخزندارى، ابن الفرات فى تاريخه (مخطوطة الفاتيكان رقم 726) نشرها ليفى ديللا فيدا Levi della Vida فى مجلة Orientalia ج 4 (1935) ص 358 - 366. وسوف يشير المحقق إلى نص ابن الفرات عند الضرورة
(6)
صاريا معروفا: صار معروف
(13)
روس: رؤوس
(14)
اربع: أربعة--اوقفنى من اربع حجاب: فى تاريخ ابن الفرات (نشر ليفى ديللا فيدا) ص 358 - 359 «وقفت بين يدى هلاوون تكلم معى من حجاب اربعة»
(17)
مملوا: مملوء
وعملت اشياء كثيره مما كانت الحرفا تعملها (1) بين يدى ملوكنا. قال: فاعجبته واعجبت الخواتين، وضحكوا وانشرحوا (2)، وهلاوون يتبسم. ثم امرنى بالجلوس، فجلست.
وعدت نديم حضرته، وانا احكى له كل نادره وعجيبه، (47) وعدت اعزّ الناس عنده وعند الست طقز خاتون زوجته، واقمت عنده عشره ايام بلياليها، خمسه قبل نزوله على حصار حلب، وخمسه بعد نزوله على حلب. قال الصارم، فقال لى فى الليله الخامسه من حصار مدينه حلب:«فى كم تقول ناخد هده البلد؟» يعنى حلب. فقلت:
فى عشره (7) سنين!». فقال: «فالقلعه؟» قلت: «فى عشرين سنه!» . وكان قصدى بهدا رحيله عنها. فقال-وقد غضب من قولى-: «والله لولا ما سبق من امانك كنت متّ، هدا تكون همة ملوككم المخنّثين المشتغلين ببعضهم البعض» . قال [الصارم]:
فاستدركت الفارط، وقلت:«صدق القان، حفظه الله، انا ما لى خبره الاّ بحروب ملوكنا، وامّا همه القان، وعلو اقتداره، فما اعلم» . فلما رد عليه الحاجب، وشدت منى زوجته واسعفتنى فى الكلام، رجع عن غيظه. قال الصارم ازبك:
فما فرغ معى من الكلام الا وقد دخل عليه رجل من المغل وفى يده راس مقطوعه من رؤس (14) التتار، صفه شاب، لا شعر فى وجهه؛ فرماها بين يديه، وتحدث معه بالمغلى، وانا لا افهم ما يقول، ثم اخد الراس، وخرج. فالتفت الىّ الحاجب وقال:
«تدرى ما هده الراس، وهدا الرجل؟» قلت: «لا» . قال: «هدا الرجل كبير مقدّمى التتار، وكان فى نقب من نقوب حلب، فخرج لبعض شغله، وترك ولده مكانه (17)، فخاشفهم الحلبيين (18)، وهجموا عليهم فى النقب. فهرب ولده، وهرب الدين معه لهروبه.
فبلغ ابوه (19) دلك، فدخل النقب، وقطع راس ولده، وجاء بها الى القان، كما ترى».
قال ازبك: فتحققت عند دلك انهم يملكون حلب والقلعه فى الايام اليسيره.
(1) كانت الحرفا تعملها: كان يعملها الحرفاء
(2)
وضحكوا وانشرحوا: وضحكن وانشرحن
(7)
عشره: عشر
(14)
رؤس: رؤوس
(17)
مكانه: فى مكانه
(18)
الحلبيين: الحلبيون
(19)
ابوه: أباه
وحكى الصارم ازبك ايضا، قال: وقفت بين يدى هلاوون، فرسم ان اجلس.
فقلت: «يحفظ (2) الله القان، كان-والله- (48) ودّ الملوك ان يكونوا بين يديك نسبه هولاء المماليك الدين بين يدى القان، وانما حرمة القان عظيمه» . قال: فاعجبه. وقال:
«يا ازبك، تقدر تحضر استادك الأشرف؟» قلت: «نعم، حفظ الله القان» . قال: فامرلى بخيل البريد. فقلت: «على شرط لا يفتح القان القلعه حتى احضره بين يديك» ، ثم خرجت من ساعتى وركبت، وصحبت معى عشره اكاديش، وفى عنقى الطمغاه (6)، ثم سقت الى غزه، ودخلت البريه، فوجدت الملوك مشتتين فى البريه عند برك زيزا، فلما راونى نزلوا الىّ واقبلوا علىّ لما كان بلغهم من محلى عند القان، فاستحييت من استاديتى، فترجلت، وعانقتهم، وقلت للاشرف:«القان طلبك» ، فخاف، فقلت:«لا باس عليك، وعلىّ الضمان ان تعود الى ملكك» . فقال لى الناصر: «وانا، يا صارم الدين.» قلت:
«مالى معك كلام» . ثم اخدت الاشرف، وعدت به فى ثلاثه ايام والرابع كنا عند هلاوون. فاحضره بين يديه، واقبل عليه. وكان الاشرف ضريف (12) الشمايل، تام القامه، اسمر، اكحل، ادعج، كأن يخديه تفاحتين، وفيهم (13) شامات متفرقه، وكان لابس قبا تترى (14) اخضر ببنود اطلس احمر، وخف بلغارى بشريط ذهب، ومهاميز ذهب، وقبع اطلس، وتخفيفه لا تبين رفيعه، وهو كانه قضيب بان. فلما نظرت اليه طقز خاتون زوجه هلاوون اعجبها، وضربت هلاوون على وجهه وهى تضحك.
وقالت: «هكدا يكونوا (17) الملوك، انّ هدا شاب مليح بهادر المسلمين» . قال: فنظر اليها هلاوون، ولطمها على وجهها وهو يضحك. وقال:«انما نحن الملوك الدى دلت (18) لنا مثل هولاء الملوك، وجعلناهم مثل العبيد بين ايدينا، مثل النسا قدامنا» . قال الصارم ازبك: كل هدا والاشرف قايم يرعد كالقصبه (49) هيبه وعظمه. فقال هلاوون:
(2) يحفظ: حفظ
(6)
الطمغاه: فى تاريخ ابن الفرات ص 361 «الطمغة»
(12)
ضريف: ظريف
(13)
وفيهم: وفيهما
(14)
لابس قبا تترى: لابسا قباء تتريا
(17)
يكونوا: يكون
(18)
الدى دلت: الذين ذلت
«يا اشرف، اتمنى (1) علىّ ايش تريد» . فنظر الىّ فقلت: «اطلب البرج الدى فيه اهلكم وعيالكم واقاربكم، لعل (2) يسمح به، وتسترهم من السبى» . فقال الاشرف: «لا يكون يقتلنى» . فقلت: «لا تخاف (3)، فان قلب الخاتون كله معك، وهى الغالبة عليه» . ثم كرر عليه هلاوون القول. فقبل الاشرف الارض وقال: «ينعم علىّ القان بالبرج الدى فيه حريمنا، وحريم الملوك الدين صاروا هاربين من هيبه القان» . قال: فغضب هلاوون، وعبس وجهه، ولعب شاربيه (6)، فكاد الاشرف يسقط من يدى ويد الحاجب، ونظرت الخاتون، ففهمت منه انه يستجير بها، فلطمت هلاوون وهى تضحك.
وقالت: «ما تستحى، ملك مثل هدا يتمنا (8) عليك شى يسير، وانت الدى ادنت (9) له ومنيته، والله الم تعطيه انت اعطيته انا القلعه كلها» . فقال هلاوون:
«انما منعته ذلك لاجلك حتى تبقى بنات الملوك لك جوار (10)» . فقالت: «هم جوارىّ، وقد وهبتهم (11) لهدا البهادر» . فعند دلك رسم له بالبرج. فقبل الاشرف الارض، واراد أنه ينهظ (12)، فلم يقدر حتى اقمناه بابطيه-وفى تلك الليله اخدت القلعه. ولم تزل الخاتون تعنى بالاشرف حتى اعاد عليه ملكه بحمص، واضاف اليه غيرها، وانعم عليه انعام كثير (14).
قال الصارم ازبك: ولما اخد هلاوون حلب، وجهز كتبغا نوين الى ديار مصر عاد طالبا للشرق، ثم انه طلبنى وانعم علىّ انعام كثير (16)، وردنى الى الشام. وقال لى: «يا صارم، انت تعلم ما فعلته معك من الخير بخلاف استاديتك الدين ربّوك، وانا خايف على اولادى الدين سيرتهم الى مصر لقلّه خبرتهم بالبلاد، واريدك ترجع، وتكون
(1) اتمنى: تمنّ
(2)
لعل: لعله
(3)
تخاف: تخف
(6)
شاربيه: شارباه
(8)
يتمنا: يتمنى--شى يسير: شيئا يسيرا
(9)
ادنت: أذنت--الم تعطيه: إن لم تعطه
(10)
جوار: جوارى--هم: هن
(11)
وهبتهم: وهبتهن--وقد وهبتهم لهدا البهادر: فى تاريخ ابن الفرات ص 364 «أنا قد أعتقتهم لوجه الله تعالى ولأجل الملك الأشرف»
(12)
ينهظ: ينهض
(14)
انعام كثير: انعاما: كثيرا
(16)
انعام كثير: انعاما كثيرا
معهم، وتدلّهم على المصالح، (50) فانت اخبر ببلادك». وكتب معى كتبا لاولاده بان لا (2) يخرجوا لى من خلاف. فلما رديت وجدت التتار مجتمعين على الاردن، والمسلمين (3) قد خروجوا لملتقاهم. فلما راونى التتار اقبلوا نحوى، وترجلوا، وقبلوا عينىّ كونهما قريبتين (4) العهد من نظر القان، ثم انى انفدت غلامى صفه انه جاسوسا من عندنا باشاره كتبغا نوين، وامرته فى الباطن ان يجتمع بالملك المظفر من جهتى، ويهوّن عليه امر التتار، ويعرفه ان يقوى الميمنه الاسلاميه، وان يكون الملتقا (6) عند طلوع الشمس. وقلت:«عرّفهم طلبى ورنكى، وانهم ساعه يحملوا (7) علىّ انهزمت، فان التتار يتبعونى (8) فى الهزيمه» . فكان دلك بمعونه الله عز وجل.
واما الملك الناصر صاحب الشام فان هلاوون سير خلفه، فمسكوه على برك زيزا، واحضروه بين يدى هلاوون-وقيل مسك بوادى موسى، ونزلوا به الى عجلون، وسلمها لهم بعد ان عجزوا عن اخدها. فتسلموها وافسدوا حالها كعادتهم. ورجع هلاوون وصحبته الامرا البحريه الدين كانوا معتقلين بحلب، وهم سكز وبرامق وسنقر الاشقر وبكمش المسعودى. ولحقوه بالملوك قبل قطعه الفراه (13)، وهم فى دل (14) وهوان. فلما مرّ الناصر وراى قلعه حلب عند بعد، بكى بكاء شديدا وانشد يقول <من الطويل>:
سقا (16)
…
حلب الشهباء فى كل بقعة
سحايب غيث نوءها مثل أدمعى
فتلك مرامى لا العقيق ولا اللوى
…
وتلك ربوعى لازورد (17) ولعلى
(2) بان لا: بألا--رديت: رددت
(3)
والمسلمين: والمسلمون--راونى: رآنى
(4)
قريبتين: قريبتى--انفدت غلامى صفه انه جاسوسا: فى تاريخ ابن الفرات ص 366 «بعثت غلاما لى فى صفة جاسوس»
(6)
الملتقا: الملتقى
(7)
يحملوا: يحملون-- عرّفهم. . . انهزمت: فى تاريخ ابن الفرات ص 366 «قل للأمراء لا تخافوا ها انا واصحابى والملك الاشرف فى ميسرة فى التتار فاذا رأيتم رنكى احملوا علىّ وعلى اصحابى فانا والملك الاشرف ننهزم بين أيديكم»
(8)
يتبعونى: يتبعوننى
(13)
الفراه: الفرات
(14)
دل: ذل-- عند: عن
(16)
سقا: سقى
(17)
لازورد: فى الأصل «لازرود»
فلما قرب من حلب ورآها خراب (1) بكا اشد من الاولى، وانشد <من البسيط>:
ناشدتك الله يا هطّالة السحبى
…
أن لا حملت تحياتى الى حلب
لا عذر للشوق أن يمشى على قدر
…
ماذا عسى يبلغ المشتاق فى الكتبى
(51)
احبابنا لو درى قلبى بانكم
…
تدرون ما أنا فيه لذّلى تعبى
لكنّ أصعب ما ألقاه (6)
…
من ألم
أنّى أموت ولا تدرى الأحبّة بى
ولما تعدا (7) حلب، وصارت على شماله، أنّ وتنهّت، وجرت دموعه، وقال <من الطويل>:
سقا (9)
…
الله اكناف الشآم ومعهدا
به العهد باق لا يزال مواظبا
ولا برحت أرض العواصم عصمة
…
من السوء تسقا (10) دايم الافق دايبا
ايا ساكن الشهباء لا زال حبّكم
…
يخالط منى اعظمى والترايبا
وحزنى عليكم لا يزال مجدّدا
…
وشوقى اليكم لا يزال مغالبا
أروم لقاكم والقضاء يعيقنى
…
فلو جاد سيّرت السحاب ركايبا
وعفّرت خدّى فى الثرا (14)
…
فرحا بكم
وقلت لقلبى: قد بلغت المآربا
ولما سار عنها، وبعدت عنه، انشد القصيده المشهوره له التى اولها <من الطويل>:
يعزّ علينا أن نرى ربعكم يبلا (17)
…
وكانت به آيات حسنكم تتلا
لقد مرّ لى فيها افانين لذه
…
ترى هل لأوقاتى بها عودة أم لا
(1) خراب: خرابا--بكا: بكى
(6)
القاه: فى الأصل «اللقاه»
(7)
تعدا: تعدّى
(9)
سقا: سقى--ومعهد: ومعهدا
(10)
تسقا: تسقى
(14)
الثرا: الثرى
(17)
يبلا: يبلى--تتلا: تتلى
اقلّب قلبى نحوكم فى دياركم
…
فأكثر فيها النوح كالناحة (1) الثكلا
ايا احبابنا والله ما قلت بعدكم
…
لحادثة الأيام رفقا ولا سهلا
ومنها
ولى أسوة مع ال بيت محمد
…
فبعضهم أسرا (4) وبعضهم قتلا
وهى قصيده طويله نيف وستين بيتا اشهر من «قفا نبك (5)» ؛ فلدلك اضربت عن اثبات جملتها كون تاريخنا تاريخ اختصار لا تاريخ تحشيه واكثار.
ولما وصل الملك الناصر الى هلاوون احسن اليه واقبل عليه، وانزله منزلة كبيره، وكدلك جميع من كان معه من الملوك، ثم امّر له بالشام على عادته، وان يكون فيها اسوه الملوك الدين تركوهم تحت الطاعه. واخلع عليهم بعد ان وصل الانبار، وردهم الى (52) بلادهم، فلم يقطعوا غير منزلتين، وورد عليه الخبر بكسر جيشه وقتل اولاده، وما ثم (11) على حشوده، وانهم لم ينجو منهم احد. فعند دلك امر بردهم اليه من الطريق فردوا، وضرب رقاب الجميع رحمة الله عليهم-حنقا منه، ولما ناله من عدم اولاده واحبابه وخاصه جيوشه. ولنعود (13) الى سياقه التاريخ بعون الله وحسن توفيقه.
ولما انكسرت التتار على عين جالوت-حسبما ذكرناه-رحل السلطان الملك المظفر مويدا بالنصر والظفر، وقد احاطت به خواصه، والرمز احاطة الهاله بالقمر. ودخل دمشق فى اليوم السابع من الوقعه، وجرّد العساكر قبل دلك فى ثانى يوم من الوقعه،
(1) كالناحة: كالنائحة، واستخدمت كلمة «الناحة» لصحة الوزن--الثكلا: الثكلى
(4)
أسرا: أسرى--قتلا: قتلى
(5)
«قفا نبك» : يشير ابن الدوادارى إلى قصيدة امرئ القيس المشهورة التى مطلعها: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول وحومل»
(11)
ثم: تم--ينجو: ينج
(13)
ولنعود: ولنعد
يقدمهم الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى خلف المنهزمين من التتار. فلحقهم على حمص، وقتل منهم خلق عظيم بحيث لم يعود (2) منهم الى بلادهم مخبر.
قال القاضى عز الدين بن شداد فى تاريخه ان الملك المظفر قطز، لما ملك دمشق، كان عازما على التوجه الى حلب ليكشف احوالها ويزيح اعدارها (4) من خراب التتار. فوشى اليه واش ان الامير ركن الدين البندقدارى مع جماعه من الامرا البحريه متنكرين (6) له ومتغيرين عليه. فصرف وجهه الى ناحيه الديار المصريه، وهو ايضا مضمر لهم الشر، وربما أسرّ دلك لبعض خواصه. فبلغ دلك الامير ركن الدين البندقدارى، فخرجوا من دمشق، وكل واحد منهما محترز من صاحبه.
وحكى لى والدى-رحمه الله-عن مخدومه الامير المرحوم سيف الدين بلبان الدوادار الرومى. قال: ان يوم المصاف هربت جماعه من الامرا من خشداشيه الامير ركن الدين البندقدارى. فلما انتصر الاسلام، تأمر عليهم السلطان المظفر، (53) ووبخهم، وشتمهم، وتوعدهم. فاضمروا له السوء، وحصلت الوحشه مند دلك اليوم. ولم تزل الحقايد والظغاين (13) تترآا فى صفحات الوجوه وغمزات العيون، وكل منهم يترقب من صاحبه الفرصه. واجتمع راى الامير ركن الدين البندقدارى مع جماعه من الامرا البحريه وهم: الامير سيف الدين بلبان الرشيدى، والامير سيف الدين بهادر المعزى، والامير بدر الدين بكتوت الجوكندار المعزى، وعلا الدين بيدغان الركنى، وسيف الدين بلبان الهارونى، والامير عز الدين انس، وجماعه اخر.
(2) يعود: يعد
(4)
اعدارها: أعذارها
(6)
متنكرين: متنكرون-- متغيرين: متغيرون
(13)
والظغاين: والضغائن--تترآا: تتراءى