الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما وقف كل منهم على كتابه اخفاه من صاحبه. ووقع الخلف بينهم، وقوى عليهم السلطان الحصار وشدده. فألجأهم دلك أن سيروا الى السلطان، وقرروا معه تسليم الحصن على ان لا يقتل من فيه. فتسلم الحصن تاسع وعشرين شهر رجب، وكان قد ملك الباشوره بالسيف، فاصطنع (4) الكمندور. وكان عده من بالحصن اربع مايه وثمانون (5) مقاتل، فركبهم الجمال الى صور، وبعث معهم من يحتفظ بهم، ثم رحل عنها، وسير الاثقال الى دمشق.
وسار الى طرابلس، فشن عليها الغاره، واخرب قراها، وقطع اشجارها، وغور ميايها (8) وانهارها. ثم رحل الى حصن الاكراد، ونزل عليه. فحضر اليه رسول من جهه صاحبها بالاقامه والضيافه. فردها عليه، وطلب منه اديه (9) رجل من الاجناد كان قد بلغه انهم قتلوه من قبل دلك الوقت، فارسلوا اليه ما احب واختار.
ثم رحل الى حمص، ثم الى حماه، ثم الى فاميه، ثم امر الجيوش ان تلبس، وركب من الليل، فاصبح على انطاكيه.
ذكر انطاكيه وفتحها ومبتدا امرها
كان نزول السلطان عليها مستهل شهر رمضان المعظم من هده السنه، فخرجوا (14) اهلها يطلبون منه الامان، وشرطوا شروطا ما قبلها السلطان، فردهم خايبين.
وزحف عليها، فملكها يوم السبت رابع عشر رمضان المعظم. ورتب على ابوابها جماعه من الامرا لأجل الحرافيش. فمن خرج منهم بشئ أخد منه. فجمع من دلك ما امكن جمعه، ثم فرقه على الامرا والمقدمين والاجناد، كل منهم على قدره.
وحصر عده من قتل بها، فكانوا نيف (19) واربعين الفا. (114) واخرج جماعه
(4) فاصطنع: فى الأصل «فاضطنع فاصطنع»
(5)
وثمانون: وثمانين--مقاتل: مقاتلا
(8)
ميايها: مياهها
(9)
اديه: دية
(14)
فخرجوا: فخرج
(19)
نيف: نيفا
من المسلمين كانوا أسرا بها من اهل الشام وحلب وغيرها. وكان صاحبها الابرنس قد اعتمد فى حق المسلمين من اهل حلب والشام، عند استيلا التتار على البلاد، كل فعل مدموم وامر قبيح من القتل والأسر والسبى والنهب، فانتقم الله عز وجل منه.
ثم وقيل انه لو حلف الحالف ان ما سلم من اهل مدينه انطاكيه مخبر من رجالهم لما حنث فى يمينه. وكان فيها مايه الف او يزيدون، وقيل مايه الف وثمانيه الاف، ودلك حسبما دكره نواب التتار، وهو الشحنة الدى كان من جهه التتار.
واستخرج منهم عن كل راس دينار. هدا غير ما دخل اليها عند هجوم العساكر من اهل القرى والضياع.
ثم ان القلعه مسكت بعد المدينه يوم واحد (9). وطلبوا الامان، وكان اجتمع فيها ثمانيه الاف نفر رجال مقاتله خارجا عن الحريم والاولاد، فتحاشروا ومات منهم خلق كثير. وعدم عندهم القوت، فسيروا بكره يوم الاحد ثانى يوم الفتح يطلبون الامان من القتل خاصه، وينزلون اسارا (12)، فانعم لهم بدلك. فخرجوا الى ظاهرها وعليهم احسن الملبوس كانهم زهر الرياض، وضجوا ضجه واحده، وسجدوا باجمعهم، وقالوا:
«ارحمنا يرحمك الله» . فرقّ [الملك الظاهر] لهم، وحنا عليهم، وعفا عنهم من القتل، وامر ان يرفع عنهم السيف.
ثم انه فتح بغراس؛ ودلك ان اهلها نفدوا يسألوا (16) تسليمها منهم، فنفد اليهم الامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى، فتسلمها فى ثالث عشر رمضان. وتسلم ايضا دير كوش فى تاسع رمضان، وصالح اهل القصير على مناصفه القلاع المجاوره له. ثم عاد الى دمشق، فدخلها سابع عشرين شهر رمضان من هده السنه.
(9) يوم واحد: يوما واحدا
(12)
سارا: أسارى
(16)
يسألوا: يسألون
وكان لما فتح الله تعالى على يديه أمر ان تكتب البشاير بدلك، فكان من جمله (115) دلك كتاب الى صاحب انطاكيه، وهو يوميد مقيم بطرابلس، ودلك انشاء القاضى المرحوم فتح الدين بن عبد الظاهر-رحمه الله-ما هدا نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم. قد علم القومص الجليل المبجّل، المعزز الهمام الأسد الضرغام، بيمند فخر الأمة المسيحية، رييس الطايفة النصرانية (5)، كبير المله العيسوية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده. ما كان من قصدنا اطرابلس وغزونا له فى عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العماير والاعمار. وكيف كنست تلك الكنايس على بساط الارض، ودارت الدواير على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزاير من الأجساد على ساحل البحر كالجزاير، وكيف قتلت الرجال واستخدمت الأولاد وتملكت الحراير، وكيف قطعت الأشجار ولم نترك إلا ما يصلح للأعواد (11) المناجنيق إنشاء الله والستاير، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والمواشى، وكيف استغنى الفقير وتأهّل العازب، واستخدم الخديم وركب الماشى. هذا وأنت تنظر نظر المغشى عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا: علىّ هذا الصوت.
وكيف رحلنا من عندك رحيل من يعود، وأخّرناك وما كان تأخيرك إلاّ الى أجل معلوم معدود، وكيف فارقنا بلادك ولا بقيت بها ماشية إلا وهى لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهى لدينا جارية، ولا سارية إلاّ وهى فى أيدى المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو مفقود، وما منعت المغاير التى هى روس (17) الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التى هى فى التخوم مخترقة وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك انطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها (116) وأنت لا تصدّق أن نبعد عنك وإن بعدنا فسنعود على الأثر.
(5) النصرانية: فى النويرى، نهاية الأرب (مخطوطة مصورة بدار الكتب المصرية رقم 495 معارف عامة)، ج 28 ص 94 «الصليبية» ؛ انظر ملحق 2 لكتاب السلوك للمقريزى، ج 1 ص 966 - 969، حيث نشر د. زيادة هذا الكتاب
(11)
للاعواد: لأعواد--انشاء: إن شاء
(17)
روس: رؤوس
وها نحن نعلمك بما ثم (1)، ونفهمك بالبلاء الذى عليك قد عمّ: رحلنا عنك من اطرابلس فى يوم الأربعاء رابع وعشرين شعبان، ونزلنا انطاكية فى مستهلّ رمضان.
وفى حالة النزول خرجت عساكرك للمبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كند اسطبل، فسأل فى مراجعة أقرانك، ودخل الى المدينة وخرج فى جماعة من رهبانك وأعيانك (5)، فتحدثوا معنا فرأيناهم على رأيك فى اتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأنّ رأيهم فى الخير مختلف وقولهم فى الشر واحد. فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدّر الله عليهم بالموت، رددناهم وقلنا: نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا أول الإنذار وهو الآخر-، فرجعوا وهم متشبهين بفعلك، ومعتدين (9) أنّك تدركهم بخيلك ورجلك. وفى بعض ساعة مرّ شان المرشان، وداخل الرهب الرهبان، وبان البلاء للقسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان، وفتحناها بالسيف فى الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من جعلته لحفظها (12) وللمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلاّ وعنده شئ من الدنيا، فما بقى أحد منّا إلاّ وعنده شئ منهم ومنها.
فلو رأيت خيالتك وهم صرعا (14) تحت أرجل الخيول، وديارك والنهابة فيها تصول، والكسابة بها تجول، وأموالك وهى توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهن تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنايسك وصلبانها قد كسرت ونشرت،
(1) ثم: تم--ونفهمك: فى الأصل «ونفهملك»
(5)
وأعيانك: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 111 ب، تحقيق الخويطر ص 1126 «وأعيان أعيانك» ؛ فى النويرى ج 28 ص 95 «وأعيان أعوانك»
(9)
ومعتدين: فى ابن عبد الظاهر ق 111 ب، تحقيق الخويطر ص 1126، والنويرى ص 95، والقلقشندى، صبح الأعشى، ج 8 ص 300، وم ف «ومعتقدين»
(12)
لحفضها: لحفظها
(14)
صرعا: صرعى
وصحفها من الأناجيل المزورة وقد نشرت (1)، وقبور البطارقه وقد بعثرت، ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس، والمذبح قد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقه قد دهموا بطارقة، وابناء المملكة (117) وقد دخلوا فى المملكة، ولو شاهدت النيران وهى فى قصورك تحترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وديارك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان (5) وقد زلت كل منهما وزالت، لكنت تقول: ياليتنى كنت ترابا، وليتنى لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران بماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من معانيك، ومراكبك وقد أخذت فى السويدية بمراكبك، فصارت شوانيك من شوانيك، ولتيقّنت أن الإله الذى انطاك (9) انطاكية منك استرجعها، والرب الذى ملكك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض اقتلعها.
ولتعلم أيضا أنّا أخذنا منك بحمد الله ما كنت أخذته من حصون الإسلام، وهو:
در كوش، وشقيف تلميش (12)، وشقيف كفر تبنين. واستنزلنا أصحابك من الصياصى، وأخذناهم بالنواصى، وفرّقناهم فى الدانى والقاصى، ولم يبق شئ يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر العاصى، ولو استطاع لما تسمى بالعاصى، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فها (15) هو قد أحراها بما سفكناه فيه دما.
وكتابنا هذا يتضمن البشرا (16) لك بما وهبك الله من السلامة، وطول العمر بكونك لم تكن لك فى هذه المدة بانطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إمّا قتيلا وإمّا أسيرا، وإمّا جريحا وإمّا كسيرا، وسلامة النفس هى التى يفرح بها الحى إذا شاهد الأموات،
(1) نشرت: فى النويرى ص 95 «نثرت»
(5)
القسيان: فى الأصل «القسان؟؟؟» ، انظر النويرى ص 95، وياقوت، معجم البلدان (ط. القاهرة 1906)، ج 1 ص 355
(9)
انطاك: أعطاك
(12)
تلميش: فى الأصل «بلهمش» ، انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 112 آ، تحقيق الخويطر 1128، والنويرى ص 95، والقلقشندى ج 8 ص 301 «تلميس»
(15)
فها: فما
(16)
البشرا: البشرى
ولعل الله ما اخّرك إلى الآن، إلا لتستدرك من الطاعة والخدمة ما قد فات. ولمّا لم يسلم أحدا (2) ليخبرك بما جرا خبّرناك، ولمّا لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها بشرناك (3)، لتحقق الأمر على ما جرى. وبعد هذه المكاتبة لا ينبغى لك أن تكذب لنا خبرا، كما أنّ بعدها يجب أن لا تسأل مخبرا».
(118)
ولما وصلت هده المكاتبه الى صاحب انطاكيه كانت عليه اشدّ الاشيا وعظمت مصيبته. ولم يبلغه خبر انطاكيه الاّ من هدا الكتاب.
ذكر انطاكيه ونبد (7) من اخبارها
لما ذكرنا فتوحها، وجب ان ندكر شى من مبتدايها (8)، وما لخصناه من دكرها اد شرطنا فى هدا التاريخ دلك. فاول دلك قوله تعالى {وَاِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} (10) الآية. قال المفسرون: القرية انطاكيه.
وقال اصحاب التاريخ فى امر انطاكيه ان الملك أنتيوخس (11) قصد بناء مدينه يعمرها تكون نسبتها اليه. فنفّد حكمايه ووزرايه (12) لاختيار مكان يكون طيب الهواء والماء، قريبا من البحر، قريبا من الجبل. فوجدوا بقعه ارض انطاكيه بهده الصفه.
فسيروا عرفوه بدلك، فامر ببنايها، واخرج الاموال. وطلبوا حجرا جيدا لبنايها، فوجدوه على مسافه يوم منها. فاستخدم الرجال، وعدتهم ثمانين (15) الف رجل وثمان مايه رجل، وستمايه عجله، والفوتسع (16) مايه حمار، ومايه زورق لنقل الاحجار. فنجزت فى ثلث سنين ونصف. وبنيت اسوارها وابراجها، وهى مايه وثلثه وخمسون برجا،
(2) أحدا: أحد--جرا: جرى
(3)
بشرناك: فى النويرى ص 95، والقلقشندى ج 8 ص 302 «باشرناك»
(7)
ونبد: ونبذ
(8)
شى من مبتدايها: شيئا من مبتدئها
(10)
القرآن 36:13
(11)
أنتيوخس: فى الأصل «استوحس؟؟؟»
(12)
حكمايه ووزرايه: حكماءه ووزراءه
(15)
ثمانين: ثمانون
(16)
والفوتسع: وألف وتسع
ومايه وثلاثه وخمسون بدنة، وتسعه ابواب-منها خمسه كبار. وجعل فيه باب من الجبل ينزل الى المدينه، وعليه قناطر تعبر عليها العالم. فلما انتهت حضر اليها الملك ورآها، فاعجبته، واكرم صناعها، ووهب لمن نزل بها ومن حولها خراج ثلث سنين، ثم بنا (4) بها الكنايس والمعابد، واجتمع اليها العالم. وان الملك جلس فى بعض الايام فرحا مسرورا، فقال له وزيره:«لو علمت ما انفقت عليها ما كنت تسر بدلك» . فانتبه لنفسه، وامر ان يعمل حساب ما نفق عليها. فكان اربعه الاف قنطار وخمسون قنطار (7) من الدهب. ثم لم تزل فى (119) تزايد عماره واثار حسنه الى حيث ظهر السيّد المسيح عليه السلام. ولم تزل فى ايدى المله النصرانيه الى هدا الفتوح (9) الظاهرى، والله اعلم.
وحكى الرملى-رحمه الله-فى فتوح الشام الدى لخصناه فى الجزء الثانى من هدا التاريخ: ان لما بلغ ملك الروم هزيمه جنده، بين يدى خالد بن الوليد وابى عبيده رضى الله عنهما يوم اليرموك وكان بانطاكيه، نادا (12) فى اصحابه بالرحيل الى القسطنطينيه وسار. فلما استقل فى الطريق، عاد بوجهه نحو الشام وقال:«السلام عليك، يا سوريه، سلام مودّع لا يعتقد انه يرجع اليك ابدا» ؛ وسوريه هى دمشق. ثم اقبل على انطاكيه وقال: «ويحك، ارض ما أنفعك لعدوك بكثرة ما فيك من الاعشاب والخير» .
وقال البلادرى (17) فى كتاب فتوح المداين: ان ابا عبيده ابن الجرّاح-رضى الله عنه-لما توجه حلب صادف اهلها وقد استقلوا (18) الى انطاكيه وصالحوا فيها على مدينتهم. فلما ثم (19) صلحهم رجعوا، وسار ابو عبيده الى انطاكيه وقد تحصّن بها
(4) بنا: بنى
(7)
وخمسون قنطار: وخمسين قنطارا
(9)
الفتوح: الفتح
(12)
نادا: نادى
(17)
انظر البلاذرى، كتاب فتوح البلدان (ط. القاهرة 1956) ج 1 ص 174 - - ابن: بن
(18)
استقلوا: كذا فى الأصل
(19)
ثم: تم
خلق كثير من جند قنّسرين. فلما صار بمهرويه (1)، وهى على قريب فرسخين من انطاكيه، لقيه جمع العدو فكسرهم وألجأهم الى المدينه، وخلصوهم (2) من جميع ابوابها، وكان دلك على باب فارس. فيقال انهم صالحوه على اداء الجزيه بعضهم وبعضهم اجلوا؛ فجعل على كل محتلم دينار (4) وجريبا فى السنه. وكان الرشيد [العباسى](5) سما ثغور الشام العواصم، وهى انطاكيه وطرسوس وغيرهما.
ثم استقرت انطاكيه فى ايدى بنى حمدان. فلما مات سيف الدوله بن حمدان اتفق اهلها على انهم لا يمكنون احدا من الحمدانيه يدخلها. ثم انهم قتلوا شخصا يسمى بعلّوش الكردى، فانه كان قد ورد من خراسان فى خمسه آلاف نفر للغزاه. وكان بانطاكيه رجل يعرف بالرعيلى (9)(120) قد جمع خلقا كثيرا، فدخل يوما يسلّم على علّوش (10) الكردى، ومسك يده ليقبّلها، وقفز عليه فقتله. واستولى على انطاكيه هو وجماعه.
وكان فى بغراس نايب للروم اسمه ميخاييل، ونايب للمسلمين. فعجز المسلمين (12) عن حفضها (13) لاتّساعها، فملكوها الروم فى يوم الخميس لثلاث عشر ليله خلت من دى الحجه سنه ثمان وخمسين وثلثمايه. وفتحوا باب البحر، وخرجوا منه ليلا، وأسر الروم من كان بها من المسلمين. فقويت الروم بفتحها، وتوجهوا الى حلب، فصالحهم اهلها على مال يحملونه اليهم فى كل سنه، وهو عشره قناطير دهب، ومن كل مسلم
(1) بمهرويه: كذا فى الأصل وفى ياقوت، معجم البلدان (ط. القاهرة 1906)، ج 1 ص 357؛ فى البلاذرى، فتوح البلدان، ص 174 «بمهروبه»
(2)
وخلصوهم: كذا فى الأصل؛ فى البلاذرى وياقوت «وحاصر أهلها»
(4)
دينار: دينارا
(5)
أضيف ما بين الحاصرتين من ياقوت ج 1 ص 357 - -سما: سمى
(9)
بالرعيلى: ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 115 آ، تحقيق الخويطر ص 1133 «بالزعبلى»
(10)
علوش: كذا فى الأصل، انظر سطر 8
(12)
المسلمين: المسلمون
(13)
حفضها: حفظها--فملكوها: فملكها-- عشر: عشرة
دينار سوى الاطفال والنسا وارباب العاهات. فاقاموا كدلك الى سنه ست وستين وثلثمايه. فسير جعفر بن فلاح المغربى النايب بدمشق، عن العزيز بن المعز الفاطمى، نايبه فى عسكر كثيف الى انطاكيه، فحاصرها خمسه اشهر، فلم يقدر عليها. فحدث فيها زلزله عظيمه هدمت منها قطعه جيده من سورها. فسير ملك الروم نايبا له ومعه جماعه من البنايين، فبنوها أحسن مما كانت.
وبنا (6) قلعتها لاوون صاحب سيس المعروف بابن القداس، وحصنها ومات، فكمل عمارتها بسيل الملك. وبسيل هدا هو الدى وجدوا له لما مات سته الاف قنطار دهب. وكان لما ولى الملك، فى الخزاين اربع (8) قناطير لا غير. وهو الدى ملك ارجيش من بلاد ارمينيه فى سنه خمس عشر (9) واربع مايه. وكان قد بنا له تربه عظيمه، ومدفنا هايلا، وديرا كبيرا، وقبرا من رخام مجزع. فلما حضرته الوفاه قال: قبيح ان القى (10) الله تعالى، وانا فى زىّ الملوك. فاوصى (11) ان يدفن بين الغرباء بكفن الفقراء. وكانت ايام دولته ومده مملكته تسع (12) واربعين سنه واحدى عشر شهر. ومات وعمره ثمان وستين (13) سنه.
وكان الملك سليمان (121) ابن (14) الامير قتلمش ابن اسراييل ابن سلجوق قد ملك من اخيه منصور، وقد اطاعه جميع التركمان، وفتح البلاد وتمكن. فعمل الحيله على فتوح انطاكيه، فسار اليها خفيفا خفيه فى عده مايتين وثمانين فارسا من اعيان عسكره. وقطع الدروب الى ان وصل الى ضيعه تعرف بالعمرانيه، فقتل جميع اهلها ليلا ولم يدرا (18) به. وعلق الحبال فى الاسوار التى لانطاكيه، وطلع جماعته ففتحها
(6) وبنا: وبنى--المعروف بابن القداس: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 115 آ، تحقيق الخويطر ص 1133 «المعروف بابن الفقاس»
(8)
اربع: اربعة
(9)
عشر: عشرة--بنا: بنى
(10)
القى: فى الأصل «اللقا»
(11)
فاوصى: فى الأصل «فاوضى»
(12)
تسع: تسعا--واحدى: وأحد--شهر: شهرا
(13)
وستين: وستون
(14)
ابن: بن
(18)
يدرا: يدر
ودخلها. وضجوا (1) اهلها ضجه واحده، وهرب بعضهم الى القلعه، فحاصرها حتى فتحها، ودلك فى ثانى عشر شعبان سنه سبع وسبعين واربع مايه. ونهب من الاموال اشياء عظيمه لا يقع عليها الحصر. وسكنها [سليمان بن قتلمش] واجتمعت اليه عساكره، وفتح جميع الحصون المجاوره لها، وصار له من حدّ القسطنطينيه الى طرابلس.
ثم قتل سليمان المدكور فى حديث طويل، وعادت انطاكيه فى يد وزيره الحسن ابن طاهر، الى ان ملك السلطان ملكشاه السلجوقى المقدم دكره فى هدا التاريخ، وملك الشام واستردها من الروم، وفتح انطاكيه وسلّمها لبغا (8) شعبان ابن الب رسلان فى سنه احدى وثمانين واربع مايه، ثم سار عنها ودخل الروم. وكانت ابنته مزوجه للملك رضوان صاحب حلب، المقدم دكره ايضا، وهى ام ولده الب ارسلان (9) الدى ملك بعده حلب. فلما كان ليله التاسع عشر من شعبان سنه اربع وثمانين واربع مايه حدث بانطاكيه زلزله عظيمه اخربت دورها واهلكت خلقا عظيما، وهدمت من ابراجها نحو (13) من سبعين برجا. فامر السلطان ملكشاه بعماره دلك.
واستمرت انطاكيه فى ايدى المسلمين الى سنه تسعين واربعمايه. فورد عليهم عدو من البحر. فنازلها فى دى القعده، وفتحها فى عشر رجب سنه احدى وتسعين واربع مايه. وهرب النايب الذى كان بها من جهه (122) السلطان ملكشاه، وتوفى فى الطريق قبل وصوله الى بغداد.
وكان اخد الفرنج لانطاكيه بعمل حيله رجل كان بها، يقال له صرصر الارمنى.
اتفق مع بعض ملوك الفرنج النازلين عليها، يسمى ميمون، فكتب اليه صرصر رقعه
(1) وضجوا: وضجّ
(8)
لبغا شعبان: ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 116 آ، تحقيق الخويطر ص 1135 «بغى سغان» ، بينما ورد الاسم فى ابن الأثير، الكامل، ج 11 ص 317:«ياغى ارسلان»
(9)
رسلان: أرسلان
(13)
نحو: نحوا
ورما (1) بها فى سهم، يقول:«انا اسلم اليكم المدينه» . فتقرر دلك بينهم. وكان الملك الكبير الدى للفرنج الراجع امورهم اليه يسمى كندفرى، فحضر ميمون اليه فقال:«اذا فتح الملك هده المدينه لمن تكون؟» فقال: «كل ملك من الملوك يحاصرها يوما، ومن فتحها فى يومه، كانت له» . فتمت الحيله لميمون. فلما كان يومه عمل السلالم، وسلمها له من كان متفقا معه-مع صرصر-فملكها. وكان النايب بها يوميد احمد بن مروان، فطلب الامان فامنوه ووفوا له، فخرج وتوفى فى الطريق حسبما دكرناه.
ثم اجتمعت عساكر الشام، ومقدمهم يوميد ظهير الدين طغتكين، وصاحب حمص يوم ذاك جناح الدوله حسين، وكدلك ابن بغا (9) صاحب الموصل يوميد، واتوا يد واحده الى انطاكيه. وكان الفرنج على تل خارج عن انطاكيه، فسالوا المسلمين الامان فلم يجيبوهم. فلما ياسوا (11)، حملوا حمله واحده، فانكسر المسلمين من غير قتال. واستمر ميمون بانطاكيه الى ان اتاه الملك دانشمند (12)، فاسره وقتل اكثر عساكره، ودلك فى سنه ثلث وتسعين واربع مايه، فاشترا (13) نفسه بمايه الف دينار. واستخلف دانشمند على انطاكيه الملك طنكرى، فاستمر مالكا لانطاكيه واعمالها حتى هلك فى شهر ربيع الاخر سنه خمسين وخمس مايه (15).
ثم ملكها بعده روجار (16)، وكان ولى عهد طنكرى، وهو الدى قدم بيت المقدس فى ملك بغدوين. وكان هدا بغدوين شيخا كبيرا وروجار شابّا حسنا، فاجتمعا
(1) ورما: ورمى
(9)
ابن بغا: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 116 ب، تحقيق الخويطر ص 1136، «كربغا» --يد: يدا
(11)
ياسوا: يئسوا--المسلمين: المسلمون
(12)
دانشمند: فى الأصل «دانشمند»
(13)
فاشترا: فاشترى
(15)
فى شهر ربيع الآخر سنة خمسين وخمس مايه: فى ابن عبد الظاهر. الروض الزاهر، ق 117 آ، تحقيق الخويطر ص 1136 «فى ثانى عشر ربيع الأول سنة ست وخمسين وخمسماية»
(16)
روجار: فى الأصل «زوجار»
فى بيت المقدس وتعاهدا على ان من مات قبل صاحبه، كان الحى وارث ملك الميت، وزوّج بغدوين (123) ابنته بروجار. واتفق ان روجار اقتتل هو ونجم الدين الغازى ابن ارتق على درب سرمدا، فكسر نجم الدين [روجار] وقتل هو وساير عسكره.
ثم سار بغدوين الى انطاكيه، وملكها لما مات روجار، فمات الشاب وعاش الشيح.
وملك ممالكه واقام مالكها الى ان وصل اليه شاب فى البحر ادعا (5) انه ابن ميمون الدى كان صاحب انطاكيه. وثبت دلك عند بغدوين، فسلمه انطاكيه من غير حرب.
وكان دلك الشاب شجاعا مقداما. فلم يزل مالك انطاكيه الى ان سار اليه البرنس الدانشمند، فقتل دلك الشاب وجماعه كثيره من اصحابه بعين زربه.
وملك انطاكيه البرنس، واقام بها فى قوه واقتدار. ولقى الملك العادل نور الدين الشهيد على حصن الاكراد-فى شهر رجب سنه ثلث واربعين وخمس مايه-فكسره نور الدين، وقتله وجميع عساكره.
ثم ملك انطاكيه رجل من دريه (12) ميمون ايضا، واستمر بها الى ان اخد من السلطان صلاح الدين هدنه الى ثمانيه اشهر. ووصل البرنس الى خدمه السلطان صلاح الدين، وكان معه اربعه عشر نفر بارونيه. فاحسن اليهم السلطان، واعطاهم اقطاعات فى مناصفات انطاكيه اربعه عشر الف دينار، وكان الاجتماع والانفصال فى يوم واحد. ثم ملكها البرنس المعروف بالاشتر، ومن بعده ولده سرو. وبعده ملكها البرنس بيمند ابن (17) سرو ابن الاشتر، ومنه اخدها السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس البندقدارى حسبما دكرناه، والله اعلم.
(5) ادعا: ادّعى
(12)
دريه: ذرّية
(17)
ابن: بن