الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجل به زمانة، فنزل وسجد، ومر به أبو بكر فنزل وسجد، ومر به عمر فنزل وسجد».
الدليل الثالث: «ما روي عن عرفجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا به زمانة فسجد (1)» .
الدليل الرابع: أن في السجود عند رؤية المبتلى شكرا لله الذي سلمه مما أصيب به هذا المبتلى (2)، فيكون مشروعا، كما يشرع عندما تحدث له نعمة أو تندفع عنه نقمة.
والصحيح في هذه المسألة هو القول الأول، لقوة أدلته، فهي نص في محل النزاع، ولضعف دليل المخالفين، والله أعلم.
(1) سبق تخريجهما.
(2)
مغني المحتاج 1/ 218.
المبحث الثالث: هل لسجود الشكر شروط
؟
اختلف أهل العلم في سجود الشكر، هل يشترط له ما يشترط لصلاة النافلة من الطهارة من الحدث، وطهارة البدن والثوب والمكان عن النجاسة، واستقبال القبلة وغيرها أم لا؟ اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أن هذه الأمور ليست شرطا لصحة سجود الشكر، وهذا قول كثير من السلف (1)، واختاره بعض المالكية (2)، وكثير من المحققين كابن جرير الطبري (3)، وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم (4)، والشوكاني والصنعاني (5)، ورجحه كثير من مشايخنا، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين وغيرهم.
القول الثاني: أنه يشترط لسجود الشكر ما يشترط لصلاة النافلة، وهذا
(1) تهذيب السنن 1/ 53.
(2)
المعيار المعرب 1/ 144، مواهب الجليل 2/ 62.
(3)
ينظر حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على الروض المربع 2/ 233 نقلا عن ابن جرير.
(4)
المحلى 1/ 80، مجموع الفتاوى 23/ 166، تهذيب السنن 1/ 53 - 56.
(5)
نيل الأوطار 3/ 129، سبل السلام 2/ 415.
هو مذهب الشافعية، وقال به أكثر الحنابلة، وبعض الحنفية (1)، وبعض المالكية (2).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: أن السجود المجرد كسجود التلاوة وسجود الشكر صلاة، لأنه سجود يقصد به التقرب إلى الله تعالى، له تحريم وتحليل، فشرط له شروط صلاة النافلة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (3)» ، وقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (4)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (5)»
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بعدم التسليم بأن السجود المجرد كسجود
(1) دور الإيضاح مع شرحه مراقي الفلاح ص 233.
(2)
المعيار المعرب 1/ 144، مواهب الجليل 2/ 64.
(3)
رواه عبد الرزاق (2539)، والإمام أحمد 1/ 123، 129، وأبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275)، والدارمي (687)، والبيهقي 2/ 173، 379، هـ أبو نعيم 8/ 372، والخطيب 10/ 117 عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد به عقيل عن محمد بن الحنفية عن أبيه فذكره، ورجاله ثقات، عدا عبد الله بن محمد بن عقيل هو "صدوق، وحديثه لين، ويقال: تغير بآخره " كما في التقريب، وصح هذا الإسناد الحافظ في الفتح 2/ 322، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 2/ 9. وللحديث طريق أخرى عن علي رضي الله عنه، أخرجها أبو نعيم في الحلية 7/ 124، وله شاهد رواه الترمذي (238)، وابن ماجه (276)، من طرق أحدها صحيح عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكره، وأبو سفيان "ضعيف" كما في التقريب. فالحديث بهذه الطرق حسن إن شاء الله.
(4)
رواه مسلم 3/ 104.
(5)
رواه مسلم 3/ 102.
التلاوة وسجود الشكر صلاة، لأنه لم يرد في الشرع تسميته صلاة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن له اصطفافا ولا تقدم إمام كما سن ذلك في سائر الصلوات، ولا يسلم أيضا بأن السجود المجرد له تحريم لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يسلم بأن له تحليل، لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف (1).
وكون السجود جزءا من الصلاة لا يدل على أنه صلاة، لأن التكبير والتسبيح وغيرهما مما يفعل في الصلاة من أجزاء الصلاة، ولم يقل أحد بأنه يشترط لها شروط الصلاة من الطهارة وغيرها (2).
الدليل الثاني: أنه سجود يفعل على وجه القربة، فشرط فيه الطهارة، قياسا على سجود التلاوة (3).
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن يقال: إن القول باشتراط الطهارة في الأصل المقيس عليه، الذي هو سجود التلاوة قول ضعيف، لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من المسلمين بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين، وأيضا فإن المشركين أنجاس لا يطهرهم الماء، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسجد على غير طهارة.
(1) سيأتي الكلام عن هاتين المسألتين بشيء من التفصيل في المبحث الرابع.
(2)
المحلى 1/ 80، مجموع فتاوى ابن تيمية 23/ 169 - 171 تهذيب السنن 1/ 55.
(3)
المعيار المعرب 1/ 144.
وقد أيد أصحاب القول الأول ما ذهبوا إليه من عدم وجوب الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة لسجود الشكر بأدلة وتعليلات أهمها:
الدليل الأول: أن اشتراط الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة لسجود الشكر يحتاج إلى دليل، وهو غير موجود، إذ لم يأت بإيجاب هذه الأمور لهذا السجود كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا يجوز أن نوجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحكاما لا دليل عليها.
الدليل الثاني: أن ظاهر حديث أبي بكرة وغيره من الأحاديث التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجود الشكر تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطهر لهذا السجود، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسره أو بشر به خر ساجدا، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد للشكر بمجرد وجود سببه سواء كان محدثا أم متطهرا، وهذا أيضا هو ظاهر فعل أصحابه رضي الله عنهم (1).
الدليل الثالث: أنه لو كانت الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة واجبة في سجود الشكر لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، لحاجتهم إلى ذلك، ومن الممتنع أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السجود ويسنه لأمته وتكون الطهارة أو غيرها شرطا فيه، ولا يسنها ولا يأمر بها صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولا يروى عنه في ذلك حرف واحد (2).
الدليل الرابع: قياس سجود الشكر على سجود التلاوة، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تطهر لسجود التلاوة، ولم ينقل أنه أمر بذلك، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، ولم ينقل أنه أمر أحدا من المسلمين الذين سجدوا معه بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين، ولم ينقل أنه أنكر على أحد من المشركين سجوده معه، مع أن
(1) المعيار المعرب 1/ 145، تهذيب سنن أبي داود 1/ 55.
(2)
تهذيب السنن 1/ 55.
المشرك نجس ولا يطهره الماء.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في المجامع، فإذا مر بالسجدة سجد وسجدوا معه حتى لا يجد أحدهم مكانا لجبهته، ومن البعيد جدا أن يكونوا كلهم إذ ذاك على وضوء، فمن المعلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضئ وغيره (1)، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسجد على غير طهارة (2).
الدليل الخامس: أن سبب سجود الشكر يأتي فجأة وقد يكون من يريد السجود على غير طهارة، وفي تأخير السجود بعد وجود سببه حتى يتوضأ أو يغتسل زوال لسر المعنى الذي شرع السجود من أجله.
الدليل السادس: أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن السحرة أنهم سجدوا لما آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام، مع أنهم غير متوضئين، ولم ينكر عليهم جل وعلا هذا العمل، وقد ورد أيضا في شرعنا ما يماثله، ومن ذلك ما روي من قصة المشركين الذين أسلموا فاعتصموا بالسجود، ولم يقبل منهم ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه فقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر لهم بنصف الدية، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا السجود مع أنهم لم يتوضئوا، ولم
(1) تهذيب سنن أبي داود 1/ 54.
(2)
صحيح البخاري مع الفتح 2/ 553، 554، مصنف ابن أبي شيبة 2/ 14.
يكونوا يعرفون الوضوء، وهذا يدل على أن السجود المجرد لا تشترط له الطهارة وغيرها من شروط الصلاة (1).
الدليل السابع: أن هذه الشروط من الطهارة وغيرها إنما تشترط للصلاة، ومما يدل على ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج من الخلاء، فأتي بطعام، فذكروا له الوضوء، فقال: أريد أن أصلي فأتوضأ؟ (2)» ومن المعلوم أن سجود الشكر ليس له صلاة، لأنه لم يرد في الشرع تسميته صلاة، ولأنه ليس بركعة ولا ركعتين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن له تكبيرا ولا سلاما ولا اصطفافا ولا تقدم إمام كما سن ذلك في صلاة الجنازة وسجدتي السهو بعد السلام وسائر الصلوات، فلا يشترط لسجود الشكر ما يشترط للصلاة.
الدليل الثامن: قياس السجود المجرد على سائر الأذكار التي تفعل في الصلاة وتشرع خارجها كقراءة القرآن التي هي أفضل أجزاء الصلاة وأقوالها وكالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، فكما أن هذه الأمور لا تشترط لها الطهارة إذا فعلت خارج الصلاة مع أنها كلها من أجزاء الصلاة فكذلك السجود المجرد (3).
(1) مجموع الفتاوى 23/ 166 - 168، تهذيب السنن 1/ 54، 55.
(2)
رواه مسلم 4/ 69.
(3)
المحلى 1/ 80، مجموع الفتاوى 21/ 284، 285، تهذيب السنن 1/ 54، 55.