الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في أهداف الوقف وحكمة مشروعيته
يطلق فقهاء المسلمين (الحكمة من الشيء) ويريدون بذلك ما يسمى في الاصطلاح الحديث (الهدف من الشيء) والهدف من الشيء هو السبب المبين لمصلحة ومزية الشيء المراد.
الوقوف على حكمة الشيء من دواعي القناعة والاطمئنان إلى صحته وأهمية ما يحصل بسببه من منافع. وقبل أن نقف على أهداف الوقف والحكمة منه ينبغي لنا أن نتصور الأمور التالية:
1 -
أن الإسلام دين شامل لكل ما يعود بالنفع على الإنسان سواء في أمور دينه أو دنياه.
2 -
أن ذلك الشمول يتمشى مع متطلبات المرء بما يحقق له العزة والكرامة في الدارين.
3 -
أن أحكام الإسلام جاءت متفقة مع حاجته سليمة من كل عيب أو نقص يخل بها عند تطبيقها لأنها كلها جاءت من عند الحكيم العليم الذي يعلم بحكمته ما يصلح له وما لا يصلح فأرشده إلى ما فيه الخير كل الخير، وحذره عما فيه الشر.
4 -
أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العبد سواء في أمور دينه أو في مصالحه الدنيوية التي يتمتع بها في حياته ويستعين بها على تأدية ما وجب عليه تجاه خالقه ومنشئه.
5 -
أن الإنسان مهما أوتي من ذكاء وفطنة ودراية فأحكامه عبارة عن نظريات قابلة للصواب والخطأ غير ملائمة لكل المجتمعات، وعلى هذا فكل ما وضعه من حلول لمشاكل المجتمع فإنه ينطبق عليه هذا الوصف.
فكل هذه الأمور مجتمعة تجعلنا نجد أن في الوقف الذي أقره الشرع
الحنيف تحقيقا لكثير من المصالح الدينية التي تعود على الموقف في الآخرة كما أن فيه معالجة حقيقية لكثير من احتياجات المجتمع الدنيوية التي لا غنى له عنها فإن المسلم مأمور وموعود، مأمور بالإنفاق للتوسعة على من هو في حاجة من العباد ولرفع الضيق والحرج والمشقة عنهم، ولتهيئة سبل الراحة والطمأنينة للمسلمين، وموعود مقابل ذلك بالأجر الجزيل من الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد رغب في البذل والإنفاق في كثير من الآيات في القرآن الكريم. قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1) وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (2). وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3).
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث على التصدق وفعل المعروف وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (4)» .
وهناك آيات وأحاديث كثيرة حثت على التصدق والبذل والإنفاق في وجوه البر والإحسان، ولسنا في صدد حصرها ولكن يكفينا ما ذكرناه لإظهار ترغيب الشريعة الإسلامية بهذا الأمر.
والإنسان حبب إليه تملك المال وجمعه والحرص عليه وأقرت الشريعة الإسلامية الملكية الفردية بعد أن جعلت لها قواعد معينة لكي تتلاءم تلك الملكية مع الواقع الفعلي لبنى البشر بما يحفظ لكل حقه من غير ظلم لأحد على
(1) سورة آل عمران الآية 92
(2)
سورة البقرة الآية 245
(3)
سورة البقرة الآية 261
(4)
صحيح مسلم الوصية (1631)، سنن الترمذي الأحكام (1376)، سنن النسائي الوصايا (3651)، سنن أبو داود الوصايا (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 372)، سنن الدارمي المقدمة (559).
حساب الآخر لأن الناس متفاوتون في الإمكانات والقدرات، فمنهم من تتهيأ له الظروف فينال نصيبا وافرا من المال بسبب ما يسره الله له.
وصنف آخر قل نصيبه أو عدم لسبب آخر قد يكون مرجعه عوامل طبيعية كقلة الموارد، وقد يكون مرجعه الشخص نفسه وما جبله الله عليه من قدرة وطاقة، أو لعاهة فيه ابتلي بها ومنعته من القيام على أمور نفسه كالآخرين. ولهذا نجد أن الإسلام حافظ على الملكية الفردية وجعلها حقا من حقوق المرء ولكنه مقابل ذلك لم يترك الفئة الأخرى التي قدر لها عدم المقدرة على تحصيل المال. فجعل لتلك الفئة نصيبا مما في أيدي أصحاب الأموال لكي يحصل التوازن بين بني البشر وتظهر حكمة الله وعدله بين خلقه. فجاء ضمان هذا الحق لتلك الفئة بأسلوبين:
أحدهما: إلزامي وهو الحق المتمثل في الزكاة الواجبة على أصحاب الأموال لتلك الفئة، ولسنا بصدد الحديث عنها، الثاني: أسلوب تطوعي رغب الإسلام به وحث عليه وهو أنواع الصدقات الأخرى، والوقف نوع من أنواع الصدقات، وقد تركت الشريعة الإسلامية للمالكين سعة من أمرهم في أن يحققوا ما يرونه مناسبا من أوجه الإنفاق.
وإذا كان الدين الإسلامي لا يفرض هذا الأسلوب كما فرض الأسلوب الأول، فإنه بلا شك يحبذه ويستحسنه كما يستحسن سائر أعمال البر الأخرى.
فقد أمر الإسلام بكل ما يقوي عرى الصلة والتراحم بين المسلمين ويحقق التكافل فيما بينهم، وحض على التعاون والتكاتف في كل سبل الخير والبر والمعروف، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1).
ودعوة الإسلام إلى التعاون فيما بين المجموعة لا يترتب عليه مردود عكسي على الترابط الخاص فيما بين الأقارب والأسر بل إن الإسلام دعا إلى مراعاة ذلك وقدمه على الترابط العام بين المسلمين قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2).
(1) سورة المائدة الآية 2
(2)
سورة الأنفال الآية 75