الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة:
قولنا: هذه السورة تعدل نصف القرآن أو ثلثه أو ربعه يحتمل أنها تعدله في أجر قراءته، ويحتمل أنها تعدله في اقتسام مضمونه، وقد أشرنا إلى الاحتمالين جميعا، والله عز وجل أعلم بالصواب (1)
(1) ينظر فتح الباري 9/ 61.
فصل:
وردت السنة ب
تأكيد أمر القلاقل: وهي سورة الكافرون والإخلاص والفلق والناس
، وبتأكيد أمر المعوذات: وهي الثلاث الأخر، وقد تكلمنا على الأولين فلنتكلم على الآخرين.
وإنما سميت هذه المعوذات بكسر الواو لأن الله عز وجل أنزلهما معوذات لنبيه عليه الصلاة والسلام حين سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وليعوذ بها أمته، وإن كان لسورة الإخلاص سبب آخر (1)، والكلام في نكت:
إحداهن: لما كانت الصفات تابعة للذات، كان اسم الذات مقدما على الصفات، وسورة الإخلاص مشتملة على اسم الذات، فلذلك قد قدمت في التعوذ على سورة الفلق والناس لاشتمالهما على أسماء الصفات نحو: رب الفلق ورب الناس ملك الناس.
الثانية: معنى (أعوذ) ألجأ وألوذ {بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) يعني فلق الصبح، من قوله عز وجل:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} (3) وقول عائشة: «كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (4)» وأضاف نفسه عز وجل إلى الفلق لأنه من أعظم الآيات، ولذلك أقسم به في قوله عز وجل:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (5) ويقال: فلق الصبح وفرق الصبح وقد قال عز وجل: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} (6) فأتى
(1) ينظر القرطبي 20/ 251، والدر المنثور 6/ 417.
(2)
سورة الفلق الآية 1
(3)
سورة الأنعام الآية 96
(4)
البخاري- بدء الوحي 3 - 1/ 22، ومسلم الإيمان 73 - 1/ 139.
(5)
سورة التكوير الآية 18
(6)
سورة الشعراء الآية 63
بمادة "فلق " و "فرق " فهما بمعنى. وقوله عز وجل: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1) هذا عام يتناول كل ما سوى الله عز وجل، لأنه خلقه. قوله عز وجل:{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (2) إلى آخر السورة هو من باب عطف الخاص على العام، لأن (الغاسق) و (النفاثات) و (الحاسد) من جملة ما خلق الله عز وجل. وإنما اختصت هذه بالذكر بعد العموم لأن متعلقاتها مهمة جدا، وذلك لأن قوام الإنسان ببدنه وعقله ودينه وباقي نعم الله عز وجل عليه. والغاسق إذا وقب: قيل: هو الثعبان إذا وثب وضرب، وهو يفسد البدن. والنفاثات: السحارات، والسحر مفسد للعقل، لأن الإنسان إذا سحر غلب خياله على عقله فعاد يخيل له ما لا وجود له في الخارج، وهو مفسد للبدن أيضا، ولذلك وجب القود بالقتل به عند جماعة من أهل العلم (3) والحاسد يفسد النعمة بالسعي في زوالها ببدنه ونفسه. ومن جملة النعمة الدين الحق، وقد يسعى الإنسان في إفساد الدين حسدا، كما حكى الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم كانوا يفعلون ذلك حسدا بالمسلمين، حتى قال عز وجل:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (4){وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} (5) الآية. وإن قيل: إن الغاسق هو القمر، فإن له- فيما يقال- تأثيرا في الأجسام الأرضية. كتقطيع الثياب الكتان، وتمديد الزروع، ودوران المد والجزر معه في بعض البحار، فلعل له تأثيرات أخرى فيها شرور.
وإن قيل: إن الغاسق هو الفرج - على ما قيل- فشره ظاهر، وأكثر شرور العالم من جهته.
وإن قيل: هو الليل، فإن الشر فيه ظاهر مزعج. وأما ظهوره فلانتشار
(1) سورة الفلق الآية 2
(2)
سورة الفلق الآية 3
(3)
ينظر تفسير القرطبي 2/ 47، وفتح الباري 10/ 224.
(4)
سورة البقرة الآية 109
(5)
سورة آل عمران الآية 69
الهوام والشياطين فيه من الجن والإنس وغير ذلك. وأما إزعاجه فلأنه يلقى الإنسان نائما أو ساكنا فيكون له من الروع ما ليس له في النهار.
الثالثة: قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (1){مَلِكِ النَّاسِ} (2){إِلَهِ النَّاسِ} (3) الرب والملك والإله مترتبة في العموم والخصوص، فالرب أعمها، لأنه قد يكون ملكا وقد لا يكون، وكذلك الملك قد يكون إلها وهو الله عز وجل وحده، وقد لا يكون. وأضاف الله عز وجل نفسه إلى الناس لأنهم من أشراف العالم، كما كان الفلق من أعظم الآيات، فإذا تعوذ الإنسان بإله الناس امتنع الشيطان من الإقدام عليه امتناعا اختياريا واضطراريا لعظمة من تعوذ به، وهذا موجود في عرف الناس.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} (4) أي الذي يوسوس كما بين بعد. والوسوسة في الأصل: الحركة والاضطراب، قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
…
كما يناب بريح عشرق زجل (5)
ووسوسة الشيطان حركة روحانية خفية يلقيها الشيطان إلى نفس الإنسان بواسطة جريانه منه مجرى الدم، أو كما يشاء الله عز وجل:{الْخَنَّاسِ} (6) الذي يوسوس تارة ويخنس: أي يميل ويسكن تارة. ويقال: إن الشيطان خاتم على قلب ابن آدم، فإذا غفل عن الذكر وسوس الشيطان (7)، فإذا ذكر الله عز وجل خنس: أي مال وسكت عن الوسوسة، ومنه {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} (8) {الْجَوَارِ الْكُنَّّسِ} (9) يعني النجوم تجري في أفلاكها ثم تخنس: أي تميل للغروب أو تجري في أفلاك استقامتها ثم تميل في أفلاك تداويرها، ونحوها من أحوال رجوعها.
قوله عز وجل: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (10) يحتمل
(1) سورة الناس الآية 1
(2)
سورة الناس الآية 2
(3)
سورة الناس الآية 3
(4)
سورة الناس الآية 4
(5)
ديوان الأعشى ص 55 والعشرق: شجر صغير له حب إذا جف وحركه الريح سمع له صوت. والزجل: الصوت العالي.
(6)
سورة الناس الآية 4
(7)
الطبري 30/ 229، والدر المنثور 6/ 420.
(8)
سورة التكوير الآية 15
(9)
سورة التكوير الآية 16
(10)
سورة الناس الآية 5
هذا وجهين: أحدهما أن يكون المعنى الذي يوقع الوسوسة في صدور الناس، فيكون ذلك أعم من أن يكون هو في الصدور أو خارجا عنها، الثاني: أن يكون المعنى: الذي يوسوس كائنا أو مستقرا في صدور الناس، فيكون محل الجار والمجرور نصبا على الحال، وهو أوفق للسنة الصحيحة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1)»
واعلم أن الوسوسة على القلب، وإنما يعبر عنه بالصدر لأنه محل القلب كما عبر عن العقل بالقلب لأنه محله في قوله عز وجل:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (2) وقوله عز وجل: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (3) هذا بيان لخنس الخناس وتقسيم له إلى نوعين الجنة والناس، أي من شر الوسواس الخناس الذي هو من الجنة والناس، وهذا نص قوله عز وجل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (4) وهو معنى قولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} (5) في بعض الأقوال والله عز وجل أعلم بالصواب.
(1) البخاري- الاعتكاف- باب 8 - 4/ 278، ومسلم- السلام- باب 9 - 4/ 1712.
(2)
سورة ق الآية 37
(3)
سورة الناس الآية 6
(4)
سورة الأنعام الآية 112
(5)
سورة الأنعام الآية 128