الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الشوكاني: في نيل الأوطار (6: 26)(وقد ذهب إلى جواز الوقف ولزومه جمهور العلماء، قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين).
وقال في موضع آخر: (6: 24)(ويدل عليه إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايا).
فهذه النقول تدل على إجماع الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم على الوقف وصحته وأنه مشروع بل مندوب إليه.
ثانيا:
أدلة الفريق الثاني. وهم القائلون بجواز الوقف في السلاح والكراع فقط
.
1 -
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (1)» .
ورد الاستدلال بهذا الحديث بأن ذلك لا يعني منع الوقف في غير السلاح والكراع كما أنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه الوقف في غير السلاح والكراع على ما سبق في أدلة الجمهور كما في رواية عمرو بن الحارث المتقدمة في (1/ 2) من أدلة الجمهور وكما في رواية عائشة المتقدمة في (4/ 2) من أدلة الجمهور فوجب الأخذ بها.
2 -
ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6: 250) وابن حزم في المحلى (10: 174) من طريق ابن فضيل عن مطرف عن رجل عن القاسم قال: قال عبد الله بن مسعود: (لا حبس إلا في كراع أو سلاح).
ورد الاستدلال به: بأنه لم يثبت ذلك عنه، وأن تلك الرواية باطلة لسببين:
(1) أخرجه البخاري في الجهاد (3/ 1064) رقم (2748)، وفي الخمس (3/ 1127) رقم (2927) وفي المغازي (4/ 479) رقم (3809)، وفي التفسير (4/ 1852) رقم (4603)، وفي النفقات (5/ 5049) رقم (5043)، وفي الفرائض (6/ 2475) رقم (3647)، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة (6/ 2664)، رقم (6875) ومسلم في الجهاد (3/ 1376)، رقم (1757)، وأبو داود في الإمارة (3/ 141)، رقم (2960)، والترمذي في والجهاد (3/ 131)، رقم (1773)، والنسائي في الفيء، (7/ 132) وأحمد في المسند (1/ 25 - 48).
1 -
أنها عن رجل لم يسم.
2 -
أن والد القاسم ناقل الرواية لا يحفظ عن أبيه فقد مات أبوه وهو ابن ست سنين فكيف بولده (1) وعلى فرض صحته فلا يقابل ذلك ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 -
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (6: 250) قال: حدثنا هشيم عن إسماعيل بن خالد عن الشعبي قال: قال علي لا حبس عن فرائض الله إلا ما كان من سلاح أو كراع.
وهذا مردود بمخالفته الواقع وفعل علي رضي الله عنه فإن وقفه (ينبع) مشهور وقد تقدم في أدلة الجمهور.
ويمكن أن يقال: إنه قصد أن الأفضل أن يكون الوقف في السلاح والكراع، ولا يمتنع فيما سواه.
ثالثا: أدلة الفريق الثالث: وهم القائلون بمنع الوقف مطلقا هي:
1 -
استدلوا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (2) المائدة 103.
فقد عاب الله سبحانه وتعالى على العرب ما كانت تفعله، من تسييب البهائم وحمايتها عن الانتفاع بها والوقف مثل ذلك.
ورد الاحتجاج بالآية: بأن الله سبحانه وتعالى إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله وإزالة المصلحة للعباد في تلك الإبل ونحوها. وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والوقوف لأنه إنما قصد بها نفع العباد (3).
ثم إن الوقف غرضه الانتفاع بمنافعه من قبل الموقوف عليهم على عكس إهدار المنافع فيما ذكر في الآية الكريمة.
(1) انظر المحلى (10/ 174)
(2)
سورة المائدة الآية 103
(3)
راجع تفسير القرطبي (3/ 338 - 339).
2 -
ورد هذا الحديث بما قاله البيهقي بعد روايته للحديث حيث قال: (هذا مرسل)، وعلى فرض صحته فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطله بسبب أنه جميع ما يملك، وليس لأحد أن يضر بنفسه وبمن يعول بسبب الوقف.
قال ابن قدامة: في المغني (5/ 599) في معرض الرد على الحديث: (وحديث عبد الله بن زيد إن ثبت فليس فيه ذكر الوقف والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوفة استناب فيها رسول صلى الله عليه وسلم فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما، ويحتمل أن الحائط كان لهما وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة فتصرف بهذا التصرف بغير إذنهما فلم ينفذاه فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده إليهما).
وقال ابن حزم في المحلى (10/ 179) بعد ذكره الحديث: (لا حجة لهم فيه لوجوه): أولها: أنه منقطع، والثاني: أن فيه أنه قوام عيشهم وليس لأحد أن يتصدق بقوام عيشه بل هو مفسوخ إن فعله).
3 -
روى الدارقطني (4: 68) قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أخبرنا كامل بن طلحة أخبرنا ابن لهيعة أخبرنا عيسى بن لهيعة عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزلت سورة النساء، وفرض فيها الفرائض يقول:«لا حبس بعد سورة النساء (2)» .
(1) أخرجه الدارقطني من عدة طرق في الأحباس (4/ 200 - 201). وابن حزم في المحلى (10/ 178) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 163) من طريق أبي بكر بن حزم عن عبد الله زيد بن عبد ربه. وقال: (هذا مرسل، أبو بكر بن حزم لم يدرك عبد الله بن زيد. وروي من أوجه أخر عن عبد الله بن زيد كلهن مراسيل).
(2)
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 97) وابن حزم في المحلى (10/ 178) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 162). كلهم من طريق ابن لهيعة عن عيسى بن لهيعة وهما ضعيفان.
وهو ضعيف بل قال ابن حزم: في المحلى (10: 178) بأنه حديث موضوع.
وبيان تقرير وضعه: أن آية المواريث أو بعضها نزلت بعد أحد وحبس الصحابة بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر أي بعد نزول آية المواريث وهذا متواتر.
ولو صح الخبر لكان منسوخا لاستمرار الحبس بعلمه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات.
4 -
وروى الدارقطني أيضا (4: 68) عن ابن عباس قال قال: صلى الله عليه وسلم «لا حبس عن فرائض الله عز وجل (1)»
وهو ضعيف أيضا وبمثل ما قيل في الذي قبله يقال فيه.
وعلى فرض صحته فليس فيه ما يؤيد دعواهم لأن الوقف ليس حبسا عن فرائض الله، وإنما هو تصرف في العين حال الحياة كما يتصرف في الصدقة والهبة ونحو ذلك. ولأن معناه إبطال ما كان سائدا في الجاهلية من حبس الأموال والنساء، وتسييب السيب ونحو ذلك.
قال أبو الطيب: في التعليق المغني على الدارقطني (4: 68)(وكأنه أشار إلى فعلهم في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حبسوهن عن الأزواج لأن أولياء الميت أولى بهن عندهم).
وقال الطرابلسي في كتاب الإسعاف في أحكام الأوقاف (ص: 13) (وأما الجواب على قوله صلى الله عليه وسلم «لا حبس عن فرائض الله» فنقول: إنه محمول على أنه لا يمنع أصحاب الفرائض عن فروضهم التي قدرها الله لهم في سورة النساء بعد الموت بدليل نسخها لما كانوا عليه من حرمانهم الإناث قبل نزولها وتوريثهم بالمواخاة والموالاة مع وجودهن.
(1) وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى (6/ 162) وقال لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه وهما ضعيفان. وقال: (هذا اللفظ إنما يعرف من قول شريح القاضي)
5 -
قول شريح القاضي (جاء محمد ببيع الحبس) وهو دليل على إبطال الوقف.
ورد الاستدلال به من وجوه:
أحدها: أنه منقطع فلا تقوم به حجة بل الصواب عكسه فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات الحبس وإقرارها كما تقدم في وقف عمر رضي الله عنه.
الثاني: أنه خلاف الواقع فلم يكن الوقف يعرف في الجاهلية بصفته بعد النبوة بل هو تشريع إسلامي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء بالصلاة والصيام وباقي التشريعات.
الثالث: أنه محمول على حبس الجاهلية وما كانوا يحبسونه من السوائب والبحائر والحوامي وما أشبهها فنزل القرآن الكريم بإحلال ما كانوا يحرمون منها وإطلاق ما حبسوا بغير أمر الله.
نقل الذهبي أن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: (حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول: اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المؤمنين فتكلموا في الوقوف وما يحبسه الناس فقال يعقوب: هذا باطل).
قال شريح جاء محمد بإطلاق الحبس فقال مالك: إنما أطلق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة وأما الوقوف: فهذا وقف عمر قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «حبس أصلها وسبل ثمرتها (1)» وهذا وقف الزبير فأعجب الخليفة ذلك منه) (2).
وقال الطرابلسي في كتاب الإسعاف قي أحكام الأوقاف (ص: 14)(قول شريح جاء محمد ببيع الحبس) محمول على حبس الكفرة مثل البحيرة والوصيلة والسائبة والحام).
(1) صحيح البخاري الوصايا (2764)، صحيح مسلم الوصية (1633)، سنن الترمذي الأحكام (1375)، سنن النسائي الأحباس (3603)، سنن أبو داود الوصايا (2878)، سنن ابن ماجه الأحكام (2397)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 55).
(2)
انظر سير أعلام النبلاء (8/ 11).
6 -
وروى عطاء بن السائب قال: أتيت شريحا في زمن بشير بن مروان، وهو يومئذ قاض فقلت يا أبا أمية أفتني فقال: يا ابن أخي إنما أنا قاض ولست بمفت قال: فقلت إني والله ما جئت أريد خصومة. إن رجلا من الحي جعل داره حبسا قال عطاء: فدخل من الباب الذي في المسجد في المقصورة فسمعته حين دخل وتبعته وهو يقول لحبيب الذي يقدم الخصوم إليه (أخبر أنه لا حبس عن فرائض الله)(1).
وقد سبق الجواب على الرواية المذكورة بهذا اللفظ عن ابن عباس. قال ابن حزم: في المحلى (10: 177) بعد أن ساق قول شريح هذا:
(وأما قوله (لا حبس عن فرائض الله) فقول فاسد، لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة، والصدقة في الحياة والوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة عما لو لم تكن فيه لورثوه على فرائض الله عز وجل، فيجب بهذا القول إبطال كل هبة وكل وصية لأنها مانعة من فرائض الله تعالى بالمواريث).
اعتراض وجوابه:
قال المانعون: يحتمل أن تكون أوقاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل نزول آية المواريث. وأن ما كان بعد ذلك يحتمل أن ورثتهم أمضوه بالإجازة.
وهذا مردود من وجوه:
الأول: أنه بالرجوع إلى نزول آية المواريث نجد أنها نزلت في أوس بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فقد مات فجاء ابنا عمه وأخذا الميراث ولم يتركا لامرأته وأولاده شيئا كما هي عادة أهل الجاهلية.
فتشكتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله هذه الآية.
وذكر القرطبي في تفسيره (5: 58) بعض الروايات في سبب نزول هذه الآية غالبها قريبة من قصة أوس بن ثابت.
(1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 99). والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 162) واللفظ له.
وأوس قتل في أحد وأحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة النبوية ووقف النبي صلى الله عليه وسلم ووقف عمر كان في خيبر وقد كان فتحها سنة سبع من الهجرة النبوية الشريفة (1).
فنتبين من هذا أن نزول آية المواريث كان قبل وقف النبي صلى الله عليه وسلم ووقف عمر رضي الله عنه فانتفي ما قالوه.
الثاني: قولهم يحتمل أن ورثتهم أجازوه مردود بأن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم تركوا بعد وفاتهم أبناء لهم صغارا فلو كان الحبس غير جائز لما حل ترك أنصباء الصغار تمضي حبسا. انظر: المحلي لابن حزم (10 - 185).
ولو علم الصحابة أن الوقف لا ينفذ إلا بالإجازة من قبل الورثة. لأخرجوا الوقف مخرج الوصية، ولم يتصرفوا بالغلة حال حياتهم ولكنهم علموا صحة الوقف فعملوا به.
الخلاصة:
مما تقدم يتبين أن الراجح والله أعلم الذي يؤيده الدليل ويعضده النص هو جواز الوقف على وجه الاستحباب عملا بما هو صريح اللفظ متواتر المعنى وحملا للمحتمل عليه وتوفيقا بين الأدلة.
قال ابن قدامة: في المغني: (5: 597)(والوقف مستحب). وقال البهوتي في كشاف القناع (4/ 267): (وهو مسنون لقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (2) ولفعله صلى الله عليه وسلم.
فعلم من ذلك أن القول بصحة الوقف هو القول الصائب إن شاء الله تعالى، ولم يزل المسلمون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا يوقفون الوقوف. ولو لم يكن في الأمر إلا وقف عمر بن الخطاب لكفى دليلا على جوازه فإنه قد وقع منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
(1) انظر البداية والنهاية (4/ 204).
(2)
سورة الحج الآية 77