الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشكر تشهد أو سلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، إذ لو فعله لنقل، لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله للحاجة إلى ذلك، والله أعلم.
المبحث الخامس: سجود الشكر في أثناء الصلاة:
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: السجود عند قراءة سجدة (ص) في أثناء الصلاة:
قبل أن نذكر حكم السجود عند قراءة سجدة (ص) في أثناء الصلاة، يحسن أن نمهد لذلك ببيان حكم هذه السجدة هل هي سجدة شكر أم سجدة تلاوة؟
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنها سجدة شكر، فيسجد المسلم شكرا لله على النعمة التي أنعم الله بها على نبيه داود عليه السلام، بقبول توبته ومغفرة ذنوبه، والوعد بالزلفى وحسن المآب، والتلاوة سبب لتذكر ذلك.
بهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه، اختارها أكثر أصحابه (1)، وقال به أكثر الشافعية (2).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في (ص) ثم قال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكرا (3)» .
الدليل الثاني: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «"ص" ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها (4)» .
(1) الروايتين 1/ 144، المستوعب 2/ 656، (طبع استنسل) الإنصاف 2/ 196.
(2)
المجموع 2/ 61، شرح الوجيز 4/ 186.
(3)
سبق تخريجه
(4)
صحيح البخاري، حديث (1069)
الدليل الثالث: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص) وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، فسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد وسجدوا (1)»
القول الثاني: أنها سجدة تلاوة، وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه (2)، والإمام أبو حنيفة وأصحابه (3)، وهو مذهب المالكية.
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول: استدلوا بجميع الأحاديث التي روي فيها «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) (4)»
(1) رواه أبو داود (1410)، والدارمي (1466)، وابن حبان كما في موارد الظمآن (689)، والحاكم 2/ 431، والبيهقي في سننه الكبرى 2/ 318، وفي الصغرى (863)، والدارقطني 1/ 408 من طريقين أحدهما صحيح عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد به، ورجاله ثقات، عدا سعيد بن أبي هلال، فقد قال فيه الحافظ في التقريب:"صدوق، لم أر لابن حزم في تضعيفه سلفا، إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط"، وقد أخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقال البيهقي:"هذا حديث حسن الإسناد صحيح "، وقال النووي في المجموع 4/ 61:"رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري". ورواه ابن حبان كما في موارد الظمآن (690) عن ابن مسلم حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عياض .. فذكره. وقد صحح هذا الحديث أيضا الرملي في نهاية المحتاج 2/ 93، والقسطلاني في إرشاد الساري 2/ 282، والشربيني في مغني المحتاج 1/ 215، وابن كثير في تفسيره 4/ 49، وحسنه الشيح عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على زاد المعاد 5/ 557، وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3/ 120:"رجال إسناده رجال الصحيح".
(2)
الروايتين والوجهين 1/ 143، شرح الزركشي 1/ 936، المستوعب 2/ 656 (طبع استنسل)، الإنصاف 2/ 196.
(3)
عمدة القاري 7/ 98، بدائع الصنائع 1/ 193، وانظر الحجة 1/ 109، 113، واللباب 1/ 314
(4)
سبق ذكر بعض هذه الأحاديث ضمن أدلة القول الأول. وروى البخاري (4807) من طريق العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان)، (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني 1/ 406، وأبو يعلى - كما في المقصد العلي ص416 - من طريق حفص بن غياث عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد في (ص)، ورجاله ثقات، عدا محمد بن عمرو - وهو الليثي - فهو "صدوق له أوهام" كما في التقريب، وحفص بن غياث تغير حفظه قليلا في الآخر كما في التقريب. وروى الإمام أحمد (كما في الفتح الرباني 4/ 182) من طريق يزيد، ثنا حميد، ثنا بكر أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب (ص) فلما بلغ سجدتها، قال: فرأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا، قال: فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد، ورجاله ثقات، لكن بكر وهو المزني تابعي، ولم يذكر أنه سمع الحديث من أبي سعيد، وقال الحافظ في التلخيص 2/ 10:"اختلف في وصله وإرساله". وله شاهد بنحوه من حديث ابن عباس رواه الترمذي (579)، (3424)، وابن ماجه (1053)، وابن حبان كما في الإحسان (2757)، وابن خزيمة (562، 563)، والحاكم 1/ 220، والعقيلي 1/ 242 من طريق الحسن بن محمد عن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس يقول فذكره. وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية 2/ 276، والحسن بن محمد "مقبول" كما في التقريب.
الدليل الثاني: ما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان (1)»
قالوا: فتبين بهذا الحديث أن في (ص) سجدة تلاوة (2).
الدليل الثالث: أن هذه السجدة مكتوبة في مصحف عثمان رضي الله عنه، فدل ذلك على أنها سجدة تلاوة (3).
(1) رواه أبو داود (1401)، وابن ماجه (1057)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة 2/ 527، والحاكم 1/ 223، والبيهقي 2/ 316، والدارقطني 1/ 408، والمزي في تهذيب الكمال لوحة 745 من طريق الحارث بن سعيد عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص فذكره، وإسناده ضعيف، الحارث بن سعد "مقبول " كما في التقريب 1/ 140، ولم يتابع، وقال الحافظ في التلخيص 2/ 9:"حسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق وابن القطان، وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول .. ".
(2)
اللباب 1/ 315، وانظر المبدع 2/ 30.
(3)
اللباب 1/ 314
ويمكن مناقشة هذه الأدلة بأنها لا تفيد أن هذه السجدة سجدة تلاوة، وإنما تدل على مشروعية السجود عند قراءتها فقط، فيكون السجود فيها سجود شكر، كما هو صريح في حديث ابن عباس (1)، وأيضا فإن في إسناد حديث عمرو بن العاص ضعفا كما سبق.
والصحيح في هذه المسألة هو القول الأول، لقوة أدلته، وكونها نصا في محل النزاع، لا سيما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولأن في هذا القول جمعا بين الأدلة، والجمع بين الأدلة أولى من قبول بعضها ورد بعضها، والله أعلم.
أما حكم السجود عند قراءة هذه الآية في أثناء الصلاة: فعلى القول بأنها سجدة تلاوة يستحب السجود عند قراءتها.
أما على القول بأنها سجدة شكر، وهو القول الصحيح كما سبق، فقد اختلف أصحاب هذا القول في جواز السجود في هذه الحال على قولين:
القول الأول: أنه يجوز السجود عند قراءتها في أثناء الصلاة، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية (2)، ووجه في مذهب الحنابلة (3).
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما رواه أبو رافع رحمه الله قال: "صليت مع عمر الصبح فقرأ بـ (ص) فسجد فيها".
القول الثاني: أنه لا يجوز السجود بها في أثناء الصلاة، وهذا القول هو
(1) المغني 2/ 355، شرح الزركشي 1/ 636، وقد سبق ذكر حديث ابن عباس قريبا.
(2)
المجموع 1/ 68، روضة الطالبين 1/ 335، نهاية المحتاج 2/ 95.
(3)
شرح الزركشي 2/ 636.