الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على نعمه كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على خلقه كلهم، ما علمنا منهم وما لم نعلم، ولقد كان فضل الله علينا عظيما.
هذه رسالة نترجمها بـ "
إيضاح البيان عن معنى أم القرآن
"، ونتبعه (1) فوائد أخر.
والكلام على ذلك في فصول:
(1) الضمير يعود على " الإيضاح ".
أحدها: بيان حقيقة لفظ "الأم " و" القرآن ":
أما الأم فيقال: هي أصل الشيء، فمنه أم الإنسان، لأنها أصله الذي خرج منه، ومكة أم القرى لأنها أصل القرى، لما ذكر من أنها دحيت من تحتها (1)، فيقال إن الأرض كانت رابية حيث هي مكة، ثم بسطت من هناك قال الله عز وجل:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (2). {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} (3). {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (4). وأشباه ذلك. ويقال للأرض أم البشر، لأنها أصله، منها خلق، ومنه قوله عز وجل:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (5)، {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} (6). وفي شعر أمية:
والأرض منشأنا ، وكانت أمنا
…
منها حقيقتنا ، وفيها نولد (7)
وكذا قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (8) أي يلازم الهاوية ملازمة الطفل أمه التي هي أصله. وقيل: هذا من قولهم: هوت أمه، دعاء عليه (9)، ولعل أصله أن يتنكس على أم رأسه.
(1) ينظر الطبري 1/ 37، والقرطبي 1/ 112، والمفردات- أم.
(2)
سورة النازعات الآية 30
(3)
سورة الذاريات الآية 48
(4)
سورة نوح الآية 19
(5)
سورة نوح الآية 17
(6)
سورة ص الآية 71
(7)
في القرطبي 1/ 112، 20/ 167 فالأرض معقلنا .. وفيه ديوان أمية 28 فالأرض معقلنا .... .
(8)
سورة القارعة الآية 9
(9)
ينظر مجمع الأمثال 2/ 390
ويقول النحاة "إن " الشرطية هي أم الباب، و "إلا" أم الباب في الاستثناء، يعني أصله الذي هو أكثر دورانا. وكذلك: روميه أم الروم: أي أصل بلادها التي ترجع إليها ويعتمد عليها {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} (1)، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) يعني أصله الذي نقل منه، وهو اللوح المحفوظ (3).
فأم الكتاب يستعمل بمعنيين: أحدهما هذا- لما ذكر. والثاني: الفاتحة لما نذكر إن شاء الله عز وجل من أنها متضمنة لكليات القرآن إجمالا.
وأما القرآن فالمراد به الكلام الإلهي الجامع النازل على محمد صلى الله عليه وسلم، مشتق من القرء: وهو الجمع، لجمعه ما ذكرنا. ومادة "قرأ" إلى هذا ترجع
(1) سورة الزخرف الآية 4
(2)
سورة الرعد الآية 39
(3)
ينظر القرطبي 1/ 111، 9/ 31 والدر المنثور.
الفصل الثاني:
اعلم أن الكلام من حيث هو على ضربين: مجمل، ومبين مفضل، والضربان متفاوتان في المراتب، فبعض المجمل أشد إجمالا من بعض، وبعض المبين أشد بيانا من بعض، حتى ينتهي المجمل إلى غاية الإجمال، والمبين إلى غاية البيان، وسبب الإجمال تارة قصور المتكلم عن البيان، وتارة قوة إدراك السامع بحيث يفهم بأدنى إشارة، فيتكل المتكلم على ذلك، فيقتصر على الإجمال. وتارة الأمران: قصور المتكلم وقوة السامع، فلا يبالي المتكلم- كان قاصرا عن البيان أو قادرا عليه، وتارة يعلق المصلحة بالإجمال من إخفاء سر أو امتحان سامع بإدراك معنى خفي، وغير ذلك من الأسباب.
وسبب البيان تارة فصاحة المتكلم وبلاغته، وتارة ضعف فهم السامع، فيحرص المتكلم على إفهامه، وتارة الأمران جميعا، وتارة اهتمام المتكلم بمعنى
الكلام، فيحرص على إظهاره في بعض مراتب البيان وغير ذلك من الأسباب.
ومن أمثلة تفاوت مراتب البيان قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (1) الآيات، فإنه عز وجل أمرهم أولا بذبح بقرة وهي مسمى مطلق في غاية الإجمال، ثم بين لهم أنها {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (2) ثم بين لهم أنها {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} (3) ثم بين لهم أنها {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} (4) فكان ذلك غاية البيان لهم، فحينئذ قالوا:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (5).
ومن أمثلة ذلك أن الله عز وجل بين مواقيت الصلاة في كتابه بقوله عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (6) الآية ثم بقوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (7){وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (8) ثم بقوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (9){وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (10) وبقوله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (11) الآيات.
وهي متفاوتة في البيان على ترتيبها الذي ذكرناه. ثم جاءت السنة في رتبة ثانية من البيان، كحديث ابن عباس وجابر وبريدة وغير هذا. ثم جاء كلام الفقهاء في رتبة ثالثة من البيان، فهي في غايته. ثم إن كتب الفقهاء
(1) سورة البقرة الآية 67
(2)
سورة البقرة الآية 68
(3)
سورة البقرة الآية 69
(4)
سورة البقرة الآية 71
(5)
سورة البقرة الآية 71
(6)
سورة الروم الآية 17
(7)
سورة الطور الآية 48
(8)
سورة الطور الآية 49
(9)
سورة ق الآية 39
(10)
سورة طه الآية 130
(11)
سورة الإسراء الآية 78
متفاوتة في البيان، فبعضها أبين في ذلك من بعض، ولكن جملتها بلغت غاية البيان.
ومن أمثلة ذلك قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (1) فهذا إشارة إلى قصتهم إجمالا، ثم استقصى بيانها في باقي السورة.
وكذلك قوله عز وجل: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُُونَ} (2) فهو إشارة إلى قصتهما إجمالا، ثم استقصى بيانها في سياق السيرة.
وكذلك قصص جماعة من الأمم مع أنبيائها، أجملها عز وجل في مكان كسورة " الذاريات "، وبينها في مكان كسورة " الأعراف" و " الشعراء " و " هود" وبعضها أبين من بعض بيانا مطلقا، أو من وجه، ولهذا يستفاد من ذلك في بعض السور ما لا يستفاد من بعض، ثم استقصى القصاص بيان ذلك، مثل وهب والكسائي، والثعلبي، وأجودها كتاب وثيمة بن موسى بن
(1) سورة يوسف الآية 7
(2)
سورة القصص الآية 3
الفرات، وأبلغ من ذلك بيانا معاينة قصصهم لمن عاينها عند وقوعها. وإذا نظرت في كتابنا المسمى بـ "الرياض النواضر في الأشباه والنظائر"(1) لاحت لك بارقة كبيرة من البيان ومراتبه إن شاء الله عز وجل.
(1) ذكره ابن رجب في الذيل 2/ 367، وحاجي خليفة في كشف الظنون 1/ 938
الفصل الثالث:
إذا عرفت ما قدمناه من مراتب فاعلم أن القرآن في مراتب بيانه على ذلك: فالفاتحة التي هي أم القرآن مشتملة على مقاصده الكلية من حيث الإجمال، ثم باقي القرآن يبين ذلك في رتبة ثانية من البيان، ثم السنة بينته في رتبة ثالثة من البيان، لأنها بيان القرآن، لقوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) ثم العيان في الدنيا والآخرة بينه في رتبة رابعة، وهي غاية البيان، إذ لا أبين من العيان، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} (2)، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} (3)، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (4)، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (5)، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} (6) الآيات ونحوها.
ولنشرح ذلك على وجه يظهر، وذلك من وجوه:
أحدها: أن القرآن مشتمل على مقاصد الإيمان، وهي التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما ثبت ذلك في حديث جبريل في الحديث الصحيح، وهذا هو مقصود القرآن بالذات، ولذلك سمى إيمانا في قوله عز وجل:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (7) يعني بالقرآن فيما قاله بعضهم. وهذه المقاصد كلها مشار إليها في الفاتحة:
(1) سورة النحل الآية 44
(2)
سورة الأعراف الآية 53
(3)
سورة الأنعام الآية 158
(4)
سورة الزمر الآية 47
(5)
سورة يس الآية 63
(6)
سورة الأحقاف الآية 34
(7)
سورة المائدة الآية 5
أما الإيمان بالله ففي قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فإن إيجاب الحمد لله عز وجل يقتضي أنه موجود مستحق له.
وأما الإيمان بالملائكة فهو في ضمن قوله عز وجل: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) إذ العالمون من سوى الله عز وجل، ومنهم الملائكة، وأيضا في ضمن قوله عز وجل:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (3) ومن جملة المنعم عليهم ذوي الصراط المستقيم الملائكة، لقوله عز وجل في صفتهم:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (4) وهذا هو مقصود الصراط المستقيم.
وأما الإيمان بالكتب فقد تضمنه قوله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) وهو القرآن في أحد الأقوال (6)، وهي متلازمة: فالقرآن مراد على تجميعها قصدا أو التزاما، وسؤال الهداية يستلزم الإيمان به، إذ من لا يؤمن بشيء لا يسأل الهداية إليه، والإيمان به يستلزم الإيمان بجميع كتب الله عز وجل، لأنه موافق مصدق لها، آمر بالإيمان بها.
وأما الإيمان بالرسل: فقد تضمنه قوله عز وجل: {رَبِّ ابْنِ} (7) إذ هم صفوة العالمين، وأبين منه قوله عز وجل:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (8) لأن الرسل صفوة المنعم عليهم. وقد بين الله عز وجل ذلك في قوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (9) الآية. فبدأ بهم: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} (10)، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} (11)، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (12) الآيات ونحوها.
(1) سورة الفاتحة الآية 2
(2)
سورة الفاتحة الآية 2
(3)
سورة الفاتحة الآية 7
(4)
سورة التحريم الآية 6
(5)
سورة الفاتحة الآية 6
(6)
ينظر الطبري 1/ 57، والدر المنشور 1/ 15.
(7)
سورة التحريم الآية 11
(8)
سورة الفاتحة الآية 7
(9)
سورة مريم الآية 58
(10)
سورة الزخرف الآية 59
(11)
سورة النمل الآية 19
(12)
سورة يوسف الآية 6
وأما الإيمان باليوم الآخر ففي قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) يعني يوم الحساب والجزاء، وحين يدان الناس بأعمالهم: أي يجزون.
وأما الإيمان بالقدر ففي قوله عز وجل: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2){اهْدِنَا الصِّرَاطَ} (3) إذ فيه بيان أن الإعانة على عبادته منه، والاستعانة به والهداية إليه، وإلى الأول الإشارة بقوله عز وجل:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (4)، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (5) ونحوها، وإلى الثاني الإشارة بقوله عز وجل:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} (6) ونحوها من الآيات المثبتة للقدر.
فأما ما في القرآن من القصص وأخبار الأولين والآخرين فهو خارج مخرج التكملة للمقاصد المذكورة، وربما تضمنه قوله عز وجل:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (7) إلى آخر السورة، لأن المخبر عنهم في القرآن لا يخرجون عن أن يكونوا منعما عليهم، أو مغضوبا عليهم، أو مهتدين، أو ضالين، فهذا وجه.
والوجه الثاني أن القرآن مشتمل على الوعد والوعيد، والحلال والحرام، وغيرهما من الأحكام والقصص والأخبار: أما الوعد ففي ضمن قوله عز وجل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (8) وقوله عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (9) والوعد فيه ظاهر لاشتماله على صفتي الرحمة والإنعام. وأما الوعيد ففي قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (10) إذ فيه إشارة إلى أنه عز وجل مالك يوم الحساب والجزاء، فيجازي كلا بفعله:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (11)، وأيضا قوله عز وجل:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (12) لأن صفتي الغضب والضلال تقتضيان ترتب الوعيد عليهما.
(1) سورة الفاتحة الآية 4
(2)
سورة الفاتحة الآية 5
(3)
سورة الفاتحة الآية 6
(4)
سورة الليل الآية 7
(5)
سورة الصافات الآية 96
(6)
سورة الأعراف الآية 178
(7)
سورة الفاتحة الآية 7
(8)
سورة الفاتحة الآية 3
(9)
سورة الفاتحة الآية 7
(10)
سورة الفاتحة الآية 4
(11)
سورة الانفطار الآية 19
(12)
سورة الفاتحة الآية 7
وأما الحلال والحرام ونحوهما من الأحكام ففي قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) إذ المراد بالدين الجزاء المستلزم للتكليف بأحكام الأفعال المجازى عليها من إيجاب وحظر وكراهة وندب. وكذا قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (2) فصرح بلفظ التعبد الذي هو من التكليف الموجب لوجود الأحكام على المكلفين.
وأما القصص والأخبار ففي قوله عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (3) إلى آخر السورة. ويقرره ما مر في الوجه قبله من أن المخبر عنهم إما منعم عليه أو مغضوب عليه، أو مهتد أو ضال. وما كان من الأخبار المعاديد، ففي قوله عز وجل:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) وهي مذكورة في كتاب "العاقبة" وكتاب البعث والنشور وغيرها من كتب السنة.
الوجه الثالث: أن القرآن لا يخرج عن أن يكون ثناء على الله عز وجل أو عبادة له سبحانه وتعالى، والفاتحة أولها ثناء وآخرها عبادة، أعني دعاء إليها. والعبادة تارة تكون بالدعاء نحو " اهدنا " وهو مخ العبادة كما صح به الحديث، ودل عليه قوله عز وجل:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (5) الآية. وتارة بغير الدعاء نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6)
فهذه ثلاثة أوجه في بيان اشتمال الفاتحة على مقاصد القرآن من حيث الإجمال، وربما أمكن استخراج غيرها عند إمعان النظر، لكني لم أستقصه وإنما أوردت ما ظهر.
(1) سورة الفاتحة الآية 4
(2)
سورة الفاتحة الآية 5
(3)
سورة الفاتحة الآية 7
(4)
سورة الفاتحة الآية 4
(5)
سورة غافر الآية 60
(6)
سورة الفاتحة الآية 5
خاتمة:
تسمى هذه السورة "الحمد" تسمية لها بأول لفظ منها، و " الفاتحة " لافتتاح القرآن بها، و "أم القرآن " و " الكتاب " لما ذكرنا، و "السبع المثاني والقرآن العظيم " بالكتاب ونص السنة في حديث أبي بن كعب. . وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة: أي يتكرر ذكرها. وقيل: لأنها نزلت مرتين بمكة والمدينة.
وتسمى الواقية والشافية لأنها تقي وتشفي من اتقى واستشفى بها. والرقية لقوله -عليه الصلاة السلام- لأبي سعيد لما رقى بها اللديغ: «وما أدراك أنها رقية (1)» ، ولعل لها أسماء غير ما ذكرنا، والذي استحضرناه الآن هو هذا، والله عز وجل أعلم بالصواب.
(1) البخاري- كتاب الطب باب 33 - 10/ 198.
فصل:
وردت السنة بأن قراءة إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقراءة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقراءة قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن، وهذا يشبه كلامنا المذكور على الفاتحة، والكلام عليه في فصول:
أحدها: أنه لا يمتنع ترتب الأجر الكثير على العمل اليسير لأسباب: منها نفاسة العمل في نفسه، كالكتابة المحررة الجيدة التي يساوي السطر منهما دينارا، كما يحكي عن بعض الكتاب أنه كان إذا سئل الصدقة كتب للسائل سطرا فيبيعه بدينار. ومنها عظم مصلحة العمل، كحركة هندسية يصلح بها
قرص ببناء عظيم، أو يجري بها ماء إلى أرض، أو سقف بها اعوجاج في أمر ونحو ذلك ومنها كرم من له العمل، مثل أن يسقط سوط الملك من يده، فيناوله إياه بعض العامة، فيعطيه على ذلك مالا جزيلا. ويروى عن الشافعي رضي الله عنه أن سوطه سقط من يده، فناوله إياه بعض العامة، فقال الشافعي لغلامه: أعطه ما معك من النفقة، فكان خمسين دينارا، وقال: لو كان معنا غيرها لأعطيناه (1)، وذلك لكرمه وسعة مروءته- رضي الله عنه. وقد يتجه غير ذلك من الأسباب.
وإذا عرف ذلك فلا يبعد أن يعطي الله عز وجل قارئ سورة "الزلزلة" أجر قارئ نصف القرآن ببعض هذه الأسباب خصوصا وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن بعض القرآن أعظم وأفضل من بعض، كما ثبت أن الفاتحة أعظم السور، وآية الكرسي أعظم الآيات (2) فقد تختص هذه السورة بخصائص يعلمها الشرع تقتضي أن يرتب على قراءتها من الأجر ذلك، كما اختص بعض الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال بخواص اختصت لأجلها بما ليس لغيرها من جنسها، وذلك كأشخاص الأنبياء والأولياء ظهر على أيديهم من المعجزات والخوارق ما لم يظهر على أيدي غيرهم من الأشخاص، وكما اختص رمضان والأشهر الحرم ويوم الجمعة وليلة القدر ويوم عرفة وعاشوراء ونحوها من الأزمنة بخصائصها المشهورة شرعا، وكما اختص المسجد الحرام بأن صلاة الفرض فيه أفضل منها في غيره وبسائر خصائصه.
واختص المساجد الثلاثة بشد الرحال إليها، وتضاعف الصلاة فيها على غيرها، ونحو ذلك. وكما اختص حال الجهاد بتضاعف أجر الصوم فيها، كما جاء في الحديث:«من صام يوما في سبيل الله باعده الله عن النار سبعين خريفا (3)»
(1) في مناقب الشافعي للبيهقي 2/ 221 أنه أعطاه تسعة دنانير أو سبعة، وفي السير 10/ 37 سبعة.
(2)
ينظر البخاري الوكالة- باب- 10 - 4/ 487، وجمال القراء 1/ 55 - 57.
(3)
سنن النسائي- الصوم 4/ 174.
الفصل الثاني:
ينبغي لمن تلا هذه السور الثلاث منفردة، أو في جملة القرآن، بادئا من أوله أو من آخره في غير الصلاة أن يكرر سورة "الزلزلة" مرتين، وسورة " الإخلاص " ثلاثا، وسورة " الكافرون " أربعا ليستكمل بذلك ثلاث ختمات، أما في الصلاة ففي تكرار السورة خلاف مشهور، وتفصيل بين الفرض والنفل. وينبغي لمن كرر هذه السور أن يكرر البسملة في أول كل سورة بعدد قراءتها مرات، لاحتمال كونها آية من كل سورة.
الفصل الثالث (1):
في ذكر ما ظهر لي من مناسبة اختصاص هذه السور بما ذكر، أما توجيه أن " الزلزلة" تعدل نصف القرآن فلأن القرآن لا يخرج عن تقرير أمر معاش الناس ومعادهم.
وهذه السورة اختصت بذكر أمر المعاد من زلزلة الأرض عند قيام الساعة، وإخراج أثقالها وهم الموتى، إشارة إلى البعث. وتحديث أخبارها، وصدور الناس عنها أشتاتا كأنهم جراد منتشر، ورؤية كل عامل ما عمل من خير أو شر، فلم تتضمن شيئا غير ذكر المعاد. فلما اختصت بجنس نصف مضمون القرآن جاز أن يقال: إنها تعدل نصف القرآن، وصار هذا كما قيل:"إن الفرائض نصف العلم " كما كان للإنسان حالتا حياة وموت، وعلم الفرائض هو العلم المتعلق بإحدى حالتيه وهو الموت، سمي نصف العلم.
وأما توجيه أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن فلأن القرآن باعتبار قسمة أخرى لا يخرج عن تقرير التوحيد والنبوة وأحكام اليوم الآخر. وهذه السورة اختصت بتقرير التوحيد. وذكره، لم يذكر فيها غيره، فكانت
(1) في الأصل (الفصل الأول).
بهذا الاعتبار تعدل ثلث القرآن، لاشتمالها على ثلث مضمونه وهو التوحيد.
وهذه القسمة لا تخالف ما ذكرناه من تضمن القرآن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لأن تقرير النبوة يتضمن إثبات الملائكة والكتب والرسل، لاستلزام النبوة نبيا يتلقى الوحي عن الله عز وجل بواسطة الملك.
وأما توجيه أن قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن، فلأن الخطاب في القرآن إما للمؤمنين أو للكفار، والمؤمنون ضربان: أحدهما مؤمن بالكتاب الأول، فخوطب بالإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن، كقوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) يعني: يا أيها الذي آمنوا بالكتاب الأول آمنوا بمحمد والقرآن. الضرب الثاني: مؤمن بالكتاب الأول والآخر، وهم هذه الأمة، خوطبوا بتكميل الإيمان من فعل العبادات ونحوها من الفروع نحو:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} (2)، {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3) وأشباه ذلك.
والكفار أيضا ضربان: ضرب يخاطب بالدعاء إلى الإيمان نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (4){قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (5) ونحو ذلك.
وضرب يخاطب بالتبرؤ مما هو عليه نحو: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (6){لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (7) إلى آخرها. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم بأنه متبرئ منهم ومما يعبدون، فكانت هذه السورة ربع القرآن بهذا الاعتبار.
(1) سورة النساء الآية 136
(2)
سورة الجمعة الآية 9
(3)
سورة البقرة الآية 282
(4)
سورة البقرة الآية 21
(5)
سورة الأنفال الآية 38
(6)
سورة الكافرون الآية 1
(7)
سورة الكافرون الآية 2