الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والراجح عندي: والله أعلم، أن طواف الإفاضة أول وقته الثلث الأخير ليلة يوم العيد بعد غياب القمر؛ لثبوت إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله وبعض نسائه بالانصراف من مزدلفة، ولحديث أم سلمة وفيه:«ثم مضت فأفاضت (1)» . ولكن الأفضل لوقته بعد طلوع الشمس، وأما آخره فلا حد له، وأما إيجاب الدم فالأصل عدمه حتى يرد الشرع به. والله أعلم.
(1) سنن أبو داود المناسك (1942).
ثالثا: حكم طواف الوداع:
المغادر لمكة المكرمة لا يخرج عن أن يكون أحد ثلاثة:
1 -
أن يغادرها بعد أداء مناسك الحج.
2 -
أن يغادرها بعد أداء مناسك العمرة.
3 -
أن يغادرها من لم يكن حاجا ولا معتمرا.
وقد اختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من يقول: طواف الوداع واجب مستقل يجب على كل خارج من مكة، ومنهم من قال: يجب على الحاج دون المعتمر، فقال أكثر أهل العلم:(طواف الوداع في الحج واجب، يجب بتركه دم)، وممن قال بهذا القول: الحسن البصري، والحكم، وحماد، والثوري وإسحاق وأبو ثور (1) وبه قال أبو حنيفة (2) وأصح القولين عند الشافعية، وهو المذهب (3)، وأحمد
(1) المجموع 8/ 284.
(2)
بدائع الصنائع 3/ 1131.
(3)
المجموع 8/ 254، 284.
ابن حنبل (1).
وقال مالك: طواف الوداع سنة لا شيء في تركه (2)، وهو القول الثاني عند الشافعية، وبه قال داود وابن المنذر (3).
أما إذا غادر مكة من فرغ من مناسك العمرة فقد اختلف العلماء في حكم طواف الوداع عليه.
فقال الجمهور من العلماء، وهم الحنفية (4) والمالكية (5)، وقول للشافعية (6). وأحد القولين عند الحنابلة (7):(طواف الوداع للمعتمر مستحب، وليس واجبا، فمن فعله فقد أحسن، ومن تركه لا شيء عليه).
وقال بعض العلماء من الشافعية (8) والحنابلة (9) بوجوب طواف الوداع على المعتمر. وهؤلاء العلماء هم الذين قالوا: (إن طواف الوداع نسك مستقل يجب على كل من أراد الخروج من مكة: حاجا، أو معتمرا، أو غير حاج
(1) المغني والشرح الكبير 3/ 469، كشاف القناع 2/ 513.
(2)
المدونة 1/ 501، المنتقى للباجي 2/ 294، أضواء البيان 5/ 214.
(3)
المجموع 8/ 284.
(4)
حاشية ابن عابدين 2/ 525.
(5)
مواهب الجليل 3/ 137.
(6)
مغني المحتاج 1/ 511.
(7)
حاشية ابن قاسم على الروض المربع 4/ 203.
(8)
نهاية المحتاج 3/ 306، 307، مغني المحتاج 1/ 512.
(9)
الروض الندي ص192، حاشية ابن قاسم على الروض المربع 4/ 203.
ولا معتمر؛ لأن طواف الوداع ليس من مناسك الحج والعمرة).
أما المرأة الحائض والنفساء فقد ذهب العلماء كافة إلى سقوط طواف الوداع عنهما في حج أو عمرة أو غيرهما. وقد حكى ابن المنذر عن عمر وابن عمر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروا الحائض والنفساء بالانتظار في مكة حتى تطهر ثم تطوف للوداع (1). وقد استدلوا بحديث عائشة - رضي - «أن صفية بنت حيي - زوج النبي - حاضت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذا (2)» وحديث «ابن عباس رضي الله عنهما قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت (3)» .
فهذان الحديثان يدلان على سقوط طواف الوداع عن الحائض، وهذا يرد على من ألزمها البقاء حتى تطهر ثم تطوف للوداع.
وقد استدل من أوجب طواف الوداع في الحج بما يلي:
1 -
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض (4)» .
2 -
ما رواه ابن عباس أيضا قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» قال
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 79.
(2)
صحيح البخاري بشرح فتح الباري 3/ 586 - حديث رقم (1757).
(3)
صحيح البخاري بشرح فتح الباري 3/ 586، حديث رقم (1760).
(4)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/ 585 حديث رقم (1755) باب (144).
زهير: (ينصرفون كل وجه، ولم يقل: في)(1).
فهذا الحديث بروايتيه يدل على وجوب طواف الوداع للأمر به، والأمر يدل على الوجوب، وزاد الوجوب تأكيدا استثناء الحائض من الإتيان به؛ لأن الاستثناء لا يكون إلا من أمر مؤكد.
أدلة من لم ير طواف الوداع واجبا:
استدل بما يلي:
1 -
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض في ترك طواف الوداع، ولم يوجب عليها دما، وهذا دليل على عدم وجوب طواف الوداع؛ لأنه لو كان واجبا لأمرها بجبره بدم، ولكنه لم يأمرها بشيء، فدل ذلك على أنه سنة ولا شيء على من تركه.
2 -
قياسا على طواف القدوم، فإن طواف القدوم، وطواف الوداع يأتي بهما الأفقي دون المكي، وما هو من الواجبات فالأفقي والمكي فيه سواء، فدل سقوط طواف الوداع عن المكي أنه سنة، وليس واجبا ولا شيء على من تركه.
أما من قال بوجوب طواف الوداع على كل خارج من مكة: حاجا، أو معتمرا، أو غيرهما فقد استدل بعمومات الأحاديث السابقة عن ابن عباس.
ويظهر لي أن هذا القول فيه حرج ومشقة لو ألزمنا كل خارج من مكة بطواف الوداع. لكن عموم الأحاديث مخصص بحج أو عمرة، والله أعلم.
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 79.
الترجيح
والذي يترجح عندي هو: القول بأن طواف الوداع واجب في الحج لقوة أدلة من قال بذلك، فإنه قد اجتمع فيه ثلاثة أمور تدل على وجوبه:
أولها: أنه مأمور به بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت (1)» ، وهذا الحديث له حكم الرفع، وهو حديث صحيح متفق عليه، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع.
ثانيها: أنه منهي عن تركه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:. . . «لا ينفرن (2)» . وهو دليل على منع الخروج من مكة دون وداع، وهو ظاهر في وجوب طواف الوداع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (3)» .
ثالثها: أنه رخص للحائض ونحوها في تركه، ولا تكون الرخصة إلا مقابل عزيمه، فدل ذلك على وجوبه، وإن لم يطف للوداع جبره بدم كواجبات الحج الأخرى.
أما قياس طواف الوداع على طواف القدوم في إتيان الأفقي بهما دون المكي فهو قياس مع الفارق؛ لأن المكي والأفقي سواء في واجبات الحج إذا كانت العلة مشتركة، وهاهنا ليست العلة مشتركة؛ لأن علة هذا الطواف التوديع للخارج من مكة وهو: الأفقي، وليست هذه العلة موجودة في المكي فافترقا.
وأما الاستدلال بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض على عدم وجوبه فهو استدلال
(1) صحيح البخاري الحج (1755)، صحيح مسلم الحج (1328)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1934).
(2)
صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 101.
في غير محله، بل أنه يدل على الوجوب، كما ورد به منطوق النص صريحا.
أما طواف الوداع للعمرة فالأحوط والأولى أن يؤتى به ولا ينبغي التساهل فيه والتقليل من شأنه، خروجا من خلاف من أوجبه، لكن إن منعه زحام شديد؛ كزحام ليلة سبع وعشرين من رمضان أو كان له عذر ظاهر فلا شيء عليه؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وإنما الأحاديث التي وردت بالأمر به في الحج، والعمرة تخالف الحج في الأركان والواجبات. ولم يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب طواف الوداع في عمره التي اعتمرها.
ويرد على الذين ألزموا الحائض المقام في مكة حتى تطهر ثم تطوف للوداع بما ورد من أحاديث تقدمت لا تلزم الحائض بطواف الوداع، وإذا ثبت إلزامهم لها بالبقاء حتى تطوف للوداع فيظهر لي أنهم استحبوا بقاءها ولم يروه ملزما؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم نص في محل النزاع، ولا اجتهاد مع وجود نص. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله نقلا عن ابن المنذر ثبوت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، قال ابن حجر:(وبقي عمر فخالفناه؛ لثبوت حديث عائشة)(1).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3/ 587.