الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأفتى ودرس وهو دون العشرين) (1).
(1) الأعلام للزركلي 1/ 144.
مكانته العلمية:
نشأ ابن تيمية، ومخايل الذكاء، وسيماء النجابة بادية عليه منذ حداثة سنه، وأعانه الله على حب العلم؛ لأنه ترعرع في بيت علم، فختم القرآن صغيرا، ثم أقبل على الفقه والحديث، وقد أعجب به شيوخه في قوة الحافظة والنباهة، ولقد وصفه كل من ترجم لحياته بصفات تدل على مكانته العلمية، حيث جمع كثيرا من العلوم، وتبحر فيها، فهو مفسر وفقيه، وهو أصولي ومحدث، وهو ماهر في الحوار والجدل، وهو مفحم للفلاسفة في جداله معهم؛ لسعة مداركه في علم المنطق.
وكبرهان على ما منحه الله من حافظة نادرة، فقد روي أن أول كتاب حفظه في الحديث وهو لا يزال صغيرا، كتاب (الجمع بين الصحيحين) للحميدي، كما قال الشيخ الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر.
وعلى مشاهير عصره - في جميع الفنون - تتلمذ ابن تيمية، حيث قال ابن قدامة حسبما قال الإمام مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى عام 1033 هـ، في كتابه:(الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد ابن تيمية): وشيوخ ابن تيمية الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، وسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته: معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ ونسخ وانتقى، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ في العربية، وأخذ بكامل كتاب سيبويه حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالا كليا، حتى حاز قصب السبق، وأحكم أصول الفقه، وغير ذلك.
هذا كله وهو - بعد - ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط
ذكائه وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه (1).
كما قال عنه ابن عبد الهادي: (لا أعلم أحدا من متقدمي الأئمة ولا متأخريها، جمع مثلما جمع ابن تيمية، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبا من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب)(2).
وقد أثنى على منزلته البزار - المتوفى عام 749 هـ- أي بعد وفاة ابن تيمية بواحد وعشرين سنة - الذي عاصره، وعرفه عن كثب، فنافح عنه في كتابه:(الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) وأعطاه ما يستحق من العرفان بمكانته، والتقدير لعلمه وفضله، وكان مما قاله عنه: وقل كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، وكان الله قد خصه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء، أو يستمع لشيء غالبا، إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.
فإنه لم يكن له مستعارا، بل كان له شعارا ودثارا، لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة، والنقد والقدم الراسخ في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة، حتى اتفق كل ذي عقل سليم، أنه ممن عنى نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله:«إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3)» ، فلقد أحيا الله به ما كان قد درس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين.
أما غزارة علومه فمنها:
ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه الغاية التي
(1) الكواكب الدرية، ص 54.
(2)
الإمام ابن تيمية، لعبد السلام حافظ، ص 6.
(3)
رواه أبو داود في السنن، باب: الملاحم، وفيه: من يجدد لها دينها
ينتهى إليها، والنهاية التي يعول عليها.
ولقد كان إذا قرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم، يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برمته، وهو في تفسير بعض آية منها.
ولقد أملى في تفسير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1)، مجلدا كبيرا وقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) نحو خمس وثلاثين كراسة، ولقد بلغني أنه شرع في جمع تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلدا.
أما معرفته وبصره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقواله وأفعاله وقضاياه، ووقائعه وغزواته، وسراياه وبعوثه، وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم، وفتاويهم وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة، فإنه كان رحمه الله، من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارا لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثا في مصنف أو فتوى، أو استشهد به، أو استدل به، إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح، أو الحسن أو غيرهما، وذكر اسم راويه من الصحابة، وقل أن يسأل عن أثر إلا وبين في الحال حاله، وحال أمره وذكره.
ومنها: ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم، وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل، وما روي عن كل منهم، من راجح ومرجوح، ومقبول ومردود، في كل زمان ومكان، وبصره الصحيح الثاقب الصائب للحق مما قالوه ونقلوه، وعزوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك، كأن جميع المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء فيه، من الأولين والآخرين، متصور مسطور بإزائه، يقول منه ما شاء
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2)
سورة طه الآية 5
الله، ويذر ما يشاء، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه، أو وقف على شيء من علمه، ممن لم يغطي عقله الجهل والهوى (1).
أما الواسطي المعروف بابن شيخ الحزاميين المتوفى عام 711 هـ، فإنه كان من أسرة صوفية متوغلة في الضلالة، وأبوه شيخ طائفة كبيرة، ولكنه قد عرف العقيدة الصحيحة؛ لتأثره بابن تيمية تلمذة وقراءة لكتبه، ومتابعة لحالته، وقد ألف كتابا سماه:(التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار، في الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية، والوصاية به)، فقال بعد أن أوضح حال زمانه، وما فيه من المنكرات: ومن العجب أن كلا منهم يدعي أنه على دين الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كشف الله لنا، ولكم بواسطة هذا الرجل - ابن تيمية - عن حقيقة دينه، الذي أنزله من السماء، وارتضاه لعباده.
واعلموا أن في آفاق الدنيا أقواما يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدع حقيقة الإسلام، فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا.
فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بين لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، وهم بالشام إن شاء الله تعالى.
ثم إذا علمتم ذلك، فاعرفوا حق هذا الرجل الذي هو بين أظهركم وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره، فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وسلم من قلبه بموقع يستحقه، عرف حق ما قام به هذا
(1) انظر الأعلام العلية، ص 22 - 25.
الرجل بين أظهر عباد الله، يقوم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم جهد إمكانه، في هذا الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف.
فشيخكم - أيدكم الله تعالى - عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية، فالله الله في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حرماته في الغيب والشهادة، وحب من أحبه، ومجانبة من أبغضه وتنقصه، ورد غيبته، والانتصار له في الحق.
واعلموا - رحمكم الله - أن هنا من سافر إلى الأقاليم - يعني نفسه - وعرف الناس وأذواقهم، وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله، ثم والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم - يعني ابن تيمية - علما، وعملا، وحالا وخلقا واتباعا وكرما، وحلما في حق نفسه، وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقدا وأصحهم علما، وعزما وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفا، وأكملهم اتباعا لنبيه صلى الله عليه وسلم (1).
وما ذلك إلا أن مكانة شيخ الإسلام ابن تيمية العلمية، كانت مثار الانبهار لمن عرفه عن كثب، أو تابع مجهوداته العلمية، أو المناظرات التي دارت بينه وبين مناوئيه، وإن ألف غرف من بحر المعرفة، وإن اتجه إلى موضوع أشبعه، وإن جابه علية المجتمع، كان ذلك الشجاع الذي يجهر بكلمة الحق، ولا يخشى في
(1) التذكرة والاعتبار ص 47 - 50.