الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوصايا العشر كما جاءت في سورة الأنعام
د / محمد بن أحمد الصالح
الحمد لله حمدا يليق بعظيم وجهه وجلال سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته.
وبعد. . فحديثنا اليوم عن الوصايا العشر، التي تضمنتها سورة الأنعام، قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1){وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2){وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3).
وهذه السورة التي أنزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم بمكة - فهي سورة مكية - كرس الحديث فيها عن قضية واحدة لا تتغير، لكن الأسلوب في
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2)
سورة الأنعام الآية 152
(3)
سورة الأنعام الآية 153
عرضها لا يتكرر، وهي قضية التوحيد، قضية العقيدة، وهي القضية الكبرى، وهي القاعدة الأساسية لهذا الدين، فالعقيدة هي المدخل للإسلام، وهي محوره والروح التي تسري فيه، وقد جاءت هذه العقيدة في سورة موجزة: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1){اللَّهُ الصَّمَدُ} (2){لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4).
فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا البناء العظيم، وهي الأصل والأساس، وعبادة الله هي البناء القائم على أساس العقيدة؛ لأن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيه، وفيما أمر به وما نهى عنه.
ولقد مضى على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما كاملة، في تقرير هذه القضية الكبرى، ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استقرت في الأذهان، واستوفت ما تستحقه من البيان.
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها، منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويعبدهم له دون سواه، وأن يرد السلطان كله إلى الله، فهو السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة،
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2)
سورة الإخلاص الآية 2
(3)
سورة الإخلاص الآية 3
(4)
سورة الإخلاص الآية 4
والسلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان.
ولنأت على ذكر نماذج من سورة الأنعام، التي عنيت بشأن العقيدة وتركيزها، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1){هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (2){وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (3).
وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4){قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (5).
وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6){وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (7).
(1) سورة الأنعام الآية 1
(2)
سورة الأنعام الآية 2
(3)
سورة الأنعام الآية 3
(4)
سورة الأنعام الآية 13
(5)
سورة الأنعام الآية 14
(6)
سورة الأنعام الآية 17
(7)
سورة الأنعام الآية 18
(8)
سورة الأنعام الآية 65
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1){فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2){وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3){وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (4).
وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (5){لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (6).
والآيات الثلاث التي تضمنت الوصايا العشر، حيث ختمت الآية الأولى بقوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (7) وختمت الآية الثانية بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (8) وختمت الآية الثالثة بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (9)
ولقد جاء التنويه بهذه الآيات، وبيان فضلها، وسمو منزلتها، وعلو قدرها، لما روى الحاكم، وقال: صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على ثلاث؟، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:، حتى فرغ من
(1) سورة الأنعام الآية 95
(2)
سورة الأنعام الآية 96
(3)
سورة الأنعام الآية 97
(4)
سورة الأنعام الآية 98
(5)
سورة الأنعام الآية 102
(6)
سورة الأنعام الآية 103
(7)
سورة الأنعام الآية 151
(8)
سورة الأنعام الآية 152
(9)
سورة الأنعام الآية 153
(10)
تفسير ابن كثير جـ 2 ص187.
الآيات، فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا، كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء عفا عنه (1)».
وبما أخرجه الترمذي في جامعه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه؛ فليقرأ هذه الآيات الثلاث (2).
وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: «لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى منى، وأنا وأبو بكر معه، فوقف صلى الله عليه وسلم على منازل القوم ومضاربهم، فسلم عليهم وردوا السلام، وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، وكان مفروق بن عمرو أغلب القوم لسانا، وأفصحهم بيانا، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إلام تدعو يا أخا قريش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تؤوني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسامعهم هذه الآيات الكريمة: إلخ الآيات، فقال له مفروق:
(1) سورة الأنعام الآية 151 (10){قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
(2)
جامع الترمذي جـ 5 رقم 3070، وقال:(حديث حسن غريب)
(3)
رواه الحاكم.
وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسامعهم قوله تعالى:، فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك (2)».
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث، وذلك هو تأثيرها في النفوس، وهذه الآيات أيضا تمثل نموذجا فريدا في التربية الحكيمة، التي يسعد به المجتمع، ويحيى في ظلها الأفراد في أمان واطمئنان، ومن يتأمل في هذه الآيات الكريمات؛ يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه، علاقة ينال بها السعادة في الدنيا والآخرة، ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والرحمة، وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض؛ لأن الإسلام يهدف إلى إيجاد جيل يدرك رسالته في هذه الحياة، إدراكا واعيا صحيحا مستنيرا، ويؤدي هذه الرسالة بقوة وأمانة، يدرك أن لله تعالى عليه حقوقا فيؤديها بإتقان وإخلاص، ويدرك أن لنفسه عليه حقوقا فيتعهدها بالتهذيب والمحاسبة والتقويم، ويدرك أن لمجتمعه عليه حقوقا، فيؤدي هذه الحقوق عن رضا وطواعية واختيار، بأمانة وكفاية ونشاط واستقامة، وبذلك تصل الأمم إلى
(1) سورة الأنعام الآية 151 (3){قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
(2)
سورة النحل الآية 90 (1){إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}