الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(منهاج السنة).
ومن هذا ندرك أنه رحمه الله مكتبة كاملة في فنون المعرفة، التي سخرها للدفاع عن دين الإسلام، والدعوة إليه، ومحاربة الشوائب التي يراد إدخالها عليه؛ عقيدة وعملا.
شجاعته في الحق:
اتصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوة القلب، ورباطة الجأش في كل موقف يمر به مع قوة إيمان، وحجة دامغة، مما نتج عنه شجاعة متناهية في سبيل عقيدة الإسلام، ومحاربة أعداء دين الله، وأهل البدع؛ بالبدن واللسان، وقوة الحجة.
وقد تحدث تلميذه البزار المتوفى عام 749هـ عن مظاهر عديدة من شجاعته في كتابه الذي خصه به، وسماه:(الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية)، ومما قاله: (كان رضي الله عنه، من أشجع الناس وأقواهم قلبا، ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبر غير واحد: أن الشيخ رحمه الله كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعا أو رقة أو جبانة، شجعه وثبته وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، وكان إذا ركب الخيل يتحنك (1)، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيرا أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.
وأخبرني من لا أتهمه: أن الشيخ رحمه الله حين وشي به إلى السلطان المعظم الملك الناصر محمد، أحضره بين يديه، قال: فكان من جملة كلامه: إنني
(1) التحنك هو: وضع العمامة تحت الذقن ولف طرفيها على الرأس.
أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث به، بل قال له بنفس مطمئنة، وقلب ثابت، وصوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسين، فتبسم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك إلي كاذب. واستقر له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل؛ من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان، ممن ظاهر حاله للطغام: العدالة، وباطنه: مشحون بالفسق والجهالة) (1) ومن قوته في الحق، وصدعه بالدعوة هدى الله قادة المغول للإسلام؛ لأن صدقه مع الله منحه الشجاعة والجهر بالحق، وجعل الله له بذلك القبول في القلوب.
وفي الدفاع عن دمشق، وفتح عكا، ومعركة شقحب وغيرها من المعارك، كان المثل النادر بالشجاعة والقوة، وإذا تفقد من معه فوجدهم ملتزمين بشرع الله، وحريصين على دينهم، كان يقول لهم:
سننتصر على الأعداء، فيقول له بعضهم: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا؛ لأن الله أمرنا بطاعته والاستعداد، فطعناه فيما أمر، واستعدينا لملاقاة العدو.
وفي حواره مع السلطان غازان - أحد ملوك التتار - لما ظهر على دمشق، ما يدل على قوة بأسه، وعدم خوفه من سطوته، وكان مما قاله حسبما ذكر الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى عام 1033هـ في كتابة:(الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية)، قال الشيخ ابن تيمية للترجمان: (قل للسلطان أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون - على ما بلغنا - فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما
(1) انظر (الأعلام العلية) الفصل الحادي عشر، ص 63 - 66، والفصل الثاني عشر ص 67، 68.
عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجرت. والسلطان من شدة ما أوقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة سأل: من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله، ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه. . . ثم خرج من بين يدي السلطان مكرما معززا بحسن نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين، فبلغه الله ما أراده، وكان أيضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهليهم) (1).
وقد ذكر عبد السلام حافظ عنه مواقف كثيرة في شجاعة القتال الميداني، والتصدي للتتار، وفي قوة العزم، ومحاربة كل دخيل على منهج الإسلام السليم: من عقائد ومفاسد، وضلال وغواية، إلى درء للمحرمات، ومقاومة مصادرها، ومن ذلك:
في يوم 17 رجب عام 699هـ نفذ الإمام عزمه على القضاء على آلات الشرب المحرم، فخرج بنفسه مع بعض رفاقه، يدورون على الحانات ومحال الخمور، يريقونها، ويكسرون آنيتها، بل ويعزرون أصحابها (2).
وفي شهر رجب سنة 704هـ قصد الإمام مسجد التاريخ، يرافقه نفر من أصحابه ومن الحجارين، حيث أمرهم بإزالة صخرة كانت تزار، وتنذر لها النذور بنهر (فلوط)، وعنها قال ابن كثير:(فقطعها - يعني ابن تيمية - وأراح الله المسلمين منها ومن الشرك).
وفي أوائل شهر محرم سنة 705هـ نراه يشارك أيضا في الحملة ضد فئات منحرفة تنكرت لبعض تعاليم الإسلام، ببلاد الجرد، والرفض، والتيامنة، وقد لحق به نائب السلطنة جمال الدين الأقرم في جنده المسلمين، فحاربوهم
(1) الكوكب الدرية، ص93، 94.
(2)
انظر كتابه: ابن تيمية ص 27.