الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى أعلنوا الطاعة وأنابوا إلى الهدى (1).
وهكذا لو تتبعنا مواقفه الجريئة، وحماسته للذود عن حياض الإسلام، لوجدناها بكثرتها تنبئ عن مواقف مشرفة في الدفاع عن حمى الإسلام من أن يتطاول عليه أحد، ويبرز منها ردود وافية على أصحاب المعتقدات المتطرفة، وأتباع المذاهب المخالفة لحقيقة الإسلام، وما تنطوي عليه شريعة هذا الدين، مما جعل له خصوما كثيرين، سواء من العامة أو من العلماء والفقهاء على اختلافهم، حيث كان ينقض ادعاءاتهم المريبة، ويعري مخالفاتهم لأصول الدين، ويرد بآراء قوية، لم يجرؤ مثله بالتصريح بها. وقد صدق الإمام مالك رحمه الله في قوله:(ما منا إلا راد ومردود عليه).
(1) الإمام ابن تيمية، لعبد السلام حافظ، ص 27.
ما تعرض له من بلاء:
لا شك أن هذه الشجاعة والجرأة في الحق، مع الحرص على التصدي لأمور كثيرة تفشت في البيئة الإسلامية، نتيجة الجهل والبعد عن المنهج السليم، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه، وتلقفه عنه أصحابه لينشروه في الآفاق، وعنهم أخذ السلف الصالح جيلا بعد جيل، هذا في بعض الجوانب المتعلقة بما أدخل على الدين نتيجة التقليد، والاستسلام لرغبات النفس، والانقياد للعلماء الذين يفتون بغير ما أنزل الله، حيث كان يخشاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، هذه الشجاعة والجرأة في الحق ما هي إلا هبة من الله لابن تيمية تبوأها بالصدق مع الله والنية المخلصة.
ولهذا فهو ينتصر على خصومه، ويظهره الله على كيد أعدائه، ثم يقابل أعمالهم بالصبر وقوة الاحتمال، فإذا قدر عفا وصفح، وقد حاول أعداؤه مرارا النيل منه، بل القضاء على حياته، ولكن حينما تمكن منهم عفا عنهم وقال: أما أنا فهم في حل من حقي، ومن جهتي، وكان القاضي زين الدين ابن مخلوف -
قاضي المالكية - يقول بعد ذلك: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية، إذ لم نبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا)(1).
ولقد حبس عدة مرات بسبب مكائد الخصوم، ووشي به إلى السلاطين لعله يقتل، لكن الله سبحانه ينجيه؛ لأن من حفظ الله حفظه، ومن كان مؤمنا حقا استحق دفاع الله عنه.
ودعي للمناظرات والخصومات عن ردوده على أصحاب الفرق والبدع، يقول تلميذه البزاز:(ولقد سجن أزمانا وأعصارا وسنين وشهورا، ولم يولهم -أي: المسيئين إليه والمخاصمين له- دبره فرارا، ولقد قصد أعداؤه الفتك به مرارا، وأوسعوا حيلهم عليه إعلانا وإسرارا، فجعل الله يحفظه منهم شعارا ودثارا، ولقد ظنوا أن في حبسه مشينة، فجعله الله له فضيلة وزينة، وظهر له يوم موته ما لو رآه واده في حياته أقر به عينيه، فإن الله تعالى؛ لعلمه بقرب أجله، ألبسه في الفراغ عن الخلق للقدوم على الحق أجمل حلله، كونه حبس على غير جريرة ولا جريمة، بل على قوة في الحق وعزيمة، هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق، وبهر بفنونه البصائر والأحداق، وملأ بمحاسن مؤلفاته الصحف والأوراق، كبتا ورغما للأعداء، أهل البدع المضلة والأهواء)(2).
وهذا الكلام المجمل من تلميذ عاصر أستاذه، وعرف ما حصل له، وكأنه يريد بذلك ما حصل له من منع عن الفتوى، ومن سجن في القاهرة، ثم سجن في الإسكندرية، ثم سجن في دمشق حتى توفي وهو في هذا السجن الأخير. إذ أن من يختلف معه رحمه الله في أي أمر يطرحه، يلجأ إلى حيلة
(1) السيرة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للدكتور عبد الرحمن الفريوائي، ص 17.
(2)
الأعلام العلية، ص68.
العاجز بالإيقاع به، والخوض في عرضه، والافتراء عليه، حتى توغر الصدور عليه، وتأمر السلطة بسجنه.
1 -
ففي عام 718هـ كان من ضمن ما تحدث فيه فتواه في الحلف بالطلاق، واعتبره معاصروه أمرا خطيرا؛ إذ أن هذه المسألة الفقهية لم تثر إلا في زمنه، إذ أنه أفتى بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة رجعية، وبعدم وقوع الطلاق بالحلف به إذا حنث، وأن على الحالف أداء كفارة اليمين فقط، إذا كان لا يقصد إيقاع الطلاق، وإنما هدفه اليمين، فثار عليه القوم آنذاك، وأقيمت عليه الدعاوى حتى اضطر الحاكم إلى إصدار أمر بمنع الشيخ ابن تيمية من الفتوى بعدم وقوع الطلاق، وإلى المناداة بهذا في الأسواق العامة؛ ليعرفه الناس، ويحذروا من الوقوع في شره - كما اعتقدوا - ولكنه رحمه الله؛ لقوة إرادته وإيمانه كان يقول:(لا يسعني كتمان العلم)، فصار يجاهر برأيه، ويجيب على من يستفتيه، مما سبب له السجن في دمشق قرابة نصف عام (1) فهو يخشى أن يلجم بلجام من نار، كما جاء الوعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سئل عن علم فكتمه.
2 -
وبعد خروجه من السجن أثار عليه خصومه مسألة أخرى في موضوع: (شد الرحال)، مع أن الرأي الذي يقول به هو قول الإمام مالك، أن السفر إلى أضرحة الأولياء غير مشروع، بل وفيه معصية، أخذا من الحديث الشريف المتفق على صحته:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا (2)» ، يعني: المسجد النبوي، وقد ضمن آراءه في هذا كتابه:(الجواب الباهر في زوار المقابر)، وفي كتابه الآخر: الرد على الأخنائي، وهو:(استحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية)، مستدلا بما جاء عن الله وعن رسوله، وبما أفتى به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من
(1) كتاب ابن تيمية، لعبد السلام حافظ ص 108.
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1189)، صحيح مسلم الحج (1397)، سنن النسائي المساجد (700)، سنن أبو داود المناسك (2033)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 234)، سنن الدارمي الصلاة (1421).
سلف الأمة، فما زال خصومه بالسلطان حتى سجنه في عام 726 هـ في قلعة دمشق، ومعه شقيقه زين العابدين عبد الرحمن، وسجن معه فريق من أصحابه العلماء، وعزروا بعض الوقت، وفيهم تلميذه النابغة ابن قيم الجوزية، الذي بقي في السجن مدة طويلة بينما جرى إطلاق الآخرين (1).
3 -
وقد امتحن رحمه الله بمحن أخرى وخاض فيه أقوام، ونسبوه للبدع والتجسيم، وهو من ذلك بريء، بل كان يحارب البدع ويشدد النكير على أهلها، وكان أول محنة في ذلك له في شهر ربيع الأول سنة 698هـ بسبب عقيدته الحموية الكبرى، وهي جواب سؤال ورده من حماة، فوضعها ما بين الظهر والعصر في ست كراريس، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن، حيث رجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين، وشنع عليهم، وقد توسع في بيان ما حصل له: الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (2).
4 -
ولما سكنت فتنة الحموية، وبعدها بمدة طويلة ظهر الشيخ نصر المنبجي بمصر، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية: إنه اتحادي، وأنه ينصر مذهب ابن العربي، وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال:(هذا مبتدع وأخاف على الناس من شره)، فعقد للشيخ ابن تيمية في رجب عام 705هـ مجلس وسئل عن عقيدته، فقدم لهم:(الواسطية)، وقال:(هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام)، ثم دعي لمصر وعقد له مجلس مناظرة، وعقد له مجلس ثالث بالقصر، وبعد أن أوذي، أبرئت ساحته (3).
(1) الإمام ابن تيمية، لعبد السلام حافظ ص 111، 112.
(2)
راجع (الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية) ص 102 - 114.
(3)
انظر: (الكواكب الدرية) للشيخ مرعي بن يوسف الذي توسع في تفاصيل هذه المحنة ص 112 - 116.
5 -
وتآلب عليه خصومه في مصر، بعدما وصلها في رمضان عام 705هـ حيث جمع له القضاة وأكابر الدولة بالقلعة، وادعى عليه عند القاضي ابن مخلوف المالكي خصم بأنه يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت، وزاد الحافظ الذهبي: وأن الله يشار إليه الإشارة الحسية، وطلب عقوبته على ذلك. . . وقد حبس على ذلك في الجب ثمانية عشر شهرا، وقد ذكر الشيخ مرعي تفاصيل ذلك (1)، وكان مما قاله:(سبب محنته وابتلائه: قيامه في الله، والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة، ومبالغته في الرد على الفقراء الصوفية - الأحمدية والرفاعية - بسبب خروجهم عن الشريعة)(2).
ومن يقرأ ما كتبه ابن تيمية يرى أن قوله في الاستواء بمثل ما قال إمام دار الهجرة مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة).
6 -
وفي شوال عام 707هـ شكا شيخ الصوفية بالقاهرة - كريم الدين الآملي وابن عطاء وجماعة نحو الخمسمائة - من الشيخ تقي الدين ورأيه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فخيروه بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس، وقال: أنا أمضي إلى الحبس، وأتبع ما تقتضيه المصلحة.
ولما دخل الحبس، وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللعب، يلتهون بها عما هم فيه كالشطرنج والنرد، مع تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ ذلك عليهم، وأمرهم بملازمة الصلاة، والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه، ورغبهم في أعمال
(1) الكواكب الدرية ص 126 - 133.
(2)
الكواكب الدرية ص 126.