الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: أنواع الصبر
قسم العلماء رحمهم الله الصبر إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة، وعند النظر في هذه التقسيمات وتفحصها نجد أنها وإن تشعبت فهي تندرج عموما تحت ثلاثة أنواع أو أقسام رئيسة، وهي:
1 -
الصبر على طاعة الله.
2 -
الصبر عن معصية الله.
3 -
الصبر عن المحن والمصائب.
وقد آثرت الاقتصار على بحث هذه الأنواع الثلاثة، رغبة في الاختصار، وتجنبا للتكرار، أتناولها في ثلاثة مباحث، وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: الصبر على طاعة الله:
المراد بالصبر على الطاعة: الصبر على أداء العبادات والطاعات التي فرضها الله سبحانه على عباده المسلمين؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية (1)، وذلك لثقل أداء العبادات ولا سيما عند تسلط الشيطان وغلبة الهوى وحب الركون إلى الراحة والخمول والكسل، فمن العبادات ما يثقل على النفس أداؤها بسبب الكسل كالصلاة، ومنها ما يثقل على النفس أداؤها بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يثقل على النفس أداؤها بسببهما معا، كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد (2)، وحاجة المسلم إلى هذا النوع من الصبر لا شك حاجة ماسة. وفيه جاء قوله جل شأنه خطابا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 67.
(2)
انظر: المرجع السابق، وابن قدامة، مختصر منهاج القاصدين، ص 297
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (1). وقد استخدم القرآن هنا صيغة الافتعال من الصبر (اصطبر) مكان الصيغة المعتادة (اصبر)، لأن الافتعال يدل على المبالغة في الفعل، فزيادة المبنى تدل في العادة على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لأن الطريق إلى طاعة الله مليئة بالمعوقات من داخل النفس ومن خارجها (2).
يقول أبو الحسن الماوردي: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه تخلص به الطاعة، وبخلوص الطاعة يصح الدين، وتؤدى الفروض، ويستحق الثواب
…
، وليس لمن قل صبره على طاعة حظ من بر، ولا نصيب من صلاح. ومن لم ير لنفسه صبرا يكسبها ثوابا ويدفع عنها عقابا كان مع سوء الاختيار بعيدا من الرشاد، حقيقا بالضلال
…
وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع، وشدة الخوف، فإن من خاف الله عز وجل صبر على طاعته، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره (3).
وقد قص لنا القرآن الكريم قصة عجيبة تمثل نموذجا فريدا للصبر على الطاعة، وهي قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، فقد رأى خليل الرحمن إبراهيم في المنام أنه يذبح إسماعيل - ورؤيا
(1) سورة مريم الآية 65
(2)
د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 39
(3)
أدب الدنيا والدين، ص 277
الأنبياء وحي - ففهم الإشارة وعرف المراد، فجاء بابنه المطلوب وعرض عليه الأمر قائلا:{قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (1)، فما الموقف الذي اتخذه الفتى إسماعيل وقد طلب منه تقديم عنقه للسكين، بعد أن اشتد ساعده وصلب عوده ونضر شبابه؟!! لقد تمثل موقفه عليه السلام بجملتين قالهما لأبيه خلدتاه في سجل الأنبياء الصابرين، وجعلتا منه قدوة للمؤمنين الصالحين:{قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (2). وصدق العمل القول، وأسلم الوالد ولده، وأسلم الولد عنقه، وتله أبوه للجبين، وتهيأ للذبح بالسكين. وهنا كان الابتلاء قد بلغ غايته، وحقق ثمرته، حيث نفذ الوالد وولده ما أمرهما الله به دون تردد أو ارتياب، ونجحا في الامتحان، فلا غرو أن جاءت البشرى من السماء بقوله تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} (3){قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (4){إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (5){وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (6). (7)
وقد كان الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم إماما لأمته، وقدوة في صبره على طاعة ربه، ضرب مثلا عاليا في جهاده لأعداء
(1) سورة الصافات الآية 102
(2)
سورة الصافات الآية 102
(3)
سورة الصافات الآية 104
(4)
سورة الصافات الآية 105
(5)
سورة الصافات الآية 106
(6)
سورة الصافات الآية 107
(7)
انظر: د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 74، 75.
الله ودعوة الأمة إلى الصراط المستقيم بعد أن طمس معالم الشرك والوثنية وقوض آطامها الواهية، وغرس بذرة التوحيد قوية الجذور ثابتة الأركان يرفرف عليها لواء العز والنصر والتمكين.
ولعظم شأن الصبر على الطاعة، ورد الأمر به في النصوص الشرعية في أكثر من نوع من أنواع العبادات والطاعات، ومن ذلك:
1 -
الأمر به على الصلاة، عمود الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، حيث يقول تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (1).
2 -
الأمر به على الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام، حيث يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2){وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3)، ويقول صلى الله عليه وسلم:«يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا (4)» .
(1) سورة طه الآية 132
(2)
سورة الأنفال الآية 45
(3)
سورة الأنفال الآية 46
(4)
رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجهاد)، الباب 112، الحديث رقم 2966، ج 6 ص 120. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الجهاد) باب (كراهية تمني لقاء العدو)، ج 12 ص 46.
3 -
الأمر به على القيام بأمر الدعوة إلى الله، حيث يقول سبحانه على لسان لقمان الحكيم في وصاياه لابنه:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1)، فالداعية بأمس الحاجة إلى خلق الصبر، إذ أن حكمة الباري جل شأنه اقتضت أن يكون لأصحاب الدعوات أعداء يمكرون بهم، ويكيدون لهم، ويتربصون بهم الدوائر، فقد كان لآدم عليه السلام إبليس، وكان لإبراهيم عليه السلام نمرود، وكان لموسى عليه السلام فرعون وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم أبو جهل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (2). (3).
4 -
الأمر به في الثبات على الدين والعض عليه بالنواجذ، وإن أصاب الصابر بسبب ذلك التكذيب والإيذاء والتعذيب، بل والقتل من جانب أهل الكفر والبدع والأهواء.
وقد قص لنا القرآن الكريم ما حصل لبني إسرائيل من تهديد فرعون لهم بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم، فما كان من الصابر موسى عليه السلام إلا أن قال لهم:{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (4)
(1) سورة لقمان الآية 17
(2)
سورة الفرقان الآية 31
(3)
انظر: د. حمد العمار، صفات الداعية، ص 83، ط الثانية 1420 هـ 1999 م، دار إشبيليا، الرياض.
(4)
سورة الأعراف الآية 128
ولا يخفى ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من أذى وتعذيب وتنكيل من كفار قريش، ولا سيما في بداية البعثة النبوية، مما اضطر بعضهم إلى الهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم.
وقد كان بلال بن رباح رضي الله عنه مضرب المثل في الثبات على الدين، حيث سامه سيده أمية بن خلف سوء العذاب للتخلي عن دينه فصبر وصابر حتى أتاه الفرج من عند الله بإعتاق أبي بكر رضي الله عنه له بعد شرائه من أمية بن خلف.
ويحتاج العبد إلى الصبر على الطاعة في ثلاث حالات:
الأولى: قبل الشروع في الطاعة، وذلك بتصحيح النية والإخلاص، والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات، وعقد العزم على الوفاء بهذه الطاعة.
الثانية: الصبر حال القيام بالطاعة، وذلك بملازمة الصبر عن التقصير فيها، وملازمة استصحاب النية، وحضور القلب بين يدي المعبود.
الثالثة: الصبر بعد الفراغ من الطاعة، وذلك بالصبر عن الإتيان بما يبطلها، والصبر عن النظر إليها بعين العجب والتعظيم، والصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية.