الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظروف مهيئة وميسرة لذلك، من حيث إنه عليه السلام كان شابا، والشاب تتوق نفسه إلى النساء، وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه في بلد أهله ومعارفه، ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته، وقد توفر المكان الآمن وغاب الرقيب، وهي الداعية إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن أو الصغار.
ولكنه مع هذه الدواعي كلها صبر بعدا عن المعاصي والآثام، وإيثارا لما عند الله من أجر كبير وثواب عظيم، حيث رفض بشمم واستعلى بإيمان قائلا:{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (1)، فزاده الله عزا ورفعة في دنياه وأخراه.
(1) سورة يوسف الآية 23
المبحث الثالث: الصبر على المحن والمصائب:
المراد بالصبر على المحن والمصائب: الصبر على ما يقدره الله سبحانه على عبده من كوارث مفجعة ومصائب مؤلمة، وابتلاء وامتحان مهما كانت أسبابه، ومهما تشكل وتلون، فقد يكون بفقد عزيز، أو بحلول نازلة تحزنه، وقد يكون بفادحة تجتاح ماله، أو علة
جسدية مستعصية تعطله عن الحركة، أو فشل ذريع في محاولة خطط عليها مستقبله (1)، ونحو ذلك من أنواع المحن والبلايا والمصائب التي تصيب البشر والتي أكد الله عز وجل وقوعها بقوله:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} (2).
والصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر، ويتأكد وقوع البلاء في حق المؤمنين الصادقين، وعلى قدر الإيمان واليقين يكون الابتلاء، ولذا فإن الأنبياء - صفوة البشر - هم أشد الخلق ابتلاء في دار الابتلاء، كما ورد في حديث مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنهما أنه قال:«قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة (3)» .
فالصبر على المحن والمصائب يكفر الله به الخطايا، ويمحو به
(1) انظر: د. صالح الخزيم، الصبر، ص 27.
(2)
سورة البقرة الآية 155
(3)
سنن الترمذي الزهد (2398)، سنن ابن ماجه الفتن (4023)، مسند أحمد (1/ 185)، سنن الدارمي الرقاق (2783).
السيئات، ويؤكد ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه (3)» ، وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يصب منه (4)» . (5)، وجاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر (6)» .
يقول ابن حجر: وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى)، الباب (1)، الحديث رقم 5641، ج 10 ص 103.
(2)
النصب: التعب. (1)
(3)
الوصب: المرض، وقيل: المرض اللازم، كما جاء في فتح الباري، لابن حجر، ج 10 ص 106. (2)
(4)
أي: يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها إذا صبر واحتسب. انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 10 ص 108.
(5)
رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى)، الباب (1)، الحديث رقم 5645، ج 10 ص 103.
(6)
رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى)، الباب (2)، الحديث رقم 5647، ج 10 ص 103.
مؤمن، لأن الآدمي لا ينفك غالبا من ألم بسبب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر، وأن الأمراض والأوجاع والآلام - بدنية كانت أو قلبية - تكفر ذنوب من تقع له (1)، فالمؤمن ممتحن في دنياه مبتلى فيها بما يطهره من الذنوب والآثام، ويمحصه من الخطايا، وينقيه من أدران المعاصي وأوضار السيئات (2)، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (3)» .
كما أن الصبر على أنواع المحن والمصائب يورث الجنة، وقد ورد ذلك في العديد من النصوص الشرعية منها:
أ- في الابتلاء بالصرع: فقد روي عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه أنه قال: قال لي ابن عباس: «ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال:" إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك "
(1) فتح الباري، ج 10 ص 108.
(2)
د. صالح الخزيم، الصبر، ص 34.
(3)
رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الزهد)، باب (في أحاديث متفرقة)، ج 18 ص 125.
فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها (1)»، وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة (2).
ب- في الابتلاء بفقد البصر: فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قال: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة (4)» (5).
ج- في الابتلاء بفقد الأصفياء والأولاد: فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة (6)» .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى)، الباب (6)، الحديث، رقم 5652، ج 10 ص 114.
(2)
ابن حجر، فتح الباري، ج 10 ص 115.
(3)
صحيح البخاري المرضى (5653)، سنن الترمذي الزهد (2400)، مسند أحمد (3/ 283).
(4)
أي: عينيه. (3)
(5)
رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى)، الباب (7)، الحديث رقم 5653، ج 10 ص 116.
(6)
رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الرقاق)، الباب (6)، الحديث رقم 6424، ج 11 ص 241، 242.
الله عليه وسلم: «ما من الناس مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم (2)» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوما، فوعظهن وقال: " أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابا من النار، قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان (3)» .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (4)» .
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز)، الباب (6)، الحديث رقم 1248، ج 3 ص 118.
(2)
أي لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. (1)
(3)
رواه البخاري في صحيحه في الموضع السابق برقم 1249. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (البر والصلة والآداب)، باب (فضل من يموت له ولد فيحتسبه)، ج 16 ص 181.
(4)
أخرجه الترمذي في سننه في كتاب (الجنائز)، باب (فضل المصيبة إذا احتسب)، الحديث رقم 1022، ج 3 ص 341، وقال: حديث حسن غريب.
وقد سطر أنبياء الله ورسله أروع الأمثلة في الصبر على البلاء، فهذا نبي الله أيوب عليه السلام كان له من الدواب والأنعام والحرث الشيء الكثير، كما كان له أولاد كثيرون ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي بمرض عم سائر بدنه، ولم يبق منه شيء سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من يرق له ويحنو عليه سوى زوجته التي كانت تقوم بأمره، وإذا اشتدت بها الحاجة خدمت الناس من أجله. واستمر به هذا البلاء سبع سنين، فلم يضق صدره عليه السلام ولم يتململ من الضر، ولم يزد في دعاء ربه عن وصف حاله:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (1) ووصف ربه بصفته: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2)، ثم لا يدعو بتغير حاله صبرا على بلائه، بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله للعليم الخبير، اطمئنانا على علمه بالحال، وثقة باستجابته في كشف ضره، فاستجاب الله له النداء، فكانت الرحمة وكانت نهاية الابتلاء، حيث رفع الله عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح، قد زال عنه ما مسه وأهمه، ورفع عنه الضر في أهله فعوضه الله عمن فقد منهم ورزقه مثلهم. يقول عز وجل:
(1) سورة الأنبياء الآية 83
(2)
سورة الأنبياء الآية 83
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1){فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (2).
وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام امتحن أولا - على كبر سنه ورقة عظمه - بفقد مهجة فؤاده وأحب أبنائه إليه يوسف عليه السلام، إذ كاد له إخوته وطرحوه في الجب، وجاءوا إلى أبيهم بدم كذب كدليل مقنع بأن الذئب أكله. ولم يكن الفراق بين يعقوب وابنه كأي فراق آخر بين حبيبين يعرف كلاهما أين يقيم صاحبه، ويرجو أن ينتهي الفراق يوما ما بلقاء قريب، وإنما كان فراقا بعد مؤامرة انتهى إلى انقطاع كلي بين الابن وأبيه، كما لم تكن هذه المؤامرة من غرباء موتورين، وإنما كانت كيدا من إخوة لأخيهم، وكذبا من أبناء على أبيهم، علمه الوالد الحنون في قراره نفسه، فقال صابرا محتسبا:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (3).
ثم امتحن ثانيا بفقد ابنه الآخر، الشقيق الأصغر ليوسف وهو بنيامين، فقال كما قال في المرة الأولى:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (4)،
(1) سورة الأنبياء الآية 83
(2)
سورة الأنبياء الآية 84
(3)
سورة يوسف الآية 18
(4)
سورة يوسف الآية 18
ورجا ربه بلسان صادق وقلب ينتظر فرج الله ولطفه وعونه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (1). واشتد به الحزن وأخذ منه الأسى كل مأخذ، فقد هاج فقد ولده الثاني - بنيامين - ذكرى فقد ولده الأول - يوسف - والأسى يبعث الأسى.
ثم امتحن ثالثا بفقد بصره، حيث ابيضت عيناه من شدة الحزن، فهو كئيب حزين ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق، مما حدا بأبنائه إلى الشفقة عليه، فقالوا: - رفقا به - لا تكاد تفارق ذكر يوسف حتى تضعف قواك أو تهلك، فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وحده، فهو الذي يكشف الضر ويجيب دعاء المضطر، وإليه المشتكى وبيده إجابة الدعاء (2). وفي هذا يقول عز وجل:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (3){قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (4){قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (5).
(1) سورة يوسف الآية 83
(2)
انظر: د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 68، ود. صالح الخزيم، الصبر، ص 58 - 61.
(3)
سورة يوسف الآية 84
(4)
سورة يوسف الآية 85
(5)
سورة يوسف الآية 86
وانتهى به الحال بعد سنين من الصبر والتحمل إلى كشف الضر عنه، حيث رد الله إليه بصره، وجمعه بابنيه المفقودين، واستقر به المقام مع أهله بمصر آمنين من الجهد والقحط (1).
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ابتلي بأنواع البلايا والمحن، فقد ابتلي بوفاة عمه أبي طالب الذي كان يسانده ويحميه وينافح عنه، كما كان بمثابة الحصن الحصين الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء. وبعد وفاة عمه بشهرين أو ثلاثة ابتلي بوفاة زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي عاشت معه ربع قرن تحن عليه وتسري عنه وتخفف آلامه وتؤازره في أحرج أوقاته وتواسيه بنفسها ومالها.
وابتلي صلى الله عليه وسلم بوفاة جميع أولاده في حياته ما عدا ابنته فاطمة رضي الله عنها، كما ابتلي بمقتل سبعين من أصحابه في غزوة أحد، وكان من بينهم عمه وحبيبه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، هذا بالإضافة إلى ما لحقه من صنوف الأذى من كفار
(1) راجع الآيات 87 - 100 من سورة يوسف.