الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الصبر عن معصية الله:
المراد بالصبر عن المعصية: الصبر عما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي، وقمع الشهوات، ومجاهدة النفس عن قربانها، وقهرها عن هواها، وكبح جماحها عن الوقوع في حمأة الرذائل (1)، يقول تعالى في بيان عاقبة الصبر عن المعصية:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (2){فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3).
يقول ابن تيمية: يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى
…
، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملا صالحا. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله (4)» ، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلى جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذاك الجهاد، فمن صبر عليه صبر
(1) د. صالح الخزيم، الصبر، ص 25.
(2)
سورة النازعات الآية 40
(3)
سورة النازعات الآية 41
(4)
رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب، الحديث رقم (23958) ج 39 ص 381. وقد صحح إسناده محققو المسند، كما صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (549)، ج 2 ص 89، ط عام 1415 هـ 1995 م، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.
على ذلك الجهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم:«والمهاجر من هجر السيئات (1)» . (2).
ويقول الغزالي في الصبر عن المعصية: ما أحوج العبد إلى الصبر عن المعاصي، وقد جمع الله تعالى أنواعها في قوله تعالى:{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (3)
…
، وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة
…
، فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها (إلا بالصبر)، ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس (4).
ولذا فما أعظم صبر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في امتناعهم عن شرب الخمر لما نزل تحريمها تحريما قاطعا في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5){إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (6)، حيث قالوا: انتهينا انتهينا، وأراقوا ما
(1) راجع الهامش السابق.
(2)
مجموع الفتاوى، ج 10 ص 635، 636.
(3)
سورة النحل الآية 90
(4)
إحياء علوم الدين، ج 4 ص 67، 68، بتصرف يسير.
(5)
سورة المائدة الآية 90
(6)
سورة المائدة الآية 91
لديهم من خمر في طرقات المدينة، فمع إشراب قلوبهم حبها، وأسرها لنفوسهم، وشدة هيامهم بها، مع ذلك كله انتهوا عنها بانقياد تام، وأراقوها طواعية لله واستجابة وامتثالا لأمره، وملكوا زمام النفوس التي طالما أدمنت شربها فاجتنبتها وانصرفت عنها دونما عود ورجعة (1).
ويقول الغزالي: وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها (2).
ويقول ابن القيم: مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر (3).
وعليه فمن تدبر قصة نبي الله يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز التي قصها الله في القرآن الكريم (4)، يعلم مدى قوة صبره وتحمله، فقد كان الدافع إلى ارتكاب المعصية معها قويا، كما كانت
(1) د. صالح الخزيم، الصبر، ص 26.
(2)
إحياء علوم الدين، ج 4 ص 68. وانظر: ابن القيم، عدة الصابرين، ص 75، 76.
(3)
عدة الصابرين، ص 74.
(4)
راجع سورة يوسف، الآيات 23 - 53.