الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في وصايا لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1).
14 -
أنه سبحانه جعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين:
يقول سفيان بن عيينة في هذه الآية: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء (3).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (4). وخير مثال على ذلك: الإمام الفذ أحمد بن حنبل رحمه الله حينما امتحن المحنة العظيمة في فتنة القول بخلق القرآن، فصبر وصابر وثبت على الحق، فأورثه الله الإمامة في الدين، وأصبح إماما لأهل السنة والجماعة.
(1) سورة لقمان الآية 17
(2)
سورة السجدة الآية 24
(3)
ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 122.
(4)
المرجع السابق، ج 2 ص 117.
المبحث الثاني: فضائل الصبر في السنة النبوية
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث نبوية كثيرة تبين
قيمة الصبر، وتبرز منزلته وفضله.
ولعل أهم ما بينته هذه الأحاديث وأبرزته من ذلك ما يلي:
1 -
تعريف الإيمان بالصبر والسماحة:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان، فقال: الصبر والسماحة (1)» .
يقول ابن القيم معلقا على هذا الحديث: وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان:
1 -
بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه: السماحة.
2 -
وترك ما نهيت عنه والبعد عنه، فالحامل عليه: الصبر (2).
2 -
أن الصبر نبراس ينير معالم الطريق، ويكشف ظلم الحيرة، ويوضح حقائق الأمور (3):
فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
(1) رواه ابن أبي الدنيا في الصبر والثواب عليه، ص 37، بتحقيق: محمد خير رمضان يوسف، ط الأولى 1418 هـ 1997 م، دار ابن حزم، بيروت. ورواه الإمام أحمد في المسند من حديث عمرو بن عنبسة، ورجاله موثقون، انظر: الفتح الرباني، ج 1 ص 74، ط دار الشهاب، القاهرة. وأسنده ابن أبي شيبة في الإيمان برقم 43، من حديث جابر بن عبد الله. وقال الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات. راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج 3 ص 483.
(2)
مدارج السالكين، ج 2 ص 122.
(3)
الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص 279.
عليه وسلم قال: «الصبر ضياء (1)» .
يقول الإمام النووي معلقا على الحديث: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء (2)» ، فمعناه الصبر المحبوب في الشرع، وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته، والصبر أيضا على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب (3).
3 -
أن الصبر خير عطاء أعطيه الإنسان وأوسعه:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (4)» .
4 -
أن الصابر على طاعة الله وملازمة عبادته، والصابر عن ارتكاب المعصية مع توفر دواعيها أحد السبعة الذين سيظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
(1) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة، باب (فضل الوضوء)، ج 3 ص 99، 100.
(2)
صحيح مسلم الطهارة (223)، سنن الترمذي الدعوات (3517)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (280)، مسند أحمد (5/ 344)، سنن الدارمي الطهارة (653).
(3)
شرح النووي على صحيح الإمام مسلم، ج 3 ص 101.
(4)
رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، الباب (50)، الحديث رقم 1469، ج 3 ص 335. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، ج 7 ص 144، 145.
يقول المنبجي معلقا على الحديث: ولذلك استحق هؤلاء السبعة أن يظلهم الله في ظله، لكمال صبرهم ومشقته على نفوسهم، فصبر الملك على العدل مع قدرته على الظلم والانتقام من رعيته، وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه، وصبر الرجل على ملازمة المسجد، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن شماله مع قدرته على الرياء، وصبر المدعو إلى الفاحشة مع جمال الداعي، وصبر المتحابين في الله في اجتماعهما وانفرادهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس، فهذه الأمور فيها مشقة على النفوس، فالصبر عليها بتوفيق الله وفضله وإحسانه إلى عبده صبر جميل عظيم (2).
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، الباب (16)، الحديث رقم 1423، ج 3 ص 292، 293. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة، باب (فضل إخفاء الصدقة)، ج 3 ص 120.
(2)
تسلية أهل المصائب، ص 204.
5 -
أن الصبر على البلاء أحد أربع خصال من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة:
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلب شاكر: ولسان ذاكر، وبدن على البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه خونا في نفسه ولا ماله (1)» .
6 -
اقتران النصر بالصبر:
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر (2)» .
7 -
توفيق الله عز وجل الصابرين:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
(1) رواه ابن أبي الدنيا في الصبر والثواب عليه، ص 36. كما رواه الطبراني في المعجم الكبير، الحديث رقم 11275، ج 11 ص 134، ط الأولى 1400 هـ 1980 م، وزارة الأوقاف العراقية، بغداد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الأوسط رجال الصحيح، ج 4 ص 273. وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه الطبراني بإسناد جيد، ج 2 ص 398، ط عام 1407 هـ 1987 م، دار الحديث، القاهرة.
(2)
رواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم 2803، ج 5 ص 18، 19، وصححه محققو المسند، كما صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2382، ج 5 ص 496.
8 -
عظم أجر الصبر على الأذى:
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم (1)» .
9 -
تكفير الذنوب والخطايا:
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة - مر بنا بعضها (2) - أن الله عز وجل يكفر عن المؤمن سيئاته ويغفر له ذنوبه إذا صبر على ما يصيبه مما يشق عليه ويعنته من تعب ومرض وهم وحزن. وروي أنه «لما نزل قوله تعالى: شق الأمر على كثير من الصحابة، فقال أبو بكر رضي الله عنه للنبي
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد، في الباب 181، الحديث رقم 390، ص 140، 141 ط الأولى 1404 هـ 1984 م، عالم الكتب، بيروت. ورواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم 5022، ج 9 ص 64. ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، باب (الصبر على البلاء)، الحديث رقم 4032، ص 666. ورواه كذلك الترمذي في سننه في كتاب صفة القيامة، الباب (55)، الحديث رقم 2512، ج 4 ص 662. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 939، ج 2 ص 614.
(2)
وذلك في المبحث الثالث من الفصل الأول.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم (68)، ج 1 ص 229، 230. وقال محققو المسند:(حديث صحيح بطرقه وشواهده).
صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح بعد هذه الآية، فكل سوء عملنا جزينا به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: فهو ما تجزون به (2)».
ومن ذلك أيضا الصبر على الجهاد، فعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر (3)» .
10 -
نيل المكافأة في الدنيا:
فمن كرم الله تبارك وتعالى على عباده الذين يبتليهم فيقابلون الابتلاء بالصبر، أنه يكافئهم في هذه الحياة الدنيا، ويعوضهم على ما فقدوه. ومن هذا القبيل: ما حدث لأم سلمة رضي الله عنها
(1) سورة النساء الآية 123 (3){مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
(2)
سورة النساء الآية 123 (1){لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
(3)
رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة، باب (من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين)، ج 13 ص 28، 29.
حينما صبرت على فقد زوجها أبي سلمة واسترجعت، فعوضها الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم (1). وكذا ما حدث لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما حينما صبرت على فقد ولدها واحتسبته عند الله، واستقبلت زوجها بالرضا والتسليم، فرزقها الله عوضا عن ولدها تسعة من الأبناء يقرأون القرآن (2).
11 -
الظفر بالجنة في الآخرة:
من كرم الله سبحانه أيضا أن المبتلى إذا صبر على بلواه لا تكفر عنه سيئاته فحسب، ولا يكافأ في الدنيا فقط، بل ويظفر بالجنة في الآخرة.
وقد مر معنا ذكر الأحاديث النبوية التي تعد بالجنة لمن صبر على الابتلاء بالصرع، وعلى الابتلاء بفقد البصر، وعلى الابتلاء بفقد الأولاد والأصفياء (3).
وكذا لمن صبر على البقاء في البلد الذي يظهر فيه مرض الطاعون وهو مقيم فيه (4).
وأضيف هنا ما ورد بشأن الصبر على مشقة تربية البنات
(1) راجع ص 159 من هذا البحث.
(2)
راجع ص 168 من هذا البحث.
(3)
راجع ص 148 - 155 من هذا البحث.
(4)
راجع ص 171 من هذا البحث.
والقيام بشئونهن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن وضرائهن أدخله الله الجنة برحمته إياهن "، قال: فقال رجل: وابنتان يا رسول الله؟ قال: " وابنتان "، قال: فقال رجل: وواحدة يا رسول الله؟، قال: وواحدة (1)» .
12 -
إكرام الصابرين بتحية الملائكة لهم في الجنة:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند
(1) رواه الحاكم في المستدرك في كتاب (البر والصلة)، الحديث رقم 7346 ج 4 ص 195، وقال؛ حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تحقيق: مصطفى عطا، ط الأولى 1411 هـ 1990 م، دار الكتب العلمية، بيروت.