المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقريظ تقي الدين الحصني - مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور - جـ ١

[برهان الدين البقاعي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌من تقاريظ العلماء

- ‌تقريظ شرف الدين المناوي

- ‌تقريظ ابن الشحنة

- ‌تقريظ حسام الدين الطهطاوي

- ‌تقريظ القاضي عز الدين الحنبلي

- ‌تقريظ الشيخ الأقصرائي

- ‌تقريظ سيف الدين السيرافي

- ‌تقريظ محيي الدين الكافيجي

- ‌تقريظ العلامة نقي الدين الشمني

- ‌تقريظ تقي الدين الحصني

- ‌سورة الفاتحة

- ‌ضابط المكي والمدني

- ‌ذكر علماء العدد

- ‌نفي السجع عن القرآن

- ‌عدد آيات الفاتحة

- ‌مقصود سورة الفاتحة

- ‌فضائل القرآن

- ‌كيفية نزول الوحي

- ‌نزول الكتب السماوية في رمضان

- ‌نزول القرآن منجماً

- ‌فضل كلام الله على سائر الكلام

- ‌فضل حامل القرآن

- ‌فضيلة السواك عند القراءة

- ‌النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو

- ‌رفع القرآن

- ‌ما بنبغي لحامل القرآن

- ‌حفظ الله للقرآن

- ‌فضل القرآن وقارئه

- ‌تجريد القرآن مما ليس منه

- ‌كتابة القرآن في الشيء الطاهر

- ‌تحريم قراءة القرآن منكوساً

- ‌تفسير نكس القرآن

- ‌ثواب قراءة القرآن

- ‌معنى الحرف المقابل بالحسنة

- ‌إعراب القرآن بمعنى توضيحه

- ‌نقط المصحف وشكله

- ‌ثواب في علَّم ولده القرآن

- ‌من أفضل الأعمال تلاوة القرآن

- ‌فضل من تعلم القرآن وعلَّمه

- ‌وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة

- ‌الحث على تعاهد القرآن لكي لا يُنْسى

- ‌المنع من أخذ أجرة على قراءة القرآن

- ‌النهي عن تلحين القرآن

- ‌ذم نسيان القرآن

- ‌نهي صاحب القرآن عن أن يسأل به الناس

- ‌استحباب تحسين الصوت بالقرآن

- ‌تحريم التلحين في قراءة القرآن

- ‌ما جاء في الإِسرار والجهر بالقراءة قي الصلاة وغيرها

- ‌المراد بحسن الصوت

- ‌ثواب من يستمع القرآن

- ‌تحزيب القرآن

- ‌منع الجنب من قراءة القرآن

- ‌فضبلة إحياء الليل بتلاوة القرآن

- ‌النهي عن الغلو في القرآن

- ‌حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

- ‌النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود

- ‌البكاء عند قراءة القرآن

- ‌ما يفعله مدعو الإيمان عند سماع القرآن

- ‌كراهة الجمع بين سورتين فأكثر في الركعة الواحدة

- ‌ما جاء في الصعق عند قراءة القرآن

- ‌ذم الرياء بقراءة القرآن

- ‌لا يتكلم القاريء بكلام آخر وهو يقرأ

- ‌الوقت الذي يستحب فيه ختم القرآن

- ‌فضيلة الدعاء عند ختم القرآن

- ‌إنزال القرآن من سبعة أبواب

- ‌لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع

- ‌تفسير الظهر والبطن والحد والمطلع

- ‌اشتمال القرآن على جميع العلوم

- ‌إنزاله على سبعة أحرف

- ‌بيان المراد بالأحرف السبعة

- ‌النهي عن المراء والجدال في القرآن

- ‌خطأ من يقول في القرآن برأيه

- ‌جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن

- ‌2 - جمع عثمان رضي الله عنه

- ‌حرق عثمان الصحف بعد نسخ المصحف

- ‌الذين جمعوا القرآن من الصحابة

- ‌دقة المسلمين في جمع القرآن

- ‌تأييد الناس عثمان في حرق الصحف

- ‌عدد المصاحف التي نسخها عثمان

- ‌المنع من القراءات الشاذة

- ‌ترك البسملة بين الأنفال وبراءة

- ‌بدعة تزيين المصحف

- ‌النهي عن خلط سورة بسورة في القراءة

- ‌فضائل القرآن بخصوص السور

- ‌ما جاء في البسملة

- ‌فضل سورة الفاتحة

- ‌الاستشفاء والرقية بفاتحة الكتاب

- ‌ما جاء في أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن

- ‌كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن

- ‌الدليل على أن البسملة آية من الفاتحة

- ‌فضل " آمين " بعد الفاتحة

الفصل: ‌تقريظ تقي الدين الحصني

بعلومه، والهناء للعالمين بالورود في بحور فهومه، وأعلى مناره، وجعل النجاح والفلاح في الدارين داره، بعد الخطبة البديعِة، ومات - رحمة الله - قبل الفتنة.

وبعد: فقد وقفت على هذا المصنَّف المعظم، والجوهر المنظم، فإذا هو

من الحسن في غاية، ومن التحقيق والتدقيق في نهاية، لم تكتحل عين بمثاله.

ولا نسج ناسج على منواله.

" وكيف لا، ومؤلفه قد حوى الفنون النقلية والعقلية، والعلوم الشرعية

الأصلية والفرعية، عالم عامل، سالك كامل، حافظ ضابط، مجاهد مرابط.

نفع الله به ذوي الحاجات والطلاب، وفتح لنا وله من الخير والأبواب، ونفعنا بدعواته، وأعاد علينا من بركاته، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وكتب في خامس عشر (من شهر) رمضان، سنة ثمان وستين.

‌تقريظ تقي الدين الحصني

وكتب العلامة الشيخ تقي الدين، أبو بكر، محمد (بن) شادي.

الحصنى الشافعي، بارك الله في حياته للمسلمين، وأدام كونه ملاذاً

للطالبين، بعد الخطبة البليغة، ثم مات مع أنصار ابن الفارض.

وبعد: فقد وقفت على المجلد الرابع للمناسبات، فرأيته شاملاً على

ص: 128

بدائع الآيات، محتوياً على فنون (من) الحجج والبينات، وهو - مع وجازة

لفظه - حاوٍ لمنتخب كل مديد وبسيط، جامع لخلاصة كل وجيز ووسيط.

مطلع على زبدة مطالب هي نتائج أنظار المتقدمين، مظهر لنخب مباحث.

هي أبكار أفكار المتأخرين، فهو بحر محيط بغرر درر الدقائق، وكنز أودع فيه نقود الحقائق، ألفاظه معادن جواهر المطالب الشرعية، وحروفه أكمام أزاهير النكات اللفظية، ففي كل لفظ منه روض من المنى، وفي كل شطر منه عقد من الدرر.

فلله در مؤلفه، قد أبرز ذخائر العلوم والمعارف، وافتلذ الأناسي من

عيون اللطائف، وسلك منهاجاً بديعاً في كشف أسرار التحقيق، واستولى على الأمد الأقصى من دفع منار التدقيق، أظهر غرائب مناسبات، ما مستها أيدي الأفكار وعجائب نكات، ما فتق رتقها أذهان أولى الأبصار.

فجزاه الله أفضل الجزاء، وجعل له في الدارين أطيب الثناء.

وكُتب في عاشر شوال، سنة ثمان وستين وثمانمائة.

وما كان لي غرض قبل ذلك في عرض الكتاب على أحد، فلما تكلم

فيه الحاسدون عرضته هذا العرض، فشهر - ولله الحمد - أمره، وفشا في

الفضلاء شأنه وذكره وحمدت عاقبته، وشرح صدره، فكان كما قيل:

وإذا أرد الله نشر فضيلة طويت. . . أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار في جزل الغضا. . . ما كان يعرف طيب عَرْفِ العود

ثم أظهرت ما كتب لي من قبلهم من العلماء على مصنفاتي، وغيرهم

من مدة من السنين، يزيد بعضها على الأربعين.

على أني كنت قليل الاعتناء بأخذ خطوط المشايخ، وكان أصحابي

ص: 129

يلومونني على ذلك، فكنت أقول لهم، إني إذا صرت إلى سن يؤخذ فيه عن

مثلي، فإن كنت أهلاً في نفسي، فأنا لا أحتاج إلى شهادة أحد، وإن لم أكن

أهلاً، لم تفدني إجازات المشايخ، كما قل التلعفري رحمه الله تعالى:

وعندهم أن الِإجازة غاية النـ. . . هاية للإِقراء ما فوقها اعتلا

فيا ليت شعري، هل رأيتم. . . إجازة تحج عن القارىء وتتلو إذا تلا

على أن أقول، إن الله تعالى إن كان يعلم أني لا أكون إذ ذاك أهلا

يؤخذ قولي مسلما، فلا أحياني الله إلى ذلك الزمان.

فأريتهم خط الِإمام العلامة، عماد الدين، ابن شرف الدين القدسي

الشافعي تلميذ ابن الهائم رحمه الله، على (مفردتي) في أول زياراتي

للقدس الشريف وكان سني إذ ذاك دون العشرين، (وذلك في سنة سبع

وعشرين وثمانمائة: "الشيخ الِإمام، المقرى المجيد.

وكتب لي شيخ الإسلام حافظ العصر، قاضي القضاة، أبو الفضل.

شهاب الدين، أحمد بن حجر المصري، رحمه الله على مفردتي في قراءة أبي

ص: 130

عمرو بن العلاء البصري المسماة: "كفاية القارىء، وغنية المقرىء" وذلك

في أول ما أتى إلى القاهرة، سنة أربع وثلاثين، ما من جملته:

فهكذا هكذا تنظم اللآلى، وإلى هنا تنتهي رتب أولى المعالي، إن

الهلال إذا رأيت نموه، أيقنت أن سيصير بدراً كاملًا، ويا ليت شعري، ومن

هذه بدايته فما الذي بلحاق النجم ينتظر.

وكتب قاضي القضاة، شيخ الإسلام، سعد الدين بن الديري

الحنفي، رحمه الله:

وقفت على هذا المؤلَّف، الموسوم بالكفاية، الجامع بين صحيح الرواية.

وغريب الدارية، الشاهد لمصنفه ببلوغ رتبة النهاية في سن البداية.

وكتب قاضي القضاة، شيخ الإسلام، محب الدين، بن نصر الله

البغدادي الحنبلي، رحمه الله، وما كان رآني أصلاً، ما أشار إلى ذلك في

كتابته:

ص: 131

وقفت على هذا التصنيف المنيف، المشتمل على كل معنى فائق شريف.

فرأيته قد احتوى من علوم القرآن العظيم على معظمها، ومن فضائله على

أفضلها وأكرمها وهو مصنف فرد في معناه، لا يشبع من نظره من وقف

عليه أو رآه، لكثرة فوائده الغزيرة وعظم نوادره المنيرة، فدعوت لمصنفه -

شكر الله سعيه الكريم - دعاء فائقا، وأحببته على الغيب حباً صادقاً، فلقد

أجاد وأفاد، وارتفع قدره المنيف به وساد.

وكتب العلامة قاضي القضاة، كما الدين، محمد بن العلامة ناصر

الدين، محمد ابن البارزي، الحموي الشافعي، وهو كاتب السر بالديار

المصرية رحمه الله، على القطعة التي عملتها من كتابي: "جامع الفتاوى

لإيضاح بهجة الحاوي "وهو كتاب غريب، مزجت فيه كلام البهجة - على أنه نظم - بكلام الشرح مزجاً، صارا بحيث يظن أن الكلامين متن مستقل، مثل كتاب "الأنوار" للأردبيلي، وهو أكبر عمدى في هذا الشرح:

وقفت متاملًا في محاسن هذا الجامع، متفكراً في فصاحة خطيبه، وما

أبدعه فيه من إعجاب الناظر، وإطراب السامع، فألفيته حاوياً لكل حجة.

شاملًا للأنوار والبهجة وعلمت تميز مصنفه على أقرانه، وتنبهه على أهل

زمانه، أمده الله بالكفاية، وجعل خاتمته بالحسنى وزيادة.

وكتب قاضي القضاة، سعد الدين بن الديري، رحمه الله:

ص: 132

وقفت على تاليفه فألفته. . . وألفيته يفتر عن نور بستان

يضوع شذاه عابقاً ناطقاً بما. . . تضمن من نز ونظم لعقبان

دعا بالمعاني فازدلفن تطيعه. . . بأيسر إيضاح وأبلغ تبياني

فجازاه رب الخلق من خير ما جزى. . . لتحقيق إتقان وتصديق برهان

ولا غرو أن يحتوي هذا الجامع على معاني الحاوي، وأن تنبهج بنضارته

البهجة، وأن ينشرح بهذا الشرح البديع كل صدر، وتثلج به كل مهجة، وقد بلغ من أعلام المباني كل قلة، وحل من بحار المعاني بكل لجة، وحققه

البرهان الصادق، فهل تبقى لمعاند من حجة.

وكتبت في سنة سبعِ وأربعين وأنا في غزوة روس (كتاباً إلى قاضي

القضاة ابن حجر،) كتابا إلى قاضي القضاة شيخ الِإسلام، محقق العصر.

شمس الدين محمد ابن على القاياتي، رحمهما الله، فأثبت ابن حجر ذلك

الكتاب في تاريخه المسمى "إنباء الغمر بأنباء العمر" وافتتحه بقوله:

"وقد شرح لي صاحبنا العلامة إبراهيم الوقعة، فأثبتها في هذا

ص: 133

التعليق " ولم أنظر تاريخه، ولا علمت بشيء من ذلك، إلا بعد موته، على

أنه قل أن يكتب فيه "العلامة، لأحد.

أنظر ترجمته للشيخ شهاب الدين الحناوي، وقاضي القضاة شمس

الدين الونائي وغيرهما.

وكتب إليّ القاياتي، وهو أعز الناس كتابة، وأعظمهم تثبتاً في أقواله

وأفعاله:

"جواب كتابي الشيخ البرهاني، أدام الله بركة علومه على المسلمين.

ومن الكتاب - والله - لقد حصل للعبد غاية (السرور) بورود شرفكم

الكريم، وحمدت الله (تعالى) على عافيتكم، ومما يشمل الناس من حسن

نظركم، وجميل آرائكم وشفقتكم للعامة، ونصحكم للخاصة، وما فيه مما

يلائم هذا".

وكتابه هذا، وكتاب ابن حجر، الذي أجابني به عن كتابي، ما

ص: 134

هما إلا في جملة ما كتبت فيه مسودة كتابي "نظم الدرر" في سورة يونس عليه

السلام.

وكتب لي ابن حجر بسؤاله لأمر دعاه إلى ذلك على كتابي "عنوان

الزمان بتراجم الشيوخ والأقران ".

"الشيخ الِإمام، العلامة (الأوحد) ، المتقن المتفنن، الحافظ المحقق ".

وكتب على حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العراقي نحو

هذا.

وكتب لي هو وغيره - أيضاً - على أشياء غير هذا.

منه: ما كتبه العلامة، محقق عصره، الكمال محمد بن الهمام

الحنفي، وحاله في ضبط اللفظ والقلم، والمواجهة للملوك وغيرهم بمرِّ الحق

معروف، على كتاب "الانتصار من المعتدي بالأبصار".

وقفت على ساحل بحر زاخر، إذ وفقت للنظر في هذا المؤلف الباهر،

ص: 135

المنتصب على معارضه كالسيف الباتر فلعمري لقد سلك في نظره - بعد سبيل الأبرار - ما يعجز عنه فحول راسخي النظَّار، من دقائق زبد أبكار الأفكار، فاستحق أن يقال فيه على رؤوس الأشهاد إلى يوم التناد:

ولا غرو أن أبدي العجائب ربه. . . وفي ثوبه بر وفي قلبه بحر

فيا ليت شعري كيف أكون في سن الشباب، أستحق من هؤلاء

الفحول هذه الألقاب، ثم أصبر في سن الشيخوخة إلى اعتراض من لم يكن

في ذلك الزمان في عداد من يذكر، ولا هو - والله - الآن في عداد من يفهم

كلامي الذي اعترض عليه، فلقد صدق - لعمري - القائل:

إذا مضى القرن الذي أنت فيهم. . . وخلفت في قرن فأنت غريب

وتنقسم الناس بعد ذلك، فمِنْ عارف بمآثري، خال من الحسد.

مُتَلَّ بحلى الدين، فهو مُثْنٍ عليَّ بما يعلم، ومن جاهل، فهو مسلم لأكبر منه، ومن قائل: إني عثرت على شيء غريب لمن تقدمني فنسبته إليَّ.

فقلت: من العجب كوني أطلع على شيء من القرآن، لا يعثر غيري

على شيء منه.

وأعجب من ذلك: أن يتجدد لي علم ذلك، كلما تجدد من أحد

سؤال، أو بدأ في آية إشكال.

وهذا نحو ما قررته في معنى قوله تعالى - في سورة هود عليه السلام:

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) .

ص: 136

وقلت: فما لي أتعبت نفسي في كتابتي للمسودة من أوله إلى آخر سورة

هود على نهج لم يرضني، بعد أن علمت سورة يوسف عليه السلام، حتى

احتجت إلى أن كررت على ما مضى فأصلحته، فما كان قريباً من سورة

يوسف عليه السلام، كان أقل احتياجاً للِإصلاح، وما كان بعيداً كالأعراف

وما قبلها، صار تصنيفاً آخر، قاسيت في إصلاحه أكثر من الأمور المبتكرة.

وجاء المجلد منه في مجلدين بعد الِإصلاح. وهذه مسودته فيها مواضع، من

عرف يقرؤها، أشهدت على أن الكتاب له دوني.

وكتابي هذا قد نوهت فيه بالنقل عن جماعة، ما عرفهم المصوبون إلا

مني منهم الأستاذ أبو الحسن الحرّالي.

والقاعدة التي افتتحت بها كتابي عن الشيخ أبي الفضل المغربي رحمه

الله لم يسمعها منه غيري.

لو كنت ممن يتشيَّع بما لم يعط، لم أنسبها إليه، فإنها أحسن من كل ما

في كتابي وهي الأصل الذي أبتني ذلك كله عليه.

ولقد سألني بعض أكابر المغاربة أن أسقط ذكره ليكتب الكتاب.

ويرسل به إلى الغرب، قال: لأن المغاربة لا يُقرُّون للشيخ أبي الفضل بما

أصفه أنابه فلم أجبه إلى ذلك، وامتنع هو من الكتابة، إلا على ذلك الشرط.

فعلمت أن ذلك حسد منهم للشيخ أبي الفضل رحمه الله، على تقدير

ص: 137

صحته لأن أهل كل بلد يحسدون من بَزَهم منهم سبقاً، وعلاهم فوقاً.

وأعلاهم فضلاً وأعزهم فصاحة ونبلا، (أم يحسدون الناس على ما آتاهم

الله من فضله) ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

على أن أكثر المصريين كانوا - أيضاً - يحسدونه، رحمه الله.

ووالله ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل رأي نفسه.

فلا يعتبْ علي أحدٌ في هذا الكلام، فإنه نفثه مصدور، ورمية معذور.

شغله الذباب عن كثير من مقاصده، ونفر عنه الذباب كثيراً من مصايده.

ولقد منع كثيراً من العلماء عن إظهار محاسن أعمالهم، ومعالي أقوالهم

وأفعالهم.

نقل الِإمام بدر الدين الزركشي، المصري الشافعي في كتابه

"البرهان في علوم القرآن " عن القاضي أبي بكر بن العربي، أنه قال في

ص: 138

"سراج المريدين ": ارتباط آي القرآن العظيم، بعضها ببعض، حتى تكون

كالكلمة الواحدة، منسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم، لم يتعرض له إلا

عالم واحد، عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد

له حَمَلة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين

الله، رددناه إليه.

ومما يصلح إيراده في هذا المضمار، مما يلي من الأشعار، ما قلته في سنة

خمسين وثمانمائة، وكنت مرابطاً في ثغر دمياط، فتأملت يوماً أحوالي وأحوال

الحسدة، فوجدتها في غاية البعد عن مواقع حسدهم، فإن طلبي غير ما

يطلبونه، فلم نتزاحم على مقصد من المقاصد، فأنشدت تعجبي من أمرهم.

فقلت من الطويل الثالث، والقافية متواتر مصمت، مطلق، مرادف:

ألا رب شخص قد غدا لي حاسدا. . . يرجّى مماتي وهو مثلى فان

ويا ليت شعري إن أمت ما يناله. . . وماذا عليه لو أطيل زماني

عدوى قاصٍ عنه ظلمى آمن. . . من الجور، داني النفع حيث رجاني

وهل لي تراث غير قوس أعدها. . . لحرب ذوي كفر، وغير يماني

وما يبتغي الحساد مني وإنني. . . لفي شغل عنهم بأعظم شاني

أنكب نفسي عن مخوّف يومها. . . لعلي أن أحظى بنيل أماني

نعم إنني عما قريب لميت. . . ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

ص: 139

كأنك بي أنعى إليك وعندها. . . ترى خيراً صُمَّت له الأذنان

فلا حسد يبقى لديك ولا قلى. . . فتنطق في مدحي بأي معان

وتنظر أوصافي فتعلم أنها. . . علت عن مدان في أعز مكان

ويمسى رجال قد تهدم ركنهم. . . فمدمعهم لي دائم الهملان

فكم من عزيز بي يذل جماحه. . . ويطمع فيه ذو شقا وهوان

فيا رب من يفجأ بهول يؤوده. . . ولو كنت موجوداً إليه دعاني

ويارب شخص قد دهته مصيبة. . . لها القلب أسى دائم الخفقان

فيطلب من يجلو صداها فلا يرى. . . ولو كنت جلتها يدي ولساني

وكم ظالم نالته مني غضاضة. . . لنصرة مظلوم ضعيف جنان

وكم خطة سيمت ذووها معرة. . . أعيذت بضرب من يدي وطعان

فإن يرثني من كنت أجمع شمله. . . بتشتيت شملي فالوفا رثاني

وإلا نعاني كل خلق ترفعت. . . به هممي عن شائن وبكاني

إلهي كما أوليتنيها تفضلاً. . . فأتمم بإيتائي نعيم جنان.

وإنه ليعجبني ما حكاه المسعودي في "مروج الذهب" في ترجمة

ص: 140

المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، أنه قال لمعن بن زائدة الشيباني: ما

أسرع الناس إلى قومك بالأذى، فقال: يا أمير المؤمنين:

إن الغرانيق تلقاها محسّدة. . . ولن ترى للئام الناس حساداً

الغرانيق: السادة

أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأيضاً:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص. . . فهي الشهادة بأني كامل

وروى الطبراني في الكبير، عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله

عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الِإسلام ثلاث أبنيات: سفلى، وعليا وغرفة، فأما السفلى: فالإِسلام، دخل فيه عامة المسلمين، فلا تسل أحداً منهم إلا قال: أنا مسلم، وأما العليا: فتفاضل أعمال المسلمين، بعضهم أفضل من بعض، وأما الغرفة: فالجهاد في سبيل الله.

هذا، وإن هذا العلم الذي أفاض الله - وله الحمد - عليّ - وأصله:

ص: 141

بذل الرقة والانكسار، والتضرع والافتقار - لأدق العلوم أمراً، وأخفاها سرا، وأعلاها قدرا.

لأنه في الحقيقة، إظهار البلاغة من الكتاب العزيز، وبيان ذلك في كل

جملة (من) جمله.

فإن البلاغة - كما أطبقوا - مناسبة المقال مقتضى الحال.

وهذا الكتاب لبيان الداعي إلى وضع كل جملة في مكانها، وإقامة

حجتها في ذلك وبرهانها، لأن هذا العلم - على العموم - علم تعرف منه

علل الترتيب.

وموضوعه: أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب.

وثمرته: الاطلاع على المرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما

وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق، الذي هو كلحمة النسب.

فعلم مناسبات القرآن: علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر

البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال، لما اقتضاه الحال.

وتتوقف الِإجادة فيه على معرفة مقصود السورة، المطلوب ذلك فيها.

ونسبته من علم التفسير، نسبة علم المعاني والبيان من النحو، فهو غاية

العلوم.

قال الِإمام بدر الدين الزركشي: قد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع

لدقته، وممن أكثر منه: الإِمام فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف

القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.

ص: 142

إلى غير ذلك مما يصلح أن يكون ثناء على كتابي، فيعرف بمقداره.

ويوضح بدائع أسراره.

على أن الثناء ممن صنف كتاباً، والتعريف به أول الكتاب، مما ندب

إليه الأقدمون، في أنهم يرون تصدير الكتاب بالرؤوس الثمانية، وهي:

الغرض، والمنفعة والسمة، ومن أي علم هو، ومرتبته، وقسمته، ونحو

التعليم فيه، والمؤلف.

فأما الغرض: فهو الغاية السابقة في الوهم، المتأخرة في الفعل.

وأما المنفعة: فهو ما يحصل به من الفائدة للنفس، ليتشوقه الطبع، على

أن الغرض والغاية والمنفعة واحد، بحسب الذات، وإنما تختلف بالاعتبار.

فمن حيث تطلب بالفعل، تسمى غرضاً.

ومن حيث بتأدي إليها الشيء، ويترتب عليها، تسمى غاية.

ومن حيث حصول الفائدة بها، وتشوق الكل إليها بالطبع، تسمى

منفعة.

فيصدر الكتاب بذكر غايته، ليعلم طالبه أنه هل يوافق غرضه، أم لا.

وتذكر منفعته ليزداد جدَّاً ونشاطاً في طلبه.

وأما السمة: فهي العنوان الدال بالِإجماع على ما فضل ثمة، وسواء

كان ذلك بحد، أو برسم، تام أو ناقص، أو غير ذلك.

ص: 143

وأما من أي علم هو: فهو نوع العلم الموضوع هناك.

وأما مرتبته: فبيان متى يجب أن يقرأ.

وأما قسمته: فهو بيان ترتيب ذلك الكتاب، وفنونه، وجملة مقالاته.

وأبوابه وفصوله.

وأما نحو التعليم: فهو بيان الطريق المسلوك فيه لتحصيل الغاية.

وأما نحو المؤلف: فهو واضع الكتاب، ليُعلم قدره، ويوثق به.

على أن السنة المطهرة قد أشارت إلى ذلك، فلسنا - والحمد الله -

متبعين في الحقيقة إلا إياها.

وذلك في كتب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قدم اسمه الكريم، فقال:"من محمد"، ولما كان الغرض الانقياد لما يأمر به من تلك الأمور العظيمة وعدم مجاوزة الحد به، كما فعل بعيسى عليه السلام، وصف نفسه الشريفة بما يحتاج إليه في ذلك فقال:"عبد الله ورسوله ".

ثم بين الغرض من الكتاب بقوله: أدعوك بدعاية الِإسلام.

ثم ذكر المنفعة ترغيباً وترهيباً بقوله: أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله

أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين

ثم أشار إلى الِإسلام، بأنه التبرؤ من عبادة ما سوى الله، كائناً (من

كان) إلى آخر ما ذكره في قوله تعالى:

ص: 144

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) .

ثم. نبه على أن ذلك هو الإِسلام بقوله: (فإن تولوا فقولوا أشهدوا

بأنا مسلمون) .

فإن تولوا، فقولوا، بل نحن لا نتولى، بل اشتهدوا بأنا فاعلون لما أمرنا

به في هذه الآية، فنكون بذلك مسلمين.

وإذ قد عرف أن ما ذكرته من الثناء على (كتابي) وغيره سنة قديمة، جاء

شرعنا بتحسينها، عرف أنه حسن، لا سيما مع ما دعا إليه، وحمل عليه، فإنه ليس في قوة كل أحد أن يعرف الرجال بالحق، بل أكثرهم إنما يعرف الحق بالرجال فهو كالبهيمة التي لا تعرف إلا ما شخص لها من الأجرام، وتَبَدَّى لبصرها من الأجسام.

وإلا، فكتبي - ولا سيما "نظم الدرر" الذي هذا الكلام بسببه - لا تحوجني إلى ثناء أحد عند العالم المنصف، وقليل ما هي، بل وكذا سائر

أفعالي وأحوالي عند من تضلع بعلم السنة، وتطبع بطباع الصحابة، وأين

ذلك حيَّاه الله وبيَّاه،؟ وأنعشه بروح المعرفة وأحياه.

ص: 146

وكان مما قال بعضهم في كتابي: إنه لا حاجة إليه، ولا معوَّل عليه.

على أنه قائم بما لولاه لا فتضح أكثرهم، لو وافقه في القرآن مناظر.

وحاوره في كثير من الجمل من أهل الملل محاور، في مكان يأمن فيه الحيف.

ولا تخشى سطوة السيف، لو قال: أنتم قلتم: إن القرآن معجز، وكذا آية

مستقلة توازي الكوثر التي هي أقصر سورة، فما قال في قوله تعالى:(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)) .

فهذه الآيات بمقدار الكوثر، نحو أربع مرات.

إن قلت: إن المعجز مطلق نظمها بهذه الألفاظ، فانا أرتب من فيها

غير هذا الترتيب.

وإن قلتم: إنه أمر يخص هذا النظم على ما هو عليه من الترتيب

فبينوه، لحيَّرهم.

ومثل ذلك سواء قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)) .

وأوضح من ذلك قوله تعالى في سورة (ص) :

ص: 147

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) .

وفي سورة - ق -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)) .

فتغاير النظمان، وزاد أحدهما.

فلو أن أحداً رتبهم على ترتيبهم في الوجود، وختم ما في سورة ص

بالخالي من التأكيد، كان الِإعجاز باقياً، أم لا.

وعلى كل تقدير يختار، يلزم إشكال، إذا ترتل كتابي زاح، وزهق باطله

وطاح وبغيره يعسر زواله، ويتعذر إبطاله.

ولقد أخبرني بعض الأفاضل: أن شخصاً من اليهود لقيه خاليا، فقال

له: ماذا قال نبيكم في الروح؟. فقال له: أنزل الله عليه فيها قوله تعالى:

(ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا

قليلاً) .

فقال له مستهزئاً: بيان مليح هذا.

قال: فأبهتني ثم تركني وانصرف، وقد بلغ من نكايتي ما لا يعلمه إلا

الله، وما دريت ما أجيبه.

ولو كان يعرف ما بينه فيها كتابي هذا، الذي صَوَّبوُا إليه من الغض،

ص: 148

ما يكاد الحبل منه يرفَضُ، غيظاً وينقض، لأخزاه وأخجله، ونكَّس رأسه

وجهَّله.

ولما كان ذلك الذي جلبته إليك، وجلوته عليك، مما هو في الغرابة كأنه

منام، بل أضغاث أحلام، عملت هذا الكتاب الذي مُحَصَّله: أن من عرف

المراد من اسم السور عرف مقصودها، ومن حقق المقصود منها، عرف تناسب آيها، وقصصها، وجميع أجزائها.

فقد تضمن إبرازه مع ما أفاده بالقصد الأول شحذ الأذهان، ومعاناة

لمن استولت عليهم النسوان، وأكثروا لهم من الطعم والدهان، ليعلموا أن

العلم من عزة المرام، وعظمة المقام، بحيث لا يهون أبداً، كما أنه قَط ما

هَانَ، فيرجعوا عن الفجور والزور والبهتان، فليفتحوا طريق سورة من

السور، وإن كانت في غاية الوجازة والقصر فإن كل سورة لها مقصد واحد

يدار عليه أولها وآخرها، ويستدل عليه فيها، فترتب المقدمات الدالة عليه.

على أتقن وجه، وأبدع نهج، وإذا كان فيها شيء يحتاج إلى دليك، استدل

عليه.

وهكذا في دليل الدليل، وهلم جرا.

فإذا وصل الأمر إلى غايته، ختم بما منه كان ابتدأ، ثم انعطف الكلام

إليه وعاد النظر عليه، على نهج آخر بديع، ومرقى غير الأول منيع، فتكون

السورة كالشجرة النضيرة العالية، والدوحة البهيجة الأنيقة الخالية، المزينة

بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدر، وأفنانها منعطفة إلى تلك

المقاطع كالدوائر، وكل دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة

بما بعدها، وآخر السورة قد واصل أولها، كما لاحم انتهاؤها ما بعدها.

وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كل سورة دائرةً كبرى، مشتملة على دوائر الآيات الغُرِّ، البديعة النظم، العجيبة الضم، بلين تعاطف أفنانها، وحسن تواصل ثمارها وأغصانها.

ص: 149

مثاله: مقصود سورة البقرة: وصف الكتاب المذكور أولها بصريح

اسمه، الناظر بأصل مدلوله، إلى جمعه لكل خير، المشير بوصفه إلى ما في

آخر الفاتحة من سؤال الهداية، والِإبعاد من طريق الضلال، ثم بوصفه في

قوله: (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) ، المنوه آخرها بالذين آمنوا

به في قوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) إلى آخره.

وذلك هو عين أولها، لكونها تعييناً لرؤوس مَنْ شمله وصف التقوى في

فاتحتها وذلك بعد تحقيق قوله: (هدى) بما بين من دعائم الِإسلام

الخمس، ضمن محاجة أهل الكتاب، بما تكفل بالدلالة على أكثر مقاصد

القرآن، وأعرب عما لزمته البلاغة مما جر إليه الصيام من الأكل والشرب.

ببيان المآكل والمشارب، وما يحل النكاح وما يحرمه وما يتبع ذلك على تلك

الوجوه الحسان، والأساليب التي علت في رتب البيان على الجوزاء والميزان.

فلا لاحِقٌ، ولا مُدانٍ.

وذكر تعالى في أولها أضداد مَنْ آمن به، دليلاً على صحة الدعوى في

نسبة معناه إليه سبحانه، وذلك بالتعجيز لهم فيما حكم به من وصفهم.

وألزمهم من كفرهم، فلم يقدروا على التكذيب بالتقصي عنه، والبعد منه.

فلما ثبتت قدرته، واتضحت جلالته وعظمته، في أنه لا نِدَّ له ولا

مكافىء، ولا عديل ولا منافي، رجع إلى الكتاب، فبين صحة الدعوى في

نظمه، كما بينها في معناه فقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على

عبدنا) . ثم هددهم على الِإصرار بعد البيان ومر فيما ناسب ذلك ولَاحَمَهُ، واتصل به ولَاءَمَه، مما تكفل ببيانه أصل هذا الكتاب آية آية، بل جملة

ص: 150

جملة، وفي كثير من الأماكن كلمة كلمة، إلى أن قال:(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) فرجع إليه بإنذاره بني إسرائيل فقال: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما

معكم) واستمر هكذا يدل على نبل مقصود السورة، وما احتيج إلى

الدلالة عليه من تلك المقدمات.

ثم يرجع إلى أمر الكتاب، وبيان ما له من الشرف والصواب، مرة بعد

مرة، وكرة في إثر كرة،. حتى عرف أنه مقصودها، وسر معانيها وعمودها، إلى أن قال:(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) .

ثم شرع يدل على كونه صلى الله عليه وسلم ويندب إلى الإنفاق على جهاد أعدائه يوم الفصل.

ولما ذكر النفقة التي جعلها وصفاً لمن هداه الكتاب، فحذر مَنْ تَرَكها

مِنْ تَرْكِها باليوم الموعود، ووصف الملك الحاكم في ذلك اليوم، وقرر أمر

الرجوع إليه، وأعاد ذكر النفقة في سياق النبات الذي هو أدل شيء على بعث الأموات لذلك اليوم وختمِ بصفة العلم في قوله تعالى: (والله واسع

عليم) ، كان ذلك مَحَزًّا بديع الإِشكال لذكر الكتاب، فعبر بما يشمله.

ويشمل كل ما دعا إليه، وحث عليه من النفقات وغيرها فقال: (يؤتي

الحكمة من يشاء) .

واستمر في النفقات، وما جَرَّ إليه ذكرها، من إخلاصها من شوائب

الخبث ودل على بعض الآداب في تلك.

ص: 151

وختم بعد صفة العلم بصفة القدرة، فقال: (إن الله على كل شيء

قدير) . فختم بما به بدأ، حيث قال بعد أمثال المنافقين: (إن الله على

كل شيء قدير) .

ثم أخبر بأن خلص عباده آمنوا بما دعا إليه عموم الناس عند الآية

الأولى من قوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)، وما تبع ذلك فقال:

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) إلى آخرها.

فكان آخرها نتيجة أولها.

ولأجل اختلاف مقاصد السور، تتغير نظوم القصص وألفاظها، بحسب

الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصد.

مثال: مقصود سورة آل عمران: التوحيد.

ومقصود سورة مريم عليها السلام: شمول الرحمة.

فبدئت آل عمران بالتوحيد، وختمت بما بني عليه من الصبر، وما معه

مما أعظمه التقوى، وكرر ذكر الاسم الأعظم الدال على الذات، الجامع

لجميع الصفات، فيها تكريراً لم يكرر في مريم

" فقال في قصة زكريا عليه السلام: (كذلكَ الله يفعل ما يشاء) .

وقال في مريم: (كذلكَ قال ربُّكَ هو علي هين، وقد خلقتُك من

قبلُ ولم تَكُ شيئاً) .

ص: 152

وقال في آل عمران في قصة مريم عليها السلام: (إذ قالت الملائكة

يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه - إلى أن قال: كذلكِ الله يخلق ما

يشاء.

وفي مريم: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) .

وغير ذلك، بعد أن افتتح السورة بذكر الرحمة لعبد من خُلَّص عباده.

وختمها بأن كل من كان على نهجه في الخضوع لله يجعل له وُدّاً، وأنه سبحانه يَسَّرَ هذا الذكر بلسان أحسن الناس خَلْقاً وخلُقاً، وأجملهم كلاماً، وأحلاهم نطقاً.

وكرر الوصف بالرحمن - وما يقرب منه من صفات الإِحسان من الأسماء

الحسنى - في أثناء السورة تكريراً يلائم مقصودها، ويثبت قاعدتها وعمودها.

فسبحان من هذا كلامُه، وعز شأنه، وعلا مرامه.

هذا يسير من إجمال ما فصله كتاب نظم الدرر، وحصَّله من أفانين

البلاغة والسور.

فذلك البحر الخضم، والطود العالي الأشم، فمن أراد التبحر في هذا

الفن فليربط نظره، وليحط بفنائه هممه، ويقف بأرجائه فكرة، والله الهادي.

وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا، بما في سليقتهم من أفانين

العربية، ودقيق مناهج الفكر البشرية، ولطيف أساليب النوازع العقلية، ثم

تناقص العلم حتى انعجم على الناس، وصار إلى حد الغرابة كغيره من

الفنون.

ص: 153

قال أبو عبيد في كتاب "الفضائل": حدثنا معاذ، عن عوف، عن عبد

الله بن مسلم ابن يسار، عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله حديثاً، فقف

حتى تنظر ما قبله وما بعده.

وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال:

قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا

وكذا، فليسأله عما قبلها.

يريد - والله أعلم -: أن ما قبلها يدله على تحرير لفظها، بما تدعو إليه

المناسبة.

وروى الحارث بن أبىِ أسامة، عن أبي سعيد الخدرىِ رضي الله

عنه، أنه حدَّث: أن قوماً يدخلون النار ثم يخرجون منها، فقال له القوم: أو

ليس الله تعالي يقول: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) ؟ فقال لهم أبو سعيد رضي الله عنه: اقرأوا ما

فوقها: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) الآية.

ص: 154

وفي التفسير: أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: (فإن زللتم من بعد ما

جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) ، فأبدله القارىء بأن قال:

غفور رحيم.

فقال الأعرابي - ولم يكن قرأ القرآن -: إن كان هذا كلام الله هكذا.

إن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه.

إذا تقرر ذلك، فتعريف هذا العلم، اسم هذا الكتاب المصنَّف فيه.

فهو: علم يعرف منه مقاصد السور.

وموضوعه آيات السور، كل سورة على حيالها.

وغايته: معرفة الحق من تفسير كل آية من تلك السورة.

ومنفعته: التبحر في علم التفسير، فإنه يثمر التسهيل له والتيسير.

ونوعه: التفسير، ورتبته: أوله.

فيشتغل به قبل الشروع فيه، فإنه كالمقدمة له، من حيث إنه

كالتعريف، لأنه معرفة تفسير كل سورة إجمالاً.

وأقسامه: السور.

وطريقة السلوك في تحصيله: جمع جميع فنون العلم.

وأقل ما يكفي من كل علم مقدمة تعرف باصطلاح أهله، وما لا بد

من مقاصده ولا سيما علم السنة، فكلما توغل الِإنسان فيه، عظم حظه من

هذا العلم، وكلما نقص، نقص.

فلذلك أذكر كثيراً من فضائل القرآن، ولا سيما ما له تعلق بفضائل

السور، ليكون معيناً على المقصود، وأذكر كون السورة مكية، أو مدنية، لأن

ص: 155

نسبتها إلى محل النزول من جملة صفاتها، وعدد آياتها من كمال التعريف

بذاتها.

فلأجل هذا (ذكرت) ذلك، موضحاً ما فيه من اختلاف العادين من

أهل الممالك، والله المستعان.

ص: 156