المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌من تقاريظ العلماء

- ‌تقريظ شرف الدين المناوي

- ‌تقريظ ابن الشحنة

- ‌تقريظ حسام الدين الطهطاوي

- ‌تقريظ القاضي عز الدين الحنبلي

- ‌تقريظ الشيخ الأقصرائي

- ‌تقريظ سيف الدين السيرافي

- ‌تقريظ محيي الدين الكافيجي

- ‌تقريظ العلامة نقي الدين الشمني

- ‌تقريظ تقي الدين الحصني

- ‌سورة الفاتحة

- ‌ضابط المكي والمدني

- ‌ذكر علماء العدد

- ‌نفي السجع عن القرآن

- ‌عدد آيات الفاتحة

- ‌مقصود سورة الفاتحة

- ‌فضائل القرآن

- ‌كيفية نزول الوحي

- ‌نزول الكتب السماوية في رمضان

- ‌نزول القرآن منجماً

- ‌فضل كلام الله على سائر الكلام

- ‌فضل حامل القرآن

- ‌فضيلة السواك عند القراءة

- ‌النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو

- ‌رفع القرآن

- ‌ما بنبغي لحامل القرآن

- ‌حفظ الله للقرآن

- ‌فضل القرآن وقارئه

- ‌تجريد القرآن مما ليس منه

- ‌كتابة القرآن في الشيء الطاهر

- ‌تحريم قراءة القرآن منكوساً

- ‌تفسير نكس القرآن

- ‌ثواب قراءة القرآن

- ‌معنى الحرف المقابل بالحسنة

- ‌إعراب القرآن بمعنى توضيحه

- ‌نقط المصحف وشكله

- ‌ثواب في علَّم ولده القرآن

- ‌من أفضل الأعمال تلاوة القرآن

- ‌فضل من تعلم القرآن وعلَّمه

- ‌وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة

- ‌الحث على تعاهد القرآن لكي لا يُنْسى

- ‌المنع من أخذ أجرة على قراءة القرآن

- ‌النهي عن تلحين القرآن

- ‌ذم نسيان القرآن

- ‌نهي صاحب القرآن عن أن يسأل به الناس

- ‌استحباب تحسين الصوت بالقرآن

- ‌تحريم التلحين في قراءة القرآن

- ‌ما جاء في الإِسرار والجهر بالقراءة قي الصلاة وغيرها

- ‌المراد بحسن الصوت

- ‌ثواب من يستمع القرآن

- ‌تحزيب القرآن

- ‌منع الجنب من قراءة القرآن

- ‌فضبلة إحياء الليل بتلاوة القرآن

- ‌النهي عن الغلو في القرآن

- ‌حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

- ‌النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود

- ‌البكاء عند قراءة القرآن

- ‌ما يفعله مدعو الإيمان عند سماع القرآن

- ‌كراهة الجمع بين سورتين فأكثر في الركعة الواحدة

- ‌ما جاء في الصعق عند قراءة القرآن

- ‌ذم الرياء بقراءة القرآن

- ‌لا يتكلم القاريء بكلام آخر وهو يقرأ

- ‌الوقت الذي يستحب فيه ختم القرآن

- ‌فضيلة الدعاء عند ختم القرآن

- ‌إنزال القرآن من سبعة أبواب

- ‌لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع

- ‌تفسير الظهر والبطن والحد والمطلع

- ‌اشتمال القرآن على جميع العلوم

- ‌إنزاله على سبعة أحرف

- ‌بيان المراد بالأحرف السبعة

- ‌النهي عن المراء والجدال في القرآن

- ‌خطأ من يقول في القرآن برأيه

- ‌جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن

- ‌2 - جمع عثمان رضي الله عنه

- ‌حرق عثمان الصحف بعد نسخ المصحف

- ‌الذين جمعوا القرآن من الصحابة

- ‌دقة المسلمين في جمع القرآن

- ‌تأييد الناس عثمان في حرق الصحف

- ‌عدد المصاحف التي نسخها عثمان

- ‌المنع من القراءات الشاذة

- ‌ترك البسملة بين الأنفال وبراءة

- ‌بدعة تزيين المصحف

- ‌النهي عن خلط سورة بسورة في القراءة

- ‌فضائل القرآن بخصوص السور

- ‌ما جاء في البسملة

- ‌فضل سورة الفاتحة

- ‌الاستشفاء والرقية بفاتحة الكتاب

- ‌ما جاء في أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن

- ‌كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن

- ‌الدليل على أن البسملة آية من الفاتحة

- ‌فضل " آمين " بعد الفاتحة

الفصل: ‌نفي السجع عن القرآن

قال أبو عمرو: موقوفاً عليه، وبعضهم يوقفه على عبد الله بن عامر

اليحصبي القارىء.

فصارت مذاهب العدد ستة.

وموجب اختلافهم: التوقيف كالقراءة.

قال أبو عمرو: وهذه الأعداد، وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة.

فإنما لها - لا شك - مادة تتصل بها، وإن لم نعلمها، إذا كان كل واحد منهم قد لقي غير واحد من الصحابة، وشاهده وسمع منه، أو لقي مَنْ لقي

الصحابة، مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك

واتباع.

وبالله التوفيق.

وقال السخاوي ما معناه: ولو كان ذلك راجعاً إلى الرأي لعد الكوفيون

، الر" آية، كما عدوا " الم "، ولعدوا " المر" كما عدوا "المص"، ولعدوا "طس" كما عدوا "يس"، ولعدوا "كهيعص" آيتين، كما فعلوا في "حم عسق"، ولعد الشامي "إنما نحن مصلحون "، كما عد "غشاوة ولهم عذاب عظيم "، ومثل ذلك كثير، انتهى.

‌نفي السجع عن القرآن

ومن هنا تعلم يقيناً: أنه لا سجع في كتاب الله أصلاً، فإنه لا ريب

ص: 176

عند من له أدق مزاولة لذلك: أن طس، أوفق عند الساجعين لمبين، من يس

للحكيم. فلو كان السجع مقصوداً، لما وقع الِإجماع من العادِّين على أن

"طس" ليست بآية، وعد بعضهم "يس" آية.

ولما وقعت فاصلة واحدة بين فواصل كثيرة، مخالفة لها في الوزن والروي.

فلا ينبغي الاغترار بما يوجد في بعض كتب الأماثل من

المتأخرين، كالبيضاوي والتفتازاني، من تخريج بعض الفواصل على

السجع، لأنه خولف فيها النظم الذي ورد في سورة أخرى، مثل:

"هارون وموسى".

أو عَدَل عن عبارة إلى عبارة أخرى، لمثل ذلك، نحو قوله تعالى في

سورة يس: (فما استطاعوا مُضياً ولا يَرجِعون) .

قال البيضاوي: إن الأصل كان: ولا رجوعا، فغير لموافقة الفواصل.

ص: 177

وهذا أمر عظيم، لا تليق نسبته إلى جلال الله، فهي زلة عالم حقيقة.

يشتد النفور عنها، والبعد منها.

قال الِإمام فخر الدين الرازي - فيما نقله عنه أبو حيان في "النهر" - في

قوله تعالى في سورة فاطر: (ولا الظل ولا الحَرُور) إنه لا يقال في

شيء مِن القرآن: إنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست

في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى.

يعني: ومتى حُوِّل اللفظُ لأجل السجع، عما كان يتم به المعنى بدون

سجع، نقص المعنى، والله أعلم.

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن ": ذهب

ص: 178

أصحابنا - يعي الأشاعرة - كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، وذكره أبو

الحسن الأشعري (في غير موضع) من كتبه.

وذهب كثير ممن نخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن، وزعموا أن

ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في

البيان والفصاحة كالتجنيس، والالتفات، وما أشبه ذلك، من الوجوه التي

تعرف بها الفصاحة.

وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من

هارون، عليهما السلام، ولمكان السجع، قيل في موضع: هارون وموسى.

ولما كانت الفواصل في مواضع أخر بالواو والنون، قيل: موسى وهارون.

قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر، لأنه لا يجوز أن يقع الخطاب إلا

مقصوداً إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه، كان دون القدر الذي نسميه شعراً، وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه.

ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.

قال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على وزن واحد..

قال ابن دريد: سجعت الحمامة، أي رددت صوتها، وأنشد:

ص: 179

طربْتَ فأبكتكَ الحمام السواجعُ

تميل بها ضَحْواً غصون نوائع

النوائع: المواثل، من قولهم:(جائع) نائع، أي متماثل ضعفاً.

وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعاً، لكان غير

خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها، لم يقع بذلك إعجاز.

ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز.

وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن

يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات، وليس كذلك الشعر.

وقد روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين حاوروه وكلموه في شأن الجنين:

كيف فدى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد

يطل، فقال: أسجاعة كسجاعة الجاهلية.

وفي بعضها: أسجاعه كسجع الكهان.

ص: 180

فرأى ذلك مذموماً.

والذي يقدرونه أنه سجع، فهو وَهْمٌ، لأنه قد يكون الكلام على مثال

السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن ما يكون به الكلام سجعاً يختص ببعض

الوجوه، دون بعض لأن السجع من الكلام، يتبع المعنى فيه اللفظ الذي

يؤدي السجع.

وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ

يقع فيه تابعاً للمعنى.

وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود

منه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ.

ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كان إفادة السجع كإفادة غيره.

ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلباً لتحسين الكلام.

دون تصحيح المعنى.

ثم قال: ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن - على ما تقدرونه -.

سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت

طرقه، كان قبيحاً من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق

مضبوط، متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن

الفصاحة، كما أن الشاعر إن خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً، وكان شعره مرذولاً، وربما أخرجه عن كونه شعراً، وقد علمنا: أن بعض ما يدعونه (شعراً) سجعٌ متقارب الفواصل، متداني المقاطع وبعضها مما يمتد حتى

يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير.

وهذا في السجع غير مرض، ولا محمود.

ص: 181

وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون في موضع، وتأخيره عنه في

موضع لمكان السجع، ولتساوي مقاطع الكلام، فليس بصحيح، لأن الفائدة

عندنا غير ما ذكروه.

وهي: أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى

واحداً، من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين فيه البلاغة.

وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا

بذلك على عجزهم، عن الإتيان بمثله مبتدأ ومكرراً.

ولو كان فيهم تمكن من المعارضة، لقصدوا تلك القصة، فعبروا عنها

بألفاظ لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها، وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا

بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به، كيف وقد قال لهم: (فليأتوا

بحديث مثله إن كانوا صادقين) .

فعلى هذا يكون القصد بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها، إظهار

الِإعجاز على الطريقين جميعاً، دون السجع الذي توهموه.

هذا ما قاله في سر التكرار، وتبعه عليه كل من رأينا كلامه في

هذا.

وقد بينت في كتابي "نظم الدرر" أن الأمر على غير هذا، وأن مقصد

القرآن مما هو في العلو عن هذا الغرض بمراتب لا تنالها يد المتناول، ويقصر

عن عليائها كل متطاول.

وذلك أن كل سورة لها مقصد معين - كما سيوضحه هذا الكتاب، إن

شاء الله تعالى - تكون جميع جمل تلك السورة دليلاً على ذلك المقصد.

ص: 182

فلذلك يقتضي الحال - ولا بد - ما أتى عليه فيها نظم المقال، ومن هنا

تغايرت الألفاظ في القصص، واختلفت النظوم، وجاء الِإيجاز تارة، والإطناب أخرى والتفصيل مرة، والإِجمال أخرى.

فسورة طه لها نظر عظيم إلى الوزير، والِإرشاد إلى طلبه. ولذلك كانت

سبب إسلام - عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصرح فيها على لسان موسى عليه السلام بطلب الوزير بلفظه، فلذلك كانت العناية به أكثر، فقدم في الذكر تنبيهاً على ذلك.

ولذلك قيل فيها: (إنا رسولَا ربِّك) بالتثنية.

وفي الشعراء بالأفراد، لأنه لا عناية فيها بذلك.

وقد بينت كل موضع ذكروه، بما أفاد أنه لا يجوز في مذاهب البلاغة.

ووجوه البيان، أن يعبر عنه بذلك الأسلوب، وما أوجب القول بالتقديم

والتأخير، والتحويل والتغيير، لأجل الفواصل، ألا ترى ما ذكره العلماء، أن نصف العلم هو: لا أدري. فصار كل من ورد عليه سؤال لا يعرف الجواب الحق فيه، قال برأيه، ما لم يتحقق مشيه على شواهد الكتاب والسنة، وأسرار اللغة.

والذي لا يدع عندك لبساً في هذا: أن أبا حيان بعد أن نقل في سورة

فاطر عن الرازي ما قدمته عنه، نسيه في أول الصافات على قرب العهد.

وقال: "مارد" اسم فاعل، وفي النساء:"مريد" للمبالغة، وموافقة

ص: 183

الفواصل هناك. انتهى.

والواقع: أن المعنى الذي قصد في كل من السورتين، لا يتم إلا بما عبر

له فيها ولو قيل غيره لفسد. وموافقة كل منهما في موضعه للفواصل، تزيده

حسناً، لا أنه يصح التعبير بالآخر، وما خص هذا إلا للفاصلة.

وبيان ذلك في تفسيري فراجعه، واحرص عليه، فإنك لم تظفر بمثله.

وإن أمعنت في مطالعته، بان لك سرُّه، والله الهادي.

وسبب وقوع هؤلاء الأكابر في مثل هذا، أشار إليه الإِمام علم الدين

السخاوي في "شرح الرائية"، عند مدح الشاطبي للباقلاني بكتابي الإِعجاز

والانتصار، فقال: إنه لولا كتاب الانتصار، لخالطت شبه المبتدعة العقول.

وتشكك الناس في الإِسلام واستأصلهم المبتدعة، وأكثر ضعفاء القراء وغيرهم اليوم ينطقون بتلك الشبه التي ألقاها المبتدعون ويعتقدونها، وإن كانوا لا يدرون ما تحتها من الغوائل، ولا يعلمون ما يلزمهم منها. انتهى.

ولا يستبعد هذا، فإن الشبهة ربما كان المراد بها غامضاً، ولها ظاهر له

نوع قبول، فيقولها بعض من لم يفهم معناها، غير قاصد شراً، فيأخذها

بعض الأكابر، لما أعجبه من ظاهرها، فتشتهر عنه، كما وقع في سبب اعتقاد أن التوراة نزلت جملة، وفي أن المراد بـ "أنهم إليهم لا يرجعون)

في سورة يس: الرجوع إلى الدنيا، ونحو ذلك كثير، والله أعلم.

ص: 184

ولم يحصر القاضي أبو بكر السجع بمعيار يضبطه، وزمام يربطه، بحيث

يميزه عن غيره.

وهو عندي: تكلف الإِتيان بالكلام على روي واحد، وقافية متزنة، من

غير أن يكون موافقاً لشيء من أنحاء الشعر، وقل ما يكون ذلك.

كما أن الشعر: تكلف الإتيان بالكلام على روي واحد، وقافية واحدة.

مع التقييد بالوزن من بحر واحد.

وهنا يضطر الشاعر والساجع - ولا بد - إلى اتباع المعنى اللفظ، فيصبحِ

اللفظ على ذلك النوع الذي التزمه، لئلا يَعُدّه الناظمون والساجعون عاجزاَ

وعن الاقتدار على صوغ الكلام قاصراً، فينتقص المعنى لهذا الالتزام، في كثير من المواضع غصباً عليه، فيصير أسير الألفاظ، وعبد الأوزان.

هذا ما لا بد منه لكل شاعر، وإن تفاوت الناس فيه، وليس - قطعاً -

كذلك القرآن وسيأتي لذلك مزيد تفصيل وبيان.

ولهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الكلام، بين الدخيل في ذلك والأصيل، الذي صارت له فيه ملكة صيرت قدرته عليه أشد من قدرة غيره.

قال أهل المغازي - وذكره عنهم الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل

النبوة - لما كانت عزوة الخندق، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق بنفسه الشريفة

رأى المسلمون أنه إنما بطش معهم ليكون أجدَّ لهم، وأقوى لهم بإذن الله عز

وجل فجعل الرجل يضحك من صاحبه إذا رأى منه فترة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز به، ما لم يكن قول كعب، أو

ص: 185

حسان، رضي الله عنهما، فإنهما يجدان من ذلك قولا كثيراً، أو نهاهما أن

يقولا شيئاً يخفضان به أحداً.

فالمعنى - من غير شك -: أنهما إذا قالا شيئاً، كان قولهما له ظاهراً في

أنهما قصدا معناه، وأن غيرهما ليس كذلك، بل يكون الرَّوِي والقافية قد

حكما عليه بمعنى لم يرده، على أن حسان رضي الله عنه وهو أشعر الذين

فضلهما النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر - قد اضطره الوزن إلى ما لم (يكن) يريده قطعاً.

فإنه - قال في غزوة الغابة - وهي غزوة ذي قرد - وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر على مَنْ سبق فيها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه، ثم لحقهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان مما قيل فيها من الشعر قول حسان بن ثابت رضي الله عنه.

لولا الذي لاقت ومسَّ نسورها. . . بجنوب ساية أمس في التقواد

ص: 186

للقينكم يحملن كل مدخج. . . حامي الحقيقة ماجد الأجداد

ولسر أولاد اللقيطة أننا. . . سلم غداة فوارس المقداد

قال: فلما قالها حسان رضي الله عنه، غضب عليه سعد بن زيد

رضي الله عنه وحلف ألا يكلمه أبداً.

قال: "انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد.

فاعتذر إليه حسان وقال: والله ما ذاك أردت، ولكن الروي وافق اسم

المقداد وقال أبياتاً يرضى بها سعداً رضي الله عنه:

إذا أردتم الأشَدَّ الجلْدَا. . . أو ذا غناء فعليكم سعدا

سعد بن زيد لا يُهَدُ هدَّا

فلم يقبل منه سعد، ولم يغن شيئاً، رضي الله عنهما وأرضاهما.

ومثل ذلك كثير في الشعر جداً، يعلمه كل من زاول ذلك.

وأما السجع: فقد روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه.

ومسلم، وأبو داود، والنَّسائي، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين يقتل في بطن أمه، بغرة: عبد، أو وليدة. فقال

الذي قضى عليه: كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل.

فمثل ذلك بَطَل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان " من أجل سجعه الذي سجع.

وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سجع كسجع الأعراب.

ص: 187

ذلك، والله أعلم: أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه، لأغنى

عن هذا السجع، أن يقول: كيف أغرم ما لا حياة له.

ولو قصد السجع، وتهذيب المعنى، لأتى بما يدل على نفي الحياة التي

جعلها مَحَطَّ أمره، فإن ما أتى به، لا يستلزم نفيها.

ولو تقيد بالصحة، لاعتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فإنه أعم.

وبنفي الأعم، ينتفي الأخص.

فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ، صح المعنى، أم لا، لئلا يعيبه

أهل صناعة السجع.

ولا ينطبع في عقل عاقل: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يذم السجع وهو يرتكبه في القرآن والسنة، ولو كان ذلك لأسرعوا للرد عليه، وتصويب الطعن إليه، ولو ظفروا منه بما يشبه ذلك، لأكثروا به التشنيع، ولملأوا الأرض من التوبيخ والتقريع، ولأغناهم ذلك عما كانوا يتعلقون به من الذم، الذي لا يشك في أنه كذب من النسبة إلى الشعر والسحر، وقد كان صلى الله عليه وسلم أشرف همة، وأعلى مقداراً، من أن يذم شيئاً، وينحو نحوه، على ما هو معروف من أخلاقه،

ص: 188

ومشهور من شمائله وأعراقه، بل قد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

السجع قسيماً للخبر.

روى أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلدان فارس: أن الحكم

بن عمرو لما فتحها، أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على

عمر رضي الله عنه سأله عن مكران، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه

الذي يجيء منه، فقال له: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها

وشل وتمرها دقل، وعدوها بطل وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير

بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال: أسَجاع أنت أم

مخبر؟ قال: لا والله. لا يغزوها جيش لي ما أطعت.

فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخبر، ولم يَرُد عليه ذلك أحد ممن

حضر فدل على أن التقيد به عيب لِإخلاله بالفائدة، أو بتمام الفائدة.

ص: 189

ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً، لأنه انفك عن السجع في آخر كلامه.

وكرر لفظ "قليل" فكان ما ظنه.

لأنه لو أراد السجع، لأمكنه أن يقول: والكثير بها ذليل، والقليل بها

ضائع كليل، وما وراءها شر منها يا قوم قيل.

ولقد نفي الله سبحانه (وتعالى) عن هذا القرآن العظيم، تصويب

النظر إلى السجع، كما نفي عنه قرض الشعر.

فإنه قال تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) .

فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً بالقصد، فكذلك قول

الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً، والقرآن منزه عن هذا، كما هو منزه عن

ذلك، وإن وقع فيه كل الأمْرَيْن، فغير مقصود إليه، ولا معول عليه، بل

لكون المعنى انتظم به على أتم الوجوه، فأتى به لذلك، لا لأجل السجع، ثم

يبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن، بقرينة ليس لها

مجانس في اللفظ، لتمام المعاني المرادة عندها.

فيعلم قطعاً: أن ذلك غير مقصود أصلًا، لأن مثل ذلك لا يرضى به

أقل الساجعين، بل يراه عجزاً، وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وإذا تاملت الفواصل في الإتيان بها تارة متناظرة - (تارة) بكثرة

ص: 190

وأخرى بقلة - وتارة منفكة عن التناظر بالكلية، بل يؤتى في كل آية بفاصلة

لا توافق الأخرى، لا روياً، ولا وزناً، كالكافرون " علمت أن هذا المذاهب

هو الصواب ولا سيما آخر سورة اقرأ.

وإذا تبحرت في علم العدد، أتقنت الدليل على ذلك والمستند.

فإياك أن تجنح إلى موافقة من قال بمراعاة السجع في موضع من آيات

الكتاب فتكون قد أبعدت عن الصواب، ويتوب الله على من تاب.

وهذا كله لا ينفي أن يكون في السجع والشعر ما هو حسن جداً

وبليغ، وعليه ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري، وأبو داود، وابن ماجة عن أبي بن كعب رضي الله عنه. والبزار عن عائشة رضي الله عنها: إن من الشعر حكمة".

وكذا ما رواه الدارقطني من وجه ضعيف، عن عاثشة رضي الله عنها.

أنه ذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعرُ فقال: هو كلام فحسنه كحسنه وقبحه كقبيحه.

ورواه الشافعي عن عروة (عنها) مرسلاً.

ص: 191

ورواه أبو يعلى عن عائشة (أيضاً) رضي الله عنها، ولفظه: "هو

كلام فحسنه حسن، وقبيحه قبيح.

وروى الحارث بن أبي أسامة، عن رجل من هذيل، عن أبيه، أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا الشعر جزل من كلام العرب، يعطي به السائل، ويكظم به الغيظ، وبه يتبلغ القوم في ناديهم.

فصار في كل منهما مذمومٌ وممدوحٌ.

فالمذموم: التكلف بالتقيد به، وجعل المعنى تابعاً للفظ.

والممدوح: قبول الطبع له، وسهولته عليه، حتى يرمي (به) من غير

قصد إليه ولا تعويل عليه، رمي العارف به، والمقتدر عليه، المطبوع فيه.

وذلك إذا لم يتأت المعنى الأحسن، والمنحى الأبلغ الأتقن، إلا

به، فيكون حينئذ المطبوع في ذلك متمكناً من نقد الشعر والسجع، بصيراً

بتمييز قبيحه من حسنه.

ومعنى "وما علمناه الشعر": وما علمناه بإنزال هذا القرآن الشعر.

وما جعلناه قائلًا لشيء من أنحائه، قاصدا له.

وما علمناه أن يتكلف استحضار القوافي، وبناء الكلام عليها، والقصد في صوغه إليها، بحيث تكون هي المقصودة بالذات.

فالمنفى تعليمه: هو العلم الصناعي، وهو الحاصل من التمرن على

العمل وهذا لا ينفي أن يكون الوزن في طبعه.

ولو أريد نفيه لقيل: وما طبعناه عليه، أو نحو ذلك ما يؤدي معناه،

ص: 192

بدل: "وما علمناه "، فإن الوزن ليس مما يتكسب بالتعليم، بل هو غريزة

يخلقها الله في طبع من يريد.

وأدل دليل على ذلك قوله تعالى: (قل ما أسالكم عليه من أجر وما

أنا من المتكلفين) ، فنفي ما يخص الشاعر من الاستجداء بشعره، ونفي

التكلف في قرضه ثم أثبت ما يخص القرآن من الصفة التي فَاقَ وفارق فيها

جميع الكلام، فقال:(إنْ هو إلا ذكرٌ للعالمين) .

أي كلهم يشترك في أصل فهمه - مع أنه أعلى من جميع الكلام -

الذكى منهم والغبي، والبليغ والعيى، وإن اختلفت فيه فهومهم، وتفاوتت في دقائقه علومهم.

وأما الشعر والسجع، فإنما يفهمهما خواص العالمين، مع أنهما دون هذا

القرآن، بما لا يجهله ذو لسان، وإن كان قاصراً في البيان.

والدليل على ما قدمته: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بالشعر فتارة يكسره، وتارة يتركه على وزنه، وتارة يأتي بالكلام من عند نفسه فيقع موزونا وتارة - وهو الأغلب - لا يكون موزوناً، وتارة يأتي مسجوعاً، وتارة. - وهو الأغلب أيضاً - لا يكون كذلك، وما ذلك إلا لِإرادته الأمر على صحة المعاني التي يأمره الله (تعالى) بها في الكلام البليغ، من غير تعريج على قصد نظم ولا سجع.

(روى الِإمام أبو محمد البغوي بسنده من طريق أبي إسحاق

ص: 193

الثعلبي، عن الحسن رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا

فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله، إنما قال الشاعر:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال أبو بكر - أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله.

يقول الله عز وجل: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) .

ورواه الدينوري في الجزء العاشر من "المجالسة" من وجه آخر، عن

الحسن رحمه الله، وفيه: فجعل أبو بكر رضي الله عنه يقول: الشيب

والإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم (يقول) : بالإسلام والشيب.

فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقاً، ما علمك الله الشعر وما

ينبغي لك.

وروى (البغوي) أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها:

(هل) كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل شيئاً من الشعر؟. قالت: (كان) يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة.

قالت: وربما قال:. ويأتيك بالأخبار من لم تزود.

وقال معمر: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان

ص: 194

النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟. قالت: كان أبغض الحديث إليه.

قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر، إلا ببيت أخي بني قيس طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا. . . ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: إني

لست بشاعر ولا ينبغي لي.

وقال شيخنا حافظ عصره، أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث

مسند الفردوس: أخرجه أبو يعلى عن عكرمة قال: سألت عائشة رضي الله

عنها.

وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وكذا أورد ابن الجوزي التمثل بهذا البيت بغير إسناد إلا أنه

قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، فزاد الضمير.

وللترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزوده.

قال: وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا حديث حسن صحيح، انتهى.

ص: 195

وروى مسدد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استزاد خَبَراً، تمثل ببيت طرفة:

ويأتيك بالأخبار من لم تزوده

ْقال شيخنا الحافظ: شهاب الدين البوصيري: ورواه النسائي في

"اليوم والليلة".

ولأبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن ابن عباس رضي الله

عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار:

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

هذا ما وقفت عليه من طرق هذا الخبر.

وحقيقة ما كان يعبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا البيت:

ويأتيك من لم تزوده بالأخبار

بزيادة ضمير في "تزود"، أو بغير زيادة مع تقديمها على "بالأخبار".

وأما من روى البيت كما هو، فذكر المتمثل به، ولم يذكر هيئة العبارة

عنه، ومن قدم قوله:"بالأخبار"، وزاد ضميراً في تزود: مشى على جادة

البيت، ظاناً أن المقصود مجرد كسره، وهو حاصل بزيادة الضمير، وخفي عليه المعنى الذي غيره النبي صلى الله عليه وسلم لأجله، كما سيأتي بيانه.

فبهذا تترجح رواية من قدم "من لم تزود" على ما هو الأولى بالمسند إليه

كما يعرف ذلك أهل النقد للأخبار، وأرباب المزاولة للآثار.

وروى الشيخان: البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن أبي

ص: 196

هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها الشاعر:

كلمة لبيد.

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

ورواه اليونارتي في جزئه عنه فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: إن أصدق كلمة تكلمت بها العرب، كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وللشيخين وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق، حتى اغبر بطنه، ويقول:

والله لولا أنت ما اهتدينا. . . ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا. . . وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغو علينا. . . إذا أرادوا فتنة أَبَيْنَا

ص: 197

يرفع بها صوته: أبينا، أبينا.

وروى عبد الله بن الِإمام أحمد في "زوائد المسند"، وأبو يعلى الموصلي.

عن الأعشى المازني رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فانشدته:

يا مالك الناس وديان العرب. . . إني لقيت ذربة من الذرب

غدوتُ أبغيها الطعام في رجب. . . فخلفتني بنزاع وهَرَبْ

أخلفت العهد ولَطَتْ بالذَّنَبِ. . . وهُنَ شَرُّ غالِبٌ لمن غَلَبْ

قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

ص: 198

. . . . . .. وهن شر غالب لمن غلب.

وذكر أصحاب السير، والبيهقي في دلائل النبوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين، وأكثر في المؤلفة قلوبهم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإِبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى العباس بن مرداس رضي الله عنه دون المائة، فأنشد يقول:

كانت نُهابا تلافيتها بِكَرِّى. . . على المُهْرِ في الأجْرُع

وإيقاظى الحي أن يرقدوا. . . إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح

وفي رواية:

أتجعل نُهْبِي ونُهْب العُبَيـ. . . دِ بين عيينةَ والأقرع

فما كان حصن ولا حابسٌ. . . يفوقان مرداسَ في مَجْمع

وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَأ. . . فلم أُعْطَ شيئاً ولم أمنع

وما كنتُ دون امرىء منهما. . . ومن تضع اليوم لا يُرفع

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟.

فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : بأبي وأمي أنت، لم يقل

كذلك، ولا والله ما أنت بشاعر وما ينبغي لك، وما أنت براويه.

ص: 199

قال: فكيف؟. فأنشده أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سواءهما، ما يضرك بأيهما بدأت، بالأقرع أم عيينة؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقطعوا عني لسانه، فأعطى حتى رضي.

هذا ما اطلعت عليه مما تمثل به النبى صلى الله عليه وسلم من الشعر.

وأما ما وقع من كلامه صلى الله عليه وسلم موزوناً:

فروى الشيخان عن البراء رضي الله عنه في غزوة حنين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هرب عنه أصحابه رضي الله عنهم شرع يركض بغلته نحو هوازن ويقول:

أنا النبي لا كذب. . . أنا ابن عبد المطلب

وروى البخاري ومسلم أيضاً: والترمذي، والنَّسائي، من حديث

جندب بن سفيان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد، وقد دميت أصبعه.

وفي رواية: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجر فعثر، فدميت أصبعه فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت. . . وفي سبيل الله ما لقيت

ص: 200

قال الزمخشري: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به

على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق من غير قصد إلى

ذلك، ولا التفات منه إليه إن جاء موزوناً، كما يتفق في كثير من إنشاءات

الناسِ في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة، ولا يسميها أحد

شعرا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنه شعر، وإذا فتشت في كل

كلام عن نحو ذلك، وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز. انتهى.

قلت: وأبين من ذلك في الحجة: أنه قد أخرج بعض الناس البحور

الستة عشر من القرآن العظيم، وما اعترض أحد من العرب عليه صلى الله عليه وسلم (بشيء من ذلك) ، مع أنهم كانوا لا يجدون مساعاً لشيء يعترضون به، إلا بادروا إليه.

فلولا أنه مشهور عند صغيرهم وكبيرهم: أن الشعر لا يكون إلا مع

القصد لأوسعوا القول في ذلك، وألزموا به التناقض.

والذي دعا إلى الإتيان به موزوناً: إنما هو صحة المعنى، وكمال انتظامه

به دون غيره، فإن "لا" النافية لكل كذب في "لا كذب "، لا يقوم غيرها

مقامها.

وشهرته صلى الله عليه وسلم بعبد المطلب أعظم من شهرته بغيره مع أنه أقرب أجداده، فنظره صلى الله عليه وسلم مقصور على المعنى.

ص: 201

وأما في الأصبع: فكذلك لا عبارة غير ما قال تؤدي ذلك المعنى، فإن

تقديم الجار المفيد للاختصاص، في أحق مواضعه وأتمها.

ولم ينقل أحد أنه صلى الله عليه وسلم أشبع كسرة التاء حتى تولد منها ياء ويكفي في صرفه عن الشعر، عدم الِإشباع.

وأما الأبيات الماضية: فتقديم الأقرع على عيينة أولى، لأن عيينة ارتد

في أيام الردة، بل أقر أنه لم يكن أسلم قبل ذلك.

وأما الأقرع فكان إسلامه حسناً، ولم يرتد بعد ذلك، ولكنه كان

شريفاً، فكان التأليف لغيره بواسطته.

ولذلك اعتذر صلى الله عليه وسلم بقوله: لا يضرك بأيهما بدأت.

ص: 202

وأما شعر الأعشى: فلا يتأتى المعنى على حال السداد والكمال، إلا

بقوله: "وهن شر غالب لمن غلب"، فأتى به كما هو من غير تغيير.

وكذا شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: والله لولا أنت ما

اهتدينا.

ولما كانت "الألى" - بضم الهمزة بمعنى الجماعة - يجوز فيها المد والقصر

وكان المد لا يلتزم هنا إلا لأجل الوزن، وكان انتظام المعنى به مقصوراً.

كانتظامه به ممدودا، قصره صلى الله عليه وسلم لأنه لا نظر له إلى غير تصحيح المعنى بالألفاظ الكاملة.

فإن قيل: المد ربما أفهم تعظيماً لم يفده القصر؟.

قيل: وهذا موجب الإتيان به مقصوراً، لأن المقام لا يقتضي تعظيم

الظالمين.

وأما قول لبيد: فلا يتأتى المعنى - مع أنه في غاية الصحة - إلا به، فلم

يغيره.

وأما قول طرفة: فلما كان قد يلزمه الكذب من تقديم الجار، في قوله:

"بالأخبار" نطق به صلى الله عليه وسلم على أتم أحواله، بأن قدم "من لم تزود" الذي هو عمدة الكلام، سواء كان بضمير، أم لا.

وأما "كفى الشيب والِإسلام ": فإنه لا يليق بذلك السياق الذي للنهى

عن المساوىء والوعظ، أن يُقدم فيه شيء على الإِسلام، الذي هو أعظم

واعظ، وأقوى زاجر، وتأكيد المعنى بالجار أحسن، فأتى به كذلك.

فتأمل ما يرد عليك من مثل ذلك حق التأمل، وأعطه ما يليق به.

ص: 203

ثم إن وراء ذلك: أن القوافي المطلقة الموصولة بحروف العلة، لا

يُعَد البيتُ شعراً إلا بوصلها، وإلا نقص الوزن، ومتى نقص، لم يعد شعرا.

ولا رواية مصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم وصل شيئاً من ذلك.

فالظاهر: أنه سكَّن اللام من "باطل " من شعر لبيد للوقف، كما تقدم

في دميت، وكذا كل ما جاء من مثله.

وأما ما "حرف " الوصل فيه من (نفس) الكلمة فيأتي به لكون

الكلمة لا تصح إلا به لا لكونه وصلاً.

وأما من كان يقول له صلى الله عليه وسلم: "ليس هكذا قال الشاعر"، من الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعلمون أن الشاعر إذا قدم شيئاً، أو أخره، لم يفعل ذلك لقصد المعنى الذي أدى إليه التقديم والتأخير، وإنما هو للاضطرار، وأن ذلك لازم في صنعة الشعر، لا يحلو إلا به، فيلزم الذي يقصد الشعر أن يأتي به ليصح النظم معه، وكذا من يقصد روايته عن قائله، لتصح له الرواية.

وأما النبي صلى الله عليه وسلم: فلما لم يكن للوزن عنده اعتبار، لم يلتفت إليه، ورأى: أن التقديم والتأخير مِخُل بالمعنى فنطق به صلى الله عليه وسلم على الصواب، ولم يلتفت بوجه

إلى الوزن، ولا نحا أصلًا نحوه، لأنه ليس للشعر عنده حرمة من حيث كونه

شعرا، فليس هو بشاعر، ولا راوية للشعر، حتى يقصد الإتيان بالبيت كما

هو، لئلا ينكسر، بل قصده المعنى ليس غير، لأنه إذا أدار الأمر بين أن يأتي

بمعنى معيب في لفظ مزوَّق، فهو في الظاهر حلو، وفي الحقيقة معيب كما هو

حال كل شيء للشيطان فيه حظ. وأن يأتي بالمعنى خالصاً ممدّحاً في لفظ

ص: 204

جليل سالم، وجب أن يأتي به سالماً، لأنه لا حَظَّ للتزويق منه صلى الله عليه وسلم في قول، ولا في فعل، ولا حال أصلاً، ولم يكن أحد ممن كان يحاوره في ذلك يساويه في البلاغة حتى يذوق هذا الذوق من قبل أن ينبهه صلى الله عليه وسلم. والله الهادي.

وأعلم أن هذا القول، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم عالم بأصل الغريزة بانحاء الشعر، معرض عن استعمال ذلك، لما فيه من المعايب، غير معول على شيء منه، لما يوقع فيه من النقائص ما لا بد من اعتقاده، ولأدى الحال إلى أمر فظيع.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الإعجاز، ما معناه: "إن من كان

ناقصاً في نوع من أنواع البلاغة في شيء من وجوه الخطاب، لم تقم عليه

الحجة بالقرآن حتى يعلم عجزه الكامل في ذلك النوع، ثم قال: فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن، عرف إعجازه.

وإن لم نقل ذلك، أدى الحال إلى أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحى إليه، حتى سَبَرَ الحالَ، بعجز أهل اللسان عنه، وهذا خطأ من القول.

فصح من هذا الوجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا، وعرف بأن قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك.

إنه كذلك من قبل أن يقرأه على غيره، أو يتحدى إليه سواه.

ولذلك قلنا: إن المتناهى في الفصاحة، والعلم بالأساليب التي يقع فيها

التفاصح متى سمع القرآن، عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال

ص: 205

نفسه: أنه لا يقدر عليه، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال

نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو، وإن كان يحتاج بعد هذا إلى

استدلال آخر على أنه علم على نبوة، ودلالة على رسالة، بأن يقال له: إن

هذا آية النبي، وأنها ظهرت عليه، وادَّعاها معجزة له، وبرهاناً على صدقة.

انتهى.

ولا يُظَنُ أني لم أسبق بالقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم عالم بالوزن، كما أنه قادر على السجع، غير أنه لا يصوِّب إلى شيء منهما همته الشريفة، لا يجر إليه التقيد بذلك من التكلف والنقص اللذين برأه الله منهما، وأبعده عنهما.

فقد قال قاضي الشافعية بمصر: صدر الدين السلمَي المناوي

الشافعي في كتابه "تخريج أحاديث المصابيح ": وقد ذهب جمع من العلماء

إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُحْسِنُ الشعر - وهو الأصح - حتى قيل: إنه لم ينشد بيتاً تاماً قط، ألا ترى أنه حين ذكر بيت طرفة قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار؟

وذهب قوم إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر، ولكن لا يقوله وتأولوا قوله

تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) إنه رد على المشركين في

قولهم: (بل هو شاعر) ومن ذكر بيتاً واحداً، لا يلزمه هذا الاسم.

انتهى.

ص: 206