الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
إنه يذيِّل بعض الأحاديث التي يعتقد أن تأويلها مثار اختلاف بتعليقات يكشف المراد منها- حسب رأيه- وهي في كثير من الأحيان لا تعدو الحق، وفي كل الأحيان تدل على سعة علم، ودقة فهم، وتعمّق مذهل في كل معارف العصر، ومعطيات الحياة.
4 -
إنه- وهو الإمام المجتهد في الجرح والتعديل- يعرف ببعض الأشخاص الذين تتشابه أسماؤهم وينص على كل منهم، ويبين درجة كل منهم، حسب الأصول التي أصلها في كتابيه:"الثقات" و"المجروحين".
5 -
وهو لتضلعه بالسنّة، ولعلمه الغزير، ولملاحظته النافذة، وذكائه المتوقد، يدرك بثاقب نظره أين يمكن أن يكون التعارض بين حديثين أو أكثر، فيحاول الجمع بينهما، ويبيّن المراد منهما، ويكشف عن الحالات التي ينبغي العمل بكل منهما، فيها. إننا نقول ذلك لا لننصف الرجل، لأن إنصاف هذا الإِمام العظيم يكمن فيما ترك من آثار، وبخاصة في هذا السفر الجليل الذي شرّفنا الله بخدمته وإخراجه للناس، وهم واجدون فيه تصديقاً لما قاله ياقوت في "معجم البلدان " 1/ 415:"ومَن تأمَّل تصانيفه تأمل مُنصِف، علم أن الرجل كان بحراً في العلوم".
نهاية المطاف:
لا شك أن ابن حبان قد تعب من السفر الطويل- والسفر قطعة من العذاب- وقد آن لهذا الإِمام العظيم أن يعود إلى وطنه- وفي الإنسان ميل أصيل إلى مدارج الصبا، وملاعب الطفولة- ليضع عصا الترحال، وليمسح عن جبينه المكدود غبار السفر، وشقاوة البعاد، وليريح جسمه من الضنى وألم الفرقة للأهل والأصحاب، ثم ليوزع بعد ذلك ما في جعبته من خير على طالبيه.
لقد تجول في المدرسة الواسعة- العالم الِإسلامي- ليجمع خير ما فيه، وليضع خير ما جمع في مدرسة صغيرة- في بيته- ليوفر على طلاب العلم سنوات العمر ومشاق الرحلات.
قال الحاكم: "أبو حاتم ابن حبان، دارُه التي هي اليوم مدرسة لأصحابه، ومسكن للغرباء الذين يقيمون بها من أهل الحديث والمتفقهة، ولهم جرايات يستنفقونها، وفيها خزانة كتبه في يَدَيْ وصي سلمها إليه ليبذلها لمن يريد نسخ شيء منها في الصفة، من غير أن يخرجها منها، شكر الله عنايته في تصنيفها، وأحسن مثوبته على جميل نيّته في أمرها، بفضله ومنّته".
رحمك الله أيّها الإِمام العظيم، وأسكنَك فسيح جنانه، ما أشدّ غيرتك على الإسلام! وما أكبر حرصك على المسلمين! تجوب العالم الِإسلامي كله، متحملاً المصاعب والمتاعب والمشاق، لتجمع ما يتشوق كل طالب علم إلى جمعه- وليسوا عليه بقادرين، ثم تخضّه لتستخرج ما فيه من زبدة، ولا تكتفي بتيسير الوصول إليه، وإنما ترصد نفقة لكل طالب دخل مدرستك العظيمة، حتى لا يشعر بذل الحاجة، وحتى لا تدفعه عن غايته كآبة الأيام!!
لقد تعبت فيما جمعت فكنت الحريص عليه من الضياع "من غير أن يخرجها منها". وعانيت من الغربة، وشظف العيش وقساوة الحياة فكنت الأب البار لروّاد مدرستك، بيتك الكريم! فماذا فعل الطاعن الحاسد، والمفتري الحاقد؟!
كانت هذه المأثرة العظيمة خاتمة عمله، فأين ومتى كانت وفاة هذا الإمام الكريم؟
لقد نقل ياقوت الحموي بسنده أن أبا حاتم توفي ليلة الجمعة لثماني ليالٍ بقين من شوال سنة أربع وخمسين وثلاث مئة (354) للهجرة، ودفن بعد صلاة الجمعة في الصفة التي ابتناها بمدينة "بست" بقرب داره.
بينما ذكر الحافظ أبو عبد الله الغنجار في "تاريخ بخارى" أنه مات بسجستان سنة (354) وتعقبه ياقوت بقوله: "وقبره ببست معروف يزار إلى الآن، فإن لم يكن نقل من سجستان إليها بعد الموت، وإلا فالصواب أنه مات ببست". تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنته.