الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إن الحمد للهِ نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
أمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته .. ولا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الصحيح الذي يرضيه إلَّا بعد معرفة ربه عز وجل .. ومعرفة أسمائه وصفاته .. ومعرفة دينه وشرعه .. ومعرفة ثوابه وعقابه.
إن التوحيد والإيمان، والعبادة والطاعة، أعظم حقوق الله على عباده، فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق جميعاً، ليؤدوه لربهم جميعاً.
وكما أن أعضاء الإنسان لا تتحرك إلا بوجود روحه، فكذلك هذا الكون وما فيه لا يتحرك إلا بأمر الله سبحانه، فهو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده أمر كل شيء، وفي قبضته كل شيء.
وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله، ومعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله ومعرفته، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، ولا تمكن محبته المحبة الكاملة إلا بعد معرفته
والإعراض عن كل محبوب سواه.
وكل من أحب الله أنِسَ به، ومن أحب غير الله عُذب به.
وحاجات القلوب في الدنيا إلى التوحيد والإيمان أعظم من حاجة الأبدان للطعام والشراب، بل لا نسبة بينهما.
وكل نقص خارجي في العمل سببه نقص الإيمان داخل القلب، لذلك فالذي لا يسلم نفسه لله داخل الصلاة، لا يستطيع أن يسلمها لله خارج الصلاة.
والقلب إذا زاد نوره ينيب إلى الله، ويحب الطاعات، ويكره المعاصي، وبالإيمان بالله، وامتثال أوامره في كل حال يزداد نور القلب، وبالكفر والمعاصي يزيد ظلام القلب، فيحب المعاصي، ويكره الطاعات.
والذوق يولد الشوق، فمن ذاق طعم الإيمان اشتاق إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وتلذذ بعبادة الله، وظهرت شعب الإيمان في حياته، وتعلقت روحه بحياة الملأ الأعلى، فأحبه الله، وأحبه من في السماء، وجعل الله له القبول في الارض.
إن فقه القلوب هو الأصل الذي يقوم عليه فقه الجوارح، وفقه الجوارح بالنسبة لفقه القلوب كالذرة بالنسبة للجبل، وإن كان كلاهما مهماً، وكل واحد يكمل الآخر، فلا قبول لأي عمل إلا باجتماعهما.
إلا أن فقه القلوب وهو التوحيد والإيمان وشعبه لم يجمع في كتاب شامل مستقل، بينما فقه الجوارح امتلأت به بطون الكتب ولله الحمد، فتعلم أكثر الناس الأحكام، ولكنهم قعدوا عن الأعمال بسبب ضعف الإيمان في القلوب، فكثر الجدل والخلاف، وقل العمل والإخلاص، وضعف اليقين.
وسبب ذلك الجهل بفقه القلوب من التوحيد والإيمان .. والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعظمة خزائنه .. والعلم بوعده ووعيده .. وثوابه وعقابه.
وهذه الموسوعة محاولة لسد هذا النقص، ورفع لذلك الجهل، وتكميل لذلك الفقه.
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم تعلم الإيمان .. ثم تعلم الفضائل .. ثم تعلم الأحكام .. ثم العمل على وجه الإخلاص لله، والمتابعة لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرافق ذلك دعوة الناس إلى الله .. وتعليم المسلمين الإيمان والأحكام .. والتحلي بأحسن الأخلاق .. وكثرة التوبة والاستغفار: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة، والقلب متوجه إلى الله، كانت هذه الأعمال سبباً لدخول الجنة، وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة، والقلب متوجه إلى غير الله، كانت هذه الإعمال سبباً لدخول النار.
وامتثال أوامر الله ورسوله في الظاهر فيها المشقة، ولكن هذه المشقة مثل القطرة، والراحة المخفية وراءها مثل البحر.
واتباع الشهوات، وترك أوامر الله ورسوله، في الظاهر فيها الراحة، ولكن هذه الراحة مثل القطرة، والعذاب والمشقة المخفية وراءها كالبحر.
ونور العلم، ونور الهداية، لا يحصلان إلا بالمجاهدة، أما المعلومات فيحصل عليها الإنسان بأي طريقة.
ونور الإيمان كالكشاف يميز به المسلم بين الدنيا والآخرة .. وبين ما ينفع وما يضر .. وبين ما يحبه الله ويبغضه .. وحسب قوة النور تكون قوة الأعمال .. وحسن الأخلاق .. وتنوع الأعمال .. والشوق والرغبة في كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق.
وقلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء، فمن أقبل على الله أحبه الله، وأقبل بقلوب عباده إليه، ومن أعرض عنه أبغضه، وأعرض بقلوبهم عنه.
وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه، وأحسن صفاته الإيمان والأعمال الصالحة، وشر صفاته الكفر والأعمال السيئة.
والعلم غذاء العقول .. والذكر غذاء القلوب .. والعمل الصالح ثمرتهما ..
والعلم بدون الجهد يورث الجدل .. والعلم مع الجهد يورث العمل والوجل في القلب.
والله عز وجل خلقنا لعبادته، وتكميل الإيمان، والأعمال، والأخلاق، والسنن، والواجبات، ولم يخلقنا لتكميل الأموال والشهوات والأشياء.
وقد بين الله في القرآن أن أي أمة اعتمدت على الأسباب بدون الإيمان، أذلّها الله ودمرها كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والإحسان والتقوى والتوبة والأعمال الصالحة، أكمل الله له محبوباته في الآخرة من دخول الجنة، والفوز برضى الله ورؤيته، وظفر هناك في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ولا يمكن لأحد أن يعبر الصراط إلى الجنة إلا إذا اتصف بثلاث صفات وهي:
أن يرضى بالله ربّاً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
وشريعة الله للبشر إنما هي جزء من تشريعه للكون، فالأوامر الكونية والشرعية للخلائق كلها بيد الله وحده لا شريك له، ومخالفة الأوامر الشرعية زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.
والدنيا كالظل للإنسان لا يمكن أن يدركه المرء ولو مشى الدهر كله، وقد فرغ الله من رزق كل مخلوق وقسمه:
كمية ونوعية .. ومكاناً وزماناً .. لا زيادة ولا نقصاً.
فنطمئن ونأخذه بالوجه الشرعي، ولا نطلبه بمعصية الله.
والدنيا دار الحاجات، والجنة دار الشهوات، فنأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، ونقوم بأداء أوامر الله حسب الطاقة، والله سبحانه يكمل شهواتنا يوم القيامة في الجنة دار كمال النعيم.
وفكر النبي صلى الله عليه وسلم مطلق في هداية البشرية، وفكر أكثر المسلمين اليوم محدود في الأكل والشرب، والمسكن والمركب، والملبس والمنكح.
ونحن نتفكر في أحوال البيت ونصلح أحواله، ولا نتفكر في أحوال العالم، وكيف يأتي الدين الكامل في حياتهم .. ؟
وسوق الدنيا عمارته بالأموال والأشياء، والبيع والشراء، وسوق الدين عمارته بالإيمان والأعمال الصالحة التي ثمرتها السعادة في الدنيا والآخرة.
وأخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله ودينه بشهوات نفسه، وأخسر منه من اشتغل عن ربه ونفسه بالناس ذماً وظلماً، وتجريحاً واحتقاراً.
وإذا أكرمك الله بنعمة فاستعملها في طاعة الله قبل أن تفارقها أو تفارقك، وإذا وضع الإنسان جهده وماله تحت شجرة الطاعة كبرت وزادت، وإذا وضع جهده وماله تحت شجرة المعصية كبرت وزادت، فهل يستويان مثلاً؟.
وإذا زاد الإيمان .. قويت الأعمال .. ثم صلحت الأحوال .. وإذا نقص الإيمان .. ضعفت الأعمال .. ثم ساءت الأحوال.
وإذا قامت الأعمال في المساجد اختفت الجرائم من الأسواق، وسبب كثرة الجرائم أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في أبغض البقاع إلى الله وهي الأسواق التي يركز الشيطان فيها رايته.
والمطلوب من كل مسلم استعمال جميع الصلاحيات والطاقات التي أعطاه الله لنشر الهداية والدعوة إلى الله، حتى يعبد الله وحده لا شريك له.
والواجب على الأمة أن تتعلم حياة النبي صلى الله عليه وسلم كاملة لتستقيم على أوامر الله، وتتعلم جهد النبي صلى الله عليه وسلم لتقيم العالم على الاستقامة على دين الله عز وجل.
وبسبب ضعف الإيمان، وترك الدعوة إلى الله، صارت الأمة تخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش الله جل جلاله .. وتقدم جهد الدنيا على جهد الدين .. ومحبوبات النفس على محبوبات الرب .. وتؤثر الشهوات على فعل الأوامر، وتطيع المخلوق وتعصي الخالق.
وحين كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله، كانت كل يوم تنزل الهداية، ويظهر
الحق، ويزهق الباطل، وينتشر التوحيد، وينحسر الشرك.
والله عز وجل أعطانا الاستعداد الكامل للقيام بالدعوة والعبادة، وأكثر المسلمين اليوم ترك الدعوة إلى الله، لأنه صار قانعاً بالعمل الصالح، فالعابد ميدانه نفسه .. والداعي ميدانه كل الناس .. وكلاهما على خير .. لكن القطرة لا تقارن بالبحر، وكلاهما لازم.
فالعبادة واجب الأمة، والدعوة وظيفة الأمة.
ورحمة الله لنا مشروطة برحمة جميع من في الأرض، وكيف نكون رحمة للعالمين وقد تركنا الكفار والمشركين والعصاة تائهين ضالين، منحدرين في أودية الكفر والفسق والفساد؟.
ومن العجيب أننا نقطع صلاة الفريضة لإنقاذ نفس من الهلاك، وهذا واجب، ونترك ما هو أعظم منه، وهو ترك ملايين البشر يغرقون في أودية الكفر والفسوق والعصيان، ويذهبون إلى النار بعد موتهم.
إن من الخسارة الفادحة أن ينفق المسلم أوقاته وأمواله، وفكره ونشاطه، في سبيل الدنيا الفانية، غافلاً عن إصلاح نفسه، وإصلاح غيره، والعمل بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة.
والمسلم إذا لم يسلك طريق الأنبياء والمرسلين، لم يبق له إلا حياة البهائم والطواغيت والشياطين.
ومن المؤسف حقاً أننا نقف ضد مرتكب الجريمة في شأن المخلوق، ولا نقف ضد مرتكب جريمة الكفر والشرك في شأن أحكم الحاكمين، فهلا ندعوه إلى الله، ونعلمه الدين، ليرضى عنه رب العالمين، ويكرمه بالجنة دار المتقين.
إن جميع مشاكل العالم البشري تعود إلى عدم طاعة الله ورسوله ..
ولحل جميع هذه المشاكل يجب علينا تحكيم القرآن والسنة، وأخذ العلاج منهما:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].
إن الآيات الكونية .. والآيات القرآنية .. والسيرة النبوية .. وقصص الأنبياء
والرسل وأتباعهم .. من أقوى مصادر القوة الإيمانية .. وتحريك العاطفة الدينية لدى الإنسان.
ولا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشعل بها مجامر القلوب، وتنير بها المظلم من الصدور التي انطفأ نورها وخمد في مهب الرياح والعواصف المادية.
وإذا أقفرت قلوب الأمة من الإيمان بالله، وانقطعت عن مصدره، عاشت في الظلمات، وأصبحت جثة هامدة، تلعب بها الأمم ولا تبالي، لأنها فقدت روحها ومكانتها، وانقطعت عن مصدر عزها ومجدها.
فصارت لا تقدم ولا تؤخر .. ولا تأمر ولا تنهى .. وترمى في أحضانها مزابل الأمم وقاذوراتها .. ولشدة سكرها تطير به فرحاً .. وتعتز بتملكه .. وتفخر بالتظاهر به .. وتربي أجيالها عليه .. وتبذل كل شيء في سبيل الدعوة إليه .. وتسقي فلذات أكبادها السم رطباً ويابساً، ظاهراً وباطناً، مع أن فيه حتفها وهلاكها، وفساد أحوالها، وغضب ربها ومولاها.
إن طوفان الكفر .. وطوفان الشرك .. وطوفان البدع .. وطوفان المعاصي .. وطوفان اللهو واللعب .. وطوفان المال والشهوات .. قد عمّ مشارق الأرض ومغاربها .. وضرب بجرانه بين العامة والخاصة .. وأهل الحاضرة والبادية .. ونُزع لباس الإسلام، وأُجهز على روحه في كثير من أنحاء الأرض.
وخاض كثير من المسلمين في مستنقعات العفن والرذيلة، وتمرغوا في وحل الفسق والفجور والفواحش بلا خوف ولا حياء ولا خجل.
وأحسب أن أكثر الأرض قد فسد، وتلوث بالدم المسفوح، والجيف القذرة، والملاهي العفنة، وراجت البدع المحدثة، وفتحت أسواق اللهو واللعب والمعاصي والفجور في كثير من ديار المسلمين، ووفرت لها الأموال والطاقات، حتى ملأت البر والبحر، والسهل والجبل، وسقط ما لا يحصى من المسلمين قتلى وجرحى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فوا أسفاه .. على ضياع الأوقات، وبعثرة العمر، وبعثرة الفكر، وبعثرة الجهد في الشهوات والمخازي، والقبائح والكبائر والفواحش، واتباع الشياطين.
واحسرتاه .. لقد ظلت هذه الأمة تعاني من الجروح الدامية ما تعاني، وكلما التأم جرح انفجر جرح آخر.
فهل يكفي أن تسكب العَبرات على مثل هذا الواقع الأليم؟.
فمتى تؤوب هذه الأمة المسكينة إلى ربها؟.
وماذا يبقى للأمة إذا تجردت من لباس الدين والأخلاق والحياء؟.
واليوم نظرة عابرة إلى العالم الإنساني كافية لإلقاء الرعب في القلوب لو كانت هناك قلوب، فقد أسفر الصبح عن جيل راكع لشهواته لا لربه إلا ما رحم ربك، وكسرت أوامر الدين في كثير من البلاد.
فهل يُترك الناس بلا واعظ ولا مذكر، يتردون في بحار الظلمات، ويسقطون في أودية الغي والفساد والشهوات، وينحدرون في آبار الضلال والظلام والهلاك، ويعيشون كالحيوانات والشياطين؟.
وهل لهذا الوباء الذي عمّ وطمّ من سبب؟.
وإذا عرفنا سببه فهل من علاج لهذا الجرح الذي انفجر؟ .. وهذا الوباء الذي انتشر؟ .. وهذا القصر الذي انهدم؟ .. وهذه القلعة التي تصدعت؟ .. وهذه السفينة التي أوشكت على الغرق .. ؟.
أما لهذا الجرح من طبيب .. ؟.
أما لهذا القصر من مالك .. ؟.
أما لهذا البيت من حراس .. ؟.
ألا يستحي البشر من كفران النعم؟ .. ألا يخافون من بطش الجبار .. ؟.
أما لهم في سوق الدين من أرباح .. ؟.
أنسوا أن الله خلقهم وكرمهم، وهداهم واشتراهم .. ؟.
فما بالهم جفوا باب سيدهم ومالكهم، وتعلقوا بأذيال عدوهم .. ؟.
إن الأنبياء والرسل وأتباعهم لما عرفوا الحق آمنوا به، وعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، وهانت عليهم أنفسهم وأموالهم وأولادهم وشهواتهم وديارهم في سبيل دعوة الناس إلى ما أمرهم الله به، من الدين العظيم، والحق المبين، والصراط المستقيم.
إن البشرية كافة كما يحتاجون إلى الهواء والماء والطعام كل آن، ولا يستثنى من ذلك أحد، ولا تستقيم لهم حياة إلا بذلك، فكذلك الناس كلهم أشد حاجة إلى الدين الحق الذي يبين علاقة المخلوقات بخالقها، وينظم علاقة المخلوق بالمخلوق، ويوفر لهم السعادة في الدنيا والآخرة، إذا حققوا مراد الله من خلقه بالإيمان به وعبادته وطاعته، واتبعوا كتابه الذي أنزله عليهم، ورسوله الذي أرسله إليهم، واستقاموا على دينه:
في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق.
ولما عرف الأنبياء والرسل وأتباعهم قيمة الدين الحق، وأدركوا حاجتهم الماسة إليه، وحاجة البشرية إليه، هان عليهم كل شيء من أجله، واستطابوا المرارات والمكاره من أجله، وتسابقوا في سبيل الدعوة إليه، ونشر سننه وأحكامه، وسيطر ذلك على قلوبهم وعقولهم، واستغرق ذلك جل أوقاتهم.
فصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب .. وأحسن العبادات والمعاملات .. وأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق .. وحب الله ورسوله .. ورحمة المؤمنين .. والشدة على الكافرين .. وإيثار الإيمان والأعمال على الأموال والأشياء .. وإيثار الآخرة على الدنيا .. وتقديم أوامر الله على شهوات النفس .. وإيثار الآجل على العاجل، والهداية على الضلالة .. والحرص على دعوة الناس .. وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
واستهانوا بزخارف الدنيا وحطامها حين اشتاقت نفوسهم إلى لقاء الله، وقصور الجنة، وعلو الهمة.
فنشروا الإسلام في ربوع الأرض، وانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها مبلغين لدين ربهم، متخلقين بأخلاقه وسننه.
وبذلوا من أجل نشر الإيمان والهداية في العالم كل ما يملكون، حتى ألقى الإسلام بجرانه في الأرض، وأقبلت القلوب إلى ربها مؤمنة منقادة طائعة.
وهبت رياح الإيمان عاصفة قوية طيبة مباركة في قلوب الناس، وقامت دولة التوحيد والإيمان والأعمال والأخلاق في نفوس البشر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وحققت الأمة بذلك مراد ربها منها بالإيمان به وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له، والدعوة إليه، وتعليم دينه وشرعه، واستقاموا على ذلك حتى رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
ثم أتى على المسلمين حين من الدهر ضعف فيه إيمانهم، وقل فيه علمهم، ونقصت فيه أعمالهم، فأقبلوا على الدنيا، وزهدوا في الدين، فقصر بعضهم في العبادات، وظلم في المعاملات، وأساء في المعاشرات، وزهد في سنن الدين وآدابه وأخلاقه، وتخلق بأخلاق البهائم والشياطين.
وانصرف بعضهم عن الاستفادة من أحكام الكتاب والسنة إلى أخبار الزهاد التي شغلت مجالس الوعظ والإرشاد، وامتلأت بها الكتب والأوراق.
ثم انحدروا إلى القاع حين أقبل بعضهم على دراسة علوم الدنيا، وعلوم وآداب الأمم الكافرة الأخرى، وهجروا علوم القرآن والسنة، فضلوا عن طريق الحق والهدى، وساروا في دروب الغي والهوى.
ثم جرفهم سيل الشهوات، واستعبدهم حب المال، وشغلهم ذلك عن امتثال أوامر الله، والعمل بشرعه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.
وسار كثير من المسلمين خلف اليهود والنصارى، يتكلمون بلسانهم،
ويقلدونهم في حياتهم، ويقتدون بفساقهم، ويتخلقون بأخلاقهم، ويشدون الرحال إلى ديارهم، ويتعلمون علومهم، ثم يرجعون بأخلاقهم وصفاتهم وطريقة حياتهم .. ويضعونها في صحن الإسلام، ويزرعونها في بستان الإيمان، لتكون قدوة للأنام، فتعلق الناس بها، وتسابق الأبناء والبنات إلى التخلق بها.
فهل يكفي أن تذرف الدموع السخية على هذا السقوط المشين .. ؟.
يا حسرة على العباد .. كم لعب الشيطان بعقولهم وأوقاتهم وأموالهم؟.
وا أسفاه .. إلى متى يزحف الورى إلى الوراء، إلى جهنم وهم لا يشعرون؟.
من يصدع بالحق، ومن يحمل رايات الهدى إلى الورى؟.
إن المؤمن حقاً من سكب عصارة عمره وروحه في طاعة ربه، وعبادته، والدعوة إليه، وتعليم شرعه لعباده.
إن مخالفة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم فيها منفعة ومصلحة لنا نحن المسلمين، حتى فيما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضراً بآخرتنا، أو بما هو أهم من أمور ديننا.
ماذا يفيد الأمة علم كالبحار في السعة، وكالجبال في العظمة، والقلوب منه فارغة، والجوارح منه خالية، وأثره في الحياة مفقود؟.
ماذا ينفع البشرية من علوم كالجبال، وأعمال كالذر، وسبب ذلك:
التفقه لغير الدين .. والتعلم لغير العمل .. وأكل الدنيا بالدين .. والتجمل بالعلم أمام الناس .. وفقد الإخلاص.
إن العلم الإلهي أعز شيء في الحياة، اصطفى الله له رسله، وعلمهم إياه، وأمرهم بتعليمه الناس، ليعبدوا الله وحده على بصيرة، فلا يؤخذ عليه أجر، ولا يكون حرفة يؤكل به حطام الدنيا، ويباع في الأسواق الرخيصة، وتقتل به الأوقات الثمينة، ويقدم للناس جسماً بلا روح، وإناءً بلا ماء، وألفاظاً بلا معنى.
فمتى يشد العبد ركائبه إلى الرحمن وقد أفسد الأعداء عليه نيته وأعماله وأوقاته؟.
إنما الدنيا سوق واحد خرج الناس منها بما يضرهم أو ينفعهم، وخير المكاسب الطاعات، وشر المكاسب المعاصي، والناس في ذلك راتعون.
والله عز وجل أرسل إلى الأمم السابقة أنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة، فكان منهم المؤمن والكافر.
ثم إنه سبحانه بعث نبيه المصطفى المختار من جميع ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، وأرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن.
فختم به الرسل .. ونسخ بملته جميع الملل .. وأرسله إلى خير الأمم .. وهي هذه الأمة .. بأحسن الشرائع وهي الإسلام .. وأنزل عليه أحسن الكتب .. بأحسن اللغات وهي العربية.
وخصه سبحانه بهذا الدين الكامل .. والنعمة التامة .. واصطفاه على جميع الأنبياء والرسل .. فهو سيد الأولين والآخرين .. واتخذه خليلاً ورسولاً .. فلا نبي بعده .. ولا شريعة بعد شريعته إلى يوم القيامة.
ولما كانت الدنيا ليست بدار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار، ومجاز إلى دار الخلود، وتبين أنه لا فائدة في الدنيا إلا بالإيمان بالله، والعلم بما أمر الله ورسوله به، والعمل به، وتعليمه الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ودعوة الخلق إليه، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
لذا فكل ما يتنافس فيه الناس من أمور الدنيا، وملاحقة الشهوات، واتباع الأهواء، وعبادة المال، كله غرور وباطل، يعرِّض العبد للعقوبة والألم، ويملأ قلبه بالوحشة والحسرة في الدنيا والآخرة.
وأكثر ما يطالعه الناس سوى القرآن والسنة، وكلام سلف الأمة، من المكتوب والمسموع والمرئي، أكثره لغو وغثاء، وشغل للأوقات بما لايفيد، وليس فيه إلا تضييع الزمان، وتشتيت الأذهان، وجلب العداوة بين الإخوان، ومزاحمة كلام الرحمن، وسنة سيد الأنام، وعمارة الدنيا، والزهد في أعمال الآخرة، ونقل عوام المسلمين من اليقين والرغبة في العمل الصالح، إلى الشك والحيرة
والنفرة والسأم والملل، والعكوف على اللهو والشهوات، وإضاعة أوامر الله.
لذا كان أفضل ما تُنفق فيه الأنفاس، وتشتغل به الأمة، وتصرف له الأفكار والأوقات، هو طاعة الله ورسوله، وإحياء سنن الحق في كل مكان، وإماتة طوالع الفجور والبدع:
ببيان ما يرجو به المرء العاقل هدى الخلق .. وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل .. وإخراجهم بإذن الله من الظلمات إلى النور .. ببيان الحق الذي أمر الله به .. وهداية الناس إلى الصراط المستقيم كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شيئاً، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئاً» أخرجه مسلم (1).
ومن وفقه الله تبارك وتعالى لبيان ما تضاعف فيه الأجور، ويهتدي بسببه الجاهل والمغرور، ويستنير بنوره العاقل الرزين، فقد عرضه الكريم لخير كثير، وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم.
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، ولا يتأخر عن المنافسة في أرباحه إلا جاهل بالسلع وقيمتها.
يا نائماً على فراش التقصير متى تفيق من هذا المرض؟.
يا حسرة على العباد .. كم يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب، واللذات والشهوات؟.
يا حسرة على المفرطين .. كم آتاهم الله من آية بينة فلم يستجيبوا؟.
ما أكثر الغافلين عن ذكر الله .. وما أكثر المعرضين عن شرعه .. وما أكثر المخالفين لأمره .. وما أكثر من يستعملون نعمه في معصيته .. وما أكثر الراكعين
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
لشهواتهم .. الساجدين لأهوائهم .. المتعرضين لسخط ربهم.
ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزاً عنيفاً حتى لا يتردى في أودية الهلاك والخسران لفعلنا، ولو كنا نملك أن نفتح العيون المغمضة جفونها عن طريق الحق حتى لا تسقط في الحفر لفعلنا.
ولكن القلوب بيد الله .. يقلبها كيف يشاء .. وهو العالم وحده بمن يصلح للكرامة .. ومن يصلح للإهانة .. وحسبنا الدعوة والإشارة، والتصريح بالمودة والمحبة، والتلويح بالنصيحة، مع حسن الأدب، وخالص الدعاء بالهداية، والله بكل شيء عليم، يختص برحمته من يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
إن من البلاء العظيم أن ينثر الأعداء في ساحة المسلمين علوماً مسمومة .. وأفكاراً متباينة .. علوم كلها غث هزيل .. عسر الهضم .. يأكل الوقت .. ويميت القلب .. ويورث الشك والحيرة والجدل، ويدعو إلى الفسوق والعصيان.
فهي بين علوم لا خير فيها .. وبين علوم لا ثقة بها .. وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئاً .. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها .. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها مع قلة نفعها .. فهي كلحم جمل غث على رأس جبل وعر .. لا سهل فيرتقى .. ولا سمين فينتقى.
وقد نظرت بفضل الله في كثير من أمهات كتب الدين المعروفة النسب، فوجدتها عظيمة النفع جداً، ولكنها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا تظفر بكل المقصود منه، والمتوسط منها مبعثر الفوائد، عديم الترتيب، ناقص الأبواب.
وأكثر الكتب التي نبتت في الساحة عدا كتب السلف الأخيار، والمتقين الأبرار، جلها كحاطب ليل، يجمع الغث والسمين، والصحيح والسقيم .. والمليح والقبيح .. بعضها تمحض للخير .. وأكثرها تمحض للشر واللهو والباطل .. وغيرها مما شاع وذاع .. وملأ الأسماع والأبصار.
منها ما يهتم بالغرائب وشواذ المسائل .. ومنها ما يهتم بوجوه التفسير .. ومنها ما يهتم بسرد الأقوال في كل مسألة .. ومنها ما يهتم بالنحو والصرف .. ومنها ما
يعنى باللغة والأدب .. ومنها ما يعنى بالتاريخ والسير والقصص .. ومنها ما يهتم بالمنطق والقواعد .. ومنها ما يهتم بأحوال الرجال والجرح والتعديل .. إلخ.
وهذا كله وإن كان في بعضه منافع وزيادة معلومات، إلا أن المقصود الأعلى، ومقاصد الشريعة العظمى من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله .. ومعرفة دينه وشرعه .. ومعرفة وعده ووعيده .. وثوابه وعقابه .. وعبادته وطاعته .. وتعليم المسلمين أحكام دينهم .. ودعوة الخلق إلى الله .. كل هذا فوق ذلك بكثير، وأولى منه، بل هو أجل مقصود وما بينهما كما بين السماء والأرض.
والمملوك ليس له أن يتصرف بنفسه ووقته إلا بإذن مالكه.
والمؤسف أن كثيراً ممن يدعي العلم والفقه محترف أكول، هزيل في معرفة الأصول والفروع، يسير في تقريرها وهو راجل، يقول ما لا يفعل، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، تسبق أقواله أفعاله، لأنه مصاب بداء الجهل والعصبية.
وقل من ركب متن الفقه فصار فارساً، وما أكثر ما حملت بطون الكتب من الغث والسمين، والذهب والطين، وملأت الساحة بالجيد والرديء، والحسن والقبيح، والطيب والخبيث.
والناس يغرفون من هذا وهذا، وتظهر صفاتهم بموجب هذا وذاك، وتأتيهم النعم والمصائب بحسب هذا وذاك.
وما أكثر المصنفات التي تصدع الرؤوس، وتفسد العقول، لا تزيد في الإيمان، ولا تبعث لطاعة الرحمن، فهي لا تساوي الورق الذي كتبت عليه، لأنها سيل من الأقوال والحكايات والشبهات التي تدع المسلم تائهاً حيراناً، تولد الغفلة والخصومة والتناحر، ولا تحرك القلوب والجوارح للطاعة والعبادة.
هذا لون من العلم مكروه مرفوض يورث العلل والأسقام، وكثير من الناس راتع فيه، يجني منه كل فتنة وشر وسم، فيضر نفسه، ويضل أمته.
فأما علم أصول الدين .. ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله .. ومعرفة عظمته وجلاله .. ومعرفة آلائه ونعمه .. ومعرفة وعده ووعيده .. ومعرفة قضائه وقدره ..
ومعرفة دينه وشرعه .. ومعرفة اليوم الآخر، وما فيه من البعث والحشر .. والحساب والجزاء .. والجنة والنار .. ومعرفة قصص أنبياء الله ورسله، ونحو ذلك مما سماه الله في كتابه فقهاً وحكمة .. وعلماً وضياءً .. ونوراً وهدى .. ورحمة وشفاء ورشداً .. فقد أصبح بين أكثر الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً .. وجفاه أكثر الخلق إلا من رحم الله .. ومن عرفه عرفه معرفة مجملة لا توقظ القلوب الغافلة .. ولا تحرك الجوارح الساكنة.
ولما كان هذا ثلماً في الدين، ونقصاً في اليقين، تولد بسبب الجهل به ضعف الإيمان، ثم ضعف العمل بالدين، ثم ضعف الدعوة إلى الله، ثم فشو الشر، ثم ركوب مطايا الباطل، ثم نزول المصائب، وتوالي الكوارث.
لذا رأيت سده بما استطعت جمعه وتأليفه، وترتيبه وتهذيبه، ليكون منار هدى، وخزانة مملوءة بما لذ وطاب من غذاء القلوب والأرواح، وسلسيبلاً يزيل العطش والظمأ، وحادياً يحرك القلوب والجوارح، ويشوقها للعبادة، ويبعثها للطاعة، ويدفعها للتوبة من المعاصي.
وهذا باب عظيم من العبودية، لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه وحلاوته ولذته، بكى على أيامه الأول.
وأحسن ما ركبه الله في العقول والقلوب والفطر حسن التوحيد والإيمان بالله، وأحسن ما ركبه على الجوارح حسن الأخلاق والعمل الصالح.
والناس في الدنيا والدين، والعلم والعمل، مستقل ومستكثر ومحروم.
وأحسن ما تجمل به الخلق في الدنيا الإيمان والإحسان والتقوى، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وقد فاضت من كثير من أئمة العلم والدين في مختلف العصور علوم نافعة، وكلمات جامعة، ومسائل فريدة، وقواعد محكمة، وأصول نافعة مباركة، إلا أنها منثورة في بطون الكتب، مفرقة في الصحف، مغمورة بعيدة عن متناول من يريد الانتفاع بها عند الحاجة إليها، وهي غذاء لازم لكل إنسان، لا يتم نعيمه
وسروره وشفاؤه إلا بمجموعها.
وقد يسّر الله لنا بمنّه وكرمه التقاط هذه الثمار اليانعة .. وجمع هذه الجواهر النفيسة .. وجلب هذه الحلي الثمينة .. من خزائن العلماء الربانيين .. وأهل التقوى والصلاح .. الذين قالوا وفعلوا .. ووصفوا واتصفوا .. وجاهدوا وصبروا.
علماء أبرار يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه .. كل منهم يستنير بالكتاب والسنة .. ويعمل بالحق ويدعو إليه .. ليرى الناس الدين سهلاً ميسراً .. نقياً صافياً .. لم تكدره آراء أهل البدع والأهواء .. ولم تحرفه أيدي أهل السوء والنفاق.
علماء أتقياء لكل منهم مواعظ وكلمات جامعة نافعة، قطفنا من أزهارهم، وجمعنا من ثمارهم، واقتبسنا من أنوارهم، وزينا الكتاب بما اصطاده الذهن من جواهر كلامهم، وما وعاه القلب من ألفاظهم، فعليهم رحمة الله وبركاته ما تعاقب الليل والنهار.
وقد حرصنا على التقاط جواهر الفقه الأكبر المنثورة، واستخراج القول الأهدى سبيلاً، والأقوم قيلاً، بدلاً من عرض الأقوال التي يُغشى بها العوام، وتفتن الخاص والعام، ويضل بها ضعفة العقول والأفهام.
إلى جانب ما في سردها وعرضها من الإطالة، وإضاعة الزمان، وإتعاب الفكر واليد واللسان، وفتح باب المراء والجدل، وتذكية أوار الفرقة والخلاف، وتسويق الآراء الشاذة التي مزقت الأمة، وجمعت بين التخليط والتخبيط، وركوب دابة العصبية والهوى.
ولتمام الفائدة، وحصول المقصود، فقد جمعنا جواهر كل موضوع في مكان واحد، وألّفنا بينها في عقد واحد، حتى استوت مستقيمة تؤدي وظيفتها في خدمة الدين والعلم، تستلذ بها العقول، وتطمئن بها القلوب، وتعمل بها الجوارح.
وقد مزجنا كلامنا بكلام خيارنا من سلفنا الصالح، من علمائنا وعبادنا وزهادنا، وأهل التقوى والصلاح، حسب ما يقتضيه المقام، من تفصيل مجمل، أو اختصار مطول، أو تقديم أو تأخير أو تهذيب، أو استدلال أو تعليل.
وجهدنا بالنسبة لعلومهم كالوعاء الذي يحمل المجوهرات والحلي والنفائس، ويهديها إلى الناس على مدى الدهور والأزمان.
والعلم بحر لا ساحل له، والله يعلم أنني من أعجز الخلق عن ركوبه، والسير بأمان في دروبه، خاصة العلم الإلهي الذي بعث الله به رسله، وأمرنا بتعلمه وتعليمه والعمل به.
ولكن الله برحمته بعث الهمة لجمع ما بين يديك، وهيأ الوقت لتحصيله، وشرح الصدر لطلبه، وحرك اليد لتحريره، ونشط العقل والفكر لجمعه وحسن عرضه.
فله الحمد على ما قضى وقدر .. وله الحمد على ما خلق وأمر .. وله الحمد على ما يسر وأعان .. وله الحمد على ما يسر لمن كتب .. وساق من قرأ .. ووهب الأجر لهذا وهذا .. والله واسع عليم .. شكور حليم.
يقبل التوبة من عباده .. ويرضى بالقليل من العمل .. وينعم بالثواب الجزيل من الأجر.
أحمد ربي كثيراً على عظيم جوده وكرمه، ورحمته وإحسانه، إذ وفقني لإيثار ما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الرب على ما تحبه النفس، وهداني لعبادته وطاعته، وساقني بأمره وكرمه ورحمته إلى ما تسرح في رياضه، وتتجول بين أزهاره وثماره، وتشرب من عذب مائه صافياً نقياً من الأكدار.
فله الحمد كثيراً، كما ينعم كثيراً، ويعطي كثيراً، ويرحم كثيرًا.
ولما جمعته وهذبته وحررته، جعلت أفكر باسمه، وبماذا أدعوه إذ وضعته أمه، فهداني من وفقني لرسمه بوسمه بـ (موسوعة فقه القلوب).
أسأله تبارك وتعالى أن يجعله مباركاً خالصاً لوجهه، مطابقاً لاسمه.
وقد جمعت فيه بفضل الله أقوال سلف الأمة في أصول الدين، ومقاصد الشريعة
العظمى، ليستبين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والرشد من الغي، والخير من الشر.
وقد توجت مسائله بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وزينتها بالبراهين العقلية، وبينتها بالأمثلة الحسية.
ولم نذكر في هذه الموسوعة من الأحاديث إلا ما ثبتت صحته ونسبته إلى النبي (، وأعرضنا عن كل حديث ضعيف، أو موضوع، أو باطل، أو منكر، أو شاذ، ولا أصل له، ليبقى الذهب خالصاً، والمشرب صافياً، والبناء متيناً، والسلعة ثمينة.
فجاء الكتاب بفضل الله محكم الفصول، محذوف الفضول، مقوياً للإيمان، محركاً للأعمال، مرغباً في أحسن الأخلاق، يطلق العقول من عقال الجهل والشك، ويطلق الجوارح لتعمل في ميادين الأعمال الصالحة.
وقد يسر الله لي ولك هذا المختصر اليسير، منطوياً على العلم الغزير، وقد اجتهدت في جمعه وتيسير عرضه، فاجتهد وفقك الله في مطالعته وحفظه، والعمل بما فيه بعد فهمه، فلا خير في علم بلا عمل.
وأحسب أن هذا المجموع المختار هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، لمن يريد الله والدار الآخرة، لما فيه من الآيات والأحاديث، وخلاصة أقوال العلماء الربانيين من سلفنا الأخيار.
وهذا الكتاب محض فضل الله عز وجل، فهو سبحانه وحده الذي بعث الهمة لكتابته، ووفق وأعان على إخراجه، ويسر وصوله إلى الناس.
يستهدي بإذن الله بسببه من ضل الطريق .. ويطمئن به الحائر التائه عن الصراط المستقيم .. يرتع في رياضه .. ويقطف من أزهاره وثماره .. فيعيش بين الخلق مسروراً .. ولربه عارفاً عابداً شكوراً.
وقد أمضيت أكثر من ربع قرن، وأتبعت الليل بالنهار، والوقت بعد الوقت، في جمع وتحصيل وتحرير ما بين يديك، وآثرت ذلك على جميع اللذات التي
تميل إليها النفوس، وقيدت نفسي من أجله عن كثير من المناسبات، وجمعته واعتصرته من أكثر من ألف مرجع، وأطلت فيه فكري، وأتعبت نفسي، لينفع الله به من يشاء من عباده ممن يصل إليه.
وقد بوبت أبوابه .. وفصلت مسائله .. وبسطت مجمله .. وحققت مشكله .. وعزوت آياته .. وخرجت أحاديثه .. وسلمته لكل مسلم. ليأخذ منه ما يحب وما يريد .. عفواً صفواً من غير كدر .. وأهديته إليه هنيئاً مريئاً .. ولعله أفضل له من كنوز المال إذا تدبره .. ويسره الله تعالى لاستعماله والانتفاع به.
وأنا راجٍ بعد ذلك كله من الله سبحانه عفوه ورحمته، وعظيم الأجر، لمحبتي لله، ورغبتي في نفع عباده، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، وتقويم ما اعوج من حياتهم، والله عليم بذات الصدور، وهو الموفق والمعين إنه نِعم المولى ونِعم النصير.
ولعلك تسعد وأنت تقلب هذه الموسوعة بما يسرك من علوم نافعة .. تم عرضها بألفاظ عذبة جميلة .. وجمل محكمة رصينة .. تحمل أفضل غذاء للقلوب .. وأحسن معانٍ للعقول .. تقبل بك إلى طاعة الرحمن .. وترغبك في الجنة والرضوان .. في جو مليح .. يسرك جماله .. ويبهرك برهانه.
بعيداً عن كل ما تكرهه النفس، أو يجفل منه العقل، أو ينفر منه الطبع، من كلام هزيل، أو عرض سقيم، أو حشو ممل، أو نقص مخل، أو كلام له روائح كريهة، يؤلم القلوب والجوارح، ويمزق الأسر والقبائل، ويتركها إما أنعاماً لاهية، أو سباعاً جارحة، أو وحوشاً متناطحة، ليست من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة.
وما بين يديك ذرة من جبل، وقطرة من بحر، تطلعك على عظمة الله جل جلاله، وعظمة ملكه، وعظيم إحسانه، وتكشف لك عظمة هذا الدين وجماله وكماله، ولعل في ولادته سعادة كاتبه وقارئه، ومستمعه وناشره:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
ولولا أن الله بعث الهمة لجمعه، ويسر تأليفه وتحريره، ما تجولت في حقوله، ولا تمتعت برياضه، فاحمد الله أن جعلك من عباده المؤمنين، واغتنم علماً سطره لك علماء الأمة الأخيار، ما ركضت رجلك لتحصيله، ولا بسطت يدك لتحريره، ولا سهرت عينك في تدوينه، ولا اعتل بدنك في طلبه، ولا تعب عقلك في جمعه وترتيبه وتحريره.
وما أكثر غوامض المسائل التي تحتاج إلى التحرير والتقرير والنشر.
مسائل كالجبال في العظمة .. وكالبحار في الظلمة .. وكالذر في الدقة .. كشف الله لك بهذه الموسوعة عن سرها .. فأشرقت بنورها .. وفاح عليك عبيرها وأريجها.
فصار الجو صحواً .. والماء صفواً .. والمر حلواً .. والظلام نوراً .. والشك يقيناً.
قد لاح النور من خلاله .. وفاح المسك من أركانه.
فيا لها من نعمة ما أعظمها من الرب الكريم وحده، وهنيئاً لمن اغتنمها فتعلمها، وعمل بها، وعلمها:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
أسأله سبحانه أن ينفعني به، وينفع به الخاصة والعامة، وسائر المسلمين في أنحاء الأرض، وأن يجعله قرة للعيون، وبهجة للناظرين، ومسرة للطالبين.
وقد منَّ الله علينا وعليك، فيسر لنا جمعه وتأليفه .. ويسر لك تملكه ومطالعته .. فدونك خمسة عشر قصراً .. لا من قصور الدنيا الفانية، بل من قصور الدين النافعة الباقية.
ولكل قصر باب .. وفي كل قصر غرف واسعة .. مملوءة بما لذ وطاب من الأغذية النافعة .. والأدوية الشافية بإذن الله للعقل والقلب والجوارح.
علوم تبعث الهمة والرغبة في النفس .. وتسكب الإيمان والطمأنينة في القلب .. وتحرك الجوارح للطاعة والعبادة .. وتثمر للعبد تعظيم الله ومحبته .. وحمده وشكره .. ودوام ذكره .. وحسن عبادته .. ورحمة الخلق .. والإحسان إليهم.
تم عرضها وتقديمها في عبارة موجزة .. جلية المعنى .. سهلة الفهم .. يزكو بها العقل .. ويطمئن بها القلب .. وينشرح لها الصدر.
وهي أغلى من الدر والياقوت، ساقها الله إلينا من علماء أتقياء بررة، بذلوا من أجل إعلاء كلمة الله كل ما يملكون، فصار لكلامهم نور، وسُرَّ الخلق وانتفعوا بما يقولون.
علماء ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي الناس أطايب الثمار.
وهذه نعمة .. وتلك نعمة .. وبينهما من المنافع والفضل كما بين السماء والأرض.
ونظراً لكثرة الجمع والتأليف .. والتشذيب والتهذيب .. والتقديم والتأخير .. والبسط والاختصار .. والتقريب والتفهيم .. فقد تم نظم الفوائد والفرائد والمسائل .. لتكون عقداً من الجواهر في كل باب .. مما يتعذر معه نسبة كل قول إلى قائله، ويعسر نسبة كل مكتوب إلى كاتبه، لكثرة المسائل وتنوعها، وتداخلها وتكرارها، وبسطها واختصارها.
وقد تكون من ذلك بفضل الله خمسة عشر عقداً من الجواهر النفيسة، والحلى الثمينة .. وهي هديتنا إليك .. وها هي بين يديك:
الباب الأول: فقه أسماء الله وصفاته.
الباب الثاني: فقه الخلق والأمر.
الباب الثالث: فقه الفكر والاعتبار.
الباب الرابع: فقه الإيمان.
الباب الخامس: فقه التوحيد.
الباب السادس: فقه القلوب.
الباب السابع: فقه العلم والعمل.
الباب الثامن: فقه قوة الأعمال الصالحة.
الباب التاسع: فقه العبودية.
الباب العاشر: فقه النبوة والرسالة.
الباب الحادي عشر: فقه الأخلاق.
الباب الثاني عشر: فقه الشريعة.
الباب الثالث عشر: فقه الطاعات والمعاصي.
الباب الرابع عشر: فقه أعداء الإنسان.
الباب الخامس عشر: فقه الدنيا والآخرة.
وليس جمع ما بين يديك بالسهل اليسير، ولكن الله أعان عليه، فقد جمعناه بعون الله من بقاع شتى، واعتصرناه من فواكه شتى، واستخلصناه من بحار شتى .. ونحتناه من صخور شتى.
ووفرت له أوقات .. وانبعثت له همم .. وتحركت له طاقات .. حتى كمل بناؤه .. وصار ماثلاً بين عينيك.
ولولا توفيق الله وعونه ما تحركت له همة، ولا خطته اليد، أما وقد وصل إليك بفضل الله، فلا يكون حظك منه الإعجاب بأسلوبه وعرضه، والإعراض عن قلبه ولبه.
فهو لعموم المسلمين .. لكنك المخاطب به .. وأنت المقصود منه .. وما كتب لأحد سواك، فأكرم الضيف الذي حل بك، وأكرم نزله بأداء حقه بما فيه، ونشره ونفع المسلمين به، رفع الله درجاتك في الجنان، وزينك بالتقوى والإيمان، ونفع بك المسلمين في كل مكان.
وإنك سترى في الباب الواحد أحياناً من الأفكار والمسائل ما ترى أنه لو كان مفرقاً لكان أحسن، ليسهل فهمه وحفظه والعمل به، ولكنها طريقة القرآن في السور والآيات، أحكام مختلفة، وسنن متنوعة، جمعها الله في سورة واحدة، أو آية واحدة، لنفس واحدة، وهذا كما أنه موجود في العقليات فهو موجود في الحسيات كذلك.
فإنك ترى بلا تكلف أنه يجمع لك ألوان الطعام في صحن واحد، وتقدم لك
ألوان الفواكه في سلة واحدة، فتقبل ذلك النفس وتتلذذ به، ويتغذى بذلك البدن، ويولد فيه كامل الطاقة البدنية.
وكذلك العلوم والمعارف يستقبلها العقل، ويتلذذ بها على اختلاف أنواعها، ثم يحولها إلى القلب، ثم يدفعها القلب طاقة علمية وعملية إلى الجوارح، فجمع العلوم في الذهن كجمع ألوان الطعام في البطن، كلاهما شهي يولد الطاقة بحسب طيبه ونفعه.
هذا يولد الطاقة البدنية .. وذلك يولد الطاقة العلمية والعملية.
وقد لا يظهر لك المعنى أحياناً لأول وهلة، وقد تفهم منه خلاف المراد فيما يظهر، وقد تحملك قوة العاطفة وشدة الغيرة على الدين، على نبذ الكتاب كله، والشماتة بصاحبه، وتحذير الناس من مقولته.
وقد يستخفك الشيطان، ويركض بك إلى النار وأنت لا تدري، فيدفعك لتحمل الآيات والأحاديث على ما لا تحتمله، وتستدل بها في غير موضعها، اتباعاً لهواك، وانتصاراً لرأيك، فتثور منك عجاجة من القول لها غبار ودخان.
ولو صبرت قليلاً حتى تتم القراءة لزال اللبس، وبان لك الصواب، فما لا يظهر بنور الكوكب يظهر بنور القمر، وما لايظهر بنور القمر يظهر بضياء الشمس، وما قد يخفى على الإنسان في البداية قد يظهر له في النهاية، وإذا تجولت في المدينة عرفتها، وعرفت ما فيها من الطرق والسلع، ووصلت إلى ما تريد بأقصر طريق، لكن مع الصبر الجميل.
وهكذا إذا أتم القارئ قراءة الكتاب أو المقال انكشف له ما التبس عليه، وهذه سنة كونية وشرعية، فإياك والعجلة فإنها تعقب الحسرة والندم:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].
والخطأ والزلل، والضعف والتقصير، والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، والكمال في كل شيء لله الواحد القهار.
وقد هاجت حين إعداد هذه الموسوعة رياح عاصفة شديدة من الأعمال
والصوارف والطوارق، وأدركني التعب والسأم والملل لطول الطريق، وبعد المسافة، وكثرة المزالق، فضعفت العزيمة، وزادت الحسرة والألم، فيا لها من مصيبة وقعت في وسط هذا البحر الأعظم، أصابت مسكيناً لا يحسن الترحال بين جزائر هذا البحر الكبير، وليس معه نفقة تبلغه إلى مقصوده، فيا ليته عند أهله، وما اقتحم ما اقتحم.
فما أحوج هذا المسكين إلى رحمة ربه وعونه وتوفيقه، وما أحوجه إلى أن يستغفر ربه من ذنوبه وعيوبه، ويتوب إليه من زلاته وعثراته.
وما أجدره بشكر ربه على نعمه وآلائه وإحسانه، لعله يقبل فيعان، ويواصل السير، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، ويسلم البضاعة إلى أصحابها.
هذا وإن الإخلاص عزيز .. وتحقيقه في كل عمل أعز .. خاصة فيما يجلب الشهرة للعبد من رئاسة أو مال أو علم، فهذه مطايا يبتلى بها الناس، وأهلها أول من تسعر بهم النار إن فقدوا الإخلاص الذي هو روح الأعمال.
فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في كل قول وعمل.
ولولا أنه لا بد لكل شيء من مسمى .. ولكل مجموع من جامع .. ولكل مرسوم من راسم .. لتكمل الفائدة بالمقروء والمسموع .. وتتم النصيحة في الزلل والخطأ .. ويحصل الاتصال بين الكاتب والقارئ .. ويتحقق التعاون على البر والتقوى .. لولا ذلك لما قلدناه وأشعرناه بما يدل الناس علينا .. ويجعلهم ينسبون تأليفه وجمعه إلينا.
فذلك كله محض فضل الله تبارك وتعالى، ولسنا علم الله له بأهل ولا كفؤ، ولكن الله كريم يجود بالخير على المقصرين، ويثيب على ذلك بالثواب المضاعف الجزيل، ولولا ذلك لما تجشمناه حتى صار مولوداً.
نسأله عز وجل أن يقبله، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عموم الخلق في شتى الأقطار والديار، وأن يعفو عنا ما وقع فيه من زلل وخطأ ونقص غير مقصود، سببه الجهل والقصور البشري الذي طبع الله عليه كل إنسان.
ونسأله سبحانه أن يمحو زللنا بعفوه .. ويتجاوز عن سيئاتنا بمغفرته، وأن يعاملنا بإحسانه لا بعدله، إنه جواد كريم.
ووددت أني خليت بين المطي وحاديها .. وتركت القوس وباريها .. وما تجهمت ما لست له بأهل .. وما ليس لي فيه ناقة ولا جمل .. ولكني رأيت سوق الباطل رائجة، وساحة الحق راكدة، فألقيت حسب استطاعتي بذرة طيبة .. في أرض زاكية .. لعلها تؤتي أكلها كل حين .. حتى يبعث الله من يزرع البساتين .. ويفجر الأنهار في العالمين.
ولولا واجب النصيحة، وأداء للأمانة، وخوفاً من كتمان العلم عن طالبيه والراغبين فيه، لما تجشمنا لك ما بين يديك، ولسعينا في كسب الأجور من أبواب أخرى، سهلة المرتقى، سهلة الأداء، ولا يلحقها تبعات.
وما نرجوه بأداء الأمانة النجاة والسلامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160].
نسأل الله عز وجل أن يرقينا وإياكم من العلم إلى العمل، ومن الوصف إلى الاتصاف، وأن يزينّا بزينة الإيمان، ويرزقنا عالي الجنان.
وما أودع بفضل الله في هذه الموسوعة من الجواهر والنفائس، فللقارئ غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وله ثمرته ومنفعته، ولصاحبه كدره ومشقته، مع تعرضه لطعن الطاعنين، وسهام الراشقين، وأستعذر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين، والله المستعان، وعليه التكلان.
وكل ما نرجوه بهذا العمل أن يعرف الناس ربهم .. ويعرفوا حقه .. ويعبدوه حق عبادته .. ويطيعوا الله ورسوله .. ويسيروا على هداه .. ليفوزوا برضاه، ويدخلوا الجنة.
نسأل الله الملك الوهاب أن ينفع به عموم الناس في سائر الأقطار، وأن يجعله
خالصاً لوجهه الكريم.
ولا ندعي أن هذا الكتاب نور يبدد كل الظلمات .. ولا بستان فيه من كل الثمرات .. فهو وإن كان فيه بعض ذلك .. إلا أنه يبقى جهد مخلوق ضعيف ظلوم جهول، يسر الله له وضع أساسه، حتى يأتي من يكمله إلى شرفاته.
ولولا فضل الله ورحمته ما ظهر لك نوره، وإن كانت بين يديك سطوره، ولكن نسأله سبحانه أن يجعله قبساً من نور، وشجرة مباركة تثمر على مر الدهور، وشمساً تضيء على مر العصور، ونهراً يشرب منه كل عطشان في كل زمان ومكان، ومعولاً يتصدع به جدار الباطل، وتتهدم به حصون الشهوات والشبهات والشكوك.
فيزداد المؤمن الموحد إيماناً، فيعظم ربه كثيراً، ويذكره كثيراً، ويحمده كثيراً.
ويحصل للكافر الإيمان بعد الكفر، واليقين بعد الشك، والهدى بعد الضلال.
ويقبل العاصي على ربه فرحاً مسروراً، وعلى معاصيه نادماً، وإلى طاعة ربه مسارعاً.
وفي الختام أحمد ربي وأشكره على جزيل نعمه، وأستغفره من كل زلل وخطأ وقع في بعض المسائل المسطورة من غير قصد، إنه هو الغفور الرحيم.
وأعوذ بالله العلي العظيم من شر كل حاسد يريد أن يطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
ونعوذ بالله من شر كل جاهل غشوم .. ومن شر كل حاسد إذا حسد .. ومن شر النفاثات في العقد .. ومن شر كل ما خلق .. ومن شر ساكن البلد .. ومن شر كل والد وما ولد.
ونعوذ به سبحانه أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، أو نقول على الله بلا علم، أو ندعو إلى غير الحق، أو نقول ما لا نفعل.
ونعوذ بالله ممن جعل الملامة بضاعته، والعذل نصيحته، فهو دائماً يبدي في الملامة ويعيد، ويكرر العذل فلا يفيد ولا يستفيد.
وعياذاً بك اللهم من كل شيطان في جثمان إنسان، ومن كل عدو في صورة ناصح، ومن كل لئيم في صورة كريم، ومن كل سبع ضارٍ في صورة إنسان بار.
فالله سبحانه قد ركب في النفس الإنسانية قوىً مختلفة:
فمنها قوة العدل الذي يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق.
ومنها قوة الغضب والشهوة اللذان يزينان لها الجور والظلم، ويعميانها عن طريق الرشد.
ومنها قوة الفهم الذي يليح لها الحق من قريب، وينير لها ما في الظلمات، فترى الحق واضحاً جلياً.
ومنها جهل يطمس عليها الطريق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتقلب، ويهجم بها على الطرق المجانبة للحق والهدى.
ومنها قوة التمييز الذي به تفهم الخطاب، وتعرف به الأشياء على ما هي عليه.
ومنها قوة العقل الذي يعين النفس المميزة على نصرة العدل، وإيثار الحق، وكراهية الباطل، ورفض ما قاد إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية.
وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
ومن عثر على شيء مما طغى به القلم، أو زلت به القدم، فليبادر إلى النصيحة .. ويدرأ بالحسنة السيئة .. ويعفو ويصفح عن عثرات الضعاف .. ويحضر بقلبه أن الإنسان مهما كان هو محل الخطأ والنسيان، والضعف والنقصان .. وأن الحسنات يذهبن السيئات .. والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
واحذر من الشيطان أن ينقلك من روضة الدعاء والنصيحة إلى بحر العداوة، وسكين الغيبة والنميمة، وسوء الظن، فتلدغ لدغ العقرب، وتلسع لسع الحية، وتنهش نهش الأسد.
وتقذف بهذه السموم في مقال مقروء، أو بيان متلو، يوهمك الشيطان أنك ناصح، ويركبك وأنت لا تدري، ويسوقك إلى جهنم بعصا الكبر والخديعة،
لتقول على لله بلا علم، وتذم الخلق بما ليس فيهم، فتزيد آثامك، ويأخذ الناس حسناتك، وتقدم على الله مفلساً نادماً.
وكل ما نرجوه ونسعى إليه .. أن يرضى الله عنا وعن جميع الخلق .. وأن يستعملنا فيما يحبه ويرضاه .. وأن يرزقنا جميعاً الاستقامة على عبادته وطاعته والعمل بشرعه .. وأن يدخل الناس في دين الله أفواجاً .. ويعرفوا ربهم .. ويتعلموا أحكام دينهم .. ويعبدوا ربهم مخلصين له الدين ولو كره الكافرون .. وأن يرزقنا بعد ذلك الجنة .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88].
هذا وإني ذاكر وشاكر لكل مخلص وناصح من المؤمنين والمؤمنات، وراغب إليهم أن يستفيدوا من هذا الروض المبارك، الذي وفقنا الله لجمعه من أقوال علماء سلف الأمة عليهم رحمة الله، جمعنا فيه ما تفرق في غيره من فقه القلوب، من التوحيد والإيمان، والأعمال والأخلاق، وفقه الدنيا والآخرة.
فخرج الكتاب بفضل الله وعونه مملوءاً بالخيرات .. محبباً للطاعات .. دافعاً للشبهات .. مرغباً في الصالحات .. متوجاً بالآيات القرآنية .. مزيناً بالأحاديث النبوية.
يستريح المسلم في ظلاله، ويأكل من ثماره، ويقدم على مولاه بما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأعمال والأخلاق.
وما بي أن أثني على الكتاب، فليس لي حق في ذلك، ولكنه الترغيب والتشويق حتى يركض الفارس في الميدان، ويسارع لطاعة ربه الرحمن، ثم يحكم بما ظهر له وبان، ويستقيم على ما يحبه ربه ويرضاه مع السابقين الأبرار.
وذلك ما نتمناه ونحبه لكل إنسان من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، على مر الأيام والدهور.
فالحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى .. والحمد لله على كل حال .. والحمد لله الذي يسر الجمع والتأليف .. وبعث الهمة لذلك .. وشرح الصدر
للبدء والختام.
وقد جاء الكتاب بفضل الله وحده جامعاً نافعاً، لكل قوم منه نصيب، ولكل وارد منه مشرب، فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك مغفرة وعذراً، فكلنا مطبوع على الخطأ، وخير الخطائين التوابون.
وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، وكلنا ظلوم جهول، ولله يعفو عنا وعنكم، والله سبحانه وحده الذي استأثر بالكمال والجمال، واختص بالحمد والثناء، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، وهو عالم السر والخفيات، ودافع الشر والبليات.
نحمده جل وعلا على آلائه وإنعامه وإحسانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السموات والأرض وما بينهما، حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه.
ونستغفره عز وجل من كل ما زلت به القدم، أو طغى به القلم .. ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا .. ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه ثم خالطه غيره .. ونستغفره من كل وعد وعدناه من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به.
ونستغفره سبحانه من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته .. ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف أمام الناس.
ونرجوه بعد الاستغفار من ذلك كله أن يغفر لنا ولوالدينا، وأزواجنا وذرياتنا، ولمن طالع كتابنا هذا أو سمعه أو نشره، ولكل مسلم ومسلمة، وأن يتجاوز عن سيئاتنا جميعاً، إنه جواد كريم.
كما نرجوه سبحانه أن لا يعاملنا بما نستحقه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا وأعمالنا طرفة عين، وأن يتفضل علينا بما هو أهله من جوده وكرمه ورحمته، إنه شكور حليم غفور رحيم.
اللهم كما بعثت الهمة لتأليفه وجمعه .. ووفقتنا لعرضه ونشره .. فأسألك اللهم بأسمائك الحسنى .. وصفاتك العليا .. وبكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وأن تتقبل هذا
العمل، وتكتب له الأثر في القلوب، وتشرح له الصدور.
وأن تحرك بما فيه من خير ألسنة العباد بذكرك وشكرك، وتعليم شرعك، والدعوة إلى دينك، وتملأ قلوبهم بتعظيمك وتكبيرك وحمدك، وتزين جوارحهم بعبادتك وطاعتك، وفعل كل ما يرضيك.
فأنت أحق مَن عُبد .. وأحق من شكر .. وأرحم من ملك .. وأجود من سئل .. فلك الحمد في الأولى والآخرة .. ولك الشكر على عظيم نعمك، وجزيل عطائك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على هديهم إلى يوم الدين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري
المملكة العربية السعودية: بريدة
0555144300 -
0504953332