الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - فقه المشيئة والإرادة
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 29، 30].
وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: 107].
وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
إن جميع الخلائق، وجميع المؤمنين والكفار، وجميع المطيعين والعصاة، كلهم في قبضة الله سواء، وكلهم تحت قهره وسلطانه سواء.
وهم جميعاً لا يملكون أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله، وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد.
ولكن المؤمنين في القدر المتروك لهم للاختيار، بين الخضوع القهري المفروض عليهم بسلطان الله في ذوات أنفسهم، وفي حركة خلاياهم، وفي تكوينهم العضوي، وفي لونهم وطولهم.
وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار.
وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموساً واحداً، وسلطاناً واحداً، وحاكماً واحداً.
وأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا عنه.
بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه، أشقياء باختيارهم ما يضرهم، وما يغضب الله، ولهم أمد ثم يحاسبون على ما اختاروا يوم القيامة.
وهم بعد هذا كله في قبضة الله، لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا
بقدره ومشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29].
والله عز وجل أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومكن من أسباب الهداية بالسمع والبصر والفؤاد، وجعل الهداية بيده وحده، فالأمر كله له:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39].
ومشيئة العباد من جملة الكائنات التي لا توجد إلا بمشيئة الله سبحانه، فما شاء كان ولا بدَّ، وما لم يشأ لم يكن البتة.
والكون كله متعلق بمشيئة الله:
الملائكة والشياطين .. والمؤمنون والكفار .. والطاعات والمعاصي .. والمتعلق بمحبته طاعتهم وإيمانهم.
فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لايستقر فب النار شيء لله أبداً، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
ومشيئة الله عز وجل لها حالتان:
تارة تتعلق بفعله .. وتارة تتعلق بفعل العبد.
فتعلقها بفعله: أن يشء من نفسه إعانة عبده وتوفيقه وتهيئته للفعل.
فهذه المشيئة تستلزم فعل العبد ومشيئته، ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة الله لمشيئة عبده، دون أن يشاء فعله، فإنه سبحانه قد يشاء من عبده المشيئة وحدها.
فيشاء العبد الفعل ويريده ولا يفعله، لأنه لم يشأ سبحانه إعانته عليه وتوفيقه له لعلمه بحاله كما قال سبحانه:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].
ومشيئة الله عز وجل محيطة بالخلائق كلها، وبالعباد جميعاً إنسهم وجنهم، وجريان الأحداث في هذه العوالم كلها بمشيئة الله وقدره.
واستدراجه لأعداء الرسل من شياطين الإنس والجن، وإمهاله لهم، ليقترفوا ما هم مقترفون:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].
ولو شاء الله لقهرهم على الهدى، ولكفهم عن الضلال قهراً، أو لهداهم إلى الحق، وشرح صدورهم له.
أو لكفهم عن أذى الرسل والمؤمنين فلم يصلوا إليهم، فهم لا يعادون الرسل، ولا يقترفون ما يقترفون خروجاً عن سلطان الله ومشيئته، فهم أعجز من أن يخرجوا عن ذلك.
إنما هي مشيئة الله اقتضت أن يترك لهم الخيار، والقدرة على الهدى والضلال، وهم في قبضة الله على كل حال:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 111].
وإذا تقرر أن عداء شياطين الإنس والجن للرسل وأتباعهم سنة يجري بها قدر الله، ليميل أهل الباطل وعشاق الدنيا إلى الباطل، ويتميز الصادق من الكاذب.
وأن هؤلاء الشياطين على كل ما يرتكبونه هم في قبضة الله.
فكيف يتوجه المرء إلى غير الله؟ .. وكيف يبتغي حكماً غيره؟: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: 114].
وقد أكمل الله الدين، ويسره للأمة، فلم يعد هناك قول لقائل، ولا حكم لبشر:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115].
فهداية المهتدين، وضلال الضالين، كلاهما إنما يتم بقدر من الله، وهؤلاء كهؤلاء كلهم في قبضة الله وسلطانه، وتحت مشيئته وقدره:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125].
ومشيئة الله سبحانه مطلقة لا يند عنها شيء، وهو فعّال لما يشاء.
فالخلق خلقه، والأمر أمره، وهو الحكيم العليم الذي يضع الشيء في موضعه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس: 99].
فلو شاء سبحانه لخلق هذا الإنسان خلقة أخرى، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً، هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً.
أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان.
ولو شاء كذلك لأجبر الناس وقهرهم على الإيمان .. وما الذي يمنعه من فعل ما يشاء؟.
ولكن حكمة الخالق عز وجل اقتضت خلق هذا الإنسان باستعداد للخير والشر .. وللهدى والضلال .. وللطاعة والمعصية.
ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك الطريق.
وقدرت أنه إذا أحسن استخدام ما وهبه الله من حواس ومشاعر ومدارك، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس، وما يجيء به الرسل من آيات وبينات، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص.
وعلى العكس حين يعطل ما وهبه الله من حواس، ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الهدى والإيمان، يقسو قلبه، ويستغلق عقله، وينتهي بذلك إلى التكذيب والجحود، وإلى ما قدر الله للمكذبين الجاحدين من جزاء.
فالإيمان إذاً متروك للاختيار لا يكره عليه أحد، لأنه لا مجال للإكراه على مشاعر القلب:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} [يونس: 100].
فالإيمان له سنة ماضية جارية، فلا تصل النفس إلى الإيمان، وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه.
وإنما تصل إلى الإيمان إذا سارت وفق أمر الله وسنته في الوصول إليه من طريقه المرسوم بالسنة الجارية العامة.
وعندئذ يهديها الله، ويقع لها الإيمان بإذنه، فلا شيء يتم وقوعه إلا بإذن الله.
والذين عطلوا عقولهم عن التدبر، فهؤلاء يجعل الرجس عليهم بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر، وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفر، والآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون، وهي معروضة عليهم، ولكنهم لا يستفيدون منها، ولا يتعظون بها لعدم إيمانهم:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].
إن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، وجعل له مشيئة يختار بها ما يشاء، وميزه بالقدرة على الاختيار بين البدائل، وهو ما لم يعطه لغيره من الخلق.
وفوق مشيئة الإنسان مشيئة الله التي يخضع لها كل شيء في الكون كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27، 29].
وبعض الناس يرى في هذا تعارضاً، وفي الواقع أنهما متفقان تماماً.
فالإنسان حر في أن يختار هذا أو ذاك، ولكنه لا يستطيع أن يحقق ما يريده بالضبط إلا إذا شاء الله.
فقد يريد الإنسان نفع أحد أو أذى أحد، ولكنه لا يصل إلى ما يريد دائماً، فإذا التقى ما يريده مع المشيئة تم، وإذا لم يلتق مع مشيئة الله فإنه لا يتم.
وقد يسعى رجلان لهدف واحد، أحدهما يحققه، والآخر لا يحققه، سواء اختار طريق الخير أو الشر، الاختيار لهما، ولكن التوفيق أو الإتمام يأتي بمشيئة الله. ولذلك يصف الله عز وجل يوم القيامة بأنه:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق: 9].
فإذا وقف شخصان مثلاً أمام رجل فقير محتاج:
أحدهما: يضع في يده المال سراً.
والثاني: يعطيه المال أمام الناس رياءً.
فتكتب للأول حسنة، ولا تكتب للثاني.
فمشيئة الله عز وجل أن يصل للرجل درهمان، ولو عن طريق غير طريق إرضاء
الله بالإحسان إلى الفقير.
فيأتيه درهم بالإحسان .. ويأتيه درهم آخر بالتباهي والتفاخر.
ورغم أن هدفهما مختلف، إلا أن مشيئة الله تمت، ووصل إلى هذا الرجل رزقه الذي قدره الله له.
فالإنسان يختار بين البدائل، ويسعى في الخير أو الشر، ويأتي الشيطان ليغري، وطاعة الله لتذكر الإنسان، ثم يتم العمل إذا التقت المشيئة به، أما إذا لم تلتق، فقد يأتي شيء يوقف هذا كله.
والله عز وجل مالك كل شيء، وبيده كل شيء، وهو الذي يملك القدرة على الفعل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
أما البشر وغيرهم من المخلوقات فهم عاجزون تماماً عن الفعل أو الترك إلا بمشيئة الله.
فالذي يريد من البشر أن يفعل شيئاً لا بد أن يملك أولاً القدرة على الفعل .. والوقت الذي سيتم فيه الفعل .. والمكان الذي سيتم فيه الفعل.
فإذا قلت: سأذهب إلى فلان غداً، فيجب أن أملك القدرة في أن أكون موجوداً غداً على قيد الحياة، وأنا لا أملك هذه القدرة بل الله وحده هو الذي يملكها.
وقد أكون موجوداً لكنني لا أستطيع أن أذهب لمقابلة هذا الشخص، قد أمرض فجأة، وقد يأتيني شيء عاجل يشغلني عنه، أو قد يهبط علي ضيف غير متوقع.
وقد أكون على قيد الحياة، وبصحة جيدة، وليس لدي ما يمنعني من أن أتم هذه المقابلة، لكن من سأذهب إليه، قد أذهب إليه فلا أجده في منزله لأي سبب من مرض أو شغل مفاجئ يمنعه من المقابلة.
فالإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر القدرة على العمل، ليقول أنه سيفعل كذا في مكان كذا في وقت كذا.
ولكن الذي يملك القدرة هو الله سبحانه، فهو القادر الذي يقول للشيء كن فيكون، ولا يعجزه شيء، ولا يمنعه شيء.
فالفعال لما يشاء هو الله وحده، أما نحن جميعاً فكلنا فعالون لما يشاء الله سبحانه.
فما دام العمل يدخل في المشيئة فهو سيتم قطعاً، لأن الله وحده هو الفعال، لا راد لقضائه.
وما دام العمل لا يدخل في المشيئة فلن يتم قطعاً، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} [الكهف: 23، 24].
فالله هو الفعّال لما يشاء، وأما الإنسان فليس له من الأمر شيء، والله يريد أن يذكرنا بنعمه، وأن نعلم أن الفضل منه، وأن الذي أعطى يستطيع أن يأخذ، وأن الذي منح يستطيع أن يمنع.
إن الإنسان حين يغتر بقدرته يبطش ويظلم، ويفتك بالضعفاء، ويطغى ويفسد في الأرض.
أما إذا تذكر أن هذا كله من قدرة الله، وأن الله إن شاء منح، وإن شاء أخذ، وإن شاء أعطى، وإن شاء أوقف هذا العطاء، فإن خشيته تدخل في قلبه، فتجعله يراجع نفسه فلا يبغي ولا يظلم، ويخشى الله في كل عمل يعمله، وفي هذا صلاح الكون كله.
وقد فرق الله بين مشيئته ومحبته، فقد يشاء الله ما لا يحبه كمشيئته لخلق إبليس وجنوده، وكل شر ومصيبة ومعصية.
وقد يحب ما لا يشاء كونه، كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء لوجد ذلك كله.
والله سبحانه لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه، فإن المراد نوعان:
مراد لنفسه .. ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير كالطاعات.
والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له.
فالله عز وجل خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الله، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل حيلة، وهو مبغوض للرب لعنه الله ومقته، ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إلى الله من عدمها كما ذكرناها آنفاً.
وكل شيء في هذا الكون واقع بمشيئة الله وقضائه وقدره، فإنه سبحانه يخلق ما يحب وما يكره، وهو الحكيم العليم.
فكما أن الأعيان كلها خلقه، وفيها ما يبغضه ويكرهه كإبليس وجنوده وذريته، وسائر الأعيان الخبيثة.
وفيها ما يحبه ويرضاه كأنبيائه ورسله، وملائكته وأوليائه.
فهكذا الأفعال كلها خلقه.
ومنها ما هو محبوب له .. ومنها ما هو مكروه له.
فالمحبوب كالطاعات والحسنات، والمبغوض كالمعاصي والسيئات التي خلقها لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان.
والكفر والشرك واقعان بمشيئة الله وقدره، والإيمان والتوحيد واقعان بمشيئة الله وقدره.
وأحدهما محبوب للرب مرضي له .. والآخر مبغوض له مسخوط.
فالإيمان والطاعات والحسنات كلها محبوبة لله، وقد أمر بها.
والشرك والمعاصي والسيئات كلها مكروهة لله، وقد حذر منها.
وكل ذلك واقع بمشيئة الله وقضائه وقدره، لكن الأول محبوب له والآخر مكروه له، والمحبوب والمكروه كله بقضاء الله وقدره كما قال سبحانه:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} [الزمر: 7].
ومشيئة الله عز وجل هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال.
فقد اقتضت مشيئة الله أن يبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء.
وجعل الله سبحانه هذا القدر موضع ابتلاء وامتحان للبشر.
فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى، والتطلع إليه، والرغبة فيه، فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه سبيله.
ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وآياته فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله ويبعده عن الطريق، وأن يدعه يتخبط في الظلمات.
وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة.
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي شاء أن يهدي هؤلاء، لأنهم أخذوا بأسباب الهدى، وهو الذي شاء ألا يهدي هؤلاء، لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى.
وهو الذي شاء أن يدع للبشر هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء.
وهو الذي يهديهم إذا جاءوا للهدى .. وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8].
والله سبحانه خالق هذا الكون وما فيه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا تعارض بين مشيئة الله وقدره، وبين إرادة الإنسان وعمله.
فإذا قيل أن إرادة الله تدفع الإنسان دفعاً إلى الهدى أو الضلال، لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية.
وإذا قيل أن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله، لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية.
بل الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة بين طلاقة المشيئة الإلهية، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي، بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم.
فالذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له، هو من صنع الله قطعاً، فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه.
والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقاً وعسراً، هو من صنع الله قطعاً، لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه، وكلاهما من إرادة الله بالعبد، ولكنها ليست إرادة القهر، إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الإنسان بهذا القدر من الإرادة.
وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125].
إن كثيراً من الكفار والمشركين والعصاة يلوحون بأن الله أجبرهم على ما فعلوه من كفر أو معصية كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35].
إن أمر الله ظاهر لمن تدبره، فالله يأمر عباده بالخير، وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين في الدنيا أحياناً بعقوبات ظاهرة، يتضح فيها غضبه عليهم لعلهم يتوبون كما قال سبحانه:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة: 21].
فلا مجال بعد هذا لأن يقال: إن إرادة الله ترغم العصاة على الانحراف، ثم يعاقبهم الله عليه، إنما هم متروكون لاختيار طريقهم، وهذه هي إرادة الله.
وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر، من هدى أو ضلال، يتم وفق مشيئة الله.
لكن الله يحب لهم الإيمان والطاعات، ويرضى بها، ويأمر بها.
ويكره لهم الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بها، بل يمقتها ويبغضها، وينهى عنها.
وقد بين الله عز وجل لرسوله سنته في الهدى والضلال بقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} [النحل: 37].
فوظيفة الرسول البلاغ، أما الهدى والضلال فيمضي وفق سنة الله، وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها.
فمن أضله الله، لأنه استحق الضلال وفق سنة الله فإن الله لا يهديه، لأن لله سنناً شرعية تعطي نتائجها، وسنناً كونية تعطي نتائجها، وهكذا شاء الله، والله فعال لما يشاء، وقدرته سبحانه فوق كل شيء، لأن الله لا يعجزه شيء.
وكل شيء في الوجود مرده إلى مشيئة الله، وما يأذن به الله للناس من قدرته على الاختيار هو طرف من مشيئة الله، ككل تقدير آخر وتدبير، شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون به، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون.
فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].
فلا يفهم الناس أن مشيئتهم منفصلة عن مشيئة الله التي يرجع إليها كل أمر.
فإعطاؤهم حرية الاختيار ويسر الاهتداء إنما يرجع إلى تلك المشيئة المحيطة بكل شيء كان أو يكون أو سيكون.
ولا بد أن يعلم المؤمنون هذه الحقيقة ليدركوا ما هو الحق لذاته، وليلجأوا إلى مشيئة الله الشاملة لكل شيء، يطلبون عندها العون والتوفيق، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون ويدعون في الطريق.
فكل ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، وقد نهى الله سبحانه أن يقول العبد في الأمور المستقبلة: إني فاعل ذلك من دون أن يقرنه بمشيئة الله، لما فيه من المحذور برد الفعل إلى مشيئة العبد وحده، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله.
ولما في ذكر مشيئة الله من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد بربه، كما قال سبحانه:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} [الكهف: 23، 24].
ولما كان العبد بشراً لا بد أن يسهو عن ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك إذا ذكر، ليحصل المطلوب، ويندفع المحذور.
ويحسن بالعبد ذكر الله عند النسيان فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه.
وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله أن يذكر ربه ولا يكونن من الغافلين.