الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فقه خلق الخير والشر
قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107].
وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
الله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره حلوه ومره، وخيره وشره.
وعلى العبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره:
إن أصابته نعمة علم أنها من الله فشكره عليها، وإن أصابته مصيبة صبر عليها ليثاب عليها.
وعليه إذا أذنب أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا يحتج بالقدر.
بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته.
إذ لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وخلقه، فهو خالق كل شيء، لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وظلم نفسه، وفعل الفاحشة، كما أنه هو الذي صلى وصام، وحج وجاهد.
فهو الموصوف بهذه الأفعال، وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب لها، له ما كسب، وعليه ما اكتسب.
والله خالق كل ذلك بقدرته ومشيئته، والعبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وعلى هذا، وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله.
فلله مشيئة، وللعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب كما قال سبحانه:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].
والذنوب للأرواح كالسموم للأبدان، والذنوب مثل أكل السم، فالإنسان إذا أكل السم مرض او مات، فهو الذي يمرض ويتألم، ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله.
وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم، فإن شرب الدواء النافع عافاه الله.
فالذنوب كأكل السم، والدواء النافع كالتوبة النافعة.
والمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب.
والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقياً في الدنيا والآخرة.
وأساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فيتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فيشكر الله عليها، ويتضرع إليه ألا يقطعها عنه، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فيبتهل إلى الله أن يحول بينه وبينها، ولا يكله في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسه.
فكل خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شر فأصله من خذلانه لعبده .. والتوفيق بيد الله ومفتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللجوء إلى الله.
فمن أعطاه الله هذا المفتاح فتح له، ومن أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجاً عليه.
وجماع الخير الذكر والطاعات .. وجماع الشر الغفلة والشهوات.
فالغفلة عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر والطاعات، والشهوات تفتح باب الشر والسهو والخوف.
فيبقى القلب مغموراً فيما يهواه، غافلاً عن ربه، ساهياً عن ذكره، قد انفرط أمره، وران حب الدنيا على قلبه.
والإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان.
والخير: ما يلائم العبد من الطاعات والأحوال الطيبة، من غنى وصحة
ونحوهما.
والشر: ما لا يلائم العبد من المعاصي والأحوال المكروهة، من فقر ومرض ونحوهما.
والخير ينسب إلى الله، والشر لا ينسب إليه سبحانه لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أخرجه مسلم (1).
فالشر لا ينسب إلى الله لا فعلاً ولا تقديراً، ولا حكماً ولا إرادة، بل الشر في مفعولاته سبحانه لا في فعله.
ففعله كله خير، فالابن حين يشتكي المرض ويحتاج إلى كي، فإن أباه يكويه بالنار، فالمفعول الذي هو الكي شر، لكن الفعل خير، لأنه يعقبه الشفاء بإذن الله.
ثم إن ما يقدره لا يكون شراً محضاً، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنسبة إليه، أما لغيره ممن يتعظ به فيكون خيراً.
وقطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه بالتأمل خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره.
أما بالنسبة له، فإن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضاً خير بالنسبة لغير السارق، لأن فيه ردعاً لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضاً حفظ الأموال.
والحق والخير ينتشران بالتعاون .. والشر والباطل ينتشران بالتعصب، لذلك أعمال الدين تقوم على الشورى، فكل محتاج إلى الآخر في إقامة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» متفق عليه (2).
والله تبارك وتعالى أصلح الأرض بما خلق فيها، وما خلق على ظهرها، من
(1) أخرجه مسلم برقم (771).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2446)، ومسلم برقم (2585).
الأشياء والأسباب التي تلائم الإنسان.
وأصلحها ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله وتوحيده والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له.
إن فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك بالله، ومخالفة أمره كما قال سبحانه:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
وقد نهانا الله عز وجل عن الفساد في الأرض بقوله سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)} [الأعراف: 85].
ولا صلاح للأرض وأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، ورسوله هو المتبوع، وشرعه هو الذي يحكم حياة الناس.
ومن تأمل أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته، وطاعته وطاعة رسوله.
وكل شر في العالم من فتنة وبلاء، وقحط وتسليط عدو فسببه الكفر بالله ومخالفة أمر الله ورسوله، والدعوة إلى ما يغضب الله ويسخطه.
والشر الواقع في العالم قسمان:
أحدهما: شرور هي أفعال العباد وما تولد منها.
الثاني: الشرور التي لا تتعلق بأفعال العباد كالسموم والأمراض، وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده، وغير ذلك من شرور المخلوقات كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان.
والله سبحانه له في كل ما خلقه وأمر به وشرعه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، لأجلها خلق وأمر، ويستحق أن يثنى عليه ويحمد لأجلها، كما يحمد ويثنى عليه لأسمائه الحسنى، وصفاته العلا.
فهو سبحانه المحمود على ذلك كله أتم حمد وأكمله، لما اشتملت عليه
أسماؤه من الحسن، وصفاته من الكمال، وأفعاله من الحكم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمه، الموافقة لمحابه.
فإنه سبحانه كامل الذات والأسماء والصفات، فلا يصدر عنه إلا كل فعل كريم مطابق للحكمة، موجب للحمد، يترتب عليه من محابه ما فعل لأجله.
والله سبحانه فعال لما يريد، وله المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وجميع الأسباب والأشياء التي نصبها الله هي مظهر حكمته وحمده، وجماله وجلاله، وهي مقتضية لمسبباتها.
ولكنه سبحانه فقد يخرق العادة، ويعطلها أحياناً، إذا كان فيه مصلحة راجحة لإظهار قدرته، ونصر أوليائه، وقهر أعدائه، كما عطل سبحانه النار عن الإحراق نصرة لرسوله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69].
لما في ذلك من المصالح العظيمة، وإلا فطبيعة النار التي خلقها الله عليها الحرارة والإحراق.
وكذلك تعطيل الماء من إغراق موسى وقومه، وعما خلق عليه من الإسالة، لما فيه من الآيات الباهرة، والمصالح العظيمة، والحكمة التامة.
فهكذا سائر أفعاله سبحانه.
وقد أشهد الله عباده أنه مسبب الأسباب، وأن الأسباب خلقه، وأنه يملك تعطيلها عن آثارها، وأن كونها كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو سبحانه الذي جعلها كذلك، وأنه إذا شاء أن يسلبها آثارها سلبها، لأنه على كل شيء قدير، ويفعل في ملكه وخلقه ما يشاء.
وإذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن، فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به.
والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع، وقد عوض عنها أجل عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى ربه بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن
كان نائياً عنه، وانطراحه ببابه بعد أن كان عاكفاً على أبواب غيره، كما قال سبحانه عن أعدائه:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة: 21] ..
فالبلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءته وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه، إلا أن فيها شفاءه وفلاحه:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
فأفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة والتعب هي خير بلا شك.
وأفعال الشر التي تحبها النفوس لما تتوهمه فيه من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
فالجهاد مثلاً مكروه للنفس، لما فيه من التعب والتعرض للتلف، ومع هذا فهو خير محض، لما فيه من الثواب العظيم، والنجاة من العقاب الأليم، والنصر على الأعداء، والظفر بالغنائم، وغير ذلك من المصالح التي تفوق ما فيه من الكراهة.
والقعود عن الجهاد لطلب الراحة شر، لأنه يعقب الخذلان وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله، وحصول الذل والهوان، وفوات الأجر العظيم، وحصول العقاب الأليم.
وإن لم يرد ذلك البلاء العبد إلى ربه، بل شرد قلبه عنه، ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه، والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته، وإرادة الشر به:
فهذا إذا أقلع عنه البلاء، رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه،
فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر، والإعراض عن شكر المنعم عليه، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء.
فبلية هذا وبال عليه وعقوبة له، ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له، وترقية له، ورحمة له.
والشر لا يدخل في شيء من صفات الله ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شراً بالنسبة إليهم.
وهنا أمران:
أحدهما: ما هو شر أو يتضمن الشر، فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً، لا يكون وصفاً لله، ولا فعلاً من أفعاله.
الثاني: أن كونه شراً أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه.
فالسارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة لعموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم.
وهو خير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً ومباشرة.
لما في ذلك من الإحسان إ لى عبيده، بإتلاف هذا العضو الفاسد المؤذي المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به وتنفيذه.
وكل ما خلقه من خير وشر له فيه حكمة، والضرر الذي يحصل بالشر لله فيه حكمة مطلوبة ليس شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به، لكنه مغمور بالنسبة لما حصل به من النفع، ولذلك لا يضاف الشر وحده إلى الله عز وجل.
بل الشر له ثلاثة أحوال:
أحدها: إما أن يدخل في عموم المخلوقات، ومن هذا أسماء الله المقترنة
كالمعطي والمانع، والمعز والمذل، والنافع والضار، ونحو ذلك، وليس في أسماء الله اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر في مفعولاته المنفصلة.
الثاني: أن يضاف الشر إلى الفاعل كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79].
الثالث: أن يحذف الفاعل كما قال سبحانه: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10].
إن في عقوبة من يصول على أموال الناس بالقطع خير محض.
وفي عقوبة من يصول على دين الناس ويحول بينهم وبين الهدى بالقتل خير محض.
وفي دفع هذا الصائل بالقطع .. ودفع ذلك بالقتل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد، وهي شر بالنسبة للصائل الباغي.
فسبحان الحكيم العليم الذي يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته، وهو العزيز الحكيم.
فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب.
ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، وقد قال سبحانه:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36].
وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28].
وقد فطر الله عقول العباد على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، أو وضع الرحمة والإحسان في موضع العقوبة والانتقام.
هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها .. وحكمته التي لا يخلو شيء في الكون منها.
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمة الله البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة؟.
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يعصون أمره، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون له في كل ما يريد، يوالون أعداءه وأبغض خلقه إليه، ويظاهرونهم على الله ورسوله كما قال سبحانه:{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55].
والشر يطلق على شيئين:
على الألم .. وعلى ما يفضي إليه .. وليس له مسمى سوى ذلك.
فالشرور هي الآلام وأسبابها، فالكفر والشرك، والمعاصي والظلم هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور لأنها أسباب الآلام.
وترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار ونحو ذلك، ما لم يمنع السبب مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها، فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى الأضعف.
فالأسباب والمعاصي التي فيها لذة ما هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة، وهي بمنزلة طعام شهي لكنه مسموم، فهذه المعاصي والذنوب تأتي بالبلاء، وتزيل النعم.
وأحوال الأمم الذين أزال الله عنهم نعمه، فإنما سبب ذلك هو مخالفة أمره، ومعصية رسله، فهذه الأسباب شرور ولا بد.
وأما كون مسبباتها شروراً فلأنها آلام نفسية وبدنية، فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم.
ولو عرف العاقل ذلك لحذر منه أشد الحذر وهرب منه، ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وإنما يظهر له هذا حق الظهور عند مفارقة هذا العالم والوصول إلى عالم البقاء
فحينئذ يقول: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} [الزمر: 56].
ويقول: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24].
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها، كانت استعاذات النبي صلى الله عليه وسلم جميعها مدارها على هذين الأصلين، فكل ما استعاذ منه، أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه.
فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع، وأمر بالاستعاذة منهن وهن: عذاب القبر، وعذاب النار، وهذان أعظم المؤلمات، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، وهذان سبب العذاب المؤلم، فالفتنة سبب العذاب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ! أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (1).
فالسخط سبب الألم، والعقوبة هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام، وأقوى أسبابها.
اللهم إنا نسالك من الخير كله عاجله وآجله، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله.
(1) أخرجه مسلم برقم (486).