المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولفقه أسماء الله وصفاته

- ‌1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - فقه عظمة الرب

- ‌3 - فقه قدرة الرب

- ‌4 - فقه رحمة الرب

- ‌5 - فقه علم الرب

- ‌6 - فقه جمال الرب

- ‌7 - فقه أسماء الله الحسنى

- ‌الله…جل جلاله

- ‌الرحمن

- ‌الملك

- ‌القدوس

- ‌السلام

- ‌المؤمن

- ‌المهيمن

- ‌العزيز

- ‌الجبار

- ‌الكبير

- ‌الخالق

- ‌البارئ

- ‌المصور

- ‌الغفور

- ‌القاهر

- ‌الوهاب

- ‌الرزاق

- ‌الفتاح

- ‌العليم

- ‌السميع

- ‌البصير

- ‌الحكيم

- ‌اللطيف

- ‌الخبير

- ‌الحليم

- ‌العظيم

- ‌الشكور

- ‌العلي

- ‌الحفيظ

- ‌الرقيب

- ‌المقيت

- ‌الشهيد

- ‌الحاسب

- ‌الكريم

- ‌الواسع

- ‌المجيد

- ‌الرب

- ‌الودود

- ‌الحق

- ‌المبين

- ‌الوكيل

- ‌الكفيل

- ‌القوي

- ‌المتين

- ‌الولي

- ‌الحميد

- ‌الحي

- ‌القيوم

- ‌الواحد

- ‌الصّمد

- ‌القادر

- ‌الأول

- ‌الآخر

- ‌الظاهر

- ‌الباطن

- ‌البر

- ‌التواب

- ‌العفو

- ‌الرؤوف

- ‌الغني

- ‌الهادي

- ‌النور

- ‌البديع

- ‌الفاطر

- ‌المحيط

- ‌القريب

- ‌المستعان

- ‌المجيب

- ‌الناصر

- ‌الوارث

- ‌الغالب

- ‌الكافي

- ‌ذو الجلال والإكرام

- ‌ذو العرش

- ‌ذو المعارج

- ‌ذو الطول

- ‌ذو الفضل

- ‌الرفيق

- ‌الشافي

- ‌الطيب

- ‌السبوح

- ‌الجميل

- ‌الوِتر

- ‌المنان

- ‌الحيي

- ‌الستير

- ‌الديان

- ‌المحسن

- ‌السيد

- ‌المقدم والمؤخر

- ‌القابض والباسط

- ‌8 - فقه صفات الله وأفعاله

- ‌9 - فقه أحكام الأسماء والصفات

- ‌10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته

- ‌الباب الثانيفقه الخلق والأمر

- ‌1 - فقه الخلق والأمر

- ‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

- ‌3 - خلق الله للكون

- ‌4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به

- ‌5 - فقه خَلق المخلوقات

- ‌1 - خلق العرش والكرسي

- ‌2 - خلق السموات

- ‌3 - خَلق الأرض

- ‌4 - خلق الشمس والقمر

- ‌5 - خلق النجوم

- ‌6 - خلق الليل والنهار

- ‌7 - خلق الملائكة

- ‌8 - خلق المياه والبحار

- ‌9 - خلق النبات

- ‌10 - خلق الحيوانات

- ‌11 - خلق الجبال

- ‌12 - خلق الرياح

- ‌13 - خلق النار

- ‌14 - خلق الجن

- ‌15 - خلق آدم

- ‌16 - خلق الإنسان

- ‌17 - خلق الروح

- ‌18 - خلق الدنيا والآخرة

- ‌البَابُ الثّالثفقه الفكر والاعتبار

- ‌1 - فقه الفكر والاعتبار

- ‌2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته

- ‌1 - الفكر والاعتبار في عظمة الله

- ‌2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله

- ‌3 - الفكر والاعتبار في علم الله

- ‌3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية

- ‌4 - فقه الفكر في نعم الله

- ‌5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية

- ‌1 - فقه التأمل والتفكر

- ‌2 - فقه التصريف والتدبير

- ‌3 - فقه الترغيب والترهيب

- ‌4 - فقه التوجيه والإرشاد

- ‌5 - فقه الوعد والوعيد

- ‌6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر

- ‌البَابُ الرَّابعكتاب الإيمان

- ‌1 - فقه الإيمان بالله

- ‌1 - فقه الإحسان

- ‌2 - فقه اليقين

- ‌3 - فقه الإيمان بالغيب

- ‌4 - فقه الاستفادة من الإيمان

- ‌2 - فقه الإيمان بالملائكة

- ‌3 - فقه الإيمان بالكتب

- ‌4 - فقه الإيمان بالرسل

- ‌5 - فقه الإيمان باليوم الآخر

- ‌6 - الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌2 - فقه المشيئة والإرادة

- ‌3 - فقه خلق الأسباب

- ‌4 - فقه خلق الخير والشر

- ‌5 - فقه النعم والمصائب

- ‌6 - فقه الشهوات واللذات

- ‌7 - فقه السعادة والشقاوة

- ‌8 - فقه كون الحمد كله لله

- ‌9 - فقه الولاء والبراء

الفصل: ‌5 - فقه علم الرب

‌5 - فقه علم الرب

قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22].

وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29].

وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبة: 78].

وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235].

الله تبارك وتعالى هو العليم بكل شيء، الذي يعلم بكل شيء في السموات والأرض، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن:{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)}

[الحجرات: 16].

وهوسبحانه العالم بكل شيء في السموات والأرض من الأشياء والأشخاص، والنيات والأعمال، والخواطر والحركات:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].

وهو سبحانه العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم مثاقيل الجبال .. ومكاييل البحار .. وعدد قطر الأمطار .. وعدد ذرات الرمال .. وعدد ورق الأشجار .. وما أظلم عليه الليل .. وما أشرق عليه النهار.

لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره .. ولا بحر ما في قعره:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29].

ص: 106

وهو سبحانه اللطيف الخبير الذي يعلم القليل والكثير، ويعلم الصغير والكبير، ويعلم القريب والبعيد، ويعلم الباطن والظاهر:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16].

فسبحان اللطيف الخبير، المطلع على البواطن والأسرار، الذي يعلم خفايا القفار والبحار والجبال والظلام.

والله جل جلاله علام الغيوب، وعلمه محيط بكل شيء، لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في الليل ولا في النهار.

يعلم ما في البر والبحر، وما في جوف الأرض، وما في طباق الجو، من حي وميت، ورطب ويابس، يعلم ذلك ويراه، في الليل أو النهار، في النور أو الظلام:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6].

وهو سبحانه الذي يعلم أستار الغيوب المختومة في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ويعلم مجاهل البر الواسعة، وغيابات البحر العميقة، ويعلم عدد الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، وكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس في هذا الكون العظيم، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط بكل شئ:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59].

فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الذي يعلم الغيوب كلها، ويعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار، والزروع والثمار، والحصى والرمال، والأنفاس والكلمات والذرات.

وسبحان الذي يعلم ما في البحار من النبات والمعادن والحيوان والذرات.

ألا ما أعظم الرب سبحانه، وما أوسع علمه الذي يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فسبحانه من إله لا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، ولا يحيط أحد بشيء

ص: 107

من علمه إلا بما شاء.

والله سبحانه هو العليم بكل شيء، ولا يخفى عليه من أحوال خلقه شيء، فهو الذي خلق البشر، وخلق قلوبهم، وخلق نفوسهم، وهو الذي يعلم مداخلها ومكامنها التي أودعها إياها، ويعلم الجهر وما يخفى.

فماذا نخفي؟ .. وماذا نعلن؟: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)} [إبراهيم: 38].

إن السر والجهر كله مكشوف لعلم الله سواء، وهو سبحانه يعلم ما هو أخفى من السر، وهو عليم بذات الصدور، فهو الذي خلق ما في الصدور كما خلق الصدور، ألا يعلم سبحانه من خلق وهو الذي خلق؟

وهو سبحانه اللطيف الخبير، الذي يصل علمه إلى الدقيق والصغير، والخفي والمستور، فيعلم النيات والإرادات، والأقوال والأفعال، والسرائر والغيوب:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13، 14].

والله جل جلاله محيط بكل شيء، أحاط علمه بالبشر وحركاتهم، فهم في قبضته، لا ينامون إلا بإذنه، ولا يقومون إلا بإذنه، ولا تتحرك جوارحهم بفعل أو ترك إلا بإذنه، ولا يعملون من عمل إلا وعند الله علم بما كسبت نفوسهم من خير أو شر، وهم مراقبون في حركاتهم وسكناتهم، لا يند عن علم الله منهم شيء:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}

[الأنعام: 60].

وهو سبحانه القاهر فوق عباده، العليم بأحوالهم، الرقيب عليهم، وهم جميعاً تحت سيطرته وقهره وعلمه، فكل حركة من حركاتهم بقدر، وكل نفس من أنفاسهم بقدر، وعليهم ملائكة يحصون على كل إنسان ما يفعله من خير أو شر في الدنيا، ثم إذا جاء أجلهم توفتهم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، فلا يزيدون ساعة مما قدر الله ولا ينقصون، ثم يردون إلى ربهم ليحكم فيهم

ص: 108

بحسب أعمالهم: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 61، 62].

والله عليم بكل شيء، فلا يفلت شيء عن علم الله في الأرض ولا في السماء، ولا يمكن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه، ولا يمكن التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف، فكل شيء معلوم لعلام الغيوب:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} [آل عمران: 5].

والله سبحانه عليم بأحوال الخلائق كلها، يعلم المؤمنين والكافرين والمنافقين، ويعلم خبايا نفوسهم، وما تنطوي عليه صدورهم، وما يصدر عن جوارحهم.

ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول الكفر والنفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء.

فالله لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم، ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].

والله بكل شيء عليم، يعلم الجهر وما يخفى، ويعلم كل شيء علماً مطلقاً كاملاً شاملاً، والناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه، فهو سبحانه العالم الذي علم عباده ما فيه مصالحهم في الدنيا والآخرة، وأحاط بكل شيء علماً، والعباد لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو الذي يعلم أقوالهم وأفعالهم، ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255].

وهو سبحانه الرحمن الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، تارة بلسانه، وتارة بقلمه، وتارة بإشارته: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)

ص: 109

عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4].

وهو سبحانه العليم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، علمه أشياء، وزوى عنه أشياء، ونسبة ما يعلمه الإنسان، بل ما تعلمه البشرية كلها إلى ما لا تعلمه كنسبة الذرة إلى الجبل، والقطرة إلى البحر:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].

وهو سبحانه: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 4، 5].

وإذا كان العبد يعلم أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير فليتق الله ربه، وليحذر من معصيته حتى لا يتعرض لعقوبته:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235].

وهو سبحانه عالم الأسرار والخفيات: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}

[الأنعام: 3].

فمن يستطيع من البشر أن يتخفى من الله بسر أو نية أو حركة. إن القلب الذي يخفي فيه الإنسان النية من خلق الله، وهو سبحانه يعلم دروبه وخفاياه وما فيه، والنية التي يخفيها الإنسان هي كذلك من خلقه، وهو يعلمها، ويعلم أين تكون، والبدن الذي يتحرك بالأفعال هو من خلق الله، يحركه بما شاء، في أي وقت شاء، ويعلم النيات والأفعال والأقوال قبل وقوعها.

فماذا يستر الناس؟، وماذا يخفون؟، وأين يستخفون؟:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7].

إن القرآن يسكب هذه الحقائق العظيمة في قلب المؤمن، لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكاً صحيحاً للأمور، ويملأ قلبه بالتعظيم والإجلال للكبير المتعال، ويبعث فيه اليقظة والتقوى لأداء الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض، وذلك لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه وما يكمن فيه من سر ونية هو من

ص: 110

خلق الله، الذي يعلمه الله، وعندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة، والهاجس الدفين، كما يتقي الحركة المنظورة، والصوت الجهير، وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر، والغيب والشهادة، وما في الصدور وما في القلوب:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 18].

والله سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم كل شيء:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 2].

فهو سبحانه الذي يعلم ما يقع في كل لحظة من الحركات والسكنات، والأحجام والأشكال، والأقوال والأفعال، والمخلوقات والأشياء.

إن أهل الأرض كلهم لو وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع من أمر الله وخلقه في لحظة واحدة، لأعجزهم تتبعه، فضلاً عن إحصائه، لكن الله علام الغيوب يعلمه، فهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

فكم من شيء في هذه اللحظة يلج في الأرض من مطر وبذر وحيوان؟.

وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها من نبات وحيوان، ومعدن وغاز؟.

وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء من الملائكة والأرزاق، والأقدار والأسرار، والأوامر والأمطار والرحمات؟.

وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها من الملائكة والأرواح والأعمال وغيرها؟

كم من شيء يلج في الأرض؟، وكم من حبة تختبئ في بطن هذه الأرض؟، وكم من دودة، ومن حشرة، ومن هامة، ومن زاحفة تلج في طول الأرض كلها؟.

وكم من قطرة ماء، ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء، تندس في أحشاء هذه الأرض الفسيحة؟.

إن الله وحده هو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي يعلمه، وهو الذي دبره، وهو

ص: 111

الذي يقوم عليه: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6].

وكم يخرج من الأرض .. كم من نبتة تنبثق .. وكم من نبع يفور .. وكم من بركان يتفجر .. وكم من غاز يتصاعد .. ، وكم من مستور ينكشف .. وكم من حيوانات وحشرات تخرج من بيتها المستور؟.

وكم وكم يخرج منها مما يرى ومما لا يرى من المخلوقات؟.

إن الله يعلم ذلك كله، وهو الذي أعطاه أمر الوجود فوجد، وأمر البقاء فبقي، وأمر الحركة فتحرك، وأمر السكون فسكن وأعطاه أمر الحياة فحيا، وأعطاه أمر النفع والضر فنفع أو ضر.

فسبحان الخلاق العليم، وسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء.

هذا بالنسبة للأرض، أما السماء فكم مما ينزل من السماء .. كم من نقطة مطر

وكم من شهاب ثاقب .. وكم من شعاع محرق .. وكم من شعاع منير .. وكم من قضاء نافذ .. وكم من قدر مقدور؟.

وكم من رحمة تنزل؟ .. وكم من رزق ينزل؟ .. وكم من أمر ينزل؟ .. كم من أمر ينزل بالإحياء والإماتة .. والهداية والضلالة .. والعزة والذلة .. والعافية والمرض .. والسعادة والشقاوة؟.

وكم وكم مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله وحده؟ الذي أحاط بكل شيء علماً.

إن الله يعلم جميع ذلك، ونحن لا نعلمه.

يا حسرة على العباد، ماذا علموا وماذا جهلوا من عظمة الرب، وقدرته، وجلاله وجماله، ودينه وشرعه؟:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91].

ص: 112

وكم مما يعرج في السماء؟.

كم من نفس صاعد من نبات وحيوان وإنسان؟.

وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مخفية لم يسمعها إلا الله في علاه؟.

وكم من شكوى رفعت لا يعلمها إلا الله عز وجل؟.

وكم من دعاء لا يحصيه ولا يجيب صاحبه إلا الله؟.

وكم من روح من أرواح الخلائق متوفاة؟.

وكم من مَلك يعرج بأمر الله؟.

وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟.

وكم من روح تفتح لها أبواب السماء؟.

وكم من روح تصعد ثم تطرح؟.

وكم من قطرة بخار صاعدة من بحر؟.

وكم من ذرة غاز صاعدة من جسم؟.

إن الله وحده هو الذي يعلم ذلك كله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29].

إن هذا حديث عظيم يهز الجبال الرواسي، فأين العقول التي تفقه؟ .. وأين القلوب التي تخشع؟ .. وأين العيون التي تدمع رغبة ورهبة وخوفاً، وإجلالاً وتعظيماً، وتسبيحاً وتكبيراً لمولاها العزيز العليم؟.

ماذا مع البشر من العلم؟ .. وأين يذهبون؟.

وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة، ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟.

أما إدراك جميع ما يجري في كل هذا الكون في كل اللحظات فأمر يفوق الخيال والتصور، ولا يدركه ولا يعلمه ولا يحيط به إلا العليم الخبير الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأحصى كل شيء عدداً.

فسبحان عالم الغيب والشهادة، المطلع على الضمائر والسرائر، المحيط بكل

ص: 113

مضمر وظاهر، في كل زمان، وفي كل مكان.

الذي لا يغيب عن علمه، ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما في كل قلب من النوايا والخواطر والإرادات:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}

[يونس: 61].

إن الشعور بعلم الله وعظمته ورقابته على هذا النحو شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً.

فشعور هذا المخلوق الضعيف، وهو مشغول بشأن من شؤونه، وإحساسه أن الله معه، شاهد أمره، حاضر شأنه، بكل عظمته سبحانه، وبكل قوته، وبكل هيبته وجبروته، الله خالق هذا الكون العظيم، ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان، الله مع هذا المخلوق الإنساني، الذرة التائه في الفضاء، لولا عناية الله تمسك به وترعاه، إنه شعور رهيب يرجف له الفؤاد، ويدفع المسلم إلى الحياء من ربه، وحسن الطاعة والانقياد له، لئلا يناله غضب الجبار وعقوبته. وهو كذلك شعور مؤنس مطمئن أن هذا الإنسان ليس مهملاً ولا متروكاً بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.

إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن مع ذلك شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة التامة لكل ما في الكون:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61].

إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي يعلم ما فيه من المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو.

فهذه الدواب التي تدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان، وزاحفة وهامة، وطيور وحشرات، في البر والبحر والجو، ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة، وتكمن في باطنها، أو تطير في جوها، أو تختفي في مساربها

ص: 114

ودروبها، ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحصيها إلا الله وحده، إلا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو الذي يعلم أين تستقر؟ وأين تكمن؟، ومن أين تجيء؟، ومن أين تذهب؟، ومن أين تأكل؟.

وكل منها مقيد في علم الله حياً، ومقيد في علم الله ميتاً، ولا يعزب عنه منها شيء:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].

إن فؤاد الإنسان يرجف، وكيانه يهتز، حين يرى عظمة العلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات في هذا الكون العظيم، وحين يحاول تصور ذلك بخياله الإنساني فلا يطيق، ويزيد على مجرد العلم بها تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الكبير من المخلوقات الهائلة، والذي يعجز عن تصوره الخيال البشري، كمية ونوعية .. ومكاناً وزماناً .. وإيصاله لكل مخلوق.

وقد أوجب الله سبحانه على نفسه، وتكرم على خلقه مختاراً أن يرزق جميع هذه المخلوقات الكثيرة الهائلة التي تدب على وجه هذه الأرض.

فأودع الله عز وجل هذه الأرض، ودحاها بالأرزاق، وأودع فيها القدرة على تلبية حاجات هذه الكائنات جميعاً، وأودع هذه الكائنات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض، ساذجاً خامة كالمعادن، أو منتجاً بالزرع، أو مصنوعاً، أو مركباً إلى غير ذلك من الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده وحفظه.

فسبحان العليم القدير: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3].

وعلمُ الله عز وجل واسع شامل، لا يند عنه شيء، فالله سبحانه يعلم الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الظلام، والحب المدفون في التراب، والدواب التي تدب في قعر البحار.

ويعلم سبحانه كل مستخف بالليل، وكل سارب بالنهار، وكل هامس، وكل جاهر، وكل أولئك مكشوف لعلم الله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ

ص: 115

الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} [الرعد: 8 - 10].

والله سبحانه عليم بأحوال الرجال والنساء، وأحوال الذكور والإناث، قادر على خلقهم متى شاء، وفي أي مكان شاء، وبأي عدد شاء:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)} [فاطر: 11].

فالله سبحانه هو العليم الذي يعلم ما تحمل كل أنثى من إناث الإنسان والحيوان، والطير والأسماك، والزواحف والحشرات، والأشجار والنباتات، وما سواها مما نعلمه ومما لا نعلمه، وكلها تحمل وتضع بأمر الله.

وعلم الله شامل واقع على كل حمل، وعلى كل وضع، في جميع هذا الكون المترامي الأطراف.

وكذلك الله وحده يعلم جميع الأحياء والأموات في هذا الكون، من شجر ونبات، وطير وحيوان، وإنس وجان، وما سواه على اختلاف الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والأماكن والأزمنة.

وهذه المخلوقات التي لا يمكن حصرها، ولا يعلمها إلا خالقها، منها ما يعمر فيطول عمره، ومنها ما ينقص من عمره فيقصر، وفق علم مقدور، متعلق بكل جزء من كل فرد، يعمر أو ينقص من عمره، كل ذلك في كتاب من علم الله الشامل الدقيق، وذلك كله لا يكلف جهداً ولا عسراً، وهو على الله يسير.

والتعمير يكون بطول الأجل، وعدد الأعوام، كما يكون بالبركة في العمر، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً، وكذلك يكون نقص العمر في عدد السنين، أو نزع البركة من العمر، وإنفاقه في اللهو والعبث، والكسل والفراغ، وكل ذلك في كتاب.

والجماعات كالآحاد، والأمم كالأفراد، كل منها يعمر أو ينقص من عمره.

ص: 116

والأشياء كالأحياء، كلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم.

فما أعظم خالق هذا الكون، وما أعظم قدرته، وما أوسع علمه.

إن تصور هذا الكون، وما فيه من المخلوقات العظيمة، يوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد، وأسلوب جديد.

وإن القلب الذي يبصر يد الله وعينه وعلمه على كل شيء بمثل هذه الدقة والرقابة، ليصعب عليه أن ينسى أو يغفل أو يضل، وهو حيثما تلفت واتجه، رأى الخالق والمخلوق، والمصور والصور، ووجد علم الله محيطاً بكل شيء، ورحمته وسعت كل شيء.

إن تصور معية الله لكل أحد، وفي كل حالة، أمر جليل رهيب، إنها حالة تهز القلوب، لا يثبت لها قلب، ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز خوفاً، وحياءً، وأنساً:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7].

إن مجرد معية الله لكل إنسان ومراقبته ظاهره وباطنه أمر هائل، فكيف إذا كان يتبع ذلك حساب وعقاب؟، وكيف إذا كان ما يُسرُّه المتناجون ويخفونه سيعرض على الأشهاد يوم القيامة؟.

إن الله جل جلاله هو الذي خلق البشر كلهم، وعلمهم من العلم ما لم يكونوا يعلمون:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78].

إن جميع ما أعطى الله البشرية من العلم، لو جمع كله لفرد، ثم كانت البشرية كلها على علم ذلك الفرد، لكان ذلك كله بالنسبة للعلم الإلهي أصغر من الخردلة بالنسبة للجبل، ولا ينقص ذلك العلم من علم الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

ص: 117

وكما لا يستطيع البشر أن يخرجوا من الأرض التي أقلتهم، ولا من السماء التي أظلتهم، فكذلك لا يستطيعون الخروج من علم الله الذي أحاط بكل شيء علماً في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وفي الدنيا، وفي الآخرة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].

والله سبحانه عالم الغيب والشهادة، وعالم الغيب أكبر من عالم الشهادة وأوسع منه، ونسبته إليه أصغر من الذرة بالنسبة للجبل:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].

إن الله تبارك وتعالى قد جعل علم الساعة غيباً لا يعلمه سواه، ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقع دائم، ومحاولة دائمة.

وهو سبحانه الذي خلق الغيث، وينزله على خلقه وفق حكمته بالقدر الذي يريد، في المكان الذي يريد، على المخلوقات التي يريد، في الوقت الذي يريد، وعلم الله بالغيث شامل لتكوينه وتوزيعه وقدره على مدى الدهر.

وهو سبحانه الذي يعلم ما في الأرحام وحده، ماذا في الأرحام في كل لحظة؟ .. وماذا فيها في كل طور؟ .. وماذا فيها من النطف والأجنة؟.

وماذا في الأرحام من غيض وفيض .. ؟ ومن حمل حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم؟.

فالله وحده هو الذي يعلم نوع هذا الحمل، ذكراً أم أنثى، ناقصاً أم تاماً.

وهو سبحانه وحده الذي يعلم موعد خلق الانسان، وموعد نفخ الروح فيه، وموعد نزوله، ولونه وحجمه، كل ذلك لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له.

وهو سبحانه الذي يعلم ماذا تكسب كل نفس من خير أو شر، وطاعة أو معصية، وحلال أو حرام.

وهو سبحانه وحده الذي يعلم متى يموت الإنسان، وأين يموت؟.

ص: 118

إن النفس إذا عرفت عظمة الله، ومقدار علم الله، تطامنت من كبريائها، وخشعت لله عز وجل، وسلمت لأمره.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع.

سبحان العليم القدير الذي يعلم عدد النجوم، وعدد قطر الغيوم، ويعلم عدد الملائكة، وعدد كلامهم وتسبيحهم وتقديسهم.

ويعلم كل ذرة في الكون، وكل طائر في الجو، ويعلم كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وكل متحرك وساكن، وكل ذاكر وغافل، وكل ناطق وصامت.

ويعلم كل صالح ومفسد، وكل مقبل ومدبر، وكل صحيح ومريض، وكل غني وفقيروكل مسافر ومقيم.

ويعلم كل عالٍ وسافل، وكل ضاحك وباك، وكل مسرور ومحزون، وكل خائف وآمن، وكل مؤمن ومنافق:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}

[الحج: 70].

ص: 119