الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - فقه الولاء والبراء
قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} [الممتحنة: 13].
الله تبارك وتعالى ولي المؤمنين، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والشيطان ولي الكفار، والكفار والمنافقون بعضهم من بعض.
والفرق بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان:
أن أولياء الرحمن: هم المؤمنون المتقون الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور، وتحصل لهم كرامات بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة كنزول المطر بالاستسقاء، وشفاء المريض بالدعاء ونحو ذلك.
وهؤلاء لهم العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64].
أما أولياء الشيطان: فهم الضالون المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة، إما بعبادة غير الله، أو بعبادة لم يشرعها الله.
وهؤلاء تتمثل لهم الشياطين، ولهم أحوال شيطانية، وهم من جنس الكهان، يكذبون تارة، ويصدقون تارة، وفي أعمالهم يخالفون أوامر الله، وتقترن بهم الشياطين، لكنها لا تقترن بهم وتعينهم إلا مع نوع من البدعة، إما كفر وإما فسق، وإما جهل بالشرع.
فتحمل الشياطين أحدهم في الهواء، وتخبره ببعض الأمور الغائبة، وقد تأتيه بنفقة أو كسوة أو طعام ونحو ذلك من الأحوال الشيطانية، فتجد أحدهم ظالماً مرتكباً للفواحش، وملابساً للخبائث من النجاسات والأقذار التي تحبها الشياطين كما قال سبحانه:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)} [الشعراء: 221 - 223].
وكل من أعرض عن الله التحق به شيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37].
وقد نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين عن موالاة الكافرين، وأخبر أن من تولاهم فإنه منهم.
ومن صور موالاة الكفار:
التولي العام لهم .. المودة والمحبة لهم .. الركون إليهم .. مداهنتهم وموالاتهم .. مجالستهم ومزاورتهم .. مصاحبتهم ومعاشرتهم .. الرضا بأعمالهم .. مشاورتهم وطاعتهم .. تقريبهم في المجالس .. استعمالهم في أمور المسلمين .. اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين .. البشاشة لهم وإكرامهم .. تعظيمهم وتسويدهم .. السكنى معهم في ديارهم .. استئمانهم وقد خونهم الله .. معاونتهم في أمورهم .. التشبه بهم، ونحو ذلك من صور الموالاة.
والمؤمن لا يستقيم إيمانه، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح بهم بالعداوة والبغضاء كما قال سبحانه:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
وقوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
والناس في الولاء والبراء ثلاثة أقسام:
الأول: من يجب علينا محبته محبة خالصة، وهم المؤمنون وفي مقدمتهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أهل بيته الطيبون، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الكرام، خاصة الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة المفضلين، والمهاجرون والأنصار، وأهل بدر وبيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم، ثم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الثاني: من يبغض ويعادي، فلا محبة له ولا موالاة، وهم الكفار والمشركون، والمنافقون والملاحدة، والمرتدون ونحوهم كما قال سبحانه:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22].
لكن من لم يؤذ المسلمين منهم فيحسن بره والإحسان إليه لعل هذا يكون سبباً لهدايته.
الثالث: من نحبه من وجه، ونبغضه من وجه، وهم عصاة المؤمنين، نحبهم لما فيهم من الإيمان، ونبغضهم لما فيهم من المعاصي التي هي دون الكفر، ومحبتنا لهم تقتضي مناصحتهم والدعاء لهم، والإنكار عليهم، حتى يتوبوا ويكفوا عن معاصيهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
(1) أخرجه مسلم برقم (49).
وقد وقع الناس في البلاء بسبب عدم التمييز بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، والفرقان أعز ما في العالم، وهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن يفرق به بين الحق والباطل، ويزن به حقائق الأمور خيرها وشرها، وصالحها وفاسدها.
ومن فقد الفرقان وقع ولا بد في أشراك الشيطان وحبائله.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من ضده.
فعلى المسلم أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والحج والأعياد، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله، والدعوة والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات.
فإن دعت الحاجة إلى مخالطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم، فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكنه أذى يعقبه عزٌ له ومحبة وتعظيم، وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين.
وموافقتهم على الشر يعقبه ذل له وبغض، ومقت وذم، منهم، ومن المؤمنين ومن رب العالمين.
وإن دعت الحاجة إلى مخالطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعةً لله إن أمكنه، فإن أعجزته المقادير عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً ببدنه، غائباً بفكره، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية.
وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
وقد حذرنا الله عز وجل من موالاة اليهود والنصارى، وكل من لا ينتمي إلى الإسلام، ولا يقف تحت رايته فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51].
فأهل الكتاب بعضهم أولياء بعض، فقد حاربوا الإسلام والمسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهذه الحرب سواء كانت سافرة معلنة، أم مستورة مبطنة .. وهذه العداوة، وهذا الكيد، وهذ الحسد، وهذا الظلم.
كل ذلك وصف لهاتين الأمتين، الذين غضب الله عليهم ولعنهم، بسبب كفرهم وظلمهم وفسادهم.
وإذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض .. فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم .. وكل فرد يتولاهم من الصف الإسلامي .. إنما يخلع نفسه من صف المسلمين .. ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف .. ويلحق نفسه بأحفاد القردة والخنازير الذين كفروا بالله .. وقتلوا الأنبياء .. وسعوا في الأرض فساداً .. وأكلوا أموال الناس بالباطل .. ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .. واتبعوا وحي الشياطين .. ونقضوا العهود والمواثيق، وصدوا عن سبيل الله.
فكيف يتولاهم مسلم وهذه صفاتهم؟ .. وكيف يتولى قوماً غضب الله عليهم ولعنهم؟.
ألا ما أضل الإنسان حين يترك الدين وموالاة المؤمنين، ويتولى أحفاد القردة والخنازير:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60].
وكل مسلم تولى اليهود والنصارى فإنه ظالم لنفسه، وظالم للمسلمين، مسيء إلى الدين، ومن تولاهم أدخله الله في زمرتهم، ولا يهديه إلى الحق، ولا يرده إلى الصف المسلم:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144].
إنه لا يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى، ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم.
إن ولاء المسلم لكل من يرفع راية الحق، ولا ولاء لمن يرفع راية الباطل.
إن الإسلام يأمر أهله أن تكون علاقاتهم بالناس جميعاً على أساس العقيدة، فالولاء والبراء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة، ومن ثم لا يكون الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلم، إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة، وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه.
فالدين هو الإسلام، وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام، وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا الإسلام في صورته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
وما كان يقبل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من النصارى لم يعد يقبل الآن، كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى صلى الله عليه وسلم لم يعد يقبل منهم بعد بعثته.
ووجود يهود ونصارى بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي .. كلا.
فلا دين بعد بعثة محمد إلا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وإذا كان الإسلام لا يُكره اليهود والنصارى على ترك معتقداتهم، واعتناق الإسلام فليس معنى هذا أنه يعترف بما هم عليه ديناً، أو يراهم على دين.
ومن ثم وعلى هذا فليس هناك دين مع الإسلام، هناك دين وهو الإسلام، وهناك لا دين وهو غير الإسلام.
والمسلم مطالب بحسن معاملة أهل الكتاب وغيرهم ما لم يؤذوه في الدين، ومطالب أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام كما يدعو سائر الكفار إلى الإسلام سواء.
وهو غير مأذون له في أن يكره أحداً من هؤلاء وهؤلاء على الإسلام، لأن الإيمان لا يدخل القلوب بالإكراه، فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمرة له، ولا منفعة منه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256].
فالإسلام جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب وعموم الكفار، ويدعوهم للدخول فيه، لأنه الحق وحده، وما سواه باطل غير مقبول.
فلا ولاء إذاً بين المسلمين وأهل الكتاب لا من ناحية الإيمان، ولا من ناحية إقامة منهج الله في الحياة، فكيف يكون التولي؟.
وكيف يكون تعاون المسلم مع من لا يؤمن بالإسلام ديناً ومنهجاً ونظاماً للحياة؟.
فالولي هو الله، والناصر هو الله، والاستنصار بغيره ضلالة، كما أنه عبث لا ثمرة له، ولكن لا يواليهم إلا من في قلبه مرض من المنافقين الذين لا يدركون حقيقة الإيمان:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 52].
فالواجب على المسلمين أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى فضلاً عن سائر الكفار، لأنهم بموالاتهم يكونون معهم، ويرتدون بذلك عن الإسلام، ومن ارتد عن الإسلام بهذا الولاء أو بغيره فليس عند الله بشيء، وليس بمعجز الله، ولا ضار لدينه.
ولله أولياء وناصرون مدخرون في علم الله، إن ينصرف هؤلاء، يجيء الله بهؤلاء، يقومون بكل ما تركه أولئك:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54].
فالله على كل شيء قدير، يختار من عباده المؤمنين من يقوم بإقرار دين الله في الأرض، وتمكين سلطانه في حياة البشر، وتحكيم منهجه في حياتهم، وتنفيذ شريعته في خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فمن رفض هذا الفضل، فالله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم، من قوم يحبهم ويحبونه، ولا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي، الذي يعرف من هو الله.
وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته، وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها.
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً، وفضلاً من الرب جزيلاً، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه، وتعريفه هذا المذاق الجميل، هو إنعام هائل عظيم، وفضل من الله جزيل:{إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90].
فليست العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع، بل بين الله وعباده علاقة الرحمة، علاقة العدل، علاقة الإحسان، علاقة العفو، علاقة الود:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].
وقد حدد الله للمؤمنين جهة الولاء الوحيدة، والتي تتفق مع صفة الإيمان، وبين لهم من يتولونه بقوله:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55].
وهكذا كشف الله جهة الولاء بأن تكون لله ورسوله والمؤمنين، وأن يكون الإسلام هو الدين، ويكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وغيره.
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان، أو مجرد راية وشعار، أو مجرد كلمة تقال باللسان، فإن الله وصف المؤمنين الذين يتولاهم المسلم ويتولونه بأنهم الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون ربهم.
والله يعد الذين آمنوا في مقابل الثقة به، والتوكل عليه، والولاء له وحده،
ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية، وفي مقابل نبذ الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله، يعدهم النصر والغلبة والسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
وماذا يبقى من الكرامة للمسلم إذا أهين دينه، وأهينت عبادته، وأهينت صلاته، واتخذ موقفه بين يدي ربه مادةً للهزء واللعب؟.
فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الأفعال الشنيعة؟.
فليحذر المسلم من موالاة هؤلاء كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} [المائدة: 57، 58].
فما يستهزئ بدين الله، وعباده المؤمنين به، إنسان سوي العقل، فالعقل حين يصح ويستقيم يرى في كل شيء من حوله دلائل الإيمان بالله، وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الدلائل والآيات، لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله.
فالوجود كله يوحي بأن له إلهاً يستحق العبادة والإجلال والتعظيم، والحمد والشكر، والعقل حين يصح ويستقيم، يستشعر جمال العبادة وجلالها لإله هذا الكون فلا يتخذها هزواً ولعباً وهو صحيح مستقيم.
وقد وقع هذا الاستهزاء واللعب من الكفار واليهود والنصارى وما زال يقع، فكيف يواليهم المسلم؟.
إن الإسلام يأمر أهله بالسماحة، وحسن الخلق، وحسن المعاملة، مع أهل
الكتاب، خاصة النصارى، ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعاً.
لأن الولاء هو النصرة، ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب كما هو الشأن في الكفار، وكيف تكون النصرة مع اختلاف الدين والعمل والهدف؟.
وكيف يتولى المسلم هؤلاء وهم كفار؟ {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)} [المائدة: 61]
وكيف يوالي المسلم أهل الكتاب وهم يسارعون في الشر، ويتسابقون في الإثم والعدوان، وأكل الحرام، خاصة اليهود:{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)} [المائدة: 62]
وعلامة المجتمع الخيِّر الفاضل أن يسود فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يوجد فيه من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأن يوجد فيه من يستمع إلى من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
وهذه صفة المسلمين الذين قال الله عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]
أما أهل الكتاب فقد لعنهم الله وغضب عليهم بعد كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وعدوانهم، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم كما قال سبحانه:
فكيف يوالي هؤلاء هؤلاء؟ وهما متواجهان متقابلان؟.
وكيف يوالي المسلم أهل الكتاب وهم لا يقيمون الدين في نفوسهم ولا في حياتهم؟.
فهم ليسوا على شيء من الدين كما قال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]
إن دين الله له روح وجسد .. ليس رايةً ولا شعاراً ولا وراثة .. دين الله حقيقة تتمثل في النفس والحياة .. تتمثل في عقيدة تعمر القلب .. وشعائر تقام للتعبد .. ونظام يصرف الحياة ورفق منهج الله .. ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل الشامل الجامع المانع.
ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وحياتهم، فأين أهل الكتاب من هذا؟.
إن البشرية كلها تنقسم في نظر المسلم إلى صفين:
صف المؤمنين .. وصف الكافرين .. على مدار الرسالات .. وعلى مدار القرون.
وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة بكل دين .. وبكل عقيدة من عند الله هي أمته، وأهلها هم إخوانه من لدن آدم إلى بعثة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة .. وفي كل دين .. وفي كل زمان .. فيوالي المؤمنين .. ويتبرأ من الكافرين .. ويؤمن بالرسل جميعاً .. ويكفر بالطواغيت جميعاً.
إن البشرية لا تنقسم في تقرير المسلم إلى أجناس، وألوان، وأوطان، ولغات. إنما تنقسم إلى أهل الحق، وأهل الباطل، وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل من كانوا، وأين كانوا، في كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل حال.
وهكذا يتوحد الميزان الذي يقيم به الإنسان أياً كان، ويرتفع المسلم عن عصبية الجنس واللون، واللغة والوطن، إلى القمة العليا التي تصل الإنسان بالرب إيماناً وعبادة وتقوى كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].
إنها قيمة الإيمان التي تشمل الجميع .. ويقوم بها الجميع .. ويحاسب بها
الجميع .. وعليها يوالي المسلم ويعادي .. ويحب ويبغض .. ويسالم ويحارب .. فالمؤمنون إخوانه .. والكفار أعداؤه.
فلا يجوز للمؤمنين موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم في أمر من أمور المسلمين أبداً إلا عند الضرورة كما قال سبحانه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} [آل عمران: 28].
ومدار السعادة في الدنيا والآخرة على الاعتصام بالله .. والاعتصام بحبله.
فأما الاعتصام بالله فإنه يعصم من الهلكة .. وأما الاعتصام بحبل الله فإنه يعصم من الضلالة.
فالاعتصام بالله: معناه التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].
والاعتصام بحبل الله: معناه التمسك بكتابه وشرعه الذي يحمي من البدعة وآفات العمل كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103].
اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، أنت مولانا، فنعم المولى، ونعم النصير:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155].