الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به
قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: 6].
الله عز وجل خالق كل شيء، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، مقلب القلوب ومصرفها كيف شاء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو العزيز الحكيم.
هو الذي جعل المسلم مسلماً .. والمصلي مصلياً .. والمتقي متقياً .. والداعي داعياً.
وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره .. وأئمة الضلال يدعون إلى النار بإذنه .. وألهم كل نفس فجورها وتقواها.
يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هو الذي وفق أهل الطاعة فأطاعوه، ولو شاء لخذلهم فعصوه، وحال بين الكفار وقلوبهم فكفروا به، فإنه يحول بين المرء وقلبه، ولو شاء الله لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء الله ما اقتتلوا، وما اختلفوا، ولكن الله يفعل ما يريد:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].
علم الله كل شيء، وخلق كل شيء، وكتب كل شيء، وشاء كل شيء، هو الخالق وما سواه مخلوق، هو الملك وما سواه مملوك: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
وهو سبحانه الحكيم وما سواه محكوم، حكيم في كل ما فعله وخلقه، فمصدر جميع ذلك عن حكمة تامة.
وحكمته سبحانه قائمة به كسائر صفاته، وهي الغاية المحبوبة له سبحانه، المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى.
ومصدر الخلق والأمر، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي ألا يخرج مخلوق عن قدرته.
وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به، وتقدمه عليه.
وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه.
وكذلك أمره سبحانه بعلمه وحكمته وعزته، فهو العليم بخلقه وأمره، الحكيم في خلقه وأمره، العزيز في ملكه وسلطانه.
ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلا، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
والحكمة: هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والدعوة إليه، فكل هذا يسمى حكمة.
وكما لا يخرج مقدور عن علمه ومشيئته، فكذلك لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو سبحانه المحمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة.
ففي كل ما خلقه الله وأمر به حكمة، وكله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَبَّيْكَ! وَسَعْدَيْكَ! وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أخرجه مسلم (1).
(1) أخرجه مسلم برقم (771).
فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه سبحانه، فلا يضاف إلى ذاته، ولا أسمائه، ولا صفاته، ولا أفعاله.
فذاته سبحانه منزهة عن كل شر .. وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب .. وصفاته صفات كمال لا نقص فيها .. وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك ألبتة.
وهو سبحانه المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه.
وبيان ذلك:
أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها، وهي شرور النفس، وسيئات الأعمال، وهي ذنوب تأتي من نفس العبد.
فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد.
كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهي صفات ذاتية للرب، وذات الرب مستلزمة للحكمة والخير والجود والإحسان، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه كما قال سبحانه:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53].
فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل، فصدر منه البر والإحسان والطاعة.
ومن أراد به شراً أمسكه عنه، وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وسوء وفساد.
وليس منعه لذلك ظلماً منه سبحانه، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به، ولا يزكو فيه.
وأيضاً هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه، ولا يخلي بينه وبين نفسه، وهذا محض فضله.
والله تبارك وتعالى أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر به، ويزكو به.
وهو سبحانه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة، ويشكره عليها كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وأصل الشكر: هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
ومن عرفها ولم يعرف المنعم لم يشكرها أيضاً.
ومن عرف النعمة والمنعم بها لكن جحدها فقد كفرها.
ومن عرف النعمة، والمنعم بها، وأقر بها، لكن لم يخضع للمنعم ويحبه ويرضى عنه لم يشكرها أيضاً.
ومن عرف النعمة .. وعرف المنعم بها .. وخضع للمنعم بها .. وأحبه .. ورضي به .. ورضي عنه .. واستعملها في طاعته ومحابه .. فهذا هو الشاكر لها.
فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته، والخضوع له، والتقرب إليه بما يرضيه.
وكل رجل، وكل امرأة، وكل عبد يتقلب بين نعمة من ربه، وذنب من نفسه.
فعليه أن يحدث للنعمة شكراً، وللذنب استغفاراً، ويبوء إلى الله بنعمته عليه، ويبوء بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وهذا، رجوع عبد مطمئن إلى ربه منيب إليه، فهو معبوده ولا صلاح له إلا بعبادته كما قال صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري (1).
فالخير كله من الله، والنعم كلها من الله كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ
(1) أخرجه البخاري برقم (6306).
مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53، 54].
فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولكن أكثر الناس يظلمون أنفسهم، ويجحدون نعمة ربهم عليهم.
والله عز وجل هو الذي يحبب الإيمان إلى العباد، ويزينه في قلوبهم، بما أودع فيها من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الأدلة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وتوفيقهم للإنابة إليه كما قال سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].
وهو سبحانه الذي كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان بما أودع في القلوب من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وما نصبه من الأدلة على فساده، وعدم قبول الفطر له، وبيان أضراره.
فكل فضل ونعمة وخير يحصل للعباد إنما حصل لهم بفضل الله وإحسانه إليهم، لا بحولهم ولا بقوتهم، وهو العليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته:{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
…
[الحجرات: 8].
والله عز وجل وإن كان أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فإنه كذلك أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جوده وكرمه، ورحمته وفضله، حكمته وعدله.
ولو أن أحداً من العقلاء وضع المسك في الحش، أو وضع النجاسة في موضع الطيب، لاشتد نكير الناس عليه، والقدح في عقله، وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، أو وضع الإحسان موضع العقوبة، لسفهوه وقدحوا في عقله، وغير ذلك مما يخل بالحكمة.
فالعليم الحكيم الذي بهرت حكمته العقول والألباب كيف يليق به أن يضع
الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها، أو يمنعها من هو أهل لها؟.
وأجل النعم التي أنعم الله بها على العباد هي نعمة الإيمان بالله، ومعرفته ومحبته طاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ولزوم عبوديته، وهذا كله من تمام حكمته ورحمته بعباده.
والله سبحانه من حكمته خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار .. والحر والبرد .. والداء والدواء .. والعلو والسفل .. والذكر والأنثى .. واليابس والماء.
وكذلك الأرواح منها الطيب والخبيث .. وكذلك القلوب منها الشريف الزكي .. ومنها القلب الخسيس الخبيث.
وهو سبحانه أعلم بالقلوب الزاكية، والأرواح الطيبة، التي تصلح لاستقرار نعم الله فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها.
فليس من الحكمة أن يبذر الإنسان البر في الصخور والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم ولا رشيد.
فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة في المحال التي هي أخبث المحال، فهو سبحانه العليم الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويضع أمانته.
وهو سبحانه أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده، ويقوم بحقها، ويصبر على أوامره، ويشكره على نعمه، ويعظمه ويتقرب إليه سبحانه، ومن لا يصلح لذلك.
وكذلك الله عز وجل أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله، وإبلاغ دينه، فإن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته.
فالله عز وجل إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته، ومعرفته وتوحيده، حبب إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، وأعانه عليه، ويسر له طرقه، وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره، فلا يزال يعامله
بلطف، ويختصه بفضله ورحمته، ويمده بعونه، ويريه مواقع إحسانه إليه، وبره به، فيزداد العبد به معرفة، وله محبة، وإليه إنابة، وعليه توكلاً، وله ذكراً.
فهذا القلب الزاكي هو الذي اقتضت حكمة الله وكرمه وإحسانه أن يبذر فيه بذور الإيمان والمعرفة، وأن يسقيه بماء العلم النافع، ليقطف منه صاحبه ثمرة العمل الصالح، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.
فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا.
وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (1).
فشبه صلى الله عليه وسلم القلوب بالأرض، والوحي بالماء:
فمن الأرض أرض طيبة قابلة للماء والنبات .. وهذه الأرض بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه .. المستعد لزكاته فيه .. وثمرته ونمائه .. وهذا القلب خير قلوب العالمين.
ومن الأرض كذلك أرض صلبة قابلة لحفظ الماء .. لكن ليس فيها قوة الإنبات .. فهذه الأرض بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي وأداه إلى من هو أفقه منه .. وهذا في الدرجة الثانية.
ومن الأرض كذلك أرض قيعان .. وهي الأرض المستوية التي لا تنبت لكونها سبخة، فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعاً، لم تمسكه لشرب الناس .. ولم تنبت به كلأً .. لأنها غير قابلة.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79) واللفظ له، ومسلم برقم (2282).
وهذا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين.
والله عز وجل أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها، ومن لا يصلح لها.
وحكمته جل وعلا تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله، كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.
وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحاً، وجعله أهلاً وقابلاً.
فمنه الإعداد .. ومنه الإمداد .. ومنه التوفيق.
فإن قيل فهلا جعل المحال كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد؟
قيل هذا القائل من أجهل الناس، وأضلهم، وأسفههم، وأصغرهم عقلاً.
وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الله الأضداد؟.
وهلا جعلها كلها سبباً واحداً؟.
فلم خلق الليل والنهار .. والشياطين والملائكة .. والحر والبرد .. والداء والدواء .. والروائح الطيبة والكريهة .. والحلو والمر .. والحسن والقبيح .. والذكر والأنثى؟.
ومن له أدنى مسكة من عقل يعلم أن هذا السؤال يدل على حمق سائله، وفساد عقله.
وهل خلق هذه الأشياء المتقابلة إلا موجب ربوبيته وإلهيته، وملكه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ومحال أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟.
وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء، وإهانة الأعداء؟.
وهل تمام الحكمة، وكمال القدرة، إلا بخلق المتضادات والمتقابلات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها؟.
وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه جل جلاله وعز سلطانه؟.
فهل يكون رزاقاً وغفاراً، وحليماً ورحيماً، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له، ولا من يحلم عنه ويرحمه؟.
وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟.
فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم؟.
ويري أولياءه كمال نعمته عليهم، واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه.
وليس في الحكمة تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئي يكون من لوازمه.
فالغيث الذي يحيي الله به البلاد والعباد، والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر؟، وكم يهدم من بناء؟، وكم يعوق من مصلحة؟.
ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح العظيمة من الإرواء والإنبات والحياة؟.
وهل تلك المفاسد في جنب هذه المصالح العامة النافعة إلا كتفلة في بحر؟.
وهل تعطيله لئلا تحصل تلك المفاسد، إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك والدمار؟.
وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، كم تؤذي بحرّها مسافراً وغيره؟، وكم تجفف رطوبة؟، وكم تعطش من البهائم؟، وكم تحرق من نبات أخضر؟.
ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح؟.
فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه.
فحقيقة الإنسان أن نفسه جاهلة ظالمة، فقيرة محتاجة للعلم والهدى.
والشر الذي يحصل للإنسان نوعان: عدم .. ووجود.
فالأول: كعدم العلم والإيمان، وعدم الصبر وإرادة الخير، وعدم العمل بذلك.
والثاني: الشر الوجودي: كالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة.
فذلك من لوازم ذلك العدم، فمتى عدم العلم النافع والعمل الصالح من النفس،
لزم أن يخلق الشر والجهل وموجبهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالأمر النافع الصالح، اشتغلت بالضد الضار الفاسد.
وهذا الشر الوجودي هو من خلقه تعالى، لأنه خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فله فيه حكمة لأجلها خلقه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة.
وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك.
ومن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، في مقام الصدق بين الملأ الأعلى، فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، والتي تفرق بين الأبرار والفجار كما قال سبحانه:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].
ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم من أهل الردى والدناءة والقبائح، لقدح الناس في ملكه، وقالوا: لا يصلح للملك، لاختياره ما لا يليق به ولا بملكه.
فما الظن بمجاوري الملك الأعظم، مالك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى، الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
أفيليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، والدرجات العلا، أرواح سفلية أرضية، قد أخلدت إلى الأرض، وعصت ربها، وعكفت على شهواتها كالحيوانات والبهائم السائمة.
فلا ترى نعيماً ولا لذةً ولا سروراً إلا بما وافق طباعها من مأكل ومشرب ومنكح، من أين كان؟، وكيف كان؟.
فالفرق بينها وبين الكلاب والحمير انتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، والمشي على القدمين.
أما الطبع بالقلب فعلى شاكلة هذه الحيوانات وطباعها.
بل ربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير، ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22].
فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة؟.
ويكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟.
هذا لا يكون أبداً، وتأباه حكمة أحكم الحاكمين:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36].
وهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين المؤمن والفاسق في دار واحدة يوم القيامة: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28].
فالله عز وجل خالق كل شيء، خلق الليل والنهار، والماء والتراب، والحر والبرد، والسهل والحزن، والضار والنافع، والبر والفاجر ونحو ذلك لنعرف كمال قدرته، وكمال حكمته، وكمال رحمته.
فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة بتنزيلها منازلها، ووضع كل منها في موضعه، وكمال الرحمة بالانتفاع بها، والاتعاظ بها.
والمؤمن يربط القدرة بالحكمة، فلا يكون شيء إلا بقدر الله ومشيئته وحكمته، وكما لا يخلو مخلوق من علم الله، فكذلك لا يخلو من حكمته.
فكل ما يحصل من النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها، والتي لا تكون ناراً إلا بها.
وكذلك النفس، فما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها، وخالق كل شيء قام بها، وما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وجهلها.
فالنفس ليس عندها خير يحصل لها منها بل ذلك إلى الله، والنفس متحركة بالذات، فإن لم تتحرك بالخير تحركت بالشر فضرت صاحبها.
والنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار كما قال سبحانه:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج: 19 - 22].
فخلق الله عز وجل الإنسان على هذه الصفة، ومن كان على غيرها فلأجل ما زكاه الله به من فضله وإحسانه من الإيمان والتقوى.
وخلقه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الرب سبحانه، وهو موجب حكمته وعزته، وهي بالنسبة إلى الخالق سبحانه خير وعدل وحكمة.
وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر، وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية، وبراً وفجوراً.
ولله تبارك وتعالى الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى توفيقه الموجب لطاعته، وعلى خذلانه الموقع في معصيته.
والله عز وجل رحمته سبقت غضبه، وما يحصل للبشر من الضرر والأذى، فله في ذلك أعظم حكمة مطلوبة.
فكما أن الزارع يحصد الزرع ثم يجعل الحب الطيب في مكان يناسبه، والعيدان والقصب في مكان آخر، فالأول للإطعام والانتفاع، والثاني للإحراق والإتلاف.
فكذلك الله تبارك وتعالى بحكمته ورحمته وفضله يجعل في الجنة من كان طيباً، وزرع خيراً، وجنى طيباً، ويجعل في النار من العباد من لا خير فيه، كالعيدان والشوك الذي لا يصلح إلا للنار.
وجميع ما خلقه الله عز وجل فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها وهي الإيمان والتوحيد.
الثاني: حكمة تعود إلى عباده وهي نعمه عليهم، يفرحون بها، ويتلذذون بها، وهذا في المخلوقات والمأمورات:
أما في المأمورات فإن الطاعات كلها يحبها الله ويرضاها، ويفرح بها، يفرح سبحانه إذا فعل العبد ما أمره الله به، ويغار إذا فعل العبد ما نهاه عنه.
وكذلك الطاعات عاقبتها سعادة العبد في الدنيا والآخرة، يفرح بها العبد المطيع، فكل ما أمر الله عز وجل به له عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له، وفيها رحمة بعباده.
وكذلك المخلوقات، فكل ما خلقه الله خلقه لحكمة تعود إليه يحبها .. وخلقه رحمة بالعباد ينتفعون بها.
ومن أعظم حكمة الرب وكمال قدرته خلق الضدين، إذ بذلك تُعرف ربوبيته وقدرته وملكه، كما خلق الليل والنهار، وكما خلق جبريل وإبليس.
فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها، وأجرى على يديه كل خير.
وخلق أخبث الأرواح وأنجسها وأرداها، وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق وعصيان.
وجعل سبحانه الطيب منحازاً إلى تلك الروح الطيبة، والخبيث منحازاً إلى هذه الروح الخبيثة.
فتلك تجذب كل طيب .. وهذه تجذب كل خبيث .. ولكل منهما عمل ودار.
وأي حكمة وقدرة أبلغ من هذا؟.
وقد خلق الله الإنسان من الأرض، وهي مشتملة على الطيب والخبيث، والله عز وجل يريد تخليص الطيب من الخبيث بالوحي الذي أنزله، ليجعل الطيب مجاوراً له في دار كرامته، مختصاً برؤيته والقرب منه.
ويجعل الخبيث في دار الخبث، حظه البعد منه، والهوان والطرد والإبعاد، إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاوراً له في داره مع الطيبين وهو خبيث فاسد نجس.
فسبحان الحكيم العليم الذي خلق من المادة النارية من جعله محركاً للنفوس الخبيثة .. داعياً لها إلى محل الخبث والإحراق وهو الشيطان .. لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع .. وتميل إليه بالمناسبة .. فتنحاز إلى ما يناسبها عدلاً وحكمة .. لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها.
بل أقام بحكمته وعدله داعياً يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوماً لخالقها وبارئها من أحوالها، وكان خفياً على العباد.
فلما استجابت لأمره، وآثرت طاعته على طاعة ربها، الذي تتقلب في نعمه، ظهر حينئذ لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس الخبيثة، وطردها عنه، وإبعادها عن رحمته.
وأقام سبحانه للنفوس الطيبة داعياً يدعوها إليه .. وإلى مرضاته وكرامته .. فلبت دعوته واستجابت لأمره .. فعلم عباده حكمته في تخصيصها بمثوبته وكرامته.
فظهر للعباد حمده التام، وحكمته البالغة في الأمرين، وعلموا أن خلق ولي الله وعبده جبريل وجنوده وحزبه، وخلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه، هو عين الحكمة والمصلحة، وأن تعطيل ذلك منافٍ لمقتضى حكمته وحمده.
فسبحان من هذا خلقه، وهذا أمره، وهذه حكمته:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18].
والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد ونحو ذلك.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه.
فإن قيل كيف يريد الله عز وجل أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟.
قيل: الله سبحانه يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره،
وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره، كما خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى.
فهو مبغوض للرب، مسخوط له، لعنه الله ومقته، وغضب عليه.
ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها:
منها ظهور قدرة الرب للعباد في خلق المتضادات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات، وسبب كل شر، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات وسبب كل خير.
وخلق الليل والنهار، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، كل ذلك يدل على كمال قدرة الله وعزته، وعظمة سلطانه وملكه، فإنه خلقها وجعلها محل تصرفه وتدبيره.
فتبارك الله خالق هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.
ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار، وشديد العقاب، والمعز المذل، والنافع الضار، ونحوها، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته، فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
ومنها ظهور آثار الأسماء المتضمنة للحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه.
فلا يضع سبحانه الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء
موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا العز مكان الذل، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به.
فهو سبحانه الحكيم العليم الذي يعلم أين يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها.
فلو قدر سبحانه عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه، ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب.
وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح والمنافع ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.
ومنها حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فالله عز وجل يحب عبودية الجهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، وتوابعها من الموالاة في الله، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى.
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وهو الحكيم الخبير.
ومنها عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار.
ومنها عبودية مجاهدة عدو الله، ومراغمته في الله، ومخالفته، وذلك من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويجاهده.
ومنها أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده ومكره وشره.
ومنها أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه من الطرد واللعن بسبب معصيته، فيحذرون معصيته، ويبادرون إلى طاعته.
ومنها أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته.
ومنها أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب عز وجل.
ومنها أن الطبيعة البشرية جعلها الله مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد.
فخلق الله الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل.
وأرسل الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل.
فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في إكرام أهل الخير وعقوبة أهل الشر.
فالملائكة ظنوا أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة كما حكى الله عنهم ذلك بقوله:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
ألا ما أقل علم الخلق بقدرة رب العالمين، وحكمة أحكم الحاكمين.
ومنها أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه إنما حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان في قوم نوح، وآية الريح في قوم عاد، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وآية موسى مع فرعون وبني إسرائيل بانفلاق البحر، وخروج الماء من الحجر، ونحو ذلك.
فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة كما قال سبحانه:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}
…
[الشعراء: 139، 140].
ومنها أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن الربوبية القاهرة، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل.
والرب سبحانه كامل في نفسه، ولو لم يخلق هذه الأسباب، لكن ظهور آثارها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.
فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلقه ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته، أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
فإن قيل هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟.
قيل هذا محال، وهو سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب، والكتابة بدون كاتب، والحركة بدون متحرك، والتوبة بدون تائب.
فإن قيل: فهذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟.
قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.
وسر المسألة:
أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها، بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها ما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه.
فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته؟.
قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له.
فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟.
قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة
التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47].
والطاعة: هي موافقة الأمر لا موافقة القدر، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
والله حكيم عليم، فقد جعل في خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة، والآيات الظاهرة، ما لم يكن يحصل بدونه.
فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان التي أغرق الله بها الكفار والظالمين.
ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه.
ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة.
ولولا كفر فرعون وقومه لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله من عباده.
وهلك بها من هلك عن بينة، وحيى بها من حيى عن بينة، وظهر بها فضل الله وعدله، وقدرته وحكمته، وآيات رسله.
ولولا مجيء المشركين يوم بدر بقوة السلاح، وكثرة الرجال، والكبر والبطر، لما حصلت تلك الآيات العظيمة من النصر، ونزول الملائكة، والتي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير، ما لم يكن حاصلاً مع عدمها.
وكم حصل بها من الهدى والإيمان؟.
وكم حصل بها من محبوب للرحمان، وغيظ للشيطان؟.
وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جداً بالنسبة إلى
مصالحها وحكمها وآثارها العظيمة.
والله حكيم عليم أراد أن يري عباده السابق واللاحق ما هو من أعظم آياته، وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه، ثم جعل زوال ملكه وإهلاكه على يده.
فكم حصل بقصة موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون من عبرة وحكمة، ورحمة وهداية.
وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب (من مس الشيطان له بنصب وعذاب، اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدله بالنعماء، بعد ذلك الصبر والدعاء.
وكذلك كفر قوم إبراهيم وشركهم، وتكسيره لأصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النيران العظيمة له، وإلقاؤه فيها، كل ذلك أوصله إلى أن صارت النار التي ألقي فيها برداً وسلاماً عليه.
وصارت تلك آية وحجة وعبرة على مر الزمن.
وكم بين إخراج الرسول (من مكة مختفياً على تلك الحال، وبين دخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبوراً لله، وقد اكتنفه المسلمون من جميع الجهات، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حرمه ذلك الدخول المهيب الرهيب.
فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كأن لم يكن في جنب هذا النصر المبين؟.
ولولا معارضة السحرة لموسى صلى الله عليه وسلم بإلقاء العصي والحبال، حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم، لما ظهرت آية عصا موسى صلى الله عليه وسلم التي ابتلعت عصيهم وحبالهم فآمنوا فوراً، وانقلبوا على فرعون، وقاموا في وجهه معتزين بدينهم، مدافعين عنه.
فسبحان الحكيم العليم الذي جميع أفعاله كلها حكم وآيات: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18].
وهو سبحانه الملك الذي يتصرف في عباده بالحكمة والعلم، بالعدل لا بالظلم،
بالإحسان لا بالإساءة، بما يصلحهم لا بما يفسدهم.
فهو يأمرهم وينهاهم إحساناً إليهم، وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم، ولا بخلاً عليهم بل جوداً وكرماً، ولطفاً وبراً، ورحمةً وإحساناً.
ويثيبهم إحساناً وتفضلاً ورحمةً، لا لمعاوضة واستحقاق منهم، أو دين واجب لهم يستحقونه عليه.
ويعاقبهم عدلاً وحكمةً، لا تشفياً ولا مخافةً ولا ظلماً كما يعاقب الملوك والجبابرة وغيرهم.
بل هو سبحانه على الصراط المستقيم، وهو صراط العدل والإحسان، في أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره كما قال هود صلى الله عليه وسلم:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه .. وهدايته وإضلاله .. وفي نفعه وضره .. وعافيته وبلائه .. وإعزازه وإذلاله .. وإنعامه وانتقامه .. وثوابه وعقابه .. وتحليله وتحريمه .. وأمره ونهيه .. وإحيائه وإماتته .. وفي كل ما يخلقه .. وفي كل ما يأمر به .. وفي كل ما يدعو إليه.
وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم من المؤمنين.
وهو سبحانه على صراط مستقيم في تصرفه في ملكه، يتصرف بالعدل، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحداً بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحداً بجريرة أحد، ولا يكلف نفساً ما لا تطيقه، ومصير العباد كلهم إليه، وطريقهم عليه، لا يفوته أحد منهم، فيجازيهم بما عملوا:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
وكل دابة تحت قبضته وإرادته، وهو آخذ بناصيتها، فلا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدره، ومن ناصيته بيد الله فلا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا بإقداره، ولا يشاء إلا بمشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}
…
[الإنسان: 30].
فهو سبحانه الحق، وقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وجزاؤه الحق، وأفعاله كلها حق، وكتبه كلها حق، وكيف يليق بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، ويتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
وهو سبحانه المولى الكريم، الذي هدى الضالين، وعلَّم الجاهلين، وأصلح الفاسدين، وأنقذ الهالكين، وبصر المتحيرين، وتاب على المذنبين، وأقبل بقلوب المعرضين، وذكر الغافلين، وآوى الشاردين.
وإذا أوقع سبحانه عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة.
حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11].
فهو سبحانه لكمال حكمته وعدله، يضع العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعه في الموضع الذي يقول من علم الحال لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا هذه العقوبة.
وقد أخبر الله عز وجل في كتابه أنه أهلك أعداءه، وأنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة والإرادة، بل بسبب عملهم كما قال سبحانه:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37].
وقال عن فرعون وقومه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55].
وقال عن عاد حين كذبوا هوداً (: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [الشعراء: 139].
وقد ضمن الله عز وجل زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، والمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة: 26، 27].
وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده، فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده، ودفعه لما تحققه وعرفه.
وأنه سبحانه هو العليم الحكيم الذي لو علم في تلك المحال والنفوس التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته، فهم شر الدواب كما قال سبحانه:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23].
وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن أقبل على الله هداه، ووفقه لما يحبه ويرضاه، ومن أعرض عنه، فإن الله لا يهدي القوم الكافرين ولا الظالمين ولا الفاسقين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].
وأخبر سبحانه أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115].
وأما المكر والكيد والخداع الذي وصف به نفسه، فهو مجازاته للماكرين والكائدين، والمخادعين لأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.
وكذلك الكيد والمخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه وكيدهم، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر كما قال سبحانه:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30].
وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيدخل النار، فهذا عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه، لم يبطله عليه، فقد يكون به آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
والله تبارك وتعلى يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود لآدم، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، وبادروا إلى الامتثال، وأظهر ما في قلب عدوه إبليس من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى وامتنع من السجود لربه كما قال سبحانه:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته.
والذي يخافه العارفون بالله من مكره، أن يؤخر عنهم عذاب المعاصي، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة، أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، أو أن يعلم من ذنوبهم ما لا يعلمونه، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، أو يبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به، وذلك مكر.
ومن علم الله منه أنه لا يؤمن، ولا يصلح للهداية، فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96، 97].
ومن ضل عن قبول الحق والاهتداء به .. فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به .. وأن محله غير قابل له .. فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه .. كما هوأعلم حيث يجعل رسالته.
وكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمل الرسالة، وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وتأمل حكمة الرب جل جلاله في عذاب الأمم السابقة بعذاب الاستئصال، لما كانو أطول أعماراً، وأعظم قوى، وأعتى على الله وعلى رسله.
فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى، رفع الله عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين.
وما أعظم حكمة الرب جل جلاله في إرسال الرسل في الأمم واحداً بعد واحد .. كلما مات رسول خلفه آخر .. لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء .. لضعف عقولها .. وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق.
فلما انتهت النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم .. أرسله إلى أكمل الأمم عقولاً ومعارف .. وأصحها أذهاناً .. وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض.
فأغنى الله الأمة بكمال رسولها، وكمال شريعته، ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ومن وراءهم، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدّث.
فسبحان الخلاق العليم، العزيز الحكيم، البصير بأحوال خلقه وملكه، الذي له في كل ذرة في هذا الكون فما فوقها:
خلق من خلقه .. وقضاء من قضائه .. وأمر من أمره .. وحكمة من حكمه.
فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.