الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه الفكر والاعتبار
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190، 191].
وقال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور: 44].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهدى سبحانه من يعلم أنه يصلح لعبادته وطاعته، ويقوم بامتثال أمره ونهيه، ويصلح لسكنى دار كرامته.
وهدى واشترى أحسن أنواع الإنسان وهم المؤمنون كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].
وأمر هؤلاء بكل خير، ونهاهم عن كل شر، وأمرهم بكل حسن، وحذرهم من كل قبيح، ودعاهم إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
وأضل سبحانه من يعلم أنه لا يصلح لسكنى دار كرامته، ويعلم أنه لا يطيع أمره ونهيه، وخذل من استكبر عن عبادته وطاعته.
فهؤلاء لا يستحقون الهداية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86].
والله عز وجل خلق في كل إنسان ثلاث أواني:
آنية الطعام والشراب، وهي المعدة.
وآنية المعلومات، وهي الدماغ.
وآنية الإيمان، وهي القلب.
وأمر سبحانه أن لا يوضع في الأولى إلا ما ينفعها ويصلحها من الطيبات التي أحلها الله عز وجل.
وخلق سبحانه العقل والدماغ والمخ، وأمرنا باستعمالها حسب أمره، بالتفكر في عظمة الله وجلاله وجماله، وآياته ومخلوقاته، واستقبال الوحي والعمل بموجبه، وتعليمه والدعوة إليه.
وخلق سبحانه القلوب وجعلها محل الإيمان، وأمرنا بالتفكر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، ليزيد الإيمان، فتأتي الطاقة والمحبة والرغبة للقيام بأعمال الدين، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال.
فلله عز وجل على العبد في كل عضو من أعضائه أمر .. وله عليه فيه نهي .. وله فيه نعمة .. وله به منفعة ولذة.
فإذا قام العبد لله في ذلك العضو بأمره، واجتنب فيه نهيه، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به.
وإن عطل أمر الله ونهيه فيه، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته.
ولله عز وجل على كل عبد، في كل وقت من أوقاته، عبودية تقدمه إليه، وتقربه منه، وتحببه إليه.
فإن شغل وقته بعبودية ذلك الوقت، تقدم إلى ربه، ونال رضاه.
وإن شغله بهوى وراحة وبطالة تأخر فخاب وخسر.
وجعل سبحانه كل عضو من أعضاء الإنسان آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو
كماله:
فالعين آلة للنظر .. والأذن آلة للسمع .. والأنف آلة للشم .. واللسان آلة للنطق .. والرِّجل آلة للمشي .. واليد آلة للبطش .. والفرج آلة للنسل.
والقلب للتوحيد والإيمان والمعرفة .. والعقل للتفكر والتدبر والتذكر .. وإيثار ما ينفع على ما يضر .. وتقديم المصالح .. ودرء المفاسد.
والعبد كالشجرة آلة للعمل والإنتاج، فمتحرك بطاعة، ومتحرك بمعصية، وداع إلى الخير، وداع إلى الشر، وحامل مسك، وحامل بعر.
ولا يزال العبد في تقدم أو تأخر، فإما متقدم إلى الله والجنة، أو متأخر إلى العذاب والنار، ولا وقوف في الطريق البتة، فقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم:{نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 36، 37].
فأعلى الفكر وأجله، وأعظمه وأنفعه، وأكبره وأشرفه، ما كان لله والدار الآخرة.
فما كان لله تبارك وتعالى فهو أنواع:
أحدها: التفكر في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة عظمة الله وجلاله وجماله وكماله من خلال ذلك.
الثاني: التفكر في آيات الله الكونية، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده.
الثالث: التفكر في آيات الله المنزلة، وتعقلها، وفهم المراد منها.
الرابع: التفكر في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، ومعرفة سعة رحمته ومغفرته وحلمه.
ودوام الفكر والذكر فيما سبق يزيد الإيمان، ويصبغ القلب بمعرفة عظمة الله وجماله وكماله صبغة تامة، وذلك بفضل الله يؤتيه من يشاء:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].
الخامس: الفكر في عيوب النفس وآفاتها، وعيوب العمل وآفاته.
السادس: الفكر في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهم كله عليه، فجميع مصالح الدنيا والآخرة إنما تنشأ من حفظ الوقت، ومن أضاعه ضاعت مصالحه الدنيوية والأخروية.
ووقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته.
واستدعاء خواطر اللهو واللعب أخف شيء على النفس الفارغة، وأثقل شيء على النفس الشريفة المطمئنة.
والله سبحانه خلق الإنسان، وخلق فيه طاقات كثيرة ينتفع بها أهمها:
الطاقة البدنية .. والطاقة العقلية .. والطاقة الروحية .. والطاقة التناسلية.
فالأولى للحركة، والثانية للعلم، والثالثة للإيمان، والرابعة للإنجاب.
ومكان الأولى في الأعضاء والجوارح .. ومكان الثانية في المخ والدماغ .. ومكان الثالثة في القلب .. ومكان الرابعة في الجهاز التناسلي.
ولا بد للمسلم من الاستفادة من هذه الطاقات للدين.
وجميع هذه الطاقات تبدأ .. ثم تقوى .. ثم تضعف .. ثم تنتهي بالموت، إلا الطاقة الروحية، فإنها تبدأ في الحياة، وتبقى بعد الموت، ولكنها معارضة بالنفس امتحاناً وابتلاء.
النفس تريد تكميل الشهوات .. والروح بما فيها من الإيمان تريد تكميل أوامر الله ومحبوباته .. والتشبه بالملائكة في الطاعة والعبادة.
وحال الإنسان وحركته مقيدة إما بنفسه وشهواته .. وإما بإيمانه وأعماله.
والمسلم لا بد أن يعبد الله على بصيرة، والبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به العبد حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين.
والبصيرة ثلاثة أقسام، من استكملها فقد استكمل البصيرة:
الأولى: بصيرة العبد في أسماء الله وصفاته وأفعاله.
الثانية: بصيرة في أمر الله ونهيه.
الثالثة: بصيرة في وعد الله ووعيده.
فالبصيرة في الأسماء والصفات، أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، ناطقة وصامتة، ساكنة ومتحركة.
سميعاً لأصواتهم .. رقيباً على ضمائرهم .. مطلعاً على أسرارهم.
ويشهد أمر الممالك والخلائق تحت تدبيره، نازلاً من عنده، صاعداً إليه.
وملائكته بين يديه، تنفذ أوامره في أقطار السموات والأرض، موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال.
حي لا يموت .. قيوم لا ينام .. له الخلق والأمر .. يفعل مايشاء .. ويحكم ما يريد.
والبصيرة في الأمر والنهي، ألا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله، ولا تقليد يريحه من بذل الجهد في تلقي الأحكام من النصوص.
والبصيرة في الوعد والوعيد، أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر، في دار العمل وفي دار الجزاء، وذلك موجب إلهيته وربوبيته، وعدله وحكمته.
فالمعاد معلوم بالعقل، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي.
وتشهد أهل الجنة يتنعمون فيها .. وأهل النار يعذبون فيها.
ولا يزال نور البصيرة في زيادة، حتى يُرى على الوجه والجوارح، وعلى الكلام والأعمال، وعلى الأخلاق والصفات.
صاحبه متصل بالله، مستضيء بنور الوحي، مستنير بنور الإيمان، متزين بالسنن والآداب والأخلاق.
يميز به بين الحق والباطل .. والصادق والكاذب .. والطيب والخبيث.
ويميز به بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه من الأقوال، والأعمال، والأخلاق والأعيان.
وفي كل إنسان ثلاث قوى:
قوة البدن .. وقوة العقل .. وقوة القلب.
فقوة البدن يشترك فيها الإنسان مع الحيوان.
وقوة العقل يشترك فيها المسلم والكافر.
وقوة القلب خاصة بالمسلم، وهي مكان دعوة الرسل، حيث اجتهدوا على قلوب البشر، حتى امتلأت بتوحيده وعظمته ومحبته، والخوف منه، والتلذذ بعبادته وطاعته، والإيمان به.
فعلى المسلم أن يستفيد من هذه الطاقات، ويسخرها للدين لتصلح حاله وأحوال العالم من حوله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16].
إن كل ما في الوجود مما سوى الله فهو فعل الله وخلقه.
فكل ذرة من الذرات .. وكل قطرة من القطرات .. وكل حركة من الحركات .. وكل مخلوق من المخلوقات .. كل ذلك فيه آيات وعجائب .. تظهر بها حكمة الله وقدرته .. وجلاله وعظمته .. وإحصاء ذلك غير ممكن.
والمخلوقات التي خلقها الله قسمان:
الأول: ما لا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها، فكم من الموجودات التي لا نعلمها، بل نسبة ما نعلمه إلى ما لا نعلمه كالقطرة بالنسبة للبحر، وقد قال سبحانه:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8].
الثاني: ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها، فيمكننا أن نتفكر في
تفصيلها، ونهتدي إلى شيء من أسرارها.
وهي منقسمة إلى ما ندركه بحس البصر، وإلى ما ندركه بالخبر:
أما الذي لا ندركه بالبصر ولكن ندركه بالخبر فكالملائكة والأرواح .. والجن والشياطين .. والعرش والكرسي .. والجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب .. وما يجري في اليوم الآخر من العرض والحساب والموازين وغيرها .. وأحوال الأمم الماضية.
وأما ما ندركه بحس البصر فالسماء والأرض وما بينهما من المخلوقات.
وقد أمرنا الله عز وجل بالنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ذلك.
فخلق السماء آية .. وجمالها آية أخرى .. وعلوها آية أخرى .. وعظمتها آية أخرى.
وفي السماء آيات وعبر، فالشمس آية، وإنارتها آية، وجريانها آية.
والقمر آية .. وإنارته آية .. وتغير أحواله آية .. وسيره آية.
وفي طلوع الشمس والقمر آية .. وفي غروبهما آية
وخلق النجوم آية .. وفي إنارتها آية .. وتوزيعها في السماء آية .. وفي سيرها آية، وفي الليل والنهار آيات بينات، وعبر وعظات:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 15، 16].
وفي الأرض آيات وعبر وعظات:
نباتات متنوعة .. وحيوانات مختلفة .. وأنهار وبحار .. وسهول وجبال .. وجواهر ومعادن .. وأزهار وثمار .. وحجارة ورمال.
فمن ينظر؟ .. ومن يتفكر؟ .. ومن يتدبر؟: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8].
وما بين السماء والأرض آيات وعجائب:
سحب وغيوم .. ورعد وبرق .. وأمطار وثلوج .. وصواعق وشهب .. ورياح وعواصف .. وطيور وذرات .. وحرارة وبرودة .. وليل ونهار.
فهذه الأجناس في السموات والأرض وما بينهما، أصناف وأنواع لا يحصيها إلا الله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]
وجميع هذه المخلوقات مجال الفكر والتفكر .. والنظر والتدبر .. والاعتبار والاستبصار.
فلا تتحرك ذرة في السماء والأرض من ملك وإنسان .. وحيوان ونبات .. وماء وجماد .. ولا فلك ولا كوكب .. إلا والله تعالى هو محركها ومجريها.
وفي حركتها حكم وأسرار، وكل ذلك شاهد لله بالوحدانية، ودال على عظمته وجلاله، وحكمته وقدرته، وآلائه وإحسانه، وعظمة ملكه وسلطانه.
ففي خلق الإنسان من نطفة عجائب تدل على عظمة الخالق.
وفي خلق الحيوان وأصنافه وأنواعه وألوانه، آيات وعجائب تدل على عظمة المصور، وكمال قدرته.
ففي طيور الجو، وحيوانات البر، ودواب الأرض، وأسماك البحر، من العجائب ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وكلها تدل على عظمة خالقها، وقدرة مقدرها، وحكمة مصورها.
وفي خلق النمل والنحل وغيرها من صغار الحشرات ما يبهر العقول سواء كان في تكاثرها، أو بناء بيوتها، أو جمع غذائها، أو طباعها.
وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى.
وعجائب البحر كعجائب الأرض وما فيها، بل ما فيه من النبات والحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض.
فسبحان الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأعجب من ذلك كله ما هو أظهر من كل ظاهر، وهو قطرة الماء، هذا الجسم الرقيق السيال، متصل الأجزاء، كأنه شيء واحد، لطيف التركيب، سريع الاتصال والانفصال.
به حياة كل ما على وجه الأرض من نبات وحيوان كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30].
ومن آيات الله الدالة على عظمته، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك حسه ولا يرى شخصه، وجملته مثل البحر الواحد، والطيور محلقة فيه في جو السماء، سابحة بأجنحتها في الهواء، كما يسبح حيوان البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه، كما تضطرب أمواج البحر.
ومن آياته سبحانه ملكوت السموات، وما فيها من النجوم والكواكب.
ومن عرف عجائب الأشياء، وفاتته عجائب السموات فقد فاته الكل، فالأرض وما فيها من النبات والحيوان، والبحار والجبال، وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر أو أصغر كما قال سبحانه:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} [النازعات: 27، 28].
وكما يعظم الناس عالماً، بسبب معرفتهم بعلمه ومؤلفاته، فيزدادون بمعرفته توقيراً له، وتعظيماً واحتراماً.
فكذلك كلما استكثر الإنسان من معرفة أسماء الله وصفاته، وعجيب صنع الله، كانت معرفته بجلاله وعظمته أتم، وتوقيره أعظم، وعبادته أكمل.
وهكذا التأمل والنظر في المخلوقات؛ فكل ما في الوجود من خلق الله وصنعه، والنظر والفكر فيه لا يتناهي، وإنما لكل عبد منه بقدر ما رزق:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].
ومن عود نفسه الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته، والنظر في خلقه وملكه،
صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأن ذلك غذاء قلبه وروحه، لا مانع عنه، ولا مزاحم فيه.
والعاقل من يطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولايوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى، وعجائب مخلوقاته، والإيمان به، ولذة مناجاته.
وإنما يحصل الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق طعم الإيمان لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك فهو من المحرومين.
فأصل كل حرمان سببه الجهل بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه.
وأصل كل طاعة ونجاة إنما هو الفكر في أسماء الله وصفاته .. وأفعاله وخزائنه .. وفيما خلق له الإنسان .. وفيما أمر به .. وفيما أعد له من النعيم المقيم .. أو العذاب الأليم.
فتولد تلك المعرفة بالله إقبالاً ونشاطاً بحسب قوتها أو ضعفها، فيزداد القلب فرحاً وأنساً بربه، وتتلذذ الجوارح بالطاعة والعبادة.
وكذلك أصل كل معصية إنما يحصل من جانب الفكر .. فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة .. فيبذر فيها حب الأفكار الرديئة .. فيتولد منه الإرادات الفاسدة .. فيتولد منها العمل الذي يغضب ربه .. ويحبط عمله .. ويكون سبباً لهلاكه.
وإذا تدبرنا القرآن وجدنا أن الله يريد منا في الدنيا أن نكمل الإيمان، والأعمال الصالحة، والأخلاق، ونحذر المعاصي، لندخل الجنة.
والشيطان يريد منا أن نكمل شهواتنا الآن، ونعطل الأوامر، ونعيش على هوانا، ولو دخلنا النار يوم القيامة:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء: 27].
والله سبحانه يريد منا أن نكمل محبوباته في الدنيا من الإيمان والإحسان،
والصدق والصبر، والتوبة والجهاد، وغيرها من الأعمال الصالحة، وهو سبحانه يكمل محبوباتنا في الآخرة برؤيته، وسكنى دار كرامته، ورضوانه، والتلذذ بألوان النعيم:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 55]
والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فالدنيا دار العمل، والمسلم فيها مقيد بأوامر الله، كما أن السجين مقيد بأوامر السجن، فلا يستطيع أن يأكل ما شاء، أو يتكلم مع من شاء، أو يزور من شاء، بل هو مقيد بأوامر السجن.
لكن يعطي من هذه الأشياء بقدر الحاجة.
فكذلك المسلم في هذه الدنيا مقيد بأوامرالله التي تصلحه وتنفعه، فهو يقوم بالعمل، والله يطعمه ويسقيه ويرزقه حسب الحاجة، وبقدر ما يصلحه، إلى أن يخرج من السجن، إلى قصور الجنة، حيث النعيم المطلق، والخلود الدائم هناك:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
والله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن، فالكون كله ملكه، والإنسان ملكه، خلقه الله، وشرفه على ما سواه.
فمن أطاع الله سخر له كل شيء، ومن خضع لأوامر الله أخضع الله الكائنات كلها له من البحار والمياه والرياح وغيرها.
ولكن الإنسان إذا لم يطع الله ولم يكن له، فلا يكون الله له، ولا يكون معه، فإن الله مع المؤمنين والمتقين والمحسنين، ومن كان الله معه فكل شيء معه، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدة منهما إلا بمشقة، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما، ولكن الناس لضعفهم، وتزيين الشيطان لهم، يؤثرون ما يفنى على ما يبقى لقلة المذكر كما قال سبحانه:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17].
والمحب الذي قد ملك المحبوب أفكار قلبه، لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه وهو ربه سبحانه، أو بنفسه.
وفكره في محبوبه لا يخرج عن حالين:
إحداهما: فكره في جمال الرب وجلاله، وأسمائه وصفاته.
الثانية: فكره في أفعاله وإحسانه، وبره ولطفه.
وإن تعلق فكره بنفسه فكذلك لم يخرج عن حالين:
فإما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها فيتجنبها، وإما أن يفكر في الصفات والأفعال والأخلاق التي تقربه منه، وتحببه إليه، لكي يتصف بها.
فالأوليان توجب له زيادة محبته لربه، وتعظيمه، والخضوع له.
والأخريان توجب له محبة محبوبه له، وإقباله عليه، وقربه منه، وعطفه عليه، وإيثاره على غيره، وإسعاده في الدنيا والآخرة ..
فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة.
ومجاري الفكر في صفات نفسه وأفعالها كثيرة، ويمكن حصرها في ستة أجناس:
الطاعات الظاهرة والباطنة، فيتفكر في معرفتها، وأدائها، وتحسينها، ودوامها، والإكثار منها، وترغيب الناس فيها.
والمعاصي الظاهرة والباطنة، فيتفكر كيف يعرفها، ويحذر منها، ويقلع عنها، ويتوب منها، ويحذر الناس منها.
والصفات والأخلاق الحميدة، يتفكر كيف يعرفها، ويتخلق بها، ويدعو الناس إليها، ليتجملوا بها.
والصفات والأخلاق السيئة، يتفكر كيف يعرفها، ويحذرها، ويحذر الناس منها.
وأما الفكر في أسماء الرب وصفاته، وفي أفعاله وأحكامه:
فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر .. والتوحيد والشرك .. ووصفه بما هو أهله من العزة والجبروت .. والكبرياء والعظمة .. والجلال والإكرام .. وتنزيهه عما لا يليق به.
وجماع ذلك الفقه في معاني أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر.
فيكون فقيهاً في أسماء الله وصفاته .. فقيهاً في أوامر الله ونواهيه .. فقيهاً في قضاء الله وقدره .. فقيهاً في الأوامر الكونية القدرية .. فقيهاً في الأحكام الدينية الشرعية .. فقيهاً في دنياه وأخراه .. فقيهاً في الاستفادة من أوقاته.
ومن طلب ذلك ساقه الله إليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
ومن وفقه الله لذلك عرف ربه، وعرف ما يوصل إليه، وعرف ما له من الثواب والإكرام بعد القدوم عليه:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].
ولا شيء أنفع للقلب من تدبر كلام الله عز وجل، والتفكر فيه، فهو الذي يولد التعظيم للمعبود، ويورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله واستنارته.
وكذلك تدبر القرآن يزجر العبد عن جميع الصفات المذمومة، والأفعال السيئة التي يحصل بها فساد القلب وهلاكه.
فعلى الإنسان أن يتفكر في آيات ربه المسموعة وهي القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].
ويتفكر في آياته المشهودة وهي المخلوقات كما قال سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]
إن النظر والتدبر والتفكر من أعظم أنواع العبادة.
إن هذا الكون العظيم معرض هائل واسع لإبداع قدرة الرب، وعظمه خلقه، وتذكير بالخالق المبدع الذي خلق كل شيء.
وذلك يبهر الإنسان، ويشعره بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً.
إن الله عز وجل كما ينزل من السماء ماءً .. فينبت به زرعاً مختلفاً ألوانه .. كذلك أنزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية .. فتنفتح له، وتنشرح به .. وتتحرك حركة الحياة بالحسن والجميل من الأقوال والأعمال .. والأخلاق والآداب.
وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقى الماء الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3].
والله حكيم عليم، له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر، وهو الجواد الكريم على عباده:{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} [البقرة: 243].
وحقوق الله تبارك وتعالى على العباد نوعان:
أحدهما: أمره ونهيه، الذي هو محض حقه على العباد، ويتم بعبادته وحده لا شريك له، وطاعته في كل حال.
الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليهم.
فهو سبحانه يطالبهم بشكر نعمه، والقيام بأمره.
فمشهد الواجب على العبد لا يزال يُشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يتداركه بذلك هلك.
وكلما كان أفقه في دين الله، كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم.
فينشأ من ذلك التشمير للعمل .. ودوام الاستقامة على أوامر الله .. وكثرة التوبة والاستغفار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه (1).
فما أعظم نعم الله على عباده، وما أحسن ما دعاهم إليه من النظر في الآيات الكونية .. والنظر في الآيات القرآنية.
وفي النظر فيهما يكمل الإيمان .. وتكمل الأعمال الصالحة .. وتحسن الأخلاق .. ويكمل اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى وعده ووعيده.
وأفضل الناس توفيقاً .. وأكملهم توحيداً .. وأحسنهم تقوى .. من قرأ وعلم .. وسمع وأبصر .. وتفكر وتدبر .. وتذكر وتعقل .. ونظر وتأمل في آيات ربه المشهودة والمسموعة .. واستقام على دينه وشرعه.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).