الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - فقه الإيمان بالكتب
قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 2 - 4].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136].
الله تبارك وتعالى هو خالق هذا الكون العظيم، وله ملك السموات والأرض وما فيهن، وله ملك الدنيا والآخرة، ولا بد للملك في ملكه من أوامر، ومن جنود تنفذ وتؤدي هذه الأوامر.
وأوامر الله نوعان:
أوامر كونية .. وأوامر شرعية.
فأوامر الله الكونية القدرية وكل الله الملائكة بتنفيذها في هذا الكون في مخلوقاته سبحانه كما قال سبحانه عن الملائكة: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5].
وأوامر الله الشرعية هي الكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل على رسله، وهي تشتمل على الأوامر الشرعية التي تصلح بها أحوال العباد، وتعرفهم بخالقهم ومعبودهم، وما يحب وما يكره، وما يرضيه وما يسخطه من الأقوال والأعمال والأخلاق، وتبين ما للناس بعد القدوم على ربهم في الآخرة من الثواب والعقاب.
فلا بد للملك في ملكه من أوامر تصلح بها أحوال رعيته:
من حث وتحريص، ونهي وتحذير، وترغيب وترهيب.
فمن أحسن أثيب .. ومن أساء عوقب.
ولا بد للملك من سفراء بينه وبين خلقه وهم الرسل الذين يستقيمون على أوامر
الله، ويطيعونه تمام الطاعة، ويبينون للناس ما نزل إليه من ربهم من أوامر وأحكام، ويحكمون بين الناس بالعدل والحق في الدنيا، وينفذون أوامره في خلقه، ويبلغون شرعه.
ولا بد أن تكون للملك محكمة يحاسب فيها من أطاعه ومن عصاه، فيجزي على الخير خيراً، ويجزي على الشر ما يستحقه من العقوبة، وذلك يوم القيامة.
وبعد الحساب يكون للناس فريقين:
فريق في الجنة، وفريق في السعير:
فيكرم الله تبارك وتعالى بالجنة كل من آمن به وأطاعه وعمل بالكتاب الذي أنزله واتبع الرسول الذي أرسله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13].
ويهين ويذل كل من كفر به وعصاه بما أعد لهم من العذاب في النار كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].
والإيمان بالكتب:
هو التصديق الجازم بأن الله عز وجل أنزل كتباً على أنبيائه ورسله هداية لعباده .. وهي من كلام الله حقيقة .. وأن ما تضمنته حق لا ريب فيه .. منها ما سمى الله في كتابه .. ومنها ما لا يعلم أسماءها وعددها إلا الله وحده لا شريك له.
وقد بين الله عز وجل في القرآن أنه أنزل الكتب الآتية:
1 -
صحف إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
2 -
التوراة، وهو الكتاب الذي أنزله الله على موسى صلى الله عليه وسلم.
3 -
الزبور، وهو الكتاب الذي أنزله الله على داود صلى الله عليه وسلم.
4 -
الإنجيل، وهو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى صلى الله عليه وسلم.
5 -
القرآن، وهو الكتاب الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وهو آخر
الكتب السماوية إلى البشر.
فنؤمن بأن الله عز وجل أنزل الكتب السابقة لهداية عباده، وهي شريعة الله ودينه في أوقاتها، ونصدق ما صح من أخبارها كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.
ونعمل بأحكام ما لم ينسخ منها مع الرضا والتسليم، ونؤمن بما لم نعلم اسمه من الكتب السماوية إجمالاً.
وجميع الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها منسوخة بالقرآن العظيم كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
وما في أيدي أهل الكتاب مما يسمى بالتوراة والإنجيل، أو العهد القديم، والعهد الجديد، لا تصح نسبته كله إلى أنبياء الله ورسله، فقد كتب بعدهم، ووقع فيهم التحريف والتبديل، ومنها ما كتموه، ومنها ما افتروه، كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، واتهام الأنبياء بما لا يليق بمقامهم، ووصف الخالق بما لا يليق بجلاله ونحو ذلك.
فيجب رد ذلك كله، وعدم الإيمان إلا بما جاء في القرآن والسنة تصديقه.
وإذا حدثنا أهل الكتاب فلا نصدقهم ولا نكذبهم ونقول:
آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان ما قالوه حقاً لم نكذبهم، وإن كان ما قالوه باطلاً لم نصدقهم، ونجادلهم بالتي هي أحسن إلا الظالم منهم، ومجادلتنا لهم مبنية على الإيمان بما أنزل إلينا، وأنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولنا ورسلهم، وأن إلهنا جميعاً واحد، فلا نقدح في شيء من كتب الله المنزلة، ولا في أحد من رسله كما قال سبحانه:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت: 46].
والقرآن الكريم أعظم الكتب السماوية وأفضلها وأكملها، أنزله الله عز وجل على خاتم رسله، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين كما قال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
فالقرآن العظيم أفضل الكتب .. نزل به أفضل الملائكة وهو جبريل .. على أفضل الخلق وهو محمد صلى الله عليه وسلم .. على أفضل أمة أخرجت للناس وهي هذه الأمة .. بأفضل الألسنة وأفصحها وهو اللسان العربي المبين .. بأفضل شريعة وأكملها وهي ما فيه من الأحكام والسنن والآداب.
فيجب على كل أحد الإيمان به والعمل بأحكامه والتأدب بآدابه.
ولا يقبل الله العمل بغيره بعد نزوله، وقد تكفل الله بحفظه، فسلم من التحريف والتبديل، ومن الزيادة والنقصان كما قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وكتاب الله ومنهجه وشرعه للبشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
فلله الحمد والشكر، وله المنّة والفضل حيث أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا أفضل كتبه، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
وقد وصف الله عز وجل القرآن الكريم بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه، وجلالة قدره وعظمته فقال سبحانه:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 77 - 80].
والكريم: هو البهي الحسن، الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أفضله وأحسنه.
وقد وصف الله نفسه بالكريم .. ووصف كتابه بالكريم .. ووصف عرشه
بالكريم .. ووصف رسوله الملكي جبريل بالكريم .. ووصف رسوله البشري محمداً صلى الله عليه وسلم بالكريم.
والقرآن الكريم لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة بنجاسة البدع والشرك والمعاصي أن تنال معانيه أو تفهمه كما ينبغي.
إن القرآن الكريم كلام الله عز وجل، فلا يفهمه ولا يجد طعمه إلا من آمن به، ولا يلتذ به وبقراءته وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله، تكلم به حقاً، وأنزله على رسوله وحياً.
ولا ينال بركته ولا يستفيد من معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه فهو كتاب جليل القدر عظيم النفع، حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكم مفصل.
أصدق الكلام وأحسنه وأكمله:
فيه الأمر والنهي .. والوعد والوعيد .. والثواب والعقاب، تطمئن به القلوب .. وتنشرح له الصدور .. أنزله الله هدى ونوراً وشفاء للبشرية إلى يوم القيامة:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2].
فمن لم يؤمن بأن الله تكلم به وحياً ففي قلبه حرج منه.
ومن لم يؤمن بأنه حق من عند الله ففي قلبه حرج منه.
ومن قال إن له باطناً يخالف ظاهره ففي قلبه حرج منه.
ومن قال إن له تأويلاً لا نفهمه ولا نعلمه، وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه ففي قلبه حرج منه.
ومن سلط عليه الآراء الشاذة، وجعله تابعاً لنحلته ومذهبه تعصباً، في قلبه حرج منه.
ومن لم يأتمر بأمره، وينزجر عن زواجره، ويصدق أخباره، ويعمل بمحكمه،
ويؤمن بمتشابهه، ويرد ما سوى ذلك، ففي قلبه حرج منه.
ومن لم يحكمه ظاهراً وباطناً في جميع شعب الحياة، ويسلم وينقاد لحكمه أيا كان وأين كان، ففي قلبه حرج منه.
وكل كتاب من كتب الله عز وجل جاء بثلاثة أمور:
الأول: تعريف الناس بربهم ليعبدوه ويطيعوه، ويجتنبوا عبادة ما سواه.
الثاني: تعريفهم بالطريق الموصل إليه، والذي يحبه ويرضاه، وهو شرعه الذي أرسل به رسله، وما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي.
الثالث: تعريفهم بحالهم بعد القدوم على ربهم بعد الموت، فللمؤمنين بالله الجنة، وللكفار النار، كل يجازى بحسب عمله.
والشرائع التي أنزل الله ثلاث:
شريعة عدل: وهي شريعة التوراة، فيها الحكم والقصاص بالعدل، وهي شريعة الجلال والقهر.
وشريعة فضل: وهي شريعة الإنجيل، وهي مشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان، فهي شريعة الجمال والفضل والإحسان.
وشريعة جمعت هذا .. وهذا (العدل والإحسان)، وهي شريعة القرآن.
فإنه يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه، ويذكر الظلم ويحرمه كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
وقال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40].
وقد أرسل الله بهذه الشريعة محمداً صلى الله عليه وسلم.
فشريعة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت في مظهر الكمال، الجامع للجلال والجمال، جمعت بين العدل والشدة في الله، وبين اللين والرأفة والرحمة في الله.
فشريعة موسى جاءت بالجلال .. وشريعة عيسى جاءت بالجمال .. وشريعة
محمد جاءت بالكمال الجامع للجلال والجمال .. ولهذا رضيها الله للبشر ديناً إلى يوم القيامة.
فشريعته صلى الله عليه وسلم أكمل الشرائع، وهو أفضل الأنبياء وأكملهم، وأمته أكمل الأمم، وكتابه أحسن الكتب.
فهو سيد الأنبياء وخاتمهم .. وأمته أفضل الأمم وآخرها .. وكتابه أفضل الكتب وأحسنها .. وشريعته أكمل الشرائع وآخرها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، وعلى سيد الخلق نبينا محمد، الذي يحمده لجمال صفاته أهل السماء والأرض، أحمد الخلق لربه، وأحق بأن يحمد أكثر من غيره، فقد جاء من ربه بأعظم شرع، وأحسن كتاب.
وقد أخبر الله عز وجل عن القرآن الكريم:
بأنه ذكر للعالمين بقوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)} [التكوير: 27].
وأنه تذكرة للمتقين بقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الحاقة: 48].
وأنه ذكر مبارك بقوله سبحانه: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} [الأنبياء: 50].
فالقرآن الكريم ذكر للعالم أجمع، فهو المنهج الكامل الوحيد الذي يسعدون باتباعه في الدنيا والآخرة.
وهو ذكر لأهل الإيمان والتقوى، فهو هدى وذكرى.
يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم .. ويذكرهم بالمبدأ والمعاد.
ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على عباده.
ويذكرهم بالخير ليفعلوه .. ويذكرهم بالشر ليجتنبوه.
ويذكرهم بنفوسهم وآفاتها وما تكمل به.
ويذكرهم بعدوهم، وما يريد منهم، ومن أي الطرق يأتي إليهم؟، وبماذا يحترزون من كيده؟.
ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إلى ربهم، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه لحظة أبداً.
ويذكرهم بنعم الله عليهم ليشكروه، ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها.
ويذكرهم برحمته وعفوه ليقبلوا عليه، ويتوبوا إليه.
ويذكرهم بأسه وشدة بطشه وانتقامه، ممن عصى أمره، وكذب رسله، ليخافوه ويهابوه ويطيعوه.
ويذكرهم بثوابه وعقابه، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه ليقبلوا على ما ينفعهم، ويحذروا مما يضرهم، وينافسوا في الخيرات.
ويذكرهم بما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يحبه الرب وما يبغضه.
ويذكرهم بصفات أوليائه ليفعلوها ويتحلوا بها.
ويذكرهم بصفات أعدائه ليجتنبوها ويحذروا منها.
ويذكرهم بعاقبة هؤلاء وهؤلاء.
ولهذا يأمر الله عباده أن يذكروا ما في كتابه من المواعظ والشرائع والأحكام وأن يأخذوها بقوة كما قال سبحانه: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} [الأعراف: 171].
وكون القرآن ذكراً للعالمين كلهم غير جهة كونه ذكراً للمتقين، فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة، وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنفع.
والكون كتاب الله المنظور .. والقرآن كتاب الله المقروء.
وكلاهما دليل على الخلاق العليم، كما أن كليهما كائن ليعمل.
فالكون كله بما فيه من مخلوقات ما زال يتحرك، ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه بطاعة تامة لربه:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 49 - 50].
والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية التي آمنت به وحكمته، واستجابت لأوامره.
فهذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود.
ووجهت به أحداث واقعية في حياة الأمة.
واستقامت به حياة إنسانية في هذه الأرض.
وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس الإنسانية، وفي رقعة من الأرض كذلك.
فكانت النتائج طيبة مباركة، سعادة من تمسك به في الدنيا والآخرة، وخذلان من خالفه وشقاءه في الدنيا والآخرة.
ذلك هو جيل الصحابة الذين تلقوا الدين والإيمان مباشرة قلبياً وعملياً من الرسول صلى الله عليه وسلم.
والقرآن هو القرآن .. والإنسان ما يزال هو الإنسان .. والقرآن هو خطاب الله لكل إنسان إلى يوم القيامة.
فالكون يتحرك بأمر الله الكوني القدري، والإنسان كذلك يجب أن يتحرك بأمر الله الديني الشرعي، ليوافق الكائنات في العبادة والطاعة، فالكون له أوامر .. والإنسان له أوامر .. وكل إليه راجعون.
فهل نستفيد من القرآن كما استفاد الصحابة؟، وهل نعمل به كما عملوا لنسعد في الدنيا والآخرة؟.
يا ويح البشرية إن الدواء والشفاء الذي يشفيها من عللها وأمراضها موجود بين أيديها ولكنها لا تستفيد منه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16].
وتلك مصيبة، ومصيبة أعظم منها، أنها تطلب شفاءها وسعادتها فيما يزيد آلامها، ويوسع جراحها، ويشقيها في الدنيا والآخرة، مما يخالف كتاب ربها وهدى نبيها صلى الله عليه وسلم، من قوانين الأمم الكافرة الأخرى.
فماذا أعد الله لهؤلاء في الدنيا والآخرة؟: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
ما الذي دهى كثيراً من المسلمين حتى رفعوا أحكام القرآن من واقع الحياة؟، وما الذي صرفهم عن مصدر عزهم وسعادتهم؟.
لقد كان هذا القرآن العظيم هو مصدر المعرفة والتربية، والتوجيه والتكوين، لجيل من البشر فريد، وهو جيل الصحابة الكرام.
لقد أنشأ الله بمشيئته وقدرته بهذا الكتاب تلك المعجزة المجسمة في عالم البشر، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي معجزة واقعة مشهودة، وذلك المجتمع الفريد كانت تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب العزيز.
وكان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية لما يتحلى به من مكارم الأخلاق وحسن الآداب، التي رضي الله عنهم بها، ورضوا عنه، وكانوا بإيمانهم وأخلاقهم وأعمالهم قدوة ورحمة للبشرية فرضي الله عنهم أجمعين:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
والمجتمعات التي تفوق المسلمين في الإمكانات المادية، لا تطاولهم في الإيمان والأخلاق الكريمة العالية، وحياة اليوم كالأمس.
فهل تحكم الأمة كتاب ربها ليعزها ويرفع ما بها من ذل؟.
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10].
وإذا هجرت الأمة كتاب ربها .. وسكت العلماء عن بيان الحق وأحكام الدين .. وقعد الدعاة عن نشر الدين بين الأمم .. واشتغل الناس بالأموال والأشياء .. وزهدوا في الإيمان والأعمال .. وفقد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .. ونقضت الأمة عهد ربها وميثاقه.
إذا حصل هذا في الأمة فقد أحلت بنفسها غضب الله وسخطه، واستوجبت
لقد عاشت الأمة الإسلامية أزهى عصورها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعهد خلفائه الراشدين، ولكن سرعان ما تصدع جدار الإيمان والتوحيد من بعدهم، فانقطعوا عن مصدر عزهم، فخضعت رقابهم وديارهم لعدوهم.
فأصبحت الأمة من بعدهم بحاجة ماسة للعودة إلى مصدر عزها، حيث نالتها الضربات والأوجاع من كل ناحية.
وكم كاد الكائدون لهذا الدين، وهذا القرآن بوسائل خفية عنيفة مستمرة طويلة الأمد، وطرق خبيثة ماكرة لئيمة، وحشدت لذلك الطاقات والأفكار، والأموال والحديد والنار؟.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا.
وارزقنا حسن تلاوته، وحسن العمل به، وحسن الدعوة إليه.