المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولفقه أسماء الله وصفاته

- ‌1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - فقه عظمة الرب

- ‌3 - فقه قدرة الرب

- ‌4 - فقه رحمة الرب

- ‌5 - فقه علم الرب

- ‌6 - فقه جمال الرب

- ‌7 - فقه أسماء الله الحسنى

- ‌الله…جل جلاله

- ‌الرحمن

- ‌الملك

- ‌القدوس

- ‌السلام

- ‌المؤمن

- ‌المهيمن

- ‌العزيز

- ‌الجبار

- ‌الكبير

- ‌الخالق

- ‌البارئ

- ‌المصور

- ‌الغفور

- ‌القاهر

- ‌الوهاب

- ‌الرزاق

- ‌الفتاح

- ‌العليم

- ‌السميع

- ‌البصير

- ‌الحكيم

- ‌اللطيف

- ‌الخبير

- ‌الحليم

- ‌العظيم

- ‌الشكور

- ‌العلي

- ‌الحفيظ

- ‌الرقيب

- ‌المقيت

- ‌الشهيد

- ‌الحاسب

- ‌الكريم

- ‌الواسع

- ‌المجيد

- ‌الرب

- ‌الودود

- ‌الحق

- ‌المبين

- ‌الوكيل

- ‌الكفيل

- ‌القوي

- ‌المتين

- ‌الولي

- ‌الحميد

- ‌الحي

- ‌القيوم

- ‌الواحد

- ‌الصّمد

- ‌القادر

- ‌الأول

- ‌الآخر

- ‌الظاهر

- ‌الباطن

- ‌البر

- ‌التواب

- ‌العفو

- ‌الرؤوف

- ‌الغني

- ‌الهادي

- ‌النور

- ‌البديع

- ‌الفاطر

- ‌المحيط

- ‌القريب

- ‌المستعان

- ‌المجيب

- ‌الناصر

- ‌الوارث

- ‌الغالب

- ‌الكافي

- ‌ذو الجلال والإكرام

- ‌ذو العرش

- ‌ذو المعارج

- ‌ذو الطول

- ‌ذو الفضل

- ‌الرفيق

- ‌الشافي

- ‌الطيب

- ‌السبوح

- ‌الجميل

- ‌الوِتر

- ‌المنان

- ‌الحيي

- ‌الستير

- ‌الديان

- ‌المحسن

- ‌السيد

- ‌المقدم والمؤخر

- ‌القابض والباسط

- ‌8 - فقه صفات الله وأفعاله

- ‌9 - فقه أحكام الأسماء والصفات

- ‌10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته

- ‌الباب الثانيفقه الخلق والأمر

- ‌1 - فقه الخلق والأمر

- ‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

- ‌3 - خلق الله للكون

- ‌4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به

- ‌5 - فقه خَلق المخلوقات

- ‌1 - خلق العرش والكرسي

- ‌2 - خلق السموات

- ‌3 - خَلق الأرض

- ‌4 - خلق الشمس والقمر

- ‌5 - خلق النجوم

- ‌6 - خلق الليل والنهار

- ‌7 - خلق الملائكة

- ‌8 - خلق المياه والبحار

- ‌9 - خلق النبات

- ‌10 - خلق الحيوانات

- ‌11 - خلق الجبال

- ‌12 - خلق الرياح

- ‌13 - خلق النار

- ‌14 - خلق الجن

- ‌15 - خلق آدم

- ‌16 - خلق الإنسان

- ‌17 - خلق الروح

- ‌18 - خلق الدنيا والآخرة

- ‌البَابُ الثّالثفقه الفكر والاعتبار

- ‌1 - فقه الفكر والاعتبار

- ‌2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته

- ‌1 - الفكر والاعتبار في عظمة الله

- ‌2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله

- ‌3 - الفكر والاعتبار في علم الله

- ‌3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية

- ‌4 - فقه الفكر في نعم الله

- ‌5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية

- ‌1 - فقه التأمل والتفكر

- ‌2 - فقه التصريف والتدبير

- ‌3 - فقه الترغيب والترهيب

- ‌4 - فقه التوجيه والإرشاد

- ‌5 - فقه الوعد والوعيد

- ‌6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر

- ‌البَابُ الرَّابعكتاب الإيمان

- ‌1 - فقه الإيمان بالله

- ‌1 - فقه الإحسان

- ‌2 - فقه اليقين

- ‌3 - فقه الإيمان بالغيب

- ‌4 - فقه الاستفادة من الإيمان

- ‌2 - فقه الإيمان بالملائكة

- ‌3 - فقه الإيمان بالكتب

- ‌4 - فقه الإيمان بالرسل

- ‌5 - فقه الإيمان باليوم الآخر

- ‌6 - الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌2 - فقه المشيئة والإرادة

- ‌3 - فقه خلق الأسباب

- ‌4 - فقه خلق الخير والشر

- ‌5 - فقه النعم والمصائب

- ‌6 - فقه الشهوات واللذات

- ‌7 - فقه السعادة والشقاوة

- ‌8 - فقه كون الحمد كله لله

- ‌9 - فقه الولاء والبراء

الفصل: ‌3 - فقه خلق الأسباب

‌3 - فقه خلق الأسباب

قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)} [الكهف: 83، 84].

وقال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].

الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، وما نصبه من الأسباب في خلقه وأمره وأحكامه، وثوابه وعقابه، فذلك مظهر أسمائه وصفاته، ومظهر حكمته ونعمه، ومظهر قدرته وعزته.

إذ ظهور هذه الأسماء والصفات تستلزم محال وتعلقات تتعلق بها، ويظهر فيها آثارها، فصفة الخلق والرزق، والرحمة والإحسان تستلزم وجود مخلوق ومرزوق، ومرحوم ومحسن إليه.

وهذا الكون العظيم كما هو محل الخلق والأمر، ومظهر الأسماء والصفات، فهو بجميع ما فيه شواهد وأدلة وآيات دعا الله عباده إلى النظر فيها، والاستدلال بها على وجود الخالق جل جلاله.

والاعتبار بما تضمنته من الحكم والمصالح والمنافع، على علمه وحكمته، ورحمته وإحسانه.

والاعتبار بما تضمنته من العقوبات، على عدله، وأنه يغضب ويسخط، ويكره ويمقت من عصاه.

والاعتبار بما تضمنته من المثوبات والإكرام، على أنه يحب ويرضى ويفرح بأهل طاعته.

وذلك موجب كماله، وكمال أسمائه وصفاته، وبها عرف الخلق ربهم وإلههم، وعظمة أسمائه وصفاته.

والأسباب والوسائط لم يخلقها الله سبحانه عن حاجة منه إليها، ولا يتوقف كماله المقدس عليها، فلم يتكثر بها من قلة، ولم يتعزز بها من ذلة، ولم يتقوَّ بها

ص: 942

من ضعف.

بل اقتضى كماله المطلق أن يفعل ما يشاء، ويحكم ويتصرف، ويأمر ويدبر كما يشاء، وأن يحمد ويعبد، ويعرف ويذكر، ويعرف الخلق صفات كماله، ونعوت جلاله وجماله.

ولذلك خلق سبحانه خلقاً يعصونه ويخالفون أمره، وذلك لتعرف ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه كمال مغفرته وعفوه، وحلمه وإمهاله من عصاه.

ثم أقبل سبحانه بقلوب من شاء منهم إليه، فظهر كرمه في قبول توبته، وبره ولطفه في العود إليه بعد الإعراض عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» أخرجه مسلم (1).

فخلق العبد المغفور له، وتقدير الذنب الذي يغفر، والتوبة التي يغفر بها، هو نفس مقتضى العزة والحكمة، وموجب الأسماء الحسنى والصفات العلا.

والله سبحانه كل وقت يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقتها لها، ويظهرها بأسبابها التي سببها لها، ويخصها بمحالها من الأعيان والأمكنة التي عينها لها.

والدين هو إثبات الأسباب .. والوقوف معها .. والنظر إليها.

والله تعالى أمرنا بالوقوف بها بمعنى أننا نثبت الحكم إذا وجدت، وننفيه إذا عدمت، ونستدل بها على حكمه الكوني.

وهل يستطيع حيوان أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب، فتنفسه بها، وتحركه بها، وسمعه وبصره بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهداه بها، وسعادته بها، وشقاؤه بالإعراض عنها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].

فالأسباب التي خلقها الله هي محل الأمر والنهي .. والثواب والعقاب .. والفلاح

(1) أخرجه مسلم برقم (2749).

ص: 943

والخسران.

وبالأسباب عُرف الله .. وبها عُبد الله .. وبها أطيع الله .. وبها تقرب إليه المتقربون .. وبها نال أولياؤه رضاه وجواره.

ولكن الأسباب ليست مستقلة بالإحداث والتأثير، وليست أرباباً من دون الله، فلا تستقل بشيء من دون الله.

بل الله خالق الأسباب ومسبباتها:

فقد خلق سبحانه النار وجعل فيها قوة الحرارة والإحراق .. وخلق الماء وجعل فيه قوة مروية .. وخلق الطعام وجعل فيه قوة مشبعة .. وخلق الدواء وجعل فيه قوة مذهبة للداء .. وخلق العين وجعل فيها قوة باصرة .. وخلق الأذن وجعل فيها قوة سامعة .. وخلق الحديد وجعل فيه قوة قاطعة .. وهكذا.

فنقف مع الأسباب حيث أمرنا أن نقف معها، وندور معها حيث دارت، مع النظر إلى من أزمتها بيده.

ونلتفت إليها التفات العبد المأمور بتنفيذ ما أمر به، فهي مأمورة مدبرة، ونرعاها حق رعايتها، وننظر إليها وهي في رتبتها التي أنزلها الله إياها، ولا نتجاوز بها حدها.

والله سبحانه يرزق العباد تارة بالأسباب، وتارة بدون الأسباب.

فالرزق بالأسباب عام للمسلم والكافر، والرزق بدون الأسباب خاص بالمؤمنين كما في قصة مريم:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37].

والله يرزقنا الجنة بسبب الإيمان والأعمال الصالحة، وهذه أسباب.

والله خالق هذا .. وخالق هذا.

والأحوال من فقر ومرض ونحوهما لا تتغير بالأسباب، بل تتغير بالإيمان والأعمال الصالحة.

ص: 944

وإن تغيرت أحياناً بالأسباب فهي ابتلاء للمؤمن، هل يركن إليها ولا يلجأ إلى الله؟.

وهي كذلك اطمئنان للكافر فهو لا يعرف غيرها.

فالكفار يتفكرون لتغيير أحوالهم من الفقر إلى الغنى، ومن المرض إلى الصحة بالأسباب، وإذا جاءت عليهم أحوال سيئة يتفكرون لتغييرها بالأموال والأسباب.

وتغيير الأحوال بالأسباب جهد فرعون.

أما جهد الأنبياء فهو تغيير الأحوال بالإيمان والأعمال الصالحة لا بالأسباب، بل بأمر الله وسنته فهو مالك الملك، وبيده كل شيء كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

وقال الله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45].

فالفقر والمرض أحوال لا نتوجه لحلها إلى الأسباب فقط، بل نتقي ونحذر، ونتوجه إلى الله أولاً بالإيمان والأعمال التي ترضيه، ثم هو سبحانه يغير الأحوال بقدرته.

فهو وحده القادر على تغيير الأحوال:

إما بالأسباب كما هو معلوم .. أو بدون الأسباب فيقول للشيء كن فيكون كما رزق مريم طعاماً بلا شجر، وابناً بلا ذكر .. أو بضد الأسباب كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وكما جعل البحر سبباً لنجاة موسى في التابوت، وحين كان مع بني إسرائيل.

فلا نتوجه إلى الأسباب في حل المشاكل، وتغيير الأحوال، بل نتوجه إلى الله، ونفعل ما يرضيه، وننظر ما هو أمر الله في حال الفقر أو الجوع أو المرض أو الخوف فنفعله كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.

والله سبحانه خالق الأسباب التي يتم بها ما أراد، كما جعل المطر سبباً

ص: 945

للإنبات .. والدواء سبباً لذهاب الداء .. ووطء المرأة سبباً للحمل .. والنار سبباً للإحراق .. والأكل سبباً لذهاب الجوع .. والماء سبباً لذهاب العطش .. والسكين سبباً للقطع.

كما جعل سبحانه الدعاء سبباً لما يحصل للمدعو له أو المدعو عليه .. وسؤال العلماء سبباً لزوال الجهل .. وطاعة الله سبباً لرضاه .. ومعصية الله سبباً لسخطه وانتقامه.

فالأسباب المأذون فيها شرعاً والمأمور بها والمنصوص عليها لا تنكر، لكن لا نتكل عليها، فنفعلها ولا نتوكل عليها، إذ في إنكارها نقص في العقل، وفي الاتكال عليها شرك في الدين.

وكل من الاتكال عليها، والإنكار لها، منتفٍ شرعاً وعقلاً.

فالواجب الإيمان بها وفعلها، وعدم التوكل إلا على الله وحده.

كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)} [الفرقان: 58].

ومن سنة الله أن من اعتمد على غير الله من الملك والمال والأسباب، أعطاه الله إياه، وخذله من جهته فـ:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22].

ومن سنته كذلك جعل الأسباب في أيدي أعداء الله، لأن أعداء الله اعتمادهم على غير الله من الأسباب كالملك والمال والسلاح ونحوها.

ومن سنته كذلك إعطاء الفقر والمسكنة لأنبياء الله وأتباعهم، لأن اعتمادهم على الله، ليس على الملك والمال والأساب كما قال سبحانه:{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)} [الملك: 29].

فاعتماد المؤمنين في كل شيء على الله، واعتماد الكفار على الأسباب، والأسباب بدون الإيمان سبب للهلاك كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ

ص: 946

مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].

والكفار يستعملون هذه الأسباب التي أعطاهم الله في عداوة المؤمنين وإيذائهم، والله سبحانه يأمر المؤمنين بالصبر عليهم، والله قادر أن يهلكهم بالحر او البرد أو بالحجارة أو يحرقهم بالنار أو يغرقهم بالماء، أو يخسف بهم الأرض أو بغير ذلك.

وكانت مثل هذه الأحوال في مكة، فقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، وظلموا وعذبوا، وفي كلها أمرهم الله بالصبر، وتحمل الأذى والدعوة والرحمة كما قال سبحانه:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60].

وهذا الصبر ليس بسبب الضعف، بل ليلقي في قلوب المؤمنين والدعاة الشفقة والرحمة على الناس أكثر من شفقة الأم على ولدها، الذي يؤذيها فترحمه، لأنها تعلم ما لا يعلم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يتفكر ويعمل لهداية الناس، وأعداؤه يتفكرون ويعملون للقضاء عليه.

همُّ الرسول وفكره في هدايتهم .. وفكرهم وهمهم لجهلهم لقتله، وشتان بينهما.

فقلبه صلى الله عليه وسلم مملوء رحمةً وإيماناً وعلماً، وقلوبهم مملوءة غلظةً وكفراً وجهلاً وظلماً.

وكلما زادوا في أذاه ازداد رحمةً لهم وشفقةً عليهم، ولم تأت في قلبه عاطفة الانتقام لنفسه.

وإذا كان الله معنا لم نهزم ولم نغلب كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47].

ولكن ليس معنى هذا ترك الأسباب المادية البتة، بل لا بد من الأخد بالأسباب المأمور بها، لأننا في دار الأسباب، والله أمر بها وأذن، وسخرها لنا لنستعملها

ص: 947

في طاعته، وفيما ينفعنا ولا يضرنا كما قال الله سبحانه لنبيه نوحٍ صلى الله عليه وسلم:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].

وقال لداود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80].

وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين درعين، ولبس المغفر على رأسه يوم الفتح، وأكل الطعام، وشرب الماء والحليب .. وغير ذلك.

وقال سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10].

وفعل الأسباب له شرطان:

الأول: أن نفعل الأسباب ولا نعتمد عليها، بل نعتمد على الله وحده، وإلا أصابنا ما أصاب المسلمين في غزوة حنين حين أعجبتهم كثرتهم، وقال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة، فرفع الله عنهم النصر ثم ولوا مدبرين فلما أنابوا إلى الله ثبتهم الله ونصرهم بجنود من عنده كما قال سبحانه:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26].

الثاني: أن نفعل الأسباب المادية الممكنة، ولا نخالف أمر الله ورسوله، وإلا أصابنا ما أصاب المسلمين في أحد، حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلوا من الجبل يجمعون الغنائم لما رأوا النصر للمسلمين، فكانت الفرقة والفشل والتنازع ثم رفع الله النصر، وكثر في المسلمين القتل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ

ص: 948

عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152].

وفي غزوة بدر كانت الأسباب المادية في العدد والعدة قليلة، لكن الأسباب الروحية الإيمانية من صدق الاعتماد على الله، وطاعة الله ورسوله، كانت قوية فكان النصر للمسلمين.

وفي صفوف الأعداء كانت الأسباب المادية قوية وكثيرة، فالعدد كثير، والعدة كثيرة.

لكن كان اعتماد الكفار على المخلوق .. واعتماد المؤمنين على الخالق .. فغلب جند الخالق جند المخلوق كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].

وفي بدر أظهر الله قدرته .. وفي أحد أظهر الله سنته .. وفي حنين أظهر الله قدرته وسنته.

وفي بدر ظهرت قوة لا إله إلا الله .. وفي أحد ظهرت قوة محمد رسول الله، فلا بد في كل عمل من (لا إله إلا الله) أخلاصاً وتوكلاً ومن (محمد رسول الله) طاعةً واتباعاً.

وإنما حصل النصر الكامل للمسلمين في بدر، لما في قلوبهم من صفات الإيمان والتقوى، والصبر والاستعانة بالله، ودعائه والاعتماد عليه كما قال سبحانه:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 125].

وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9].

إن الله جل جلاله خلق هذا الكون العظيم، سمواته وأرضه، علويه وسفليه، وله الملك وحده لا شريك له.

وجميع المخلوقات مخلوقات مربوبة مدبرة، ليس بيدها شيء، ولا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله.

ص: 949

والأسباب من أموال وتراب، ونبات وحيوان وغيرها، ليس بيدها شيء، وإنما الأمر كله لله، وهي أمام رب الأسباب كالخدم ينفقون من خزائن الملك بأمره.

فلو أن ملكاً من الملوك جعل لقصره مائة باب، وجعل على كل باب خادماً، وقال لكل خادم من جاء من الناس يسأل فأعطه فلساً فقط، فإن اعترض معترض، فقل هذه أوامر الملك، وأنا ليس بيدي شيء.

فجاء جليس الملك وقال: أنا أحتاج مائة ألف فأعطني؟.

فقال الخادم: أنا لا أملك أن أعطيك إلا فلساً واحداً فقط، لكن إن كنت من خواصه فادخل عليه من الباب الآخر، وهو يعطيك إذا شاء ما يريد.

ولله المثل الأعلى، جميع الأسباب جعلها الله باباً صغيراً ينتفع منه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، والله يرزقهم بواسطتها، فهذا باب الأسباب.

أما العطاء الجزيل، العطاء الكبير، فالله يعطيه بنفسه، فيطلب من الملك مباشرة بالإيمان والأعمال الصالحة كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

وإذا عاش الإنسان مع الأسباب بدون الإيمان نزلت به خمس عقوبات، كل واحدة أشد مما قبلها:

الأولى: الإسراف: فإن من لم يتقيد بأوامر الله وحدوده، أصيب بآفة الإسراف، وبغض الله له، فهو مسرف على نفسه، ومحروم من محبة الله، فإن الله لا يحب المسرفين.

الثانية: التبذير: فبعد الإسراف يأتي التبذير، لعدم الإيمان بالله، فهو يسرف ثم يبذر، والتبذير من صفات الشياطين، فيكون أخاً لهم، لأنه اتصف بصفاتهم:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27].

ص: 950

الثالثة: الترف: وهو فوق التبذير، وإذا حصل الترف جاء الفسق كما قال سبحانه:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16].

الرابعة: الإجرام: فتأتي الجرائم بعد الترف، فحيثما كان الترف كانت الجرائم كما قال سبحانه:{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)} [هود: 116].

الخامسة: العقوبة والتدمير:

فرداً كان المسرف المبذر كقارون كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81].

أو تكون العقوبة جماعية، إذا كانت المعصية اجتماعية، كما أغرق الله الطاغية المستكبر فرعون وجنوده في اليم، حينما قال أنا ربكم الأعلى فأطاعوه:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} [القصص: 40].

والأسباب التي أمر الله بها نوعان:

الأول: أسباب دنيوية كالأكل والشرب، والنكاح واللباس، والسكن والمركب والأشياء والأموال ونحوها.

الثاني: أسباب أخروية كالإيمان، والعبادات، والأعمال الصالحة، والدعوةإلى الله، والجهاد في سبيله ونحو ذلك.

ونحن مأمورون أن نأخذ من الأسباب الدنيوية ما أحل الله لنا بقدر الحاجة والبقاء، ونأخذ من الأسباب الأخروية التي تقرب إلى الله ما استطعنا:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن: 16].

والأسباب والنعم والجوارح إذا لم يدخلها الدين تكون سبباً للبعد عن الله، ونزول العقوبات.

والله عز وجل قد جعل لكل حق حداً، من تجاوزه خرج من الحق إلى الباطل.

ص: 951

وقد جعل الله لكل شيء سبباً، فتقع الأحداث مرتبة على أسبابها، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها بلا تعارض بين هذا وهذا، فلكل حادث سبب، ووراء كل سبب تدبير من اللطيف الخبير.

وقد خلق الله الأسباب لحكم عظيمة، ومنافع ومصالح للعباد.

وقد ابتلى الله عباده بالأسباب، وجعل لها ثلاثة أحوال:

الأول: أن الله سبحانه خلق أسباب الحلال وأسباب الحرام، فيستطيع الإنسان أن يكسب المال بالحرام عن طريق الربا والغش، والكذب والسرقة، وبيع المحرمات كالخمر والخنزير والصور ونحوهما.

ويستطيع أن يكسب المال بالحلال حسب أمر الله بالبيع والشراء والإجارة ونحو ذلك.

لكن الشيطان يخدع الإنسان ويقول له بكسب الحرام يزداد رزقك، وبكسب الحلال يقل رزقك، لكن الله يجعل البركة في القليل، ويجعل في القلوب السكينة.

وبكسب الحرام تخرج الطمأنينة من القلب، وترفع البركة والرحمة:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268].

الثاني: أن الله عز وجل أحياناً يقلل الرزق وأحياناً يزيده كما قال سبحانه: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23].

فلا تحزنوا عند فقد المال، ولا تتكبروا وتبطروا عند كثرته، فالأرزاق بيد الله، وما كان ربك نسياً، فاستقيموا على أمر الله زاد الرزق أو نقص.

الثالث: أن الله أحياناً يأمرنا بفعل الأسباب وأحياناً يأمرنا بترك الأسباب فإذا جاء الأمر من الله بفعل الأسباب نستجيب فوراً ونفعل الأسباب.

وإذا جاء الأمر من الله بترك الأسباب، نترك الأسباب طاعةً لله وثقة به، وامتثالاً

ص: 952

لأمره كما قال سبحانه في الحالين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 9، 10].

والأموال والأسباب مثل حنفيات الماء مظهر المنافع، ليست موجدة للمنافع، لأن المنافع عندالله وبيد الله.

فكما أن كل حنفية لها علاقة بخزان الماء تكون سبباً لخروج الماء، لا أنها موجدة للماء.

وكل حنفية ليس لها علاقة بخزان الماء لا تعطيك قطرة ماء، ولو مكثت الدهر كله.

فكذلك جميع المنافع والخلائق والأحوال في خزائن الله سبحانه.

تأتي بأمره .. وتزيد بأمره .. وتنقص بأمره .. وتتحرك بأمره .. وتسكن بأمره .. وتظهر على الأموال والأسباب بأمره.

فزوال العطش بأمر الله، وقد جعل الله الماء سبباً لزوال العطش فنشربه لأمر الله ولا نعتمد عليه في زوال العطش.

وقد يجعل الله الماء سبباً لزيادة العطش، كا حصل لبني إسرائيل لما شربوا من النهر، فكلما شربوا من النهر زاد العطش.

فزوال العطش بأمر الله وحده، والماء سبب، وزوال الجوع بأمر الله وحده، والطعام سبب، والله هو الذي يطعم ويسقي كما قال سبحانه:{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 79، 80].

فالله سبحانه هو الذي بيده كل شيء، وليس بيد أحد من الخلق شيء، فالأمر كله لله، والأمر لله من قبل ومن بعد.

والمؤمن كلما ترك أوامر الله سلط الله عليه الكفار يؤذونه، ويعذبونه ويذلونه حتى يعود إلى ربه فيحفظه منهم.

ص: 953

فالصحابة في أحُد لما خالفوا أمراً واحداً رفع الله عنهم النصرة، وأصابتهم المصيبة بكثرة قتلاهم.

ولما اختل يقين بعض الصحابة في حنين، وأعجبوا بكثرتهم رفع الله عنهم النصرة، فلما تجدد يقينهم على ربهم نصرهم على عدوهم في الحال، وأغنمهم أعظم الغنائم، وأمدهم ربهم بجنود من عنده.

وقد بين الله عز وجل في القرآن قصص أهل الأسباب حتى لا ننخدع بها، ولا نتوكل عليها، ولا نطمئن إليها:

ففرعون خدع بملكه، فطغى واستكبر وتجبر وأفسد في الأرض .. فماذا فعل الله به؟.

وقوم نوح اغتروا بكثرتهم واعتمدوا عليها، فاستكبروا وسخروا .. فماذا فعل الله بهم؟.

وقوم عاد خدعوا بالقوة، وقالوا من أشد منا قوة، فكفروا وكذبوا .. فماذا فعل الله بهم؟.

وقوم سبأ تعلقوا بالزراعة من دون الله .. فماذا فعل الله بهم؟.

وقوم صالح خدعوا بالصناعة، ورغد العيش .. فماذا فعل الله بهم؟.

وقوم شعيب اغتروا بالأموال والتجارة .. فماذا فعل الله بهم؟.

وجميع هؤلاء قالوا العزة بهذه الأشياء والأسباب، ولا حاجة لنا بالإيمان والأعمال والتقوى .. وكل هؤلاء عصوا رسل الله .. وكذبوهم وآذوهم .. فماذا حصل لهم؟. وكيف كانت عاقبتهم؟.

لقد دمرهم الله وأهلكهم، وأنجى رسله والذين آمنوا معهم، كما قال سبحانه:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].

والله عز وجل أرسل الأنبياء والرسل إلى الناس، يدعونهم إلى عبادة الله وحده،

ص: 954

وبذلك يستفيدون من قدرة الله، ومن خزائن الله، بالإيمان والتقوى، فمن أطاع الله أكرمه، ومن عصاه عذبه.

وعند القيام بالدين يأتي البلاء والاختبار، فمن صبر فاز وأفلح، لأن الإنسان لا يترقى إلا بالاختبار كما في أمور الدنيا، فالحديد والذهب لا يصفو إلا بعد عرضه على النار:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23].

وضعيف الإيمان، وقوي الإيمان، لكل منهما ابتلاء يخصه حسب إيمانه، وبقدر قوة الإيمان تكون قوة الابتلاء، حتى يترقى المسلم في درجات الإيمان، وكلما يترقى يفوز في الدنيا والآخرة، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31].

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجة (1).

والأسباب كلها مخلوقة مأمورة، مملوكة لله عز وجل، وقد أمرنا الله عز وجل بفعل الأسباب، لأننا في دار الأسباب.

وإذا أردنا فعل الأسباب فلا بد من العلم بأمور:

أحدها: أن نفعل الأسباب ولا نتوكل عليها، بل نتوكل على الله وحده.

الثاني: ألا نجعل الشيء سبباً إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو خالف الشرع كان مبطلاً كمن يظن أن النذر سبب في دفع البلاء، وحصول النعماء، وقت ثبت شرعاً أن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل.

(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).

وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).

ص: 955

الثالث: أن السبب المعين وحده لا يستقل بحصول المطلوب، بل لا بد معه من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع، فإذا لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع، لم يحصل المقصود، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

الرابع: أن الأعمال لا يجوز أن يتخذ منها شيء سبباً إلا أن تكون مشروعة، فكما جعل الله الماء سبباً للحياة والإنبات، فقد جعل الشفاعة والدعاء سبباً لما يقضيه بذلك.

فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو معه غيره، أو يعبده بالبدع التي تخالف الشرع، والشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وهل بعد الشرك من ذنب؟.

ولا بد لكل عبد من الجمع بين الأمرين:

التوكل على الله .. وفعل الأسباب المأمور بها.

فيزرع الزرع .. ويتوكل على الله في إنمائه وحفظه وحصول ثمرته.

ويتزوج .. ويتوكل على الله في حصول الأولاد، فالزواج سبب وهو منك وأنت الذي تفعله، وأما حصول الأولاد فهو من الله.

وتدعو إلى الله .. وتتوكل على الله في حصول الهداية، وهكذا.

والله عز وجل يعلم الأمور على ما هي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسباباً تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب.

كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها.

فلو قال أحد إذا علم الله وقدر أنه يولد لي فلا حاجة الي الوطء، كان أحمقَ، لأن الله علم أنه سيكون بما يقدره من الوطء.

وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل، وهذا يروى بالشرب، وهذا يموت بالقتل، فلا بد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها.

وكذلك إذا علم الله أن هذا يكون سعيداً في الآخرة، وهذا يكون شقياً في الآخرة، وهذا في الجنة، وهذا في النار.

ص: 956

فالله علم أن هذا يدخل الجنة بالإيمان والأعمال الصالحة، فإن لم يكن معه إيمان دخل النار.

وهذا يعمل بعمل السعداء .. وذاك يعمل بعمل الأشقياء.

والجنة خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته، فمن قدر أن يكون منهم، يسره الله للإيمان والطاعة.

ولا يعاقب الله عز وجل العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله، ولهذا أمر الناس بالدعاء، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالاً على القدر كان مخطئاً.

لأن الله جعل الدعاء والسؤال، من الأسباب التي تنال بها مغفرته ورحمته، وهداه وتوفيقه، ونصره ورزقه.

وإذا قدر الله للعبد رزقاً أو خيراً يناله بالدعاء، لم يحصل بدون الدعاء.

وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم، فإنما قدره الله بأسباب، وليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات، وخلق فيها الأثر كما خلقها.

وليس فعل الأسباب المشروعة كافياً في حصول المطلوب، فالولد لا يحصل بمجرد الوطء فقط، بل لا بد من تمام الشروط، وانتفاء الموانع، وأن يشاء الله خلقه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره.

وكذلك أمر الآخرة، فليس بمجرد العمل يدخل الإنسان الجنة، بل العمل سبب، وليس العمل عوضاً وثمناً كافياً في دخول الجنة.

بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ» . قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (1).

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6467)، واللفظ له، ومسلم برقم (782).

ص: 957

ومن له عذر من خلقه كالطفل الذي لا يميز، ومن مات في الفترة، والمعتوه والمجنون والأصم، ومن لم تبلغه الدعوة، فهؤلاء لا يعذبهم الله بلا ذنب البتة، وله فيهم حكم آخر في المعاد.

حيث يمتحنون، فمن أطاع منهم أدخله الله الجنة، ومن عصى أدخله النار.

ومن قدر الله له أن يكون سعيداً يكون سعيداً، لكن بالأعمال التي جعله الله يسعد بها.

ومن قدر الله له أن يكون شقياً يكون شقياً، لكن بالأعمال التي جعله الله يشقى بها، والتي من جملتها الاتكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة.

والله على كل شيء قدير، أقدر عباده على أشياء، ومنعهم من أشياء.

وما لا يقدر عليه العبد نوعان:

أحدهما: ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه، والطيران في الهواء ونحوهما.

الثاني: ما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين كالماء والنار، وكالحركة والسكون ونحوهما.

والأسباب كلها مظاره لقدرة الله وجماله وجلاله، وهي نوعان:

أسباب معتادة .. وغريبة.

فالمعتادة: كولادة الإنسان من أبوين، وخروج الثمر من الشجر، وخروج الحليب من البقر، والكلام من اللسان، ونحو ذلك.

والغريبة: كولادة الإنسان من أم فقط كما ولدت مريم عيسى، أو من أب فقط، كما خلقت حواء، أو من غير أبوين كما خلق الله آدم من تراب، وخروج الماء من الحجر لموسى، وانقلاب العصا حية لما ألقاها موسى، وحصول الطعام لمريم في المحراب، ونحو ذلك.

والأسباب التي يحصل بها الرزق، هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأن الله يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب.

وما قدر الله له من الرزق بغير اكتساب كالميراث والهدية والوصية، يأتيه بغير

ص: 958

اكتساب.

وأكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم إما صدقة أو هدية أو نذراً، أو غير ذلك مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم.

والتاجر يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته، وغاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها وعرضها.

أما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا ليس مقدوراً للعبد.

والسعي سعيان:

سعي فيما نصب للرزق كالتجارة والعمل.

وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

والله تبارك وتعالى لا ريب أنه قضى وفرغ من تدبير أمور الخلق، ولكنه قدرها بأسبابها المفضية إليها.

فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه من أقضيته في خلقه وتدبيره مانعاً له من قيامه بالأسباب التي جعلها طرقاً لحصول ما قضاه منها.

فيباشر العبد الأسباب التي بها حفظ حياته من الطعام والشراب، واللباس والسكن ونحوها، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبر منها مانعاً له من تعاطيها.

وكذلك يباشر الأسباب الموجبة لبقاء النوع من النكاح والتسري، ولا يكون وقوفه مع فراغ الله من خلقه مانعاً له من فعل ما أمر به.

وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغاً منها قضاءً وقدراً، فهي منوطة بأسبابها التي يتوقف حصولها عليها شرعاً وقدراً.

فكما جعل الله عز وجل الطعام سبباً للشبع والماء سبباً للري، كذلك جعل فعل المأمور وترك المحظور سباً للنجاة، وجعل فعل المحظور وترك المأمور سبباً للهلاك، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.

ص: 959

وفعل الأسباب لا ينافي التوكل على الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين، وأشد عباد الله حرصاً على فعل الأسباب قد ظاهار بين درعين في أحد .. وأمر بإطفاء السراج .. وإغلاق الأبواب .. وأمر بنفض الفراش والتسمية عند النوم .. وأخذ الزاد في السفر .. وأخذ من يدله على الطريق في الهجرة .. وكان يتقي الحر والبرد .. ويأكل ويشرب .. وأمر بالتداوي .. ولم ينقص ذلك من توكله.

والله عز وجل يعطي عباده ويرزقهم من ثلاثة أبواب:

بالأسباب .. وبدون الأسباب .. وبضد الأسباب.

فيعطي الأسباب ليتبين به ما أفاض من صنعه، وما أودع في مخلوقاته من القوى والطبائع والمنافع.

ويعطي بدون الأسباب ليبين للعباد أن قدرة الله غير مفتقرة إلى واسطة في فعله.

ويعطي بضد الأسباب ليعلم العباد أن الله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وأخرج الماء من الحجر لموسى وقومه.

ولا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذن الله، والأسباب تفعل فعلها، وتظهر آثارها بإذن الله.

فلو عرض الإنسان يده للنار فإنها تحترق، ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله، فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق، وأودع يدك خاصية الاحتراق بها.

وهو سبحانه قادر أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة يريدها، كما وقع لإبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، فالنار تشتعل ولكن الله منعها من حرق إبراهيم، بل جعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69].

وكذلك السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ينشئ هذا الأثر بإذن الله، والله قادر أن يوقف هذا الأثر فيه حين لا يأذن لحكمة يريدها كما قال سبحانه عن

ص: 960

السحرة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].

والأمر كله لله، والله لا مقيد لمشيئته، فالمشيئة التي تريد النتيجة، هي ذاتها التي تيسر الأسباب.

فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشية ووجود الأسباب، وهذا الكون وما يجري فيه كله يسير وفق مشيئة الله:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 4، 5].

فالعقيدة الصحيحة ترد الأمر كله لله، ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب المشروعة، والتي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع بأمر الله.

أما إن تحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تحقق فليس داخلاً في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله، فالتوكل مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله وحده، وهذا محل الابتلاء.

وظاهر الأسباب في الدنيا هو من أساس حكمة الحياة، أن يكون ظاهراً أمامك أن هذا يعطي، وهذا يمنع.

وهذا يستطيع أن يعطيك المال والخير، وهذا يستطيع أن يمنع عنك الرزق.

وأنت إما أن تندفع لإرضاء بشر على حساب معصية الله، وإما أن تلتزم بمنهج الله ولا تخشى أحداً.

فظاهرية الملك .. وظاهرية الأسباب .. لازمة في الحياة الدنيا .. غير لازمة في الآخرة.

ولذلك فإن هذا الظاهر، وهذه الأسباب، كل ذلك يختفي في الآخرة، ويكون الشيء مباشرة من الله لعبيده.

لماذا؟ .. لأن الآخرة هي دار الخلود، وليست مرحلة اختبار للعباد.

فظاهر الملك في الدنيا لأحد غير الله، هو أمر تقتضيه طبيعة الحياة الدنيا، من

ص: 961

أنها امتحان يمر به الإنسان، ليوصله إلى الجنة أو النار.

أما في الآخرة فظاهر الملك يختفي كما تختفي الأسباب: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر: 16].

والله تبارك وتعالى كما أنه خالق كل شيء، فهو مالك كل شيء، ومدبر كل شيء، ولكنه استخلفنا في الدنيا في مال أو حكم أو سلطان بإذنه وبأمره، متى شاء وكيف شاء، كما قال سبحانه:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].

فالله عز وجل استخلفنا في الأرض والأموال والمناصب ليرى ماذا نفعل؟.

هل نطيعه فيها أم نعصيه؟ .. وهل نعتمد عليها، أم نتوكل على الله وحده؟. كما قال سبحانه:{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 129].

والله سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً، وخلق لها الأسباب التي تحصل بها، والعوامل التي تحكمها، إظهاراً لكمال قدرته، وابتلاء العباد.

ولكن هذه العوامل والأسباب لا يمكن أن تكون قيداً على قدرة الله سبحانه، ذلك أن الله لو قضى بالأسباب وحدها في الأرض، لعبد الناس الأسباب وحدها، ونسوا المسبب الخالق سبحانه.

ولذلك بقيت طلاقة قدرة الله في الكون، لتلفت الناس إلى أن الذي خلق الأسباب، لا تقيده هذه الأسباب في قدرته.

فله سبحانه سنة .. وله قدرة .. فسنته جارية .. وقدرته مطلقة لا يحكمها شيء.

وهو يفعل ما يشاء في أي وقت شاء، ولكن ظهور القدرة لا يحدث إلا بين حين وآخر، لأنها ليست حكم الله في الدنيا ولا سنته، ولا هي وسيلة الحياة فيها.

وإذا حدثت طلاقة القدرة كل يوم انتفت الأسباب، ولم يعد لأسباب الدنيا وجود، ولكنها تأتي لفتة كما خرج الماء من الحجر لموسى صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا

ص: 962

فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} [البقرة: 60].

وكما خرج الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية.

فظهور قدرة الله أحياناً، تلفت الناس إلى القدرة الإلهية التي هي فوق الأسباب، حتى لا تعبد الأسباب، وهي في مجيئها مكلفة من الله سبحانه بأمره.

فقد ينخفض محصول القمح مثلاً، مع أن الأسباب اللازمة كلها متوفرة، ولكن الأرض رفضت أن تنفعل بالأسباب بأمر الله، لماذا؟.

إنها لفتة من الله حتى لا نعبد الأسباب، ونترك الله.

فالدنيا دار الأسباب والعمل، وتظهر قدرة الله أحياناً بدون الأسباب لمن شاء وهم المؤمنون، ولكن سنة الله وقدرته في الحياة الدنيا عموماً تظهر بالأسباب، لأن ظهور القدرة الإلهية مباشرة بدون الأسباب في الآخرة.

فكل شيء في الآخرة يأتي العبد بمجرد ما يجول في خاطره أو يفكر فيه، لا عمل في الآخرة ولا سعي، وإنما نعيم ورضوان من الله، وعطاء بلا حدود ولا نفاد.

أما في الدنيا فهناك طريق الأسباب لعموم الناس، ومعه عطاء الرب بلا أسباب، وهذا خاص بالمؤمنين.

وأرزاق الأحياء مخفية وراء الأسباب التي أمرنا الله بها، ولكن الله يعطي إذا شاء بغير حساب، وبغير أسباب، لمن شاء من عباده كما قال سبحانه عن مريم:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37].

فالأسباب ليس بيدها شيء، ولكنها وسيلة للحصول على الرزق الذي كتبه الله للعبد، ولذلك أمرنا الله بذكره عند مباشرة الأسباب كما قال سبحانه:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} الجمعة: 10]

فالأرزاق كلها بيد الرزاق وحده، والأسباب وسيلة للوصول إليها، والله خالق

ص: 963

الرزق، وخالق المرزوق، وخالق السبب الموصل إلى الرزق:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].

والاستعانة بالله في كل عمل استعانة بالقادر الذي لا يعجزه شيء، ورد الفعل إلى الفاعل الذي بيده كل شيء.

فالأسباب تعمل بأمر الله، ونسبة العمل إلى الأسباب وحدها تبعدنا عن الله سبحانه.

فالله مالكها، ومالك الكون كله، وهي لا تخرج عن تدبيره وأمره.

ولقد مكن الله بعض خلقه من الأسباب الظاهرة في الأرض، فهذا رئيس دولة .. وهذا ميسر له أسباب النفوذ والسلطان .. وهذا ميسر له أسباب المال، وجعل الله العطاء ظاهراً فقط من هذه الأسباب ليسير الكون فماذا حدث؟.

لقد ظن أكثر الناس أن عطاء الأسباب في يد هؤلاء وحدهم، وأن مخالفتهم ستؤدي إلى الحرمان من مقومات الحياة، وأن طاعتهم ولو في معصية الله ستعطي الإنسان الحياة الرغدة التي يتمناها، فماذا حصل؟.

لقد وقف الناس بأبوابهم لا يرجون إلا إياهم، ولا يخافون إلا منهم، وازدحم الناس على باب العبد الفقير، أما باب الملك الغني القوي العزيز فقلما يقف عليه أحد، وهذه خطورة الأخذ بالأسباب وحدها.

وهي خطورة تعرض الكون كله للاختلال والفساد، وتكثر من البغي في الأرض، والشرك بالله، والإعراض عنه، والاعتماد على غيره.

فالأسباب نؤمن بها ولا نتوكل عليها، بل نباشرها ونتوكل على الله وحده.

وما من أمة عبدت الأسباب، إلا انتشر فيها الظلم، وعم فيها الإرهاب والفوضى، وضاع فيها الحق، وقام فيها سوق الباطل، واستعبد فيها الإنسان، وضل عن ربه، وحل بها البلاء والعقوبة، كما حكى الله أحوال أهل الأسباب في سورة الأعراف وهود والشعراء.

ص: 964

إن ظهور القدرة الإلهية، بجانب الأسباب تنبيه للناس ليعلموا أن الله هو الذي أعطى الأسباب، ويستطيع كما أعطاها أن يمنعها، فهو الذي بيده كل شيء.

فمن ترك المسبب وعبد السبب فقد ضل.

فمن كان يملك الجاه والسلطان ثم أصبح طريداً لا يجد من يصافحه.

ومن ينتقل من الحكم إلى السجن، ومن يخرج من السجن إلى الحكم، ومن كان يملك الثروة والأموال ثم أصبح فقيراً تجمع له الصدقات.

كل ذلك وغيره يحدث أمامنا ليذكرنا بقدرة الله وحكمته ومشيئته، وأنه هو الذي يعطي الملك والجاه والسلطان، وهو الذي يسلبها إذا شاء.

فإذا عبد الناس هذه الأسباب، وانطلقوا يسجدون لها أزالها الله، ولكن لماذا؟.

لكي يفيق الناس ويعلموا أن الله هو الذي أعطى الأسباب، وأن هذه الأسباب ليست ذاتية للحاكم أو الغني.

ولو كانت ذاتية لما زالت عنه، بل جميع المخلوقات والأسباب ملك لله وحده:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].

وجميع الأسباب التي خلقها الله في قبضة الله، فهي لا تعمل بذاتها، ولا تعطي بذاتها، وإنما تعمل وتعطي بإرادة الله، الذي هو على كل شيء قدير، والذي ترى قدرته في ضعيف ينصره الله على قوي كما نصر الله موسى على الطاغية الجبار فرعون، ونرى قدرته في مظلوم ينصره الله على ظالم.

وحين تضيق الأسباب وتعجز، يأتي فرج الله كما قال سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: 26].

فإذا انتصر قوي على ضعيف فهنا ظهور قدرة الله بالأسباب، وإذا انتصر ضعيف على قوي فهنا ظهور قدرة الله بضد الأسباب، وتارة تظهر قدرة الله بدون

ص: 965

الأسباب: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

والمؤمن إذا عزت عليه الأسباب توجه إلى ربه فسأله، لأنه يعلم أنه إذا كانت الأسباب لا تعطيه، فإن الله الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء قادر أن يعطيه بدون الأسباب، وينجيه كما أنجى يونس في الظلمات حين ناداه:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88].

وكما طلب زكريا الولد مع كبر سنه وسن زوجته فاستجاب الله له كما قال سبحانه: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم: 7 - 9].

ولكل مؤمن حظ من الاستفادة من قدرة الله فإن الله لا يعجزه شيء، والمؤمن لا ييأس كما أمره الله بقوله:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف: 87].

فحين تضيق الأسباب بالناس، وتغلق الدنيا أبوابها أمامهم، الكافر وغير المؤمن بالله يصيبه يأس قاتل ينتهي به إما إلى الجنون أو الانتحار.

أما المؤمن بقضاء الله وقدره فيظل ثابتاً لا تزعزعه الأحداث، ويتوجه إلى ربه وهو مؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله سيجعل له بعد العسر يسراً، ويجعل له بعد الكرب فرجاً ومخرجاً:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3].

اللهم علمنا ما ينفعنا .. وانفعنا بما علمتنا .. إنك أنت العليم الحكيم.

ص: 966