الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فقه الإيمان بالرسل
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء: 152].
وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} [آل عمران: 179].
الإيمان بالرسل:
هو التصديق الجازم بأن الله عز وجل، بعث في كل أمة رسولاً، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وعبادته وحده، واجتناب ما يعبد من دونه.
وأنهم جميعاً مرسلون صادقون، وقد بلغوا جميع ما أرسلهم الله به.
منهم من أعلمنا الله باسمه، ومنهم من استأثر الله بعلمه.
والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع، وأمره بتبليغه إلى من لا يعلمه، أو يعلمه ولكنه خالفه.
والنبي من أوحى الله إليه بشرع سابق، ليعلم من حوله من أصحاب ذلك الشرع ويجدده.
فكل رسول نبي ولا عكس، ويطلق الرسول على النبي، والنبي على الرسول، فإذا اجتمعا في آية فلكل معناه.
وقد بعث الله إلى كل أمة رسولاً كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وعدد الأنبياء والرسل لا يعلمه إلا الله.
منهم من بين الله أسماءهم في القرآن، وقص علينا أخبارهم وهم خمسة وعشرون:
آدم .. ونوح .. وإدريس .. وهود .. وصالح .. وشعيب .. وإبراهيم .. وإسحاق .. وإسماعيل .. ويعقوب .. ويوسف .. وموسى .. وهارون .. وداود .. وسليمان ..
وأيوب .. واليسع .. ويونس .. ولوط .. وإلياس .. وزكريا .. ويحيى .. وذو الكفل .. وعيسى .. ومحمد .. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فنؤمن بهؤلاء جميعاً وبما جاء من أخبارهم وقصصهم.
ومن الأنبياء والرسل من لم نعلم أسماءهم، ولم يقص الله علينا خبرهم، فنؤمن بهم إجمالاً تصديقاً لخبر الله عنهم كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} [غافر: 78].
وأولو العزم من الرسل خمسة ذكرهم الله بقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13].
وأول الرسل من ذرية آدم نوح، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث الله كل رسول إلى قومه خاصة، وبعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله رحمة للعالمين كما قال سبحانه:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
وهو رسول الله بالإٍسلام إلى الناس كافة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} [سبأ: 28].
وقد أرسل الله الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وتحذيرهم من عبادة ما سواه كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وأمرهم الله ببيان الطريق الموصل إليه، وما للناس بعد القدوم عليه وإقامة الحجة على الناس، وأرسلهم رحمة للناس كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
وجميع الأنبياء والرسل رجال من البشر اصطفاهم الله بالرسالة، واجتباهم من بين سائر عباده، وفضلهم بالنبوة والرسالة.
والأنبياء بشر مخلوقون يأكلون ويشربون .. ويقومون وينامون .. ويسهون وينسون .. ويصيبهم المرض والموت.
وهم كغيرهم لا يملكون شيئاً من خصائص الربوبية والألوهية، فلا يملكون النفع والضر لأحد إلا ما شاء الله، ولا يملكون شيئاً من خزائن الله، ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه كما قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].
والأنبياء والرسل أطهر البشر قلوباً، وأصدقهم إيماناً، وأكملهم ديناً، وأحسنهم أخلاقاً، وأقواهم عبودية، اصطفاهم بالوحي والرسالة، وأمرهم بإبلاغها إلى الناس، ووعدهم على ذلك الجنة، وقد صدقوا وبلغوا عليهم الصلاة والسلام.
فيجب علينا الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، ومحبتهم، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعاً.
ويجب تصديق ما صح عنهم من أخبارهم مع أممهم، والاقتداء بهم في صدق الإيمان، وكمال التوحيد، وحسن الخلق، والعمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم وأفضلهم وسيدهم، المرسل إلى الناس كافة، وإلى العالم قاطبة محمد صلى الله عليه وسلم:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136].
وعلينا محبة جميع أنبياء الله ورسله، والثناء عليهم من غير إطراء، وتوقيرهم، لأنهم رسل الله قاموا بعبادته، وإبلاغ رسالاته، والنصح لعباده وصبروا على ذلك.
ألا ما أعظم رحمة الله بعباده، وشدة عنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم الرسل
يدعونهم إلى ربهم، ويبينون لهم كيف يعبدونه.
فلله الحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى في الأولين والآخرين.
هو أحق من عُبد، وأحق من حُمد، وأكرم من سُئل، وأرأف من مَلك، وأعظم من عَفا.
ورسل الله إلى خلقه هم أفضل البشر على الإطلاق.
لأنهم يدعون الناس إلى ربهم، ويهدونهم إلى خالقهم، ويتعبون من أجل راحتهم.
فما أسعد من آمن بهم، وتشرف بصحبتهم واتباعهم، وما أحسن صحبتهم في الدنيا والآخرة، وإنما ينال العبد ذلك إذا أطاع الله ورسوله كما قال سبحانه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذاقوا طعم صحبته في الدنيا يتشوقون إلى صحبته في الآخرة، فقد كان أمر الصحبة في الآخرة يشغل قلوبهم وأرواحهم.
وإنه حقاً لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم، وعرف ما قام به، وما جاء به من الخير.
عن رَبِيعَةُ ابْنُ كَعْبٍ الأسْلَمِيُّ، قال: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ، فَأتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ. فَقَالَ لِي:«سَلْ» . فَقُلْتُ: أسْألُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قال: «أوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» . قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قال: «فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» أخرجه مسلم (1).
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (2).
وهذه المحبة للرسل إنما تنشأ من معرفة عظمة ما جاءوا به من الخير .. ومن
(1) أخرجه مسلم برقم (489).
(2)
متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (6170) واللفظ له، ومسلم برقم (2641).
حسن أخلاقهم .. ومن معرفة رحمتهم للبشر .. وبذلهم ومواساتهم .. ومن صبرهم وتحملهم من أجل هداية البشرية .. ومن معرفة كمال عبوديتهم لربهم .. وشكرهم لمولاهم.
ووظيفة الرسول أداء الرسالة، لا إحداث الخير، ولا إحداث السوء فهذا من أمر الله.
وأمر الناس مع الرسول أن من أطاعه فقد أطاع الله.
ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه، ولم يرسل الرسول ليجبره على الهدى، ويكرهه على الدين، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال، فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول، ولا داخلاً في قدرة الرسول، وإنما ذلك بيد الله وحده:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} [يونس: 99 - 100].
فكل ما يحصل في الكون لا يكون إلا بإذن الله وإرادته، وقدره ومشيئته، وكل ما يحصل للناس من الحسنات والسيئات، والنعم والمصائب، فلا يقع إلا بإذن الله وإرادته.
وما يصيبهم من حسنة ونعمة فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته، وفضله وإحسانه.
وما يصيبهم من سيئة ومصيبة فهو من عند أنفسهم، لأنه حصل لهم بسبب تنكبهم عن منهج الله، والإعراض عنه:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79].
والإيمان بالرسول:
طاعته فيما أمر .. وتصديقه فيما أخبر .. واجتناب ما نهى عنه وزجر .. وألا بعبد الله إلا بما شرع.
والرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته أنه رسول يبلغ ما جاء به من عند الله إلى خلقه، وطاعته
فيما يأمر به طاعةً لله.
وليس هناك طريق لطاعة الله غير طاعة رسوله.
والرسول صلى الله عليه وسلم ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي بعد البلاغ والبيان:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48].
والأنبياء والرسل هم مصابيح الدجى، وينابيع الهدى في هذه الأرض، فهدى الله للبشر جاء بواسطتهم، وما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الله الكتب إلا ليحكم بها بين الناس بالعدل.
وما قدر الله حق قدره، ولا عرف حكمته ورحمته، وعدله وإحسانه وكرمه وفضله من أنكر بعثة الأنبياء وإرسالهم إلى الناس، فما أسفه هؤلاء وأجهلهم بربهم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91].
وكل هذا جهل بقدر الله سبحانه، فالله العظيم الكريم، العدل الرحيم، العليم الحكيم، لا يدع هذا الإنسان وحده وهو الذي خلقه، ويعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، وحاجته إلى منهج يعتمد عليه، ومبادئ يرجع إليها في أفكاره وأقواله وأفعاله.
ويعلم سبحانه أن العقل الذي أعطاه، لا يستقل بمعرفة ما ينفعه وما يضره، ويتعرض لضغوط كثيرة من رغباته وشهواته، فضلاً على أنه موكل بالاستفادة من طاقات الأرض التي سخرها الله له.
وليس العقل موكلاً بصياغة نظام للحياة، فهذا مجال الدين والشريعة التي تأتي من الله بواسطة رسله فيؤمن بها ويتبع ما جاءت به.
ومن ثم لا يكل الله الإنسان إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع في فطرته من معرفة ربه، وشوقه إليه، ولجوئه إليه في الشدائد.
فهذه الفطرة قد تفسد بسبب المؤثرات، وبسبب الإغواء والتزيين الذي يقوم به شياطين الإنس والجن، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير.
إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله، وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية الظلام والتضليل الذي أصابهم.
وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه.
فما كان الله ليخلق البشرية، ويجمعهم في الأرض، ثم يتركهم سدى، ثم يحاسبهم يوم القيامة، ولم يبعث فيهم رسولاً يبين لهم ما يتقون، وينزل عليهم كتاباً به يهتدون.
بل منَّ الله على البشرية كافة، ببعثة الأنبياء والرسل إليهم كما قال سبحانه:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره .. وأمروهم بعبادة الله وحده .. وأخبروا أممهم أنهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً .. ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه .. ولا يملكون بسط الرزق أو قبضه لأحد .. وأنذروا قومهم الآخرة .. وما فيها من حساب وجزاء، وثواب وعقاب.
فهذه الأصول التي دعا إليها كل رسول من رسل الله إلى عباده.
والإيمان بالرسل ليس فقط اعتقاد بالقلب، بل هو مع ذلك عمل إيجابي في تنفيذ جميع ما جاءوا به، في نصرة هؤلاء الرسل، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه .. وهو إبلاغ رسالة الله إلى عباده.
فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ودينه وشرعه مقتضاه أن ينهض المؤمن لينصر ما آمن به، وليقيمه في الأرض، وليحققه في حياة الناس كافة.
وذلك يحتاج إلى دعوة وبذل الأنفس والأموال والأوقات لنشره في العالم، ويحتاج إلى نصرة وجهاد لتحقيقه، ولحمايته من أعدائه بعد تحقيقه.
إن الإيمان بالرسل والإقرار بالرسالة والعمل بموجبها هو الذي يجعل هناك قاعدة لما يريده الله من البشر، كي يتلقى البشر كل ما يتعلق بالعبودية لله من مصدر واحد.
هذا المصدر الأمين الذي اصطفاه الله واجتباه هم فقط الأنبياء والرسل الذين يبلغون رسالات الله إلى عباده.
وذلك حتى لا يقوم كل طاغوت مفترٍ، يقول للناس قولاً، ويشرع للناس شرعاً، ثم يزعم أن الله شرعه وأمر به.
بينما هو يفتريه من عند نفسه، وفي كل جاهلية في الأرض يقوم بين الناس من يشرع الشرائع والنظم، ثم يقول هذا من عند الله:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79].
وما يحسم هذه الفوضى، وهذا الاحتيال على الناس باسم الله، إلا أن يكون هناك مصدر واحد مبلغ عن الله هم رسله الذين اختارهم وأرسلهم.
وما أعظم جرم هؤلاء الناس الذين يفترون على الله الكذب، ويضلون الناس بباطلهم:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144].
إن الدين عند الله الإسلام، والشرائع السماوية يكمل بعضها بعضاً، ومقصودها الإيمان بالله، والتسليم له في كل شيء، وعبادته وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} [آل عمران: 179].
والشرائع السماوية السابقة كلها أكملها الله بالإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليكمل اللبنة الناقصة في البناء الإيماني، ليكمل البناء، ويكون صالحاً مفتوحاً
لكل فرد من البشرية إلى يوم القيامة، وإنها لنعمة كبرى من الكريم على خلقه لو كانوا يفقهون:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قال: فَأنَا اللَّبِنَةُ، وَأنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» متفق عليه (1).
فما أعظم فضل الرب على الناس .. وما أعظم رحمته لهم .. وما أعظم عنايته بهم.
يرسل إليهم رسولاً بعد رسول .. وينزل عليهم أمراً بعد أمر .. ويهديهم بكتاب بعد كتاب .. حتى أكمل الله الدين .. وبعث به رسول الله خاتم النبيين .. ورضيه منهاجاً للحياة إلى يوم الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
فيا لها من نعمة ما أعظمها، وتكرمة ما أجلها، وحلية ما أحسنها.
وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غيره عذب به.
فمن يشعر ويحس بقيمة هذه النعمة الكبرى؟: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61].
إن البداية من الله .. وإن البقاء في الدنيا بأمر الله .. وإن النهاية إلى الله .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. فلا حل ولا نجاة ولا فلاح للبشرية في الدنيا والآخرة إلا بالتسليم لله وطاعته وعبادته وحده لا شريك له: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3535) واللفظ له، ومسلم برقم (2286).
وقد ألقى الله سبحانه على الأنبياء والرسل تبعة ثقيلة عظيمة، وألقاها من بعدهم على المؤمنين برسالاتهم تجاه البشرية كلها.
وهي تبعة عظيمة ثقيلة بمقدار ما هي جسيمة وكبيرة.
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا والآخرة منوطة بالرسل .. وبأتباعهم من بعدهم .. فعلى أساس تبليغهم ما أمرهم الله به للبشر تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم .. ويترتب عليه ثوابهم أو عقابهم في الدنيا والآخرة.
ولهذا أكد الله على رسله إبلاغ جميع ما أرسلوا به للناس، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67].
إن أمر الرسالة وإبلاغ أوامر الله لعباده أمر هائل عظيم كبير، ومن ثم كان الرسل يحسون بجسامة ما كلفوا به، وكان الله يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم، ويعلمهم كيف يتهيأون له، ويستعدون للقيام به، كما قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 1 - 5].
فالأنبياء ليس لهم عمل إلا عبادة الله وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، ودعوة الناس إلى دينه، وتعليمهم أحكامه:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3].
والنبي صلى الله عليه وسلم خير من عبد ربه .. فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه .. وهو خير من دعا إلى ربه .. فقد بلغ البلاغ المبين .. ودعا إلى ربه حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهو خير من علم أحكام الشرع .. فقد ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك.
حقاً، إنه أمر هائل عظيم، أمر رقاب الناس، أمر حياتهم ومماتهم، أمر سعادتهم
وشقاوتهم، أمر ثوابهم وعقابهم.
فالبشرية في أنحاء الأرض قاطبة:
إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة.
وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها يوم القيامة لأنها لم تبلغ ولم تعلم، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها، وعذابها في الآخرة، معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ؟.
والله يقول لكل مسلم: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
فأما رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فقد بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، وجاهدوا في الله حق جهاده.
بلغوا الرسالة دعوةً باللسان .. وقدوة حسنة للعباد .. وجهاداً مضنياً بالليل والنهار .. ودعوة ودعاء يملأ الأوقات، والألسنة، والقلوب.
وجهاداً في سبيل الله متواصلاً لإزالة العقبات والعوائق: سواء كانت هذه العقبات شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة، وتفتن الناس عن دينهم.
ثم مضى هؤلاء الأنبياء والرسل إلى ربهم مبلغين لدين ربهم، خالصين من هذا الالتزام الثقيل، من أول الرسل نوح صلى الله عليه وسلم إلى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وبقي هذا الواجب الثقيل على من بعده من المؤمنين برسالته.
فهناك أجيال وأجيال جاءت وستجيء من بعده صلى الله عليه وسلم، ودعوة هؤلاء إلى الإسلام وتبليغهم الدين منوط بعده بأتباعه.
ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة، تبعة إقامة حجة الله على الناس، وتبعة استنقاذ البشرية من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا إلا بالتبليغ والأداء، على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى:
جهد وتضحية .. وحكمة ورحمة .. وحلم وصبر .. وبذل وإحسان .. ودعوة ودعاء.
فالرسالة هي الرسالة، والناس هم الناس، والوظيفة هي الوظيفة.
وهناك في كل زمان وفي كل مكان:
ضلالات وأهواء .. وشبهات وشهوات .. وقوى طاغية في البر والبحر والجو .. تقوم دون الناس .. ودون الدعوة .. وتفتنهم عن دينهم بالتضليل .. وبالقوة والقهر .. وبالسخرية والاستهزاء .. وبالقتل والتشريد: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8].
وأمام هذا ليس هناك إلا حل واحد، ومركب واحد ينقذ البشرية والإنسانية مما هي فيه من الجاهلية والضلال، والفتن والظلام، ألا وهو أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
لا بد من استقامة على الدين.
ولا بد من إبلاغ للدين الحق.
بلاغ للبشرية بالبيان .. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية للدين والأخلاق .. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة .. وتفتن الناس بالباطل وبالقوة، وإلا فلا بلاغ ولا أداء.
ومن العقوبة والخسران أنه الأمر الواجب على المؤمنين الذي لا حيلة في النكوص عن حمله، وإلا فهي التبعة الثقيلة المؤلمة:
تبعة ضلال البشرية كلها، وحرمانها من حقها، وشقوتها في الدنيا والآخرة ..
وتبعة عدم قيام حجة الله عليها في الآخرة .. وحمل التبعة في هذا كله .. وحرمانها من الجنة، وعدم النجاة من النار.
ألا ما أخطر الأمر؟ .. وما أعظم نقض العهد .. وعدم أداء حق البشرية.
من ذا الذي يستهين بهذه التبعة العظيمة، التي تقصم الظهر، وتهز المفاصل، وترعد لها الفرائص؟.
إن المسلم إما إن يستقيم كما أمر الله، ويبلغ ويؤدي هكذا، وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا أخرى.
وحين يقول المرء أنه مسلم ثم لا يبلغ الدين، ولا يؤديه إلى الآخرين إنما هذا يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه، بدلاً من أداء شهادة له تحقق فيه قوله سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
فهذه الأمة عدل خيار وسط، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر.
فجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين:
وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك.
ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم طيبات أحلت لهم عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً، بل أباحوا كل شيء.
ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل وا لإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم.
فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أحسنها، ومن الأعمال أفضلها، ولهذا كانوا وسطاً كاملين، ليكونوا شهداء على الناس، بسبب عدالتهم، وحكمهم بالقسط.
وتبدأ شهادة المسلم للإسلام بأن يكون هو بذاته، ثم بيته وعائلته، ثم أسرته وعشيرته صورة واقعية حية من الإسلام الذي يدعو إليه.
وتخطو شهادته الخطوة الثانية بدعوة الأمة إلى الله، لتحقق الإسلام في حياتها كلها، حسب أمر الله ورسوله.
وتنتهي شهادته بالجهاد في سبيل الله لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم
عن دينهم، من أي لون كانت هذه العوائق.
فإذا استشهد في هذا فهو إذاً شهيد .. أدى شهادته لدينه .. ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو الشهيد .. بل هو أعلى الشهداء.
وهذا عمل الأنبياء، بل عمل سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
والله رؤوف بالعباد، والملك ملكه، والخلق خلقه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، لا يمكن أن يترك خلقه للشياطين تعبث بهم.
فحين حرف اليهود والنصارى كتاب ربهم .. وبدلوا شرائعه .. وكذبوا وافتروا .. وظلموا وطغوا .. وجحدوا وكتموا الحق .. وصدوا عن سبيل الله .. وقتلوا الأنبياء والرسل .. وتركوا العمل بدينهم .. ونقضوا العهد .. ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .. واشتروا به ثمناً قليلاً .. وقالوا على الله ورسله غير الحق.
بعد هذا الظلم والعناد، والإعراض والإفساد، اقتضت حكمة الله ورحمته بالبشرية أن يرسل رسولاً يهديها إلى الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله.
فأرسل الكريم الرحمن جل جلاله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ورسولاً إلى الناس أجمعين إلى يوم القيامة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} [النساء: 170].
فلم يكن بد من تبليغ عام في ختام الرسالات، يبلغ إلى الناس كافة، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولم يسبق أن كانت هناك رسالة عامة، ولم يكن بد من هذ الرسالة العامة.
فكانت حقاً هذه الرسالة الكاملة رحمة للعالمين في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
وأهل الأرض قاطبة، واليهود والنصارى، كل هؤلاء مدعوون إلى الإسلام، مدعوون إلى الإيمان بالله، والإيمان بهذا الرسول، ونصره وتأييده، كما أخذ
عليهم ميثاقه بالإيمان به.
فهو رسوله إلى أهل الكتاب، كما أنه رسوله إلى العرب، ورسوله إلى الناس كافة، في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل زمان، وكل مكان.
فلا مجال لإنكار رسالته من عند الله، أو الادعاء أنها خاصة بالعرب، أو أنها غير موجهة إلى أهل الكتاب:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15].
فهو رسول الله إلى الناس وإليكم، ودوره أن يبين لكم ويكشف ما تواطأتم على إخفائه، من حقائق كتاب الله الذي معكم.
وقد أخفي اليهود كثيراً من أحكام الشريعة كرجم الزاني، وتحريم الربا، وقصة أصحاب السبت الذين مسخهم الله قردة وخنازير.
وأخفى النصارى الأساس الأول للدين وهو التوحيد، فقالوا تارة إن الله ثالث ثلاثة، وتارة قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم، وتارة قالوا المسيح ابن الله.
كما أخفى أهل الكتاب خبر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157].
والله تبارك وتعالى يتودد إلى أهل الكتاب، ويبين لهم أنه بُعث إليهم، وإلى غيرهم رسولاً يهديهم إلى ربهم، بعدما ضلوا وانحرفوا عن الحق كما قال سبحانه:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} [المائدة: 19].
إن الله الذي خلق هذا الكون وعجائبه، وسيره بأوامره، هو الذي خلق الإنسان
وفطرته، وهو الذي وضع للإنسان المنهج الذي يسير عليه.
وهو سبحانه الذي رضي للبشرية هذا الدين.
فبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، حيث لا يهديهم منهج غيره من نتاج البشر العاجزين.
فالواجب على البشرية كافة أن تشكر الله على ما أنعم به عليها من هذا الدين الكامل، وتتبع الصراط المستقيم والدين القويم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].
فأما القول بأن الله هو المسيح ابن مريم، أو أن المسيح ابن الله، أو ثالث ثلاثة فهو الكفر والشرك.
وأما القول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أو أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، فهو الافتراء والكذب الذي لا دليل عليه.
فهل يستحق قيادة البشرية من ظلمها .. وصد عن سبيل الله .. وكفر بالله .. وقتل رسله .. ونقض العهد: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155].
وهل يستحق الإمامة من يقول عن ربه: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} [آل عمران: 181].
أو يقول عن خالقه إنه بخيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
أو يقول عن ربه إنه أب: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
وهل يستحق إمامة البشرية من استهان بالإله وأشرك به، وهل بعد هذا من كفر؟:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17].
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [المائدة: 73].
وماذا بقي من شريعة اليهود والنصارى؟.
وهل قامت هذه الشريعة في حياتهم؟.
وما هو مصير البشرية لو بقيت بدون إيمان يصلها بربها، وشريعة تستقيم بها حياتها؟.
ومن هنا كانت رحمة الله بالبشرية، ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وببعثة النبي صلى الله عليه وسلم قطع الله الحجة على أهل الكتاب وغيرهم، فهو مبعوث إلى الناس كافة إلى يوم القيامة:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158].
إن أشد القلوب استعصاءً على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت، كاليهود المغضوب عليهم، ثم يليهم النصارى الضالون.
فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها، وينف عنها الركام والغبار، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها أول مرة.
فأما القلوب التي نوديت من قبل، فالنداء الثاني لا تكون له جدته، ولا تكون له هزته، ولا يقع فيها الإحساس بجديته وأهميته، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف، والصبر الطويل، وهذا ما حصل.
فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى إلا القليل، بينما أسلم من الكفار والمشركين ما يزيد على مائة ألف، شهدوا معه حجة الوداع، ثم تتابع دخول الناس في دين الله أفواجاً.
إن الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم هو الإٍسلام في صورته النهائية الأخيرة، ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً، ولتهيمن على كل ما كان قبلها، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله للحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها .. ويحكم بها بين الناس:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
ولا يحل لأحد أن يترك شريعة الله في أي حال، طالما أنه ليس هناك رسول جديد ولا رسالة جديدة.
لقد أكمل الله عز وجل لنا هذا الدين، وتمت به النعمة على العباد، ورضيه الله منهج حياة للناس أجمعين، ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وقد علم الله سبحانه حين رضيه للناس أنه يسع الناس جميعاً، وعلم حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً، وعلم سبحانه أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم، وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله.
وحذر سبحانه من اتباع أهواء الضالين الذين في نفوسهم رغبة خفية لتأليف القلوب ولو على غير الدين، ومن مسايرة بعض رغباتهم عندما تصطدم ببعض أحكام الشريعة.
وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من اتباع الأهواء، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه فقال سبحانه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49].
وبذلك أغلق الله عز وجل مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيراً
وتأليفاً للقلوب وتجميعاً للصفوف بالتساهل في شيء من شريعة الإسلام في مقابل إرضاء الجميع، والمحافظة على وحدة الصف.
إنه إما حكم الله .. وإما حكم الجاهلية .. ولا وسط بينهما.
وهل يليق بالعاقل أن يرفض شريعة الله ويتبع حكم الجاهلية؟.
وهل أحد أحسن من الله حكماً وديناً، إن هذا لعجب:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
أيستطيع أحد أن يقول أنه أعلم بالناس من خالق الناس؟.
أيستطيع أن يقول أنه أرحم بالناس من رب الناس؟.
أيستطيع أن يقول أنه أعرف بمصالح الناس من رب الناس؟.
ألا ما أظلم من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة .. ويستبدل بها شريعة الجاهلية .. ألا ما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به سفلة الخلق.
إنه إما إسلام وإما جاهلية .. وإما إيمان وإما كفر .. وإما حكم الله وإما حكم الجاهلية .. وإما إلى الجنة وإما إلى النار: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران: 162، 163].