الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - فقه الإيمان بالغيب
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 123].
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك: 12].
الله تبارك وتعالى وصف عباده المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب، وجعلها أول صفة لهم كما قال سبحانه:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 2، 3].
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه الحواس إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير الذي تدركه الحواس.
ويدرك ما وراء الكون من قدرة وقوة وتدبير وتصريف.
ويدرك أن هذا الكون ظاهره وخفيه لا يساوي ذرة في ملك خالقه، الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول.
فالغيب لا تدركه العقول ولا تحيط به، لأن العقل أداة لم تخلق لمعرفة ذلك، فالمحدود لا يدرك المطلق.
وعدم إدراك المجهول لا ينفي وجوده في الغيب المكنون.
فعلى الإنسان أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل، وأن يتلقى العلم من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، ويعلم الغيب والشهادة.
والله وحده عالم الغيب والشهادة، أم الإنسان فمجال نشاطه عالم الشهادة، لكن الله تعالى أطلعه على قدر من عالم الغيب، يوسع دائرة وعيه وعلمه، ويميزه به عن غيره، ويحتاجه في مصالح دينه ودنياه وأخراه.
فأرسل الله الرسل يأمرون الناس بعبادة الله وحده لا شرك له، وترك عبادة ما
سواه، ونقل القدر المناسب من عالم الغيب وفق ما حدده الله، وإخبار العباد به.
وليس للإنسان أن يطلب علم الغيب خارج دائرة الوحي الإلهي وإلا ضل وأضل.
فهو سبحانه وحده: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27].
وإذا كنا في العلم البشري لا نأخذ إلا عن مصادر موثوقة يعول عليها، ففي علم الغيب لا ينبغي أن نأخذ إلا ممن يملكون حق الحديث عن الله، وهم الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله، وأطلعهم على شيء من الغيب، وجعل مصدر علمهم الوحي، وهم أعلم الخلق بالله.
أما غيرهم فمصدر علمهم العقل، والعقل البشري وحده قاصر عن إدراك المعرفة المتصلة برب العالمين.
وتكليف العقل بالبحث في عالم الغيب يشبه سؤال الكبد عن المشاهد التي تختص برؤيتها العين.
ومن الظلم لعضو خلقه الله لعمل محدد أن نكلفه فوق طاقته، ونحاول استخدامه في غير محله، فنظلم أنفسنا، ونظلم غيرنا.
ومن الحكمة والأدب وضع الشيء في موضعه، واستخدام الشيء فيما خلق له، وعدم تجاوز المعلوم إلى المجهول المحجوب إلا بعلم ويقين.
والإيمان بالله هو إيمان بالغيب .. فذات الله سبحانه غيب بالنسبة للبشر في هذه الحياة .. فإذا آمنوا به سبحانه فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله .. ولا يدركون ذاته .. ولا كيفية صفاته وأفعاله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 102، 103].
والإيمان بالآخرة كذلك هو إيمان بالغيب، فكل ما في الآخرة موجود كالصراط والميزان، والجنة والنار، لكن لا يمكن للأبصار أن تراه في الدنيا.
فالساعة بالنسبة للبشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب، وثواب وعقاب، والجنة والنار، والصراط والميزان، كله غيب يؤمن به المؤمن تصديقاً لخبر الله ورسوله.
والإيمان بالملائكة كذلك هو إيمان بالغيب، فهذا الخلق العظيم من خلق الله لا يعرف البشر عنه شيئاً إلا ما أخبرهم الله به، فنؤمن بهم تصديقاً لخبر الله ورسوله عنهم.
والإيمان بالكتب التي أنزلها الله على رسله من الإيمان بالغيب، يؤمن بها المؤمن تصديقاً لخبر الله ورسوله.
والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده بدينه وشرعه هو من الإيمان بالغيب، يؤمن به المؤمن تصديقاً لخبر الله سبحانه.
والإيمان بالقدر هو من الغيب الذي لا يتم الإيمان إلا بالتصديق به، وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع.
والغيب عالم كبير، يحيط بالإنسان من كل جانب.
غيب في الماضي .. وغيب في الحاضر .. وغيب في المستقبل .. وغيب في نفس الإنسان .. وغيب في عالم الجماد .. وغيب في عالم النبات .. وغيب في عالم الحيوان .. وغيب في العالم العلوي .. وغيب في العالم السفلي .. وغيب في الدنيا .. وغيب في الآخرة.
وكل ذلك لا يعلمه إلا الله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65].
وعالم الغيب أوسع من العالم المشهود، والإنسان يسبح في بحر من المعلوم والمجهول، وبحر من الغيب والشهادة، والإنسان مخلوق ضعيف يجهل ما يجري في كيان نفسه فضلاً عما يجري في الكون كله.
والله وحده عالم الغيب والشهادة، يعلم كل شيء، ويرى كل شيء: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ
طِينٍ (7)} [السجدة:6، 7].
فكل ذرة في هذا الكون، وكل خلية في أعماق الأرض، وقعر البحار، وجو السماء، هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده:{عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} [سبأ: 3].
وسر الحياة في النبات والحيوان والإنسان ونشأتها غيب من غيب الله كنشأة الكون وحركته لا يعلمه إلا الله وحده كما قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} [الكهف: 51].
وخلق الإنسان من ماء الرجل، وكيفية خلقه، وكونه ذكراً أو أنثى أو توءماً من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا علم للبشر به:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 8، 9].
إن الناس في الدنيا لا يرون الله، ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون به، وقلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه.
واستقرار حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته، والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة، والشعور بهذا الغيب شعورٌا يوازي بل يرجح الشهادة، حتى ليؤدي المؤمن شهادة أن (لا إله إلا الله) وهو لم ير الله.
تلك نقلة كبرى لهذا الإنسان من عالم المحسوس إلى عالم الغيب .. من عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب إلى عالم أفضل وأعلى وأجل، وهو عالم الإنسان الذي يؤمن بالغيب.
وهذا الكون العظيم مركب من عالمين:
عالم الغيب .. وعالم الشهادة.
وفي هذا الكون سنن ثابتة، وقد مكن الله الإنسان أن يعرف منها القدر اللازم له حسب طاقته وحسب حاجته للقيام بالخلافة في هذه الأرض.
وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية، وتسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، والانتفاع بأرزاقها وأقواتها.
وإلى جانب هذه السنن الثابتة مشيئة الله المطلقة التي لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها.
وهناك قدر الله الذي لا يخرج عنه أحد، الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها، فهي ليست آلية، وإنما هي مأمورة مدبرة.
والقدر هو المسيطر على كل حركة فيها، وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها.
وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها غيب لا يعلمه أحد علم يقين، وإنما أقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون.
وملايين العمليات تتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة، وكلها غيب بالنسبة له، وهي تجري في كيانه.
ومثلها مليارات الملايين من العمليات التي تتم في هذا الكون الهائل من حوله وهو لا يعلمها، وفي كل لحظة تتم هذه العمليات بإذن الله، وبأمر الله، وبعلم الله، في زمن معلوم، ومكان معلوم، وقدر معلوم، وذلك كله مما اختص الله بعلمه وحده.
فمن هذه قدرته .. وهذا علمه .. وهذا خلقه.
أيليق بالخلق أن يشركوا به؟ .. أتقبل عقولهم أن يعبدوا معه غيره؟.
ومفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59].
فسبحان من اختص بعلم الغيب وحده، وطوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وغيرهم من العالمين:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6].
والله تبارك وتعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة .. والظواهر والبواطن .. والخفايا والسرائر .. والأوائل والأواخر.
وقد يطلع الله من شاء من رسله، على بعض الأمور الغيبية، لكن هناك من أمور الغيب ما طوى علمه عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملَك مقرب فضلاً عن غيرهما، وهي الخمسة المذكورة في قوله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].
ومن حكمته التامة إخفاء علم هذه الخمسة عن العباد، لأن في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يخفى على مَن تدبر وتأمل.
وإذا كان الله عز وجل هو المتفرد بعلم الغيب والشهادة، وبالظاهر والباطن، وبالسر والعلن، فهو الذي لا ينبغي العبادة إلا له، ولا يجوز لأحد أن يشرك معه غيره:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} [الأعراف: 191].
فيا ويل هذا الإنسان .. وما أجهله بربه .. وما أجهله بشرعه .. وما أجهله بنفسه .. وما أجسره على مجاوزة الحدود .. وما أجرأه على غشيان المحرمات.
ماذا علم الإنسان؟ .. وماذا جهل؟ .. وماذا بيده؟ .. وماذا يملك؟.
وماذا قدم لنفسه وماذا أخر؟.
والساعة غيب من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولكن المشركين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن موعدها، والرسول بشر لا يعلم الغيب، وهو مأمور أن يكل الغيب إلى من خلقه، وهو بشر لا يعلم إلا ما علمه
ربه.
الله سبحانه الذي يعلم بها وحده، ولا يكشف عنها إلا في حينها، ولا يكشف غيره عنها:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف: 187].
فما أعجب هؤلاء القوم الذين لا يعرفون حقيقة الرسالة، ولا يدركون أدب الرسول في جانب ربه العظيم، الذي لا يسأل ربه عما هو مختص بعلمه، وهؤلاء يسألونه كأنه دائم السؤال عنها، مكلف أن يكشف عن موعدها.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأولين والآخرين، وأعرف الخلق بربه وأفضلهم عنده مكلف أن يعلن للناس أنه أمام غيب الله كله بشر من البشر، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، لأنه لا يطلع على الغيب، ولا يعلم الغايات قبل المذاهب، فما أحسن أدبه، وما أعظم خلقه.
وعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية، ويقف العلم البشري:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].
إن أمور الغيب كلها لله .. يكشفها الله إذا شاء .. ويعلم بها من شاء من خلقه .. وليست من شأن العقل.
والجدل حول الغيب عبث عقلي، وإقحام للعقل في غير ميدانه، وذلك سفر في إنفاق الطاقة العقلية في غير ما خلقت له، فمجال إثبات الأمور الغيبية .. ورود النص الشرعي بإثباتها فقط.
فالعين لها طاقة .. والأذن لها طاقة .. والعقل له طاقة.
وما أسفه العقل الذي ينفق طاقته في غير مجاله المأمون، فليكف العقل عما ليس من مجاله، وفوق طاقته، وحينئذ يستريح العقل، بالتسليم لله فيما يعلمه، وما لا يعلمه.
ويستريح القلب بالإيمان باله القادر على كل شيء العالم بكل شيء.
والقرآن يجيب الناس إذا سألوا عما هم في حاجة إليه، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته، ولا يبدد الطاقة العقلية فيما لا ثمرة فيه ولا في غير مجالها الذي لا تملك وسائله ولا تحيط به.
ولذلك لما سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله، اختص بعلمه دون سواه كما قال سبحانه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدوده ومجاله الذي يدركه.
فلا جدوى من الخبط في التيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه، لأنه لا يملك وسائل إدراكه، فالعقل محدود، وإدراكه محدود.
والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسر من أسراره، أودعه هذا المخلوق البشري، وكل ذي روح، وعلم الإنسان محدود بالنبة لعلم الله المطلق، بل علوم الإنسانية كلها التي علمها الله لا تساوي ذرة بالنسبة إلى علم الله.
وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود.
والإنسان عاجز ضعيف لا يدبر هذا الكون، فطاقاته ليست شاملة، وإنما وهب منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته، ليقوم بالخلافة في الأرض.
ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض وفي هذه الحياة ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام الروح، وأمام العقل، وأمام القلب، ذلك السر اللطيف المودع في الإنسان.
لا يدري ما هو .. ولا يدري كيف جاء .. ولا كيف يذهب .. ولا أين يكون، لا يدري عن ذلك شيء إلا ما أعلمه به العليم الخبير.
إن النفس البشرية خلق ضعيف لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه، وما لا تقدر عليه، فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام
الغيوب وكلته إلى الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد، ولا تخضع لعقل.
والذين يهربون من الإيمان بالله، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه، لأنهم قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه بزعمهم أن يركعوا ويركنوا إلى الدين.
هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه إنما يعاندون حقيقة الفطرة، وهي جوعتها إلى الإيمان، وعدم استغنائها عنه، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم البشر، وبعضه لن يصل إليه، لأنه أكبر من الطاقة البشرية، وخارج عن اختصاص الإنسان.
فعلم البشرية كلها لا يساوي ذرة بالنسبة للعلم الإلهي: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
وسر الحياة كان وما يزال مغلقاً على الناس كلهم، سواء كان في النبات أو الحيوان أو الإنسان، فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول كيف جاءت هذه الحياة؟، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق؟.
ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور وهو الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [التغابن: 18].
وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله، بل كل من في السموات والأرض من خلق الله من ملائكة وأرواح، وإنس وجن، كلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم، فيبقى سره عند الله دون سواه.
فالحياة غيب .. والموت غيب .. والروح غيب .. والعقل غيب .. والآخرة غيب .. والجنة غيب .. والنار غيب .. والملائكة غيب .. والجن غيب .. والأقدار غيب .. ونزول الغيث غيب .. وما في الأرحام غيب.
ولا يعلم هذه الغيوب إلا الله وحده: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 18].
والعلماء قسمان:
علماء الدنيا .. وعلماء الدين.
فعلماء الدنيا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم غافلون عن الآخرة، يقفون عند هذا الظاهر ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه.
ينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر الذي انعقدت أسباب وجوده غير ناظرين إلى قضاء الله وقدره.
ومن العجيب أن هؤلاء بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب، وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزاً عما أقدرهم الله عليه، فنظروا إليهم بعين الازدراء والاحتقار، وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب.
وهذه العلوم التي أعطاهم الله، لو بنيت على الإيمان، لأثمرت الرقي العالي، والحياة الطيبة.
ولكن لما بني كثير منها على الإلحاد والمقاصد السيئة لم تثمر إلا هبوط الأخلاق، وأسباب الفناء والتدمير، فما أتعسهم وأشقاهم في الدنيا والآخرة.
فهؤلاء الذين: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7].
وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير مهما بدا للناس واسعاً شاملاً، والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل العظيم.
والذي لا يتصل قلبه بخالق هذا الوجود، ولا يتصل حسه بالسنن الإلهية التي تصرفه يظل ينظر وكأنه لا يرى، ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يرى مصرفه، وينشغل بالمخلوق عن الخالق، وأكثر الناس كذلك:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 18].
لأن الإيمان الحق هو وحده الي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود، وهو الذي يمنح العلم روحه الذي به يدرك ويعرف خالق الوجود.
والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس، ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن معرفة الحق:{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 6، 7].
فالدنيا صفحة من صفحات الكون الكثيرة، والآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة أخرى من الوجود، والذين لا يدركون حكمة النشأة ولا يعلمون صفحات الوجود، يغفلون عن الآخرة، ولا يحسبون حسابها ولا يعرفون أنها صفحة في كتاب الوجود ونقطة في خط سير الوجود لا بد أن يمر بها الإنسان.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل المقاييس والموازين، والأفكار والأعمال تختل عند هؤلاء الغافلين، فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصوراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً، لأن حساب الآخرة في نظر الإنسان، يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض.
فحياة الإنسان في الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون، حيث كان في صلب أبيه، ثم خرج إلى بطن أمه، ثم خرج إلى الأرض، ثم ينزل إلى القبر، ثم يخرج في النهاية إلى دار القرار في الجنة أو النار ..
ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود، والأحداث التي تحصل في هذه الأرض إن هي إلا فصل قصير من كتاب كبير.
إن المسلم والكافر كلاهما قادم إلى تلك الدار الآخرة، ولكن المؤمن مستعد لها لمعرفته بها، والكافر غير مستعد لها، لأنه لا يؤمن بها.
ومن هنا لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها.
فلكل منهما ميزان، ولكل منها خط، ولكل منهما اتجاه، ولكل منهما جزاء.
هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر:
يرى المخلوق ويتجاوزه إلى الخالق .. ويرى الصور ويتجاوزها إلى المصور .. ويدرك أن هذا الكون يسير بسنن لا تتبدل بأمر وإذن من رب العالمين .. سنن شاملة للظاهر والباطن .. والغيب والشهادة .. والدنيا والآخرة .. والحياة والموت .. والثواب والعقاب.
وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها
به إلى المكان الكريم اللائق بها في الدنيا والآخرة.
فهذا الكون كله قائم على الحق، يسير وفق السنن الربانية.
ومن مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة يتم فيها الجزاء على العمل، ويلقى أهل الخير والشر عاقبتهما فيها كاملة، وإنما كل شيء له أجل مرسوم يسير وفق حكمة مدبرة، وكل شيء يجيء في موعده لا يتقدم لحظة ولا يتأخر.
وإذا لم يعلم البشر متى تقوم الساعة فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون، ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ويخدعهم.
فماذا ينتظر هؤلاء من العذاب والعقاب؟.
وماذا ينتظر المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان ومقتضاه من الأعمال الصالحة المشتملة على أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة؟.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
(1) أخرجه مسلم برقم (770).