الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فقه رحمة الرب
قال الله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56].
وقال الله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7].
وقال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء: 83].
الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، ورحمة الله تتجلى على الخلائق عامة، وعلى الإنسان خاصة:
تتجلى ابتداءً في وجود البشر أنفسهم، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الإنسان على كثير من العالمين.
وتتجلى في تسخير ما في هذا الكون العظيم من النعم والطاقات، والقوى والأرزاق، والماء والهواء وغير ذلك مما يتقلب فيه الإنسان كل لحظة:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].
وتتجلى رحمة الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم مما يحتاجه في حياته: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78].
وتتجلى كذلك في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى كلما نسي أو ضل، وأخذه بالحلم كلما لج في الضلالة والجهالة.
وتتجلى كذلك في مجازاته العبد على السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومحو السيئة بالحسنة:
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].
وتتجلى في تجاوز الله عن سيئات العباد إذا عملوها بجهالة ثم تابوا، وبكتابة الرحمة على نفسه كما قال سبحانه:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}
…
[الأنعام: 54].
والله جل جلاله هو الرحمن الرحيم، وقد وسعت رحمته كل شيء، واستوى على أعظم المخلوقات وأوسعها وهو العرش، بأوسع الصفات وهي صفة الرحمة فقال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].
وقد أنزل الله في القرآن سورة كاملة باسمه الرحمن ومطلعها: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4].
وهي معرض لآلاء الرحمن، ومخلوقاته العظيمة، ومظاهر رحمته التي تبلغ كل عقل .. وكل سمع .. وكل بصر .. وتملأ فضاء السموات والأرض.
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان، تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته، وتعليمه البيان.
فهذا القرآن العظيم نعمة كبرى، بل هو النعمة الكبرى على البشرية كلها، تتجلى فيه رحمة الرحمن بالإنسان، وآلاء الله ومخلوقاته، وهو منهج الله للبشرية، الذي يصلهم بربهم، وينظم أحوالهم ومعيشتهم وفق أمر ربهم، ويفتح عقولهم وحواسهم ومشاعرهم على هذا الكون العظيم الجميل، ومبدعه الذي شمل خلقه برحمته الواسعة.
القرآن العظيم الذي يقر في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض، وأنهم كرام على الله، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال، ويشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا بالإيمان بالله، ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان، فبه يتحقق في هذا الكائن معنى
الإنسان، وبدونه يسقط في أقل من رتبة الحيوان.
ثم يذكر سبحانه خلق الإنسان، وتكريمه بالصفة الإنسانية الكبرى البيان النطقي والخطي والإشاري، الذي امتاز به الانسان على غيره.
ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله ونعمه، ومظاهر رحمته، الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة، والميزان الموضوع، والأرض وما فيها من مظاهر رحمته، وخلق الجن والإنس، ثم يعرض نعمة المشرقين والمغربين، والبحرين وعدم امتزاجهما، وعجائب ما يخرج منهما، وما يجري فيهما وعليهما من الجواري.
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار، والمخلوقات العظام، عرض سبحانه مشهد فنائها جميعاً بأمره وقدرته.
ثم عرض سبحانه مشهد البقاء المطلق لله ذي الجلال والإكرام كما قال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27].
وفي ظل الفناء المطلق للخلائق، والبقاء المطلق لله، يجيء التهديد المروع للإنس والجن:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} [الرحمن: 31].
والله جل جلاله غفور رحيم، يفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو سبحانه الرحيم الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها، وقبلها منه.
قال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39].
ومن رحمته سبحانه أنه ملأ سماواته من ملائكته، يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في التسبيح بحمده سبحانه، وفي الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة لهم عند ربهم ليدخلهم الجنة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)[غافر: 7 - 9].
فما أعظم هذه العناية من الرب جل جلاله بعباده المؤمنين.
وما أجمل هذا الإحسان من المولى الكريم.
وما أعظم هذه الرحمة من الرحمن الرحيم.
وما أجملَ هذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد، وحسن التلطف بهم.
ألا ما أعظمَ رحمة الله بعباده، فمع خلقهم، وتأمين أقواتهم، وقسمة أرزاقهم، خلق سبحانه ملائكة يدعون لهم، ويستغفرون لهم، ويشفعون لهم عند ربهم، ومع هذا كله أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعَّرف إليهم بأسمائه وصفاته، وآلائه وانعامه، ليدعوه بها، ويسألوه بموجبها.
ومع هذا كله ينزل سبحانه كل ليلة إلى سماء الدنيا، اكراما للمؤمنين، واحتفاءً بهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يََنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (1).
والله عز وجل إنما يرسل رسله رحمة بالعباد، فهو الغني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا أحسنوا وآمنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة.
والناس باقون برحمة الله ومشيئته، وأمرهم كلهم بيده سبحانه:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: 133].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758)
إن معرفة العبد برحمة الله الشاملة لعباده يسكب في القلب الطمأنينة إلى ربه، لا في حال السراء والنعماء فحسب، بل وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار، فهو يستيقن أن رحمة الله وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع، وكل تصرف.
ويعلم أن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته، فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها، إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله، ويرفضون رحمته، ويبعدون عنها.
والطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، والرجاء والأمل، والهدوء والراحة، فهو في كنف ربٍ رحيم ودود.
وهو سبحانه المالك لكل شيء، لا ينازعه منازع، ولكنه فضلاً منه ومنَّة كتب على نفس الرحمة، وأخبر عباده بما كتبه على نفسه من الرحمة، وهذا من كمال عنايته بعباده، فإن إخبارهم بهذه الحقيقة تفضل آخر.
ورحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائهم أحياناً بالضراء والبأساء، فهو سبحانه يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته بعد الخلوص والتجرد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حيّ عن بيِّنة.
وقد أرسل الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، فهو أرحم الناس بالخلق، كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، فنالوا بها سعادة الدنيا والآخرة.
والكفار ردوها، فلهم الشقاء في الدنيا والآخرة، ورفع الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم العذاب العام عن أهل الأرض.
وبهذه الرحمة انتشر الدين، وقبله الناس، وأحبوه، وجاهدوا في سبيله كما قال
ورحمة الله وسعت كل شيء، وشملت كل أحد، المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، فهو سبحانه الرحيم الذي شمل الخلق كلهم برحمته، فسخر لهم ما في السموات وما في الأرض، فالشمس والقمر، والبر والبحر، والماء والتراب، والنبات والحيوان، والهواء، كل ذلك خلقه الله، وسخر منافعه للناس.
وهذه النعم يستفيد منها المؤمن والكافر على حد سواء، وهي مسخرة للإنسان ولا خيار لها:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].
فهذه رحمة الرحمن تشمل الخلق كلهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله عز وجل يطرد من رحمته من لم يؤمن به، ولم يشكر نعمه من الكفار والعصاة، ولا تشمل رحمته في الآخرة إلا عباده المؤمنين.
ففي الدنيا كثرت متعلقات الرحمة، وفي الآخرة قلَّت متعلقات الرحمة، وإن كانت صفة الرحمة ثابتة لم تتغير ولم تتبدل، ولو أن الكفار والعصاة أطاعوا ربهم لوسعتهم رحمة الله في الآخرة، ولكنهم حرموا أنفسهم منها بكفرهم:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)} [العنكبوت: 23].
ومن رحمة الله بعباده أنه كلما زاد عددهم كشف لهم من العلم ما يمكنهم من سهولة الحياة، وزيادة الإنتاج، وسهولة الحصول عليه كما هو حاصل في كل زمان ومكان:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].
ورحمة الله لعباده، ودخولهم الجنة، ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم
يقوموا بها كما يجب لعظمته وجلال سلطانه.
فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لحقه، وهو سبحانه غير ظالم لهم فيه، فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم وأعمالهم.
فإذا عذبهم الله عز وجل على ترك شكرهم، وترك أداء حقه الذي يجب عليهم، لم يكن ظالماً لهم، فإن المقدور للعبد من الطاعات لا يأتي به كله، بل لابد من فتور وإعراض، وغفلة وتوان، وتقصير وتفريط.
وكذلك قيام المرء بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم لله، وبذل مقدوره كله في تحسين العمل، وتكميله ظاهراً وباطناً، فالتقصير لازم في حال الترك، وفي حال الفعل، وهذا هو السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار.
ولو أتى العبد بكل ما يقدر عليه من الطاعات ظاهراً وباطناً، فالذي ينبغي لربه فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، فإن عجز عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، فإذا حرم جزاء ما لم يأت به مما يجب لربه لم يكن الرب ظالماً له.
فإذا عطاه ربه الثواب، كان مجرد صدقة منه وفضل ورحمة، لا عوضاً عن عمله، والعبد مملوك لا يستحق شيئاً على سيده، فإن أعطاه شيئاً فهو إحسان منه وفضل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» . قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه (1).
والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى الإنسان وإن كرهتها نفسه
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) واللفظ له، ومسلم برقم (2816).
وشقت عليه، فهذه الرحمة حقاً، فأرحم الناس بك من أخذ بك إلى ما يصلحك وإن كرهت ذلك نفسك.
فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويمنعه شهواته التي تضره، ومتى أهمل ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه سبحانه أعلم بمصلحته.
فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته، من كمال رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم أنه محسن إليه بابتلائه وامتحانه.
فما أصاب العبد فهو من تمام رحمة الله به، لا من بخله عليه، كيف وهو سبحانه الجواد الكريم، الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها، بل جود جميع الخلق كلهم من جوده عز وجل.
فمن رحمة الله عز وجل بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه سبحانه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلاً منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم، وهو العليم الخبير.
ومن رحمته سبحانه بهم أن نغَّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا بها، كي يرغبوا في النعيم المقيم في دار جواره.
فساقهم العليم الخبير إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
ومن رحمته سبحانه بعباده أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، من الشرك والمعاصي والتقصير، كما قال سبحانه:
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].
وتمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، ولذا أمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم وهم أولو الهدى والرحمة، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين، وطريق الضالين وهم ضد المهتدين.
فاللهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7].
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان أن خلقه في أحسن تقويم .. وأكرمه بالدين .. وزوده بالسمع والبصر والعقل .. ولم يكله في الاهتداء إلى عقله وحده .. ولا على الفطرة وحدها .. ولا على كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى، وموجبات الإيمان.
بل اقتضت رحمة العزيز الرحيم ألا يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال إلا بعد الرسالة والبيان، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة، الذي قرره الله له، وأكرمه به، ثم ترك له ما وراء ذلك:{قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: 203].
ومن رحمة الله سبحانه أنه أقام الدلائل الكونية في هذا الكون، والتي تدل على عظمة الخالق ووحدانيته، وقدرته وتدبيره، وملأ الفطرة بالأشواق إلى ربها، والاتصال ببارئها، والإذعان له، ووهبه السمع الذي يدرك به المسموعات، والبصر الذي يدرك به المرئيات، ووهبه العقل الذي يحصي به الشواهد، ولكن الله الكريم الرحمن مع هذا كله رحم العباد، وأعفى الناس من حجية الكون، وحجية العقل، وحجية الفطرة، ما لم يرسل إليهم الرسل، الذين يُعرِّفون الناس بربهم، وما ينبغي له، وليزنوا حياتهم بالحق الذي جاءوا به، وحينئذ إما أن يؤمنوا فينالوا الثواب، أو تسقط حجتهم ويستحقوا العقاب.
ومن رحمة الله بالبشرية وبره بهم أن تفضل عليهم بإرسال الرسل تترى، وهم يكذبون ويعاندون، ويشردون وينأون، ولكن الله حليم غفور، لا يؤاخذ الإنسان بأخطائه وخطاياه، ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه، ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل، فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر ويدرج للعقاب كما قال سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].
فلا يمكن لعقل واحد أن يهتدي لمثل ما جاءت به الرسل، بل لا يمكن ذلك لعقول البشرية كلها، وكيف يهتدي العقل، ويستغني عن ربه، ويستغني عن هدايته ورسله ودينه وهو مخلوق محتاج إلى الهدى؟.
وقد علم الله أن العقل لا يُغني ما لم يتقوم بمنهج الله، ولذا لم يكتب عليه عقاباً إلا بعد الرسالة والبيان ثم الإعراض.
إن رحمة الله واسعة، وسعت كل شيء، وهي تتمثل في مظاهر كثيرة لا يحصيها العبد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها، سواء في ذات نفسه وتكوينه وتكريمه بما أكرمه الله به .. أو بما سخر الله له من حوله ومن فوقه ومن تحته .. أو فيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].
ورحمة الله تبارك وتعالى تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح، ويجدها من يفتح الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان.
يجدها في نفسه، وفيما حوله، وحيثما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان.
ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة السعادة والرضوان.
وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا
مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2].
ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها عنه، لا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعيب الهلاك.
ولا سعة في إمساكها عن الإنسان، ولو تقلب في أعطاف النعيم، ورفل في مراتع الرخاء بين الأنهار والقصور، وذوات الخدور.
فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والطمأنينة والرضى، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والنكد، والتعب والنصب.
هذا الباب وحده يفتح، وتغلق جميع الأبواب، فلا عليك فهو السرور والرخاء، والفرج واليسر.
وهذا الباب وحده يغلق، وتفتح جميع أبواب الدنيا والنعيم، فما هو بنافع، ولا عليك فهو الكرب والضيق، والشدة والقلق.
الصحة والقوة، والجاه والسلطان، والمال والولد، كلها تكون مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والطمأنينة.
يهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم، ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب.
ويعطي الله الجاه والسلطان مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة للأجر.
ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما، مصدر بغي وطغيان، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما، لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار.
ويبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا، وزاد إلى الآخرة، ويمسك عنه رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار
حسد وبغض، وإذا هو هم في جمعه، وهم في حفظه، وهم لفراقه.
ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح، ومضاعفة للأجر، ويمسك عنها رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد، وعنت وشقاء، وسهر بالليل، وتعب بالنهار.
فالمال والبنون مع الرحمة زينة وسعادة: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46].
والمال والبنون بدون رحمة الله شقاء ونكد: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة:55].
إن العمر الطويل، والعلم الغزير، والمال الوفير، والمقام الطيب، كل ذلك يتبدل ويتغير من حال إلى حال مع الإمساك ومع الإرسال.
ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله، فرحمته واسعة، وهي تضمك وتغمرك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة.
إن رحمة الله لا تعز على طالبها في أي مكان، وفي أي زمان، وعلى أي حال.
وجدها إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار .. ووجدها نوح (في لجة البحر .. ووجدها يوسف (في الجب، كما وجدها في السجن، كما وجدها في الملك .. ووجدها يونس (في بطن الحوت .. ووجدها موسى (في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون .. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حين افتقدوها في القصور والدور.
ووجدها محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، وفي طريق الهجرة، وفي بدر، وفي فتح مكة، وفي جميع أحواله صلى الله عليه وسلم.
ووجدها ويجدها كل من آوى إليها، يائساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون جميع الأبواب، وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، فهو الذي
يملكها وحده: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2].
فلا رجاء في أحد من الخلق، ولا خوف من أحد من الخلق، فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله جل جلاله.
إن هذا اليقين لو استقر في قلب الإنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص، والقوى والقيم، ولو تضافر عليها الإنس والجن، فهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها، وهو العزيز الحكيم.
وقد أنشأ الله بهذا القرآن العظيم تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام، الفئة التي صُنعت على عين الله، تحمل رحمة الله وشريعته، لتكون قدوة للبشرية إلى يوم القيامة، اولئك هم:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]
وهي قدر من قدر الله سلطه على من يشاء في الأرض، فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو وإثبات.
وما يزال هذا القرآن بين يدي الناس قادراً لو حكموه أن ينشئ أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض بإذن الله ما يشاء الله.
تمحو الظلم والبغي والباطل، وتثبت الحق والعدل والسلام.
والله سبحانه هو الرحمن الرحيم، ورحمته لنا تزيد بمقدار رحمتنا لخلقه، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ» متفق عليه (1).
والرحمة المضافة إلى الله نوعان:
الأولى: إضافة مفعول إلى فاعله كما قال الله سبحانه في الحديث عن الجنة:
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7376) واللفظ له، ومسلم برقم (2319).
«إِنَّمَا أنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي» متفق عليه (1).
فهذه رحمة مخلوقة، مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق، وسماها رحمة، لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة، وخص بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء، ومنه تسمية المطر رحمة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة» متفق عليه (2).
الثانية: إضافة صفة إلى موصوف، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه النسائي في الكبرى والحاكم (3).
فالرحمة هنا صفة لله يستغاث بها، ولا يستغاث بمخلوق.
ألا ما أعظم رحمة الله بهذه الأمة، حيث أنزل عليهم أحسن كتبه، وأرسل إليهم أفضل رسله، وشرع لهم أفضل شرائع دينه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57].
فالهدى هو العلم بالحق والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به من المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، وتم الفرح والسرور.
ولذلك أمرنا الله عز وجل بالفرح بالقرآن الذي هو أعظم نعمة ومنة، والفرح بالإيمان وعبادة الله التي يحصل بها الأنس والطمأنينة، واللذة والسكينة كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4850)، ومسلم برقم (2846)، واللفظ له.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6469)، واللفظ له ومسلم برقم (2752).
(3)
صحيح: أخرجه النسائي برقم (10405) وأخرجه الحاكم برقم (2000).
انظر صحيح الترغيب رقم (654) وانظر السلسلة الصحيحة رقم (227).
يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
والله سبحانه خير من غفر، وأرحم من ملك، وأكرم من أعطى، فاللهم:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}
…
[الأعراف: 155].
وعذاب الله إنما يحل بمن تعرض لأسبابه، أما رحمة الله فقد وسعت كل شيء في العالم العلوي والعالم السفلي، فلا مخلوق إلا وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست إلا للمؤمنين خاصة كما قال سبحانه:{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156].
ومن رحمته المكرورة كل يوم وليلة على مدى الدهر أن جعل لعباده النهار ليبتغوا من فضله، وينتشروا في ضيائه لطلب أرزاقهم ومعايشهم، وجعل لهم الليل ليسكنوا فيه، وتستريح أنفسهم وأبدانهم فيه من تعب التصرف في النهار، فهذا كله من فضله ورحمته بعباده:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} [القصص: 73].
اللهم: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)} [المؤمنون: 109].
اللهم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
سبحانك ما أعظمك، سبحانك ما أكرمك، سبحانك ما أرحمك:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163].
والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه يوم القيامة من الفضل والإحسان، والعفو والصفح، والتجاوز والغفران، ما لا تعبّر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار، ولا يخطر على القلوب.
ويتطلع إلى رحمته في ذلك اليوم جميع الخلق لما يشاهدونه، فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة، فهو الذي رحمته وسعت كل شيء، وغلبت
رحمته غضبه، وعم كرمه كل حي، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
فقل ما شئت عن رحمة الله، فإنها فوق ما تقول، فهو الرحمن الرحيم.
وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك.
قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ، يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالأرْضَ، مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ» أخرجه مسلم (1).
فسبحان العزيز الرحيم، الذي رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته.
وكما لا تخلو سنة من مطر ينزل رحمة بالعباد، كذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن نفحة من نفحات الله يرحم بها من يشاء من عباده.
وكما يقوي انتظار نزول الغيث في أوقات الربيع عند ظهور السحب، يقوى كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وشهر رمضان، وآخر الليل .. وعند الشدة والاضطرار، ونحو ذلك.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، ولا تخزنا يوم العرض عليك، وراحم ضعفنا وذلنا وانكسارنا بين يديك، أنت ربنا، وأنت أرحم الراحمين.
(1) أخرجه مسلم برقم (2753).