الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - فقه كون الحمد كله لله
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1].
وقال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1].
وقال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 2 - 4].
الله تبارك وتعالى أنعم على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].
وهذه النعم نوعان:
نعم مادية .. ونعم روحية.
فالنعم المادية هي كل ما خلقه الله في هذا الكون من أجل الإنسان كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].
والنعم الروحية هي الدين الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، لإسعاد العباد في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وله سبحانه الحمد على جميع نعمه المادية والروحية حمداً كثيراً طيباً مباركاً، فيه ملء السماء وملء الأرض وملء ما شاء الله من شيء بعد.
له الحمد سبحانه على نعمة الصحة والعافية .. وله الحمد على نعمة الأمن والرخاء .. وله الحمد على نعمة الطعام والشراب .. وله الحمد على نعمة
السكن واللباس، وله الحمد على نعمة المراكب في البر والبحر والجو .. وله الحمد على خلق الليل والنهار، وله الحمد على خلق الزروع والثمار .. وله الحمد على خلق ما يؤكل وما يركب من الحيوان.
وله الحمد على نعمة الإسلام .. وعلى نعمة الهداية .. وعلى نعمة الاستقامة، وعلى نعمة الطاعة والعبادة.
والله عز وجل رب العالمين، يربيهم بنعمه المادية والروحية.
والمربون قسمان:
منهم من يربي شيئاً ليربح عليه المربِّي .. ومنهم من يربي ليربح المربَّى.
وتربية الخلق كلهم على القسم الأول، لأنهم يربون ليربحوا إما ثواباً أو ثناءً.
والقسم الثاني: تربية الحق سبحانه، فهو يربينا بنعمه المادية والروحية، لنربح نحن، فهو يربي ويحسن من أجل الإنسان، بخلاف سائر المربين وسائر المحسنين، فهم يربون لمصالحهم.
والله سبحنه يربينا ولا تنقص خزائنه، وغيره تنقص خزائنه.
والله سبحانه وصل إحسانه إلى جميع الخلق، وغيره لعجزه إحسانه لقوم دون قوم، وفي وقت دون وقت، وفي حال دون حال.
والله لا ينقطع إحسانه البتة عن الخلق، وغيره ينقطع بسبب الفقر أو الغضب، أو الحسد، أو الموت.
ومن العجيب أن الله يربيك، كأنه ليس له عبد سواك، وأنت تخدمه كأن لك رباً غيره، ويفتح لك أبواب خزائنه، وأنت واقف بباب أضعف خلقه.
فما أعظم وما أحسن هذه التربية من الرب لعباده.
أليس الله يرزقك ويطعمك ويسقيك كل يوم من غير عوض؟.
أليس مولاك يمدك كل يوم بالصحة والعافية، والنور والهواء من غير عوض؟.
أليس الله يحفظك في النهار من الآفات من غير عوض؟.
أليس الله يحفظك بالليل من المخافات من غير عوض؟.
أليس الله والذي هداك إلى الصراط المستقيم وأعانك على سلوكه من غير عوض؟.
والعبد لجهله وظلمه قد زج نفسه بالليل والنهار في أنواع المحظورات، وأقسام المحرمات والمنكرات، والله يوالي عليه نعمه وإحسانه.
فما أعظم إحسان الله إلى عباده .. وما أحسن تربيته لهم .. وما أحبه لرحمتهم وإكرامهم .. وما أشد عنايته بهم:
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42].
إنه الملك القدوس السلام .. العزيز الجبار .. القوي القهار .. الحليم الكريم .. الرحمن الرحيم .. العليم الحكيم:
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37].
إن أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك.
فإذا كان عمرا لإنسان سبعين عاماً .. نصفها نهار .. ونصفها ليل .. فهو في النوم خمس وثلاثون سنة .. وفي اليقظة خمس وثلاثون سنة .. فإذا أخذنا منها خمس عشرة سنة قبل البلوغ .. فبقي عشرون سنة .. وفي هذه العشرين سنة أعذار وأحوال مختلفة:
لعب ولهو .. وسفر ومرض .. وغفلة وسهو .. إلخ .. فيبقى عشر سنوات هي عمر الإنسان الديني .. وهذه العشر سنوات لا تعدل يوماً واحداً في الجنة .. وكان العدل أن يبقى في الجنة بقدر ما عمل، ولكنه فضل الله وكرمه ورحمته التي وسعت كل شيء، فله الخلود أبداً، والنعيم أبداً:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} [الكهف: 107، 108].
فمن قيد نفسه بأومر الله في هذه الحياة لساعات قصيرة في الدنيا، فالعدل أن يأخذ ثواب هذه الساعات مثلاً بمثل يوم القيامة.
ولكن الكريم المنان أعطاه حياة أبدية .. وسعادة أبدية .. وطيبات أبدية .. ولذات أبدية .. وخدمة أبدية .. وقصوراً أبدية .. وفوق ذلك كله رضاه سبحانه ورؤيته: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
فسبحان العزيز الغني الكريم، صاحب الجود والفضل والإنعام والإحسان وله الحمد والشكر على ما أنعم به علينا من نعمه الظاهر ة والباطنة في الدنيا وله الحمد والثناء والشكر على ما أعد لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم يوم القيامة:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
والله تبارك وتعالى في هذه الحياة يعطي المؤمنين والكافرين من نعمه.
وفي الكون من عطاء الله شيئان:
شيء من نعم الله خلقه الله ينفعل لك ولغيرك مؤمناً أو كافراً بدون جهد، كالشمس والهواء والمطر، والحرارة والبرودة، والليل والنهار ونحوها.
وشيء من نعم الله خلقه الله ينفعل بك مؤمناً أو كافراً، إذا قام به العبد وفق الأسباب التي خلقها الله، فمن زرع حصد، ومن اكتسب ربح، ومن تعلم علم، ومن تزوج أنجب.
لكن المؤمن يزيد بحصول البركة في عمله، لأنه يذكر الله، ويستعين به، فتحصل له البركة كما قال سبحانه:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78].
فالحمد كله .. والثناء كله .. والشكر كله .. لله رب العالمين:
فهو سبحانه المحمود لذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وهو المحمود سبحانه على ما خلقه في العالم العلوي والسفلي.
وهو المحمود على أوامره الكونية، وأوامره الشرعية.
وهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم، وإيمانهم وكفرهم.
وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار، والملائكة والشياطين، وعلى خلق
الرسل وأعدائهم.
وهو المحمود على عدله في أعدائه، وعلى فضله وإنعامه على أوليائه.
فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
والحمد: هوالإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له.
ومحاسن المحمود تعالى، إما قائمة بذاته وهي أسماؤه الحسنى وصفاته العلا، وإما ظاهرة في مخلوقاته.
فأسماء الله كلها حسنى، ليس فيها اسم سوء.
وصفاته كلها كمال، ليس فيها صفة نقص.
وأفعاله كلها حكمة، ليس فيها فعل خالٍ عن الحكمة والمصلحة:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27].
فالله عز وجل هو المستحق للحمد كله، فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي.
فهو المحمود على كل شيء، وإن كان بعض خلقه يُّحمد أيضاً، كما يحمد رسله وأنبياؤه وأولياؤه، فذلك من حمده تبارك وتعالى، وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده، فهو المحمود أولاً وآخراً.
والله سبحانه له الملك، وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاء، وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه، فحمده أيضاً داخل في حمده.
فما من محمود يحمد على شيء مما دق أو جل، إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية.
وله سبحانه الحمد التام كله، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه فهو المحمود على كل حال، وعلى كل شيء، فله أكمل حمد وأعظمه،
كما أن له الملك التام العام، فلا يملك كل شيء إلا هو.
فحمده سبحانه وحكمته في خلقه وأمره شامل لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة، وامتحان وبلية، وما يقضيه الله من طاعة ومعصية.
والله تعالى محمود على كل ذلك مشكور، وله حمد المدح، وحمد الشكر.
أما حمد المدح فالله تعالى محمود على كمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المحمود على كل ما خلق وأمر، فهو رب العالمين، والحمد لله رب العالمين.
وأما حمد الشكر فلأن ذلك كله نعمة في حق المؤمن، إذا اقترن بواجبه من الإحسان.
والنعمة إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة، والامتحان والابتلاء إذا اقترنا بالصبر كانا نعمة، والطاعات من أجل نعمه سبحانه.
والمعاصي إذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع، فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة، والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضاً، وإن كان سببها مبغوضاً مسخوطاً للرب سبحانه، ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار.
والله سبحانه أفرح بتوبة عبده من فرح رجل أضل راحلته في أرض مهلكة، ثم طلبها وأيس منها ثم وجدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ العَبْدِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أوْ مَا شَاءَ الله، قَالَ: أرْجِعُ إلى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ» متفق عليه (1).
فهذا الفرح العظيم الذي لا يشبهه شيء، أحب إليه سبحانه من عدمه، وله
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6308) واللفظ له، ومسلم برقم (2747).
أسباب ولوازم لا بد منها، وما يحصل لتقدير عدمه من الطاعات، وإن كان محبوباً له فهذا الفرح أحب إليه بكثير.
فله سبحانه من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة، ونعمة سابغة هذا بالإضافة إلى الرب سبحانه.
وأما بالإضافة إلى العبد فإنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفاً على أسباب لا تحصل بدونها.
فتقدير الذنب عليه، إذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار، كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه، وإن كان من الامتحان والابتلاء باعتبار صورته ونفسه.
والرب سبحانه محمود على الأمرين:
فإن اتصل بالذنب الآثار المحمودة للرب سبحانه، من التوبة والإنابة فهو عين مصلحة العبد، وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خبث نفسه وشره، وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ الأعلى.
والنفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل، ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها، ومساكنة من تليق مساكنته، ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحل الأسفل.
فإن هذه النفوس إذا كانت مهيأة لذلك، فمن الحكمة أن تستخرج منها الأسباب التي توصلها إلى ما هي مهيأة له، ولا يليق بها سواه.
والرب سبحانه محمود على ذلك أيضاً، كما هو محمود على إنعامه وإحسانه إلى أهل الإحسان والإنعام القابلين له، فما كل أحد قابلاً لنعمته تعالى.
وحكمته وحمده تقتضي ألا يودع نعمه وإحسانه في محل غير قابل لها.
والحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غير قابلة لنعمته، قد تقوم أن خلق الأضداد والمتقابلات، وترتب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته، وعلمه وعزته، وأن تقدير عدم ذلك هضم لجانب الربوبية.
وأيضاً فإن هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنها إذا وقعت فهو مأمور أن يجاهد أربابها بحسب الإمكان، فيترتب على الإنكار والجهاد من مصالح نفسه وبدنه، ومصالح دنياه وآخرته، ما لم يكن ينال بدون ذلك.
والمقصود الأول إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غاية الحكمة، وكان في تمكين الكفار والفساق والعصاة من ذلك إيصال إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم له.
وتمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، والمحبة الصادقة علامتها أن يبذل المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة، في مرضاة محبوبه، والتقرب إليه، فإن بذل روحه كان هذا أعلى درجات المحبة الصادقة.
ومن لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها، أن يخلق ذواتاً وأسباباً، وأعمالاً، وأخلاقاً وطبائع، تقتضي معاداة من يحبه، ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها.
وكل أحد يحب الإحسان والراحة، والدعة واللذة، ويحب من يوصل إليه ذلك.
ولكن الشأن كل الشأن في محبته سبحانه، ومحبة ما يحبه، مما هو أكره شيء إلى النفوس، وأشق شيء عليها مما لا يلائمها.
فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته، ويحب ما يحب، ممن يحبه لأجل نعمه ومخلوقاته، فإن أعطي منها رضي، وإن منعها سخط وعتب على ربه، وربما شكاه، وربما ترك عبادته:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].
فلولا خلق الأضداد، وتسليط أعدائه، وامتحان أوليائه، لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه،
والمعاداة فيه، والحب فيه، والبغض فيه، والعطاء له، والمنع له، ولا عبودية ذل الأحوال والأرواح والقوى في جهاد أعدائه، ولا عبودية مفارقة الأهل والناس مع حاجته إليهم من أجل مرضاته سبحانه.
ولا يتحيز إليهم، وهو يرى محاب نفسه وملاذها بأيديهم، فيرضى بمفارقتهم وموالاة الحق عليهم.
فلولا الأسباب والأضداد التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار النافعة.
وكذلك لولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد، لم تحصل له فضيلة الصبر، وجهاد النفس، ومنها من حظوظها وشهواتها محبةً لله، وإيثاراً لمرضاته، وطلباً للزلفى لديه، والقرب منه.
وأيضاً فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانية، بل كانت ملكية، فإن الله خلق خلقه أطواراً:
فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها وجبلها على طاعته .. وخلق الحيوانات شهوات لا عقول لها .. وخلق الثقلين الجن والإنس .. وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة .. وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء .. وهم المعرضون للثواب والعقاب.
فخلق سبحانه الملائكة وطبعهم على الخير، وخلق الشياطين وطبعهم على الشر، وخلق الثقلين وجعلهما محل الابتلاء.
ولو شاء الله عز وجل لجعل خلقه على طبيعة واحدة، وخلق واحد، ولم يفاوت بينهم، ولكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة، ولو كان الخلق كله على طبيعة واحدة ونمط واحد لقيل هذا مقتضى الطبيعة، ولقيل كذلك لو كان الله فاعلاً بالاختيار لتنوعت أفعاله ومفعولاته، ولفعل الشيء وضده، والشيء وخلافه.
فتنوع أفعاله سبحانه ومفعولاته، من أعظم الأدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه وقدرته.
ولهذا خلق الله عز وجل النوع الإنساني أربعة أقسام:
أحدها: من خلقه لا من ذكر ولا أنثى، وهو أبوهم آدم.
الثاني: من خلقه من ذكر بلا أنثى، وهي حواء خلقها الله من ضلع آدم.
الثالث: من خلقه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح عيسى ابن مريم.
الرابع: من خلقه من ذكر وأنثى، وهم سائر النوع الإنساني.
وذلك كله ليدل عباده على كمال قدرته، وكمال حكمته، ونفوذ مشيئته، وأن الأمر ليس كما يظنه الكافرون به الجاحدون له، من أن ذلك أمر طبيعي.
والطبيعة مخلوق من مخلوقاته، وعبد من عبيده، مسخرة لأمره، منقادة لمشيئته، لا تخلق ولا تفعل، ولا تتصرف في ذاتها ونفسها، فضلاً عن إسناد الكائنات إليها.
فتنوع المخلوقات واختلافها، من لوازم الحكمة والربوبية والألوهية، وهو أيضاً من موجبات الحمد، فلله الحمد على ذلك كله أكمل حمد وأتمه.
وأيضاً فإن مخلوقاته هي موجبات أسمائه وصفاته، فلكل اسم وصفة أثر لا بد من ظهوره فيه.
وتنويع أسباب الحمد أمر مطلوب للرب محبوب له، فكما تنوعت أسباب الحمد تنوع الحمد بتنوعها، وكثر بكثرتها.
والله تبارك وتعالى محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة .. كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان، فهو محمود على هذا .. ومحمود على ذلك ..
وهو سبحانه المحمود على حلمه بعد علمه .. المحمود على عفوه ومغفرته .. المحمود على عفوه عن كثير من جنايات العبيد كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
فنبه سبحانه باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذي عفا عنه، وأنه لو عاجلهم بعقبوته، وأخذهم بحقه لقضي إليهم أجلهم، ولما ترك على ظهرها من
دابة.
ولكنه سبحانه سبقت رحمته غضبه .. وعفوه انتقامه .. ومغفرته عقابه.
فله الحمد على عفوه وانتقامه .. وله الحمد على عدله وإحسانه.
والله عز وجل قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاء لفعل ذلك، لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأبى ذلك، وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة.
فأقام سبحانه الحجة، وصرف الآيات، وضرب الأمثال، ونوع الأدلة، ليعرف سبحانه، وليقيم على عباده حجته البالغة:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 149].
والله عز وجل هو الملك الذي كل ما في الكون ملكه، وحقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع .. والإكرام والإهانة .. والمثوبة والعقوبة .. والتولية والعزل .. وإعزاز من يليق به العزة .. وإذلال من يليق به الذل كما قال سبحانه:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].
والله تبارك وتعالى هو المحمود على ذلك كله.
وهو سبحانه المحمود على قضاء حاجات العباد، وعلى إجابة دعائهم، وعلى تصريف وتدبير ما في الكون كله:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
فهو سبحانه كل يوم هو في شأن:
يغفر ذنباً .. ويفرج كرباً .. ويكشف غماً .. ويعطي سائلاً .. ويجيب داعياً .. وينصر مظلوماً .. ويأخذ ظالماً .. ويفك عانياً .. ويغني فقيراً .. ويشفي مريضاً .. ويجبر كسيراً .. ويعز ذليلاً .. ويرحم مسكيناً .. ويقيل عثرةً .. ويستر عورةً .. ويذهب بدولة .. ويأتي بأخرى .. ويرفع أقواماً .. ويضع آخرين .. فعال لما يشاء.
فله الحمد على كل ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السماء، وملء الأرض،
وملء ما شاء من شيء بعد.
وهو سبحانه مالك الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، وتصرفه في الملك والممالك والمماليك دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة، والرحمة واللطف، فلا يخرج تصرفه عن ذلك.
فله الحمد كله على خلقه وأمره وتدبيره.
والملك والحمد في حقه متلازمان، فكل ما شمله ملكه شمله حمده، فهو المحمود في ملكه، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته.
ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره، فهو المحمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناء ومدح، ويجمعها التبارك كما قال سبحانه:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
والحمد أوسع الصفات وأعم المدائح، لأن جميع أسمائه حمد، وصفاته كلها حمد، وأحكامه حمد، وأفعاله حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد.
والله عز وجل هو الملك الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، ولكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
العالم بكل شيء، الذي لكمال علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها الملك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.
البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة، ويرى جريان دمها في عروقها وعظامها النحل، ويسمع ويرى دبيب الذرة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
ويرى ما تحت الأرضين السبع، كما يرى ما فوق السموات السبع.
السميع الذي يسمع كل شيء، واستوى في سمعه سر القول وجهره، الذي وسع سمعه الأصوات فلا يخفى عليه شيء، ولا يشغله سمع عن سمع، ولا صوت عن صوت، ولا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الطلبات والحاجات والسؤالات.
القدير الذي لا يعجزه شيء، ولكمال قدرته يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً، والبر براً، والفاجر فاجراً.
فهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه، ويهدون بأمره، وجعل فرعون وآله وقومه أئمة يدعون إلى النار.
ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يعلمه إياه.
ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام.
ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك إليه.
ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأرض، وهو المحيط بكل شيء، ولم يحط به أحد من مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء، القاهر فوق كل شيء.
لا تنفذ كلماته ولا تبدل، ولو كانت بحار الأرض مداداً، وأشجار الأرض أقلاماً، وكتب بذلك المداد وتلك الأقلام، لنفد ذلك المداد، وفنيت تلك الأقلام، ولم تنفذ كلمات الله كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27].
كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، لا يعاقب أحداً بغير فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعل مالا قدرة له على تركه.
شكور يحب الشاكرين .. حميد يحب الحامدين .. محسن يحب المحسنين ..
رحيم يحب الرحماء .. غفور يحب المستغفرين .. تواب يحب التوابين.
فكل صفة عليا، وكل اسم حسن، وكل ثناء جميل، وكل حمد ومدح، وكل تسبيح وتنزيه، وكل إجلال وإكرام، فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، سبحانه وبحمده لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه.
فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه.
فهذا أحد نوعي حمده وهو حمد الأسماء والصفات.
النوع الثاني: حمد النعم والآلاء.
وهذا معلوم مشهود للخليقة، برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال، والتكرم بها من غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها.
وحبب سبحانه إلى خواص خلقه الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين.
فله الحمد والشكر على جميع آلائه وإحسانه.
وكتب سبحانه في قلوب أوليائه الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه.
فله الحمد كثيراً كما ينعم كثيراً، وكما يعطي جزيلاً.
وتحبب إليهم بنعمه، مع غناه عنهم، وتبغضهم إليه بالمعاصي، وشدة فقرهم وحاجتهم إليه.
ومع هذا فأعد لهم إذا آمنوا به وأطاعوه داراً حسنة، وأعد لهم فيها ما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وجعل فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.
ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها، وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير من العمل، في هذه المدة القصيرة بالنسبة إلى البقاء في دار الخلود.
وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً، وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم.
وذكرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمةً منه وإحساناً، لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حمايةً وصيانةً لهم، لا بخلاً منه عليهم، فله الحمد والشكر حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده.
وفتح لهم أبواب العلم والهداية، وعرف لهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، فله الحمد والشكر عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته.
وأعلم عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف فقال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ومن أراد مطالعة أصول النعم المادية والروحية، الظاهرة والباطنة، فليتأمل القرآن من أوله إلى آخره، وسيرى ما عدد الله فيه من نعمه، وتعرف بها إلى عباده، وتوفيقه لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، ومنازل هؤلاء، ومنازل هؤلاء.
فقد خلق الله البشر وابتلاهم بإبليس وحزبه، وتسليط أعدائهم عليهم، وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى، لتعظم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها.
فلله على أوليائه وعباده أتم نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه، وإكرامه
لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدره:{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)} [الجاثية: 36].
والشكر: معناه طاعة المنعم، ويكون في ثلاثة مواضع:
في القلب .. واللسان .. والجوارح.
ومعنى كونه في القلب أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، ويرى لله فضلاً عليه، وأن كل النعم في الكون من الله، وأعظمها نعمة الإسلام.
وشكر اللسان أن يتحدث بنعم الله على وجه الثناء على الله بها، والاعتراف بأنها منه سبحانه، لا على سبيل الفخر والخيلاء.
وشكر الجوارح: أن تستعملها بطاعة المنعم سبحانه في كل حال.
فشكر الله على نعمة الإيمان .. أن تعمل بموجبه الطاعات، وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة العلم .. أن تعمل به وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة العافية .. أن تستعمل البدن فيما يرضيه سبحانه.
وشكر الله على نعمة الطعام .. أن تستعمله فيما خلق له، وتستعين به على طاعة الله، وتطعم منه خلقه.
وهكذا في بقية النعم حمد وشكر وثناء ومدح للمنعم، الذي شمل بنعمه عموم خلقه، يعطي بلا سؤال، وإذا أعطى أجزل في العطاء، يأمر بالأمر لمصلحة العبد، ويعين على فعله، ويقبله إذا فعل، ويثيب عليه بالثواب الجزيل الدائم الذي لا ينقطع:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
وحقيقة الحمد يجب أن توجه إلى الله وإن توجهت إلى غيره مجازاً، لأنه سيؤول إليه، فأنت لا تحمد فلاناً لأنه أعطاك بذاته، وإنما أعطاك لأن الله أعطاه فأعطاك، وأمره أن يعطيك فأعطاك، وحبب ذلك إليه فوضعه في يدك.
فهو سبحانه المحمود على ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المحمود على جماله وجلاله، وهو المحمود على نعمه وآلائه، وهو المحمود على حلمه
ولطفه، وهو المحمود على قضائه وقدره، وهو المحمود على دينه وشرعه.
و: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1].
و: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
وأصول الشكر وقواعده التي لا يكمل إلا بها ستة:
خضوع الشاكر للمشكور سبحانه .. وحبه له .. واعترافه بنعمه .. وثناؤه عليه بها .. واستعمالها فيما يحب الله .. وعدم استعمالها فيما يكره.
ومتى نقص منها واحدة اختلت قاعدة من قواعد الشكر للرب.
وأسباب الشكر ومنابعه كثيرة:
فحياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر .. والمعرفة بعظيم حلم الله شكر .. والمعرفة بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر .. والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر .. وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر .. وتلقي النعم بحسن القبول شكر .. واستعظام صغيرها شكر .. ووضعها في مكانها شكر .. وصرفها في طاعة الله حسب أمر الله شكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12].
والله عز وجل هو المنعم بجميع النعم، والنعم كلها أثر من آثار رحمته.
وتربية الله لخلقه نوعان:
تربية عامة .. وتربية خاصة.
فالعامة: هي خلقه للمرزوقين ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه المؤمنين، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم،
ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه بالتوفيق لكل خير، وعصمتهم من كل شر.
فله الحمد والشكر على كماله وجلاله وجماله وآلائه وإنعامه وإحسانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65].
له الملك كله فلا يخرج مخلوق عن ملكه، والحمد كله له: حمد على ما له من صفات الكمال، وحمد على ما خلقه من الأشياء .. وحمد على ما أسداه من جزيل النعم .. وحمد على ما شرعه من الأحكام .. الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1].
فكل ما خلقه الله هو نعمة، ودليل على قدرة الله، وعلى حكمته.
وكل مخلوق فيه نعمة تستوجب من الخلق الحمد والشكر لله.
والحمد لله على كل حال، لأنه ما من حال يقضيها الله، إلا وهي نعمة على عباده، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).
شيء قدير.
هو المحمود على خلقه .. وعلى علمه .. وعلى رحمته .. وعلى حكمته .. وعلى حلمه .. وعلى نعمه .. وعلى قدرته .. وعلى كماله وجلاله وجماله.
والحمد لله أحق ما قال العبد، يقوله المسلم في كل صلاة، وفي كل خطبة، وفي كل أمر ذي بال، وفي كل حال.
فلله الحمد والشكر على كل حال، لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان.