الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - خلق الرياح
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} [فاطر: 9].
وقال الله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 41، 42].
إن من أعظم آيات الله الباهرة، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، نحس بجسمه، ولا نرى شخصه.
أوجده الله عز وجل في كل مكان، حاراً وبارداً ودافئاً، يتنفس منه الإنسان والحيوان، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، كالماء الذي وهبه الله للإنسان والحيوان، وكالشمس التي سخرها الله للإنارة والحرارة لجميع المخلوقات.
وهذا الهواء العظيم الذي خلقه الله، إذا شاء سبحانه حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحاً للسحاب والثمار كما قال سبحانه:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر: 22].
وإن شاء سبحانه حركه بحركة العذاب فجعله عقيماً، وأودعه عذاباً، فيجعله بقدرته صرصراً ونحساً وعاتياً، ومفسداً لما يمر عليه كما قال سبحانه عن قوم عاد:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} [الأحقاف: 24، 25].
والرياح المذكورة في القرآن ثمان:
أربع رحمة .. وأربع عذاب.
فرياح الرحمة: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والرخاء.
ورياح العذاب: العاصف والقاصف وهما في البحر، والعقيم والصرصر وهما في البر.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن رياح الرحمة ورياح البر بلفظ الجمع، لأنها متعددة المنافع، مختلفة الصفات.
أما رياح العذاب فذكرها بلفظ الإفراد، لأن المطلوب ريح واحدة مدمرة، وكذلك رياح البحر ذكرها بلفظ الإفراد، لأن السفينة لا تسير لمقصدها إلا بريح واحدة، ذات اتجاه واحد.
وفي الشتاء يغلظ الهواء بسبب البرد، فيصير مادة للسحاب، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة، فتثيره، ثم تنشره بين السماء والأرض، ثم يسخر الله له الريح الحاملة التي تحمله على ظهرها.
ثم يرسل الله عليه الريح المؤلفة التي تؤلف بين كسفه وقطعه حتى يصير طبقاً واحداً، ثم يرسل الله عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء، فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء.
ثم يرسل الله عليه الريح المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أُمر أن يفرغ ماءه، فإذا أراد الله نزوله على الأرض أرسل عليه الريح الذارية بعد إعصاره فتذروه وتفرقه في الهواء، لئلا يقع صبة واحدة، فيهلك ما على الأرض، ويقل الانتفاع به.
فهذه ثمان رياح سخرها الله للمطر.
فإذا أسقي ما أمر بسقيه من البلاد والعباد قامت الرياح السائقة فساقته وأزجته إلى قوم آخرين، وأرض أخرى محتاجة إليه لسقي النبات والحيوان والإنسان:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)} [الروم: 48].
وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ
سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57].
والسحاب من أعظم آيات الله في الجو، فهو في غاية الخفة، ثم يحمل الماء والبرد فيصير أثقل شيء.
فسل السحاب من خلقه وأنشأه؟ .. ومن حمله بالماء والثلج والبرد؟ .. ومن حمله على ظهور الرياح؟ .. ومن أمسكه بين السماء والأرض؟ .. ومن أحيا به البلاد؟ .. ومن صرفه بين الخلق كما أراد؟.
وكم أودع الله في هذا الهواء من المنافع التي لا يحصيها إلا الذي خلقها، فهو حياة هذه الأبدان، تستنشق منه وتتغذى به، وينقل الأصوات للقريب والبعيد، وينقل الروائح على اختلافها من مكان إلى مكان، ويحمل الحر والبرد الذين بهما صلاح الحيوان والنبات والإنسان، ويلقح الشجر والنبات، ولولاه لكانت عقيماً، وفسد الثمر.
والرياح من أعظم آيات الله في الجو .. فهي أقوى خلق الله .. يحبسها الله إذا شاء .. ويرسلها إذا شاء .. تحمل الأصوات إلى الأذن .. والرائحة إلى الأنف .. والسحاب إلى الأرض والجزر .. وتأتي بالرحمة تارة .. وبالعذاب تارة.
وكذلك الرياح تسير السفن، ولولاها لوقفت على ظهر البحر.
وكذلك من منافعها أنها تبرد الماء، وتضرم النار، وتجفف الأشياء.
فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته، ولطفه ونعمته:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)} [الروم: 46].
وكم من البحار التي خلقها الله في هذا العالم، وكم أودع فيها من المنافع والمصالح لعباده:
بحر عظيم من الماء فيه ما لا يحصيه إلا الله من النعم والمنافع والخلائق.
وبحر عظيم من الهواء فيه ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله من النعم والمنافع
والخلائق.
وبحر عظيم من النور فيه ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله من النعم والمنافع.
فسبحان من خلق هذه البحار العظيمة، وحفظها، وأودع فيها منافع للبلاد والعباد على مر الدهور.
والله تبارك وتعالى خلق هذا الجسم اللطيف من الهواء الذي يحركه ويخرقه أضعف المخلوقات، وأعطاه من الشدة والقوة ما يفلق به الأجسام الصلبة القوية، ويزعجها عن أماكنها، ويحملها على متنه في جو السماء.
فانظر إليه إذا وضع في قربة أو جلد وامتلأ به، ووضع على الماء، فإنه لا يرسب فيه، بينما ينغمس فيه الحديد الصلب.
فامتنع هذا اللطيف بأمر الله من قهر الماء له، وبهذه الحكمة أمسك الله السفن على وجه الماء مع ثقلها، لأن الهواء يمتنع من الغوص في الماء.
فتأمل قدرة العزيز الحكيم كيف جعل هذا الجسم العظيم الثقيل من السفن، يستجير بهذا اللطيف الخفيف من الهواء، حتى أمن من الغرق.
فسبحان من علق هذا المركب العظيم الثقيل، بهذا الهواء اللطيف من غير علاقة، ولا عقدة تشاهد:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)} [الشورى: 32، 33].
والهواء بأمر الله جل جلاله، ينقل الأصوات العظيمة والبعيدة إلى مسامع الناس، فينتفعون بذلك، كالهاتف والجوال والإذاعة.
ولو بقيت هذه الأصوات في الهواء، كما تبقى الكلمات في القرطاس، لامتلأ العالم من الأصوات، ولعظم الضرر به، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء.
فإن ما يلقى في الهواء من الأصوات والكلمات، أضعاف ما يودع في القرطاس.
فمن رحمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاساً خفيفاً يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم ينمحي بإذن ربه، فيعود جديداً نقياً لا شيء فيه:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 67، 68].
فما أعظم آيات الله في خلق الرياح:
فهي آية في هبوبها وسكونها .. وآية في شدتها ولينها .. وآية في حرها وبردها .. وآية في اختلاف طبائعها ومهابها وتنوع منافعها.
فللمطر ثمان رياح .. وللنبات ريح تلقحه .. وللسفن ريح تسيرها .. وللرحمة ريح بلا رياح .. وللعذاب ريح متعددة الصفات، إلى غير ذلك من أنواع الرياح التي لا يعلمها إلا الله.
واختلاف الرياح، واختلاف مهابها يدل على خالق مدبر، حكيم عليم، يصرفها كيف يشاء:
فيجعلها رخاء تارة .. وعاصفة تارة .. ورحمة تارة .. وعذاباً تارة .. وتارة يحيي بها الرزع والثمار .. وتارة يعطبها بها .. وتارة يسير بها السفن .. وتارة يغرقها بها .. وتارة ترطب الأبدان .. وتارة تذيبها، وتارة حارة .. وتارة باردة .. وتارة عقيماً .. وتارة لاقحة.
فسبحان من جعل في هذا الهواء الواحد هذه المنافع الكثيرة العجيبة.
والذي خلقها هو الذي يصرف مهابها في البر والبحر:
فتارة تهب من الشمال، وتارة من الجنوب، وتارة صبا، وتارة دبوراً.
وقد جعل الله مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب، ولولا ذلك لبقي الماء واقفاً.
وهذه الرياح مع غاية قوتها ألطف شيء، وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسار بين السماء والأرض.
ولشدة حاجة كل نبات وحيوان وإنسان إليها، يسرها الله في كل مكان، وصرفها وحده بين عباده، ورفع تحكم البشر فيها، فحيثما سار الإنسان أو الحيوان وجدها، وحيثما وجد نبات فهي مرافقة له.
ولو قطعت عن النبات والحيوان لهلك، كبحر الماء الذي لو فارقه السمك هلك.
يحبسها الله إذا شاء، ويرسلها إذا شاء، تحمل الأصوات إلى الأذن بأمر الله، وتحمل الرائحة إلى الأنف، وتحمل السحاب إلى الأرض الجرز.
وهي خلق عظيم من أقوى خلق الله، وهي من أعظم آيات الله الدالة على قدرته.
فسبحان من أنشأ الرياح بقدرته، وملأ بها الكون، وصرفها بحكمته، وسيرها بمشيئته، وسخرها بإرادته، وأرسلها بشرىً بين يدي رحمته، وجعلها سبباً لتمام نعمته، وسلطاناً على من شاء بعقوبته.
فهل عرف الله، وعرف قدرته وعظمته، من بارزه بالمعاصي، وبدل نعمه كفراً؟.
ألا ما أعظم الجهل بالله وأسمائه وصفاته، وما أعظم الغفلة عن آلائه وإحسانه؟:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6].
إن في خلق الرياح آية .. وفي هبوب الرياح آية .. وفي تصريف الرياح آية. فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار، والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً، ثم يسوق الله هذا السحاب بواسطة الرياح، ويصرفه كيف شاء بعلمه وحكمته، بين البلاد والعباد
والله تبارك وتعالى بيده هذا الملك العظيم، وله الخلق والأمر وحده لا شريك له، يصرف الرياح ليلاً ونهاراً، ويجعلها كما يشاء دافئة وباردة، ومنحرفة ومستقيمة، وعاصفة وهادئة، وعذاباً ورحمة.
ولهذه الرياح كلها أوامر من ربها لا تتعداها، ولها علاقة بالكائنات الأخرى، تتعاون معها في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون، وتصريفه كما أراد.
فمتى يتجول العقل البشري في هذا المعرض الإلهي المملوء بالآيات والعجائب، فله هنا عمل، وله في هذا الميدان مجال:{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} [الجاثية: 4، 5].
ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها، جعل الله لكل ريح ريحاً مقابلة لها، تكسر سورتها وحدتها، وتبقي لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة
لاختلاف منافعها.
وأما ريح العذاب، فإنها ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها.
بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء، فيدمر كل شيء كما قال سبحانه:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 6 - 8].